الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7531 33
الدرس السابع

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتابة والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك، حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله وحيا الله الجميع.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند أحكام اللقيط، نبدأ على بركة الله؟}.
استعن بالله تبارك وتعالى.
{قال -رحمه الله-: (وَاللَّقِيطُ: طِفْلٌ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَلَا رِقُّهُ؛ نُبِذَ أَوْ ضَلَّ إِلَى التَّمْيِيزِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يتولانا وإياكم برحماته، وأن يحفظنا، وأن يحفظ المسلمين، وأن يدفع عنا وعنهم السوء والبلاء، وأن يمنع الشرَّ والفتنة، وأن يحفظ عباده المسلمين في كل مكان، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي أخذنا جملة من المسائل في أحكام اللقطة بالنسبة للأموال والاختصاصات إذا ضاعت، وما يجب في كل واحد منهما، وتفريق الفقهاء بينما ما يحل التقاطه وما لا يحل، وما يتعلق به حكم التعريف، وما لا يتعلق به، إلى أن قال: (وَاللَّقِيطُ) فهو عَبَّرَ عن الطفل المفقود أو الطفل الضال ونحوه باللقيط، بمعنى أنه لا يدخل في أحكام اللقطة، وذلك لأن اللقطة من جهة الأصل للأموال والاختصاصات، واللقيط الذي هو ابن آدم ليس منها من حيث الأصل، بمعنى: أنَّ من ضَلَّ فإنه لا يعد مالا ولا اختصاصًا، وبناء على ذلك كانت له أحكام تخصه، وقد بينها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في نهاية باب اللقطة لتميزه واختصاصه ببعض الأحكام.
ثم قال: (وَاللَّقِيطُ: طِفْلٌ) أي هو الصغير، ومعنى ذلك أنَّ الكبير لا يعتبر لقيطًا ولو ضَلَّ أو تاه، فإنَّ حكم نفسه بنفسه، ولأجل ذلك تعلق به، فلم يحتج إلى أن يتولاه أحد، أو أن تُوكل إلى أحدٍ ولايته أو القيام عليه.
قال: (لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَلَا رِقُّهُ) إذًا لو كان الطفل الذي فُقِدَ يُعرف نسبه، ولكن لا يوجد أهله فمعنى ذلك أنه لا يدخل في أحكام اللقيط التي سيذكرها الفقهاء، بل هو معلوم، وإنما ضلَّ عنه أهله، فيتولاه من وقف عليه من المسلمين، حتى إذا جاءه أهله بذله إليهم.
إذًا اللقيط إنما يكون لقيطًا بعدم معرفة نسبه، أي: بعدم معرفة أبيه ومن يُنسب إليه، وأهله الذين يتولونه.
قال: (وَلَا رِقُّهُ)، بمعنى: أنه لو عُلِمَ أنه من الرقيق، فمعنى ذلك أن الرقيق مال، فستكون أحكامه أحكام اللقطة، فيدخل فيما مضى.
وبناء على ذلك (لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ وَلَا رِقُّهُ)، فإذا كانت هذه حاله، فبناء على ذلك نعتبر على الأصل، والأصل عدم الرق كونه حُرًّا، وبناء على ذلك تنزل عليه أحكام اللقيط، كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
وفي قصة أبي جميلة، لَمَّا قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: "لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ" . قال: (نُبِذَ) أحيانا ينبذ لأي سبب من الأسباب، وأكثر ما يكون ذلك نسأل الله السلامة، حينما يكون وُلِدَ من سفاحٍ أو من زنا لا من نكاح وزواج، وأحيانًا ربما كان في غير تلك الأحوال لفساد والد، أو لقلة عقل، أو لغير ذلك من الأمور التي تحوجه إلى شيء من ذلك.
قال: (أَوْ ضَلَّ) أحيانًا لا يكون نبذًا من الأهل، ولكنه يَضِل كأن يكون في صحراء فيتيه في ليلها، فلا يجده أهله، ولا يعثرون عليه.
قال: (إِلَى التَّمْيِيزِ)، وهذا هو الحد الذي يعتبر فيه اللقيط لقيطًا، فإمَّا أن يقال: إنه لقيطٌ إلى البلوغ، وأمَّا ما بعد البلوغ فقطعًا لا يعد لقيطًا، ولكن ما بين التمييز إلى البلوغ، هل يعد لقيطًا أو لا؟ هذا محل الكلام بين أهل العلم، فالحنابلة -رحمهم الله تعالى- يقولون: المميز يستطيع أن يعرف أهله، ويستطيع أن يعرف اسمه، ويستطيع أيضًا أن يُعبر عمَّا في داخله، وأن يدل على أهله، فلأجل ذلك جعلوه إلى هذا الحد، ولذا قالوا: (إِلَى التَّمْيِيزِ)، وقد ذكرنا متعلق التمييز، وهو أن يُفرق بين الأشياء، ويعرف ما ينفع مما يضر، وبعضهم جعلها بأمثلة، كأن يعرف الشحمة من الجمرة، أو النافع من الضار، ونحو ذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَالْتِقَاطُهُ فرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ وَتعَذَّرَ بيْتُ الْمَالِ؛ أَنفَقَ عَلَيْهِ عَالِمٌ بِهِ بِلَا رُجُوعٍ)}.
قال: (وَالْتِقَاطُهُ فرْضُ كِفَايَةٍ) وهذا من الأصول الشرعية، فإنَّ الله -جل وعلا- يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ [المائدة:2]، ويقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، وعموم الأحاديث دالة على ذلك، فلا يمكن أن تترك هذه النفس -وهي نفس محترمة- أن تهلك، أو تتلف، أو يتسلط عليها من يتسلط، بل لا بد من القيام عليها.
ويقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَالْتِقَاطُهُ فرْضُ كِفَايَةٍ)، يعني: لا بد أن يوجد من يقوم به، فإذا لم يكن إلا واحد تقوم به هذه الأمانة؛ فيتعين عليه.
اذًا هو فرض كفاية، وهذا ظاهر من جهة عمومات الشريعة في ولاية أهل الإيمان بعضهم لبعض.
قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ). إذا فـ (الْتِقَاطُهُ) فرض كفاية، وبعد ذلك ما الذي يترتب على هذا؟ ما يكون من الإنفاق، ما يكون من الإطعام، ما يكون من الكسوة، إلى غير ذلك.
إذًا محلها لا يخلو، إمَّا أن يكون معه شيء، فينفق عليه مما معه، ويقولون: أن يكون مربوطًا به، أو معه في غطائه، أو نحو ذلك.
وبناء على ذلك ينفق عليه، وإذا لم يكن فبيت مال المسلمين يقوم على من تعذرت عليه النفقة، وهذا أيضا جاءت به الأدلة، واستقر عليه كلام أهل العلم، ولا يختلفون في ذلك، حتى قالوا: إنه لو لم يوجد ما يُنفق عليه من بيت المال، فإنه يستدان على بيت مال المسلمين له، ولهذا أصل، فإنَّ النبي استدان لبيت مال المسلمين.
ويُتَبَيَّن من هذا أهمية ما يكون عليه من الاعتبار والإنفاق، وهذا أصله أيضا قول عمر لما قال: "علينا نفقته"؛ ولأنه من جهة المعنى قالوا: لو لزمت النفقة الملتقطة لأفضى ذلك إلى أن ينفر الناس من الالتقاط، فحسبه أنه تحمل تبعاته والقيام عليه، وما يتبع ذلك من مسؤوليات واعتبارات، فإنَّ المسلمين وبيت مالهم، وولي أمرهم، يخفف عنه بأن يتحمل النفقات المالية، التي ربما تكون في بعض الأحوال الجزء الأهم، وربما كانت أيضًا بين بين.
فالمهم أنه ما أمكن إعانته فيه، وهو متعلق بالمال، فإنه يُقام به.
قال: (وَتَعَذَّرَ بَيْتُ الْمَالِ؛ أَنْفَقَ عَلَيْهِ عَالِمٌ بِهِ)، أي إذا لم يوجد بيت مال للمسلمين، أو لم يمكن الاستدانة، فهنا المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، ولا يُترك للهلكة بحال، بل لا بد من الإنفاق عليه، والقيام بحسب القدرة.
قال: (عَالِمٌ بِهِ بِلَا رُجُوعٍ) يعني: أنه على سبيل التبرع، فلا يحسبها عليه، فإذا بلغ أمره بالعمل ورد ذلك، فإنَّ هذا عند أهل العلم فيما استقروا عليه أنه لا رجوع، وإن كان في قول آخر لبعضهم، لكن لا ندخل في مثل هذه التفصيلات، أنَّه يُنفق عليه.
على كل حال، مسائل الضياع ربما كانت في هذه الأزمنة أقل، بسبب ما وجد أولا من توثيقات ورقية ومصورة ونحوها، وما وجد عند الناس أيضا من سهولة التواصل، فمن يضيع في شرق الأرض يبلغ من في غربها، وسهلت إمكانية الوصول إلى أحد الناس.
وأيضًا وجدت حتى في حال وجود الإشكالات، وجدت من الآلات والاختبارات التي تعيده إلى أهله، وتمكن من الوصول إلى ذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَهُوَ مُسْلِمٌ إِنْ وُجِدَ فِي بَلَدٍ يُكْثِرُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ)}
قوله: (وَهُوَ مُسْلِمٌ) إذًا الحكم بإسلامه هو الأصل، فإن كان في بلد المسلمين فلا شك أنه مسلم. يقولون: حتى ولو كان في محلة كلها غير مسلمين، كما لو كانوا في أهل ذمة، وجد في هذا الحي، فتغليبًا للدار وتغليبًا للإسلام، وبناء على ذلك يُحكم به.
إذا كان في غير دار المسلمين، فيقولون: إن كثر المسلمين حتى ولو لم تكن دار إسلام، فالحكم للغلبة. وأمَّا إذا لم تكن دار إسلام، ولم يكن المسلمون كثرة، فهنا قالوا: لا شيء يُؤيد أو يُقوي جانب كونه مسلمًا، فيكون تبعًا لِمَا وجد فيه من الدار أو وجد فيه من البلاد.
{أحسن الله إليكم
ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ مَنْ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ؛ أُلْحِقَ بِهِ)}.
قوله: (وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ مَنْ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ؛ أُلْحِقَ بِهِ) هذه مسألة من الأهمية بمكان، يعني: أنه لو جاء شخص وقال: هذا ولدي. فنقول: نعم ونوافق مباشرة بشرطين:
الأول: أن يمكن كونه منه، فلا يمكن أن يكون ابن عشرين ويدعي أنَّ هذا ولده، وهو وصل الآن إلى اثني عشر.
الثاني: أن ينفرد فلا يكون معه أحد ينازعه في ذلك.
طيب أنا بقول لكم أمثلة، هذا على الإطلاق، بمعنى: لو جاء هذا الولد وكبر واغتنى، وصار غناه فاحشًا. فقال "رجل": هذا ولدي.
{حتى ولو كان بعد البلوغ؟}
نعم، حتى ولو كان بعد البلوغ، يلحق به. لماذا؟ لأنَّ مصلحة حفظ النسب أعظم بكثير من غير ذلك.
قالوا: بل لو مات، وجاء "واحد" وقال: هذا ولدي. يقولون: إنه يلحق به؛ لأنَّ مصلحة حفظ النسب عظيمة. قد يقال: هو مات وماله كثير، وأكيد هو طامع! نقول: حتى ولو كان، ما دام أنه أمكن ذلك وانفرد، حتى ولو كان له بنتًا وارثة، وأراد هو أن يشركها في الميراث مثلا، فما لهذه البنت من مصلحة بأن يحفظ نسبها أعظم بكثير من المصلحة التي تتأتى له لو كان كاذبا في ذلك.
أمَّا إذا اختلف في ذلك، أو كان أكثر من هذا فلا، ولأهل العلم في ذلك تفاصيل في إلحاقه بالقافة، وما يلحق بالقافة أيضا الآن أيضًا من أمثلة الاختبارات بـ (DNA) أو ما يسمونه بالحمض النووي أو نحوه.
ولأهل العلم كلام في أن تُنَزَّل هذه تلك المنزلة؛ لأنَّ دلالة هذه الاختبارات مثل دلالة القافة وأدق، وبناء على ذلك ألحقت بها وأخذت حكمها.
{أحسن الله إليكم.
شيخنا لو أنَّ زوجين مثلا لم يرزقا بأبناء، وكان هناك لقيط وأرادا أن يحتسبا الأجر في هذا مثلا، فهل يجوز لهم أن يتبنوه؟}.
يجوز لهم أن يتولوه ولا نقول: يتبنوه، والفرق بين ذلك، أنه يكون عندهم، ويعنون به، ويقومون عليه، ويحسنون له.
وقال بعض أهل العلم: لو مات لكان له لهم إرثه، على خلاف في اللقيط يورث أو لا؟ ولكن من جهة أخرى، إذا كان أريد أن ينسب إلى هذا الذي تولاه فلا؛ لأنه لا نسبة إلا للأب، وكان هذا من طرائق أهل الجاهلية، فجاء الشرع فنفاه، ومنع درء طريقه، فلم يكن لأحد أن ينتسب إلى غير أبيه، كما جاء ذلك فيه من الوعيد بالنار في الحديث الصحيح. ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب:5].
وأمَّا أن يتولاه فهو بالعكس من الأعمال الطيبة، ومما يدعى إليه، وهو من أذكاها لِمَا فيه من التبعات، وما يلحق الإنسان من المسؤولية، وأيضا القيام بفرض الكفايات.
{أحسن الله إليكم.
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى الفصل الآخر، قال: (فصل في الْوَقْف)}.
بعد أن أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالمعاملات، والمعاوضات، وما في حكمها من عقود الاستيثاق التي هي مكملة لها، ذَكَرَ في ذلك أحكامًا كثيرة، ومسائل متنوعة، وأبوابًا لها صلة بما مَرَّ كالحوالة وغيرها، انتقل الآن إلى عقود التبرعات، وبدأ بالوقف؛ لأنه أعظمها، وقد تكاثرت الأحاديث في فضله، وأثره، وعظيم الأجر في فعله، ولذلك جاء في الأثر "أدركت ثمانين من أصحاب النبي ، ما توفي أحد منهم وهو يجد شيئًا إلا أوقف"، فالوقف عمل عظيم، وباب بِرٍّ كبير، وهو داخل في قول النبي : «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ» وذكر منها: «إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ» وهي الوقف.
أيضًا لِمَّا جاء الصحابة يستشيرون النبي قال: وأحب مالي إليَّ بيرحاء، فأشار عليه النبي بوقفها، وقال: «وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ» ، فكان ذلك من أعظم ما ينبغي أن يُحمل عليه الناس ويدعون إليه، ولذلك يذكر أنه على مَرِّ العصور الإسلامية أنَّ أكثرَ ما كان سببًا لبقاء الإسلام وثبوته في بعض البلدان التي حكمت من غير المسلمين، هو وجود الأوقاف، التي تحفظ بها المساجد، وتحفظ بها المدارس، التي يعلم فيها العربية، ويعلم فيها القرآن، ويتداعى الناس فيها إلى الخير، وتبقى جذوة التوحيد والدعوة إلى الهدى، وإذا ذهبت يوشك أن تذهب، ويوشك ألا يكون للإسلام موارد تبقيه، وتبقي العلم والتعلم، وحفظ القرآن، وتعليم الشعائر والصلاة ونحوها.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَالْوَقْفُ سُنَّةٌ. وَيَصِحُّ بِقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَيْهِ عُرْفًا كَمَنْ بَنَى أَرْضَهُ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً وَأَذِنَ لِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ وَيَدْفِنُوا فِيهَا)}.
قال: (وَالْوَقْفُ سُنَّةٌ) هذا ظاهر؛ لأنه أولاً من الأعمال الصالحة، وثانيًا: أنه من أرجى ما يكون في أعمال البر في التبرعات، وفي الإنفاق، وفي الإحسان، كما أنه أكثر دوامًا، وأبقى جريانًا للعمل، كما في الحديث المتقدم، والنبي أشار على عمر، كما أشار على غيره بالوقف، فكان ذلك أصلا واضحًا ودليلا على اعتباره واستحبابه، لِمَا له الأثر في الإحسان إلى الموقوف عليهم، سواء كانت جهة بر، أو كان آحاد أناس بأعيانهم، أو كان مشتركًا بين ذا وذاك.
قال: (وَيَصِحُّ بِقَوْلٍ وَفِعْلٍ) إذًا الوقف بما يدل عليه، فإذا قال: وَقفت، أو حَبَّست، سبلت، فإنها من الأوقاف الصريحة.
قال: (وَفِعلٍ)، فإذا فعل ما يدل على أنه أوقف، فإنه يكون كذلك، ولذلك قال: (كَمَنْ بَنَى أَرْضَهُ مَسْجِدًا)، والمسجد له محراب وله مئذنة ونحو ذلك، واعتاد الناس ذلك، فيُجعل على هيئة، فيعلم أنه قصد ذلك.
قال: (أَوْ مَقْبَرَةً) فإذا جعلها مكانًا لقبور المسلمين، (وَأَذِنَ لِلنَّاسِ) ليدفنوا فيها، أو أَذَّنَ في المسجد للصلاة، فهذا من حيث الأصل أنه دعوة لجعلها وقفًا.
أو قال هذه الأرض تصدقت بها مثل فلان، وفلان قد جعلها وقفًا، فهكذا إلا أن يوجد ما يدل على الاقتصار، أو عدم الأذان، فمن كتب عليه للبيع مثلا، ثم جعل كهيئة المسجد فالغالب أنه جعله مكانًا يُصلى فيه حتى يتم بيعه، وهذا يعارض أن يكون قصد به الوقف لأنَّ الوقف هو تأبيد للموقوف؛ لأنَّ حقيقة الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وبناء على ذلك لَمَّا كتب البيع، فالبيع معناه أن ينقل من ذمته، بينما الوقف لا يمكن نقله إلا بشروط ربما يذكرها الفقهاء في الكتب المطولة، وهو عند تعذر المنفعة، أو عند وجود ما هو أنفع على قول لبعض الفقهاء في تفصيل لذلك، وليس هذا محل بيانه.
ثم قال -رحمه الله-: (وَصَرِيحُهُ: وَقَفْتُ وَحبَّسْتُ وَسَبَّلْتُ، وَكِنَايَتُهُ: تَصَدَّقْتُ وَحَرَّمَتُ وَأَبَّدْتُ)}.
لَمَّا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه يصح بالقول، يعني: بأي قول يدل على الوقف، فذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يُعرف من صريحة، وهو الذي يدل عليه أصالة، ويفهم منه المراد على هذا لا يحتاج إلى ما يَسند ذلك ويوضحه، فهو الصريح، مثل: (وَقَفْتُ وَحبَّسْتُ وَسَبَّلْتُ) انتهى الأمر.
ومن المعلوم أنه لا رجوع في الوقف، فلو قال الإنسان: حبست هذه الأرض، ثم قال: لا، لا. نقول: انتهى. فإنها تنعقد بمجرد القول.
وكذلك إذا كان بكناية، والكناية هي التي تحتمل وتحتمل غيره، مثل قوله: تصدقت، حرمت، أبدت، يقولون: هذه تحتمل الوقف وتحتمل غيره، فالصدقة فيها معنى، ولكنها قد تكون صدقة بغير الوقف، وقد يكون المراد بها الوقف.
كذلك إذا قال: حرمت فقد يكون المقصود بذلك تحريم بيعها لأجل أن ينتفع الناس بها، وقد يكون التحريم منع حصول ذلك لأي قصد آخر. وأبدت كذلك، ولأجل هذا قالوا: لَمَّا كانت الكناية مما تحتمل الوقف وتحتمل غيره؛ احتيج إلى أن تكون هناك نية لإرادة الوقف، وأن يأتي بما يدل على ذلك.
فإذا قال: تصدقت بها مثل فلان، كما قلنا قبل قليل، أو حرمتها لا تباع وينتفع الناس بها، فهذا دليل على الوقف؛ لأنه ذكر معناه، وما يؤول إليه.
حرمتها لأنتفع منها في الآخرة، ويجري عملي، فهذا أيضًا دال على الوقف وهكذا.
إذًا لا بد أن تذكر مثل ذلك، وليس شيء أنفع للناس من الوقف، ومن أشهر ما يُذكر في أوقاف الأولين، يعني: أشير على المستمعين أن يرجعوا إليها وأن ينظروا فيها، وهو وقفٌ شُهِرَ في ديارنا في أوقات قديمة، اسمه وقف "صبيح"، فقد ذكر في وصيته من الألفاظ، والاعتناء بالوقف وتعظيمه، ما يحسن بكم أن ترجعوا إليه، وأي واحد أدخل وقف "صبيح" أو وصية "صبيح" أو وصيته في الوقف في محركات البحث، سيجد شيئًا عجيبًا، ولو كان في الوقت متسع لقرأناه في هذه المجالس، ولكن يمكن أن ترجعوا إليه، وتجدون ضالتكم فيه.
وتنوعت الأوقاف وكانت في أبسط الأمور وفي أعظمها، وبلغت مبلغًا عظيمًا، وكمْ من الأوقاف اليسيرة التي صارت أشياء عظيمة، وهذا شيء عهدناه وعرفناه، فربما أوقف الناس مزرعة صغيرة، ثم تضاعفت أثمانها فصارت وقفًا يبلغ مشارق الأرض ومغاربها في أثره وما يكون من ريعه.
وكذلك حتى في أوقاف الأولين، ومن أشهر ذلك وقف "زبيدة" وهو وقف الماء الذي أجرته من المدينة إلى مكة، ولا يزال قائمًا إلى وقت قريب، كنا نذكر أنَّ أناسًا يتوضؤون منه، وربما وجد الآن يعني حالة لإحيائه وإعادته كما كان.
والأوقاف لها شأن عظيم، ينبغي للإنسان ألا يحرم نفسه متى ما وجد إلى ذلك سبيلا، فإنه ذِكرٌ للإنسان يبقى به ذكره، ويبقى به عمله، ويبارك له من بعده في ماله، وفي ذريته، والله يتولانا وإياكم بفضله.
وأعظم ما يكون على الأقارب، وهذا بإجماع أهل العلم، وصحيح أنه يكون فيه بعض إشكالات أو منازعات، ولأجل ذلك انتفت الكثير من أوقاف المعاصرين الآن، بأن تكون على الأقارب ولكن هذا خلاف السنة، فينبغي أن تكون على الأقربين، وهذا بالإجماع أنه أفضل الوقف، لقوله : «وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ». ولكن ينبغي يقيد ذلك بقيود تمنع الاجتهاد، وأيضا تقف عند حد معين قبل انتشار القرابة، وتفرق العائلة، الذي قد يُفضي إلى النزاع، أو يظهر منه شيء من الإشكالات التي يتوقاها الناس ولا يحبون الوقوع فيها.
{أحسن الله إليكم.
ثم ذكر المصنف -رحمه الله- وقال: (وَشُرُوطُهُ خَمْسَةٌ: كَوْنُهُ فِي عَيْنٍ مَعْلُومَةٍ يَصِحُّ بَيْعُهَا غَيْرَ مُصْحَفٍ وَيُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا)}.
قوله: (كَوْنُهُ فِي عَيْنٍ) أي: لا بد أن تكون عينًا معينة، وهذا عند الحنابلة، ومعنى ذلك: أنها لو كانت مجرد منفعة، فإنه لا يجوز وقفها لأنَّ المنفعة تذهب، فلو أنَّ إنسانًا أوقف منفعة هذه الدار، ولكن الدار كأرض له أو لولده، فلا يجري فيها الوقف على قولهم هنا، وإن كان القول الثاني هو اختيار كثير من المحققين، وهو وجيه، كما أنَّ توسيع باب الوقف في هذا مناسب لا غضاضة فيه.
والمقصود هنا على قولهم: إنَّ المنفعة هنا لا تكون وقفًا، لا يقصدون أنَّه لو أوقف هذه المنفعة أنه لا ينتفع من أجرها، لكنها من حيث تصوير الحكم، هل هي داخلة في اسم الوقف، أو لها حكم الصدقة بهذه المنفعة ما كانت؟ هذا هو الكلام، وإلا فلا يقصدون أنها إذا لم تكن وقفا، فإنها لا لا تفيد، بل له أجر ذلك، ولكنه إنما يحكم بالوقف الذي جاء فيه الفضل، هو ما حصروه بذلك، ولكن إذا قلنا إنها داخلة في الوقف المنفعة على قول بعضهم فالأمر أوسع في هذا.
وإذا لم نقل أنها داخلة، فإن كان قصد أن توقف أو لا فنعم، فعلى قولهم: إذا لم نحكم بوقفها فإنها تعود إلى ملكه، ولكنه إذا أراد النفع بها، وأنه يظن أنها وقفًا، فإذا لم تكن وقفًا، فإنها تبقى على صدقتها، ويجري أجرها ما بقي الناس ينتفعون بها.
قال: (كَوْنُهُ فِي عَيْنٍ مَعْلُومَةٍ)؛ لأنها إذا كانت مجهولة، فهذا يُفضي إلى الخلاف والمنازعة، فإذا قال مثلا: أوقفت هذه الأرض، فذهب أولاده إلى الأرض الصغيرة، أو الأرض المهجورة، أو الأرض التي لا فائدة فيها، أو ذهب بعضهم إلى هذه، وبعضهم قال لا بل هذه، فلا فائدة في ذلك.
فما دام أنها لم تعين لم يقع الحكم على وجه يتعلق به أثر ذلك الوقف، وبناء على ذلك لا يصح.
قال: (يَصِحُّ بَيْعُهَا)؛ لأنَّ حقيقة الوقف هو بيع هذا الموقوف لله -جل وعلا- حتى يُنتفع منها، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا بد أن تكون من الأموال، كأرضٍ، أو مَزرعةٍ، أو بيتٍ، أو مصنعٍ، أو آلة ينتفع الناس بها، كآلة توصيلٍ، أو سيارة، أو بعيرٍ، أو نحوه.
وسواء كان مما ينتفع به في الحرب، أو ينتفع به في السلم، أو ينتفع به في تمريض الناس ومعالجتهم، فهذا من أعظم الأمور، وأعظم من ذلك أيضًا تعليم العلم، وهداية الناس إلى الدين، وبيان ما يكون فيه تعليمهم وإرشادهم، فهذه أشياء عظيمة.
قال: (غَيْرَ مُصْحَفٍ) هنا الاستثناء من ماذا؟ من قوله: (يَصِحُّ بَيْعُهَا) يعني: لا شك عندهم أنَّ المصحف يصح وقفه، ولكن الكلام لَمَّا قَرَّرَ الحنابلة أنَّ المصحف لا يُباع. لماذا لا يباع؟ يقولون: لأنَّ المصحف إذا بيع فهذا امتهان له، لَمَّا يأتي شخص عَرَضَ المصحف، كتاب آخر، وعنده صندوق. فجاء مشتر وقال: بكم تبيع هذا الصندوق؟ قال: بعشرين. فأخذه واشتراه.
ثم قال: بكم تبيع هذا الكتاب؟ قال: بكذا، فأخذه واشتراه. ثم قال: بكم تبيع هذا المصحف؟ قال: بخمسة، فذهب وتركه ولم يشتره، أليس في هذا امتهان للمصحف؟! فالمراد أنه يعرضه للامتهان، وجاء عن ابن عمر أنهه قال: "لوددت أنَّ الأيدي تقطع في ذلك"، ولكن من أهل العلم من صحح البيع، وجرت الفتوى عند المتأخرين بصحة البيع وإجازته، لِمَا فيه من تداول المصحف، وتسهيل وصول الناس إليه، ولا شك أنَّه إذا استُغني عن البيع؛ فإنَّ ذلك أسلم وأتم، ولكن -لا شك- أنَّ بيعه فيه طريق إلى تقريبه إلى الناس، ونحو ذلك.
وينبغي إذا ما قلنا بالبيع أمران:
أولهما: أن يُحَدَّدَ الثمن، والثاني: ألا يجعل مع الأشياء الأخرى، فيترك هذا ويؤخذ هذا، فيكون فيه ما يدل على الامتهان، ولا ينبغي للمشتري أن يُماكس فيه إذا قلنا بصحة بيعه، لأنه يدل على أنه لا يأخذه إلا بأزهد الأثمان، أو أنه لا يرغب أن يدفع فيه، وإن استُغني عن بيعه فهو أتم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيُنْتَفَعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا)}.
هذا هو حقيقة الوقف؛ لأنَّ الوقف تجبيس الأصل، أي: دوامه، وبقاؤه، وجريان الأجر فيه، فأما الأشياء كالمطعومات ونحوها، فإنه إذا انتُفِعَ بها ذهبت، ولكنهم قالوا: هذه تكون كالصدقة، ولا تدخل في باب الوقف؛ لأنَّ حقيقة الوقف هو دوامه وجريان عمله والانتفاع به، وثبوت أجره بذلك.
قال: (وَيُنْتَفَعُ بِهَا) الفلوس أو الأوراق النقدية عند الحنابلة لا يمكن وقفها، فيقولون: لا بد بالمعاوضة بها فتذهب، ولكن بعضهم قال: ربما جاز ذلك، ويتأتى الانتفاع بها، سواء بإقراضها وعودها، وإن الإقراض من أعظم ما يكون فيه توسعة على الناس وتيسير، وإنه حتى ولو ذهبت فإنها تعود أمثالها، وفي ذلك بقاء لأثرها.
وهنا طرفة، فقد ذكر بعض الفقهاء أنَّ الإنسان لا يوقف على نفسه -وإن كان ليس هذا موضعها، ولكن أخشى أن ننساها- فيقولون: إن ابن الرفعة، وكان فقيهًا من فقهاء الشافعية قد أوقف وقفًا، وأراد أن يبقى على نفسه مدة حياته، وهم لا يُجيزون الوقف على النفس. فقال: هذا وقفٌ على "أفقه آل ابن الرفعة"، وكان هو أفقهم، فاستحقه بالوصل لا بالنفس، وبناء على ذلك: لو أنَّ أحدًا من "آل ابن الرفعة" تَعَلَّمَ فصار أفقه منه لاستحقه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَكَوْنُهُ عَلَى بِرٍّ، وَيَصِحُّ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ وَعَكْسُهُ، وَكَوْنُهُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ عَلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُ)}.
قوله: (وَكَوْنُهُ عَلَى بِرٍّ) هذا من الشروط؛ لأنَّ المقصود به فعل الخير والإحسان، فأمَّا إذا كان على غير ذلك، كما لو كان على إثم، أو على سوء، أو على أمرٍ لا فائدة فيه، كلعب الناس، أو ما يكون من لهوهم المباح، فلا. ولكن لا بد أن يكون على ما يحصل به البر، ويكون به النفع، أًيًّا كان ذلك النفع، كما قلنا لا حدَّ له، حتى ما يكون فيه تقريب الطريق إلى الناس بدلا من الطريق البعيدة، ففيه خير، وما يقي الناس من حرٍّ أو بردٍ أو مطرٍ ففيه خير، وما يكون مما يُصلحون به طعامهم، كإناء ونحوه، ففيه خير، بل وحتى ما يُقص به الظفر من آلة أو غيرها، فإن كانت أشياء تافهة صغيرة، أو أشياء كبيرة، فكلها داخلة في اسم البر، فتدخل في ذلك، ولكن من الأهمية أن يكون على شيء يحصل به التبرر، ويحصل به الخير.
قال: (وَيَصِحُّ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى ذِمِّيٍّ وَعَكْسُهُ) يعني لو أوقف المسلم على أقاربه من أهل الذمة، كأن يكون هو قد أسلم وأقاربه لا زالوا على غير الإسلام، فقال: هذا البيت وقف عليهم، وهم أهل ذمة. نقول: لا بأس، ولكن لا يُوقف على جهة غير مشروعة كأن يقول: هذا وقف على الكنيسة، أو على من يأتي الكنيسة؛ لأنه «في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ» ، فإذا أوقف عليهم وهم أهل ذمة، لاعتبار قرابتهم، أو لاعتبار عموم النفع فيهم وفي غيرهم، أو نحو ذلك، فلا بأس، ولكن لا يوقف لأجل ديانتهم، كطبع كتب التوراة، أو لمن يتعلمها، أو لمن يذهب إلى الكنيسة، فهذه ليست جهات بر.
ولكن إذا كان على هذا النحو، حتى ولو لم يكن مسلمًا ففيه أجر، كما جاء في الحديث.
وكذلك الوقف من الذمي على مسلمٍ، فإنه يكون صحيحًا.
قال: (وَكَوْنُهُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ عَلَى مُعَيَّنٍ) الوقف لا يخلو من أحد أمرين:
إمَّا أن يكون على غير معين، كالمساجد، والمستشفيات، والمدارس، ونحو ذلك، فهذه على جهة، وهذه الجهة وإن لم تكن من حيث الأصل أنها تملك، ولكن يصح الوقف عليها، وهذا جرى عليه عمل المسلمين أولاً وآخرًا، وهذا الذي ربما أخذ منه بعض المعاصرين ما يُسمونه بالشخصية الاعتبارية، وقعدوا لها أحكامًا، ولكن لا ينبغي التوسع في ذلك، وأنها تحد بحدها.
وأما أن تُنَظَّرَ على هذه الشخصية الاعتبارية، وتُنْقَل ما على المكلف من أحكام وتبعات على هذه الشخصية الاعتبارية، حتى يتخلص الإنسان مما يجب عليه في بعض المسائل، كما هو مسلك بعض المعاصرين، فهذا ليس جيدًا، وهذه إشارة وإلا فهذه المسائل يحتاج فيها إلى طول، وإلى مزيد توضيح، وأمَّا من كان عنده أصل معرفة بها فتكفيه هذه الإشارة، ومن لا فسيأتي له في وقته، عند تدرجه في طلب العلم أن يعرف ذلك، وأن يقف عليه.
أمَّا إذا كان على معين، كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا بد من أن يكون (يَمْلِكُ) فلا يوقف على بهيمة، كأن يقول: على هذه الدابة، أو على هذه الكلبة، أو نحو ذلك.
والمقصود أنَّه إذا كان على معين، وأما إذا أوقف على البهائم، على سقيها، أو إطعامها، فهذا باب بر، ومن أعجب ما سمعت في هذا أنه كان وقف في الهند على حَمَامِ الحرم، يقول بعض من حدثني: "وكنت في ميناء جدة، قبل خمسين عامًا أو ستين"، يقول: كنت أستلم تلك الأكياس المعبأة الآتية من هذا الوقف لتنشر لـ "حَمَامِ الحرم".
إذًا باب الإحسان باب عظيم، ولا حدَّ له، فإذا كان على معين فلا بد منه، وأمَّا إذا كان على جهة، أو على بر، أو على إحسان، فالأمر فيه واسع، وبناء على ذلك لا يكون على ميت وهكذا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَكَوْنُ وَاقِفٍ نَافِذَ التَّصَرُّفِ، وَوَقْفِهِ نَاجِزًا)}.
كون الواقف نافذ التصرف، وهو الحر، الرشيد، المكلف، وأمَّا لو كان غير حُرٍّ؛ فإنه لا يملك، وإذا كان غير مكلف فهو مما عليه ولاية، فلا يصح تبرعه، ولا تصرفه، وكذلك الرشيد فلا يكون سفيهًا؛ لأنَّ السفيه عليه ولاية، وهو محجور عليه -كما تقدم-، وبناء على ذلك لم تصح منه التبرعات ولا التصرفات، فلا بد أن يكون (نَافِذَ التَّصَرُّفِ).
قال: (وَوَقْفِهِ نَاجِزًا) لا بد أن يكون الوقف ناجزًا، فلا يَصح مُعلقًا، كمثل أن يقول: "إن جاءتني فلوس فهي وقف"، أو "إن جاء فلان لي بالبشارة فهو وقف"، إلى غير ذلك من طرائق التعليق.
فإنهم يقولون: لا بد إن تكون مقيدة. وطبعا كل ذلك إذا أراد الوقف في حال الحياة، وأمَّا إذا كان يُوقف وصية فلا إشكال في ذلك؛ لأنَّ النبي قال: «إنَّ اللَّهَ تصدَّقَ عليْكُم، عندَ وفاتِكُم بثلثِ أموالِكُم، زيادةً لَكم في أعمالِكُم» فأجاز أن يوصي الإنسان بالوقف، فيكون نفاذ الوقف بعد الموت، فلو قال: "هذه المزرعة وقف بعد موتي"، فحقيقة ذلك أنه تعليق، والأصل في التعليق أنه لا يصح، ولكن استثنى من ذلك أهل العلم الوصية، أو ما يكون متعلقا بالموت، لأنه جاء في الأدلة ما يدل على جوازه ومشروعيته، ومع ذلك نقول: من أراد الوقف؛ فإنه يوقف في حياته، فإنَّ ذلك أدعى لنماء وقفه وحصوله، وعدم التلاعب به، وأكثر بركة له، ويحصل له من الخيرات ما لا حَدَّ له.
ومَثَّلَ لذلك بعض أهل العلم بمثال عظيم نافع لطيف، فيقول: كما أنَّ الوقف يريد الإنسان أن يستزيد منه ويستمر ويعظم به أجره، فإنَّ الإنسان لو كان في ظلمة ومعه سراج، هل يضع السراج وراء ظهره أو أمامه؟ فكما أنه يضع السراج أمامه ليستضيء به الطريق، فكذلك الوقف؛ فإنه يجعله أمامه، ليستفيد منه ويستزيد عمله بعد وفاته، فيكون ذلك أتم لأجره، وأبقى لعمله، وأنفع لوقفه.
وكم من الناس الذين أوصوا، لم يوجد من ورثتهم من هو رشيد يخاف الله ويتقيه، فأكلت الأوقاف، وتُصرف فيها، أو حجمت ولم يعمل إلا بعضها، أو تأخر فيها حتى فات وقتها، وفات أجر الواقف، كما أنَّ ذلك فيه تعريض للورثة للإثم إذا عُلِمَ أنهم لا يقومون بذلك على الوجه الأتم، ولا يسرعون إلى ما أمر ذلك الواقف.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِشَرْطِ وَاقِفٍ إِنْ وَافَقَ الشَّرْعَ)}.
قوله: (وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِشَرْطِ وَاقِفٍ) هذا أصله صحيح، فإنَّ النبي قال: «وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ»، فجعل للواقف محلا لموضع الوقف، فله أن يعم، وله أن يخص، وله أن يجعله على جهة، وله أن يجعله على شخص، فبابه عظيم إن وافق الشرع، وأما إذا لم يوافق الشرع كأن يقول: على ثلاثة من أبنائي دون سائر الأبناء، فهذا فيه نوع ظلم، والشارع منع من الظلم على الأولاد، أو عدم العدل بينهم، فكان ذلك نحوا منه.
إذًا لا بد من أن يكون موافقًا للشرع ولا مخالفة فيه، فإذا كان كذلك فالأصل إمضاء قول الواقف.
وهنا يقول الفقهاء: "نص الواقف كنص الشارع"، والمقصود من ذلك: عدم التجاوز فيما أوقف فيه، والقيام عليه قدر الاستطاعة، ولا يُراد في ذلك أن تُسَوَّى أقوال الواقف بنصوص الشارع، حاشا وكلا أن يكون المراد هو ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: وَمَعَ إِطْلَاقٍ يَسْتَوِي غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ، وَذَكَرٌ وَأُنْثَى)}.
إذا أطلق فقال مثلا: "هذا وقف على أهل بيتي" فيستوي الغني والفقير، حتى ولو كان هذا يملك ما يملك من الملايين، أو كان الآخر فقيرًا فقرًا مدقعًا، فحق هذا وهذا سواء.
وكذلك لو ذكرًا أو أنثى فهنا قالوا: إنهما يستويان فيه، وإن كان بعضهم يقول: إنه يختلف بحسب العادة أو نحو ذلك.
وعلى كل حال، فهذا من جهة الإطلاق، وإن كنا نقول: ينبغي في أي وقف أن تترك العبارات المجملة، وأن تحدد الأشياء بأعيانها؛ لأنَّ ذلك أقطع للنزاع، وأنفع للوقف، وأبقى للأجر؛ لأنه إذا وقع النزاع؛ تعطل الوقف، وإذا تعطل الوقف ذهب على الإنسان أجره، ولا يتأتى ذلك إلا أن يكون الواقف حاذقا، وأن يكون منصوص وقفه ظاهرًا، فإذا لم يكن عارفًا فلا بد من أن يستعين بذوي الخبرة، وأهل الاختصاص، وأن يستشير، وأن يراجع، وأن يعمل النظر.
بعض الناس يتعب في أمور دنياه والاستشارة فيها، سواء في عقد صفقة وإمضاء بيع ونحو ذلك، ولكنه في أعمال البر يهمل، فكما أنَّ الإنسان يريد التمام في تجارته؛ فإنه من الأحسن، والذي يبقي عمله، ويضاعف مثوبته، أن يجتهد في ذلك؛ لأنَّ هذا أنفع له -بإذن الله جل وعلا-.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالنَّظَرُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ لِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَحْصُورًا، وَإِلَّا فَلِحَاكِمٍ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ)}.
إذًا الوقف له ناظر، والنظر يراد به الناظر، والأصل أنه يجعل له ناظرًا يرعاه، ويقوم على مصالحه، ويحقق ما في تطلع إليه الواقف، يُفرق ما أُمر بالتفريق بين مسكين أو فقير أو سوى ذلك، إلى غير هذا من الأمور.
ولكن يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يخلو إمَّا أن يكون الموقوف عليهم محصورين، فإذا كانوا محصورين، فإذا وجد الناظر فهو يقوم على هؤلاء بما جُعِلَ له من النظر، وإذا لم يكن ثم ناظر وهم محصورون، فالوقف يكون عليهم، ينظرون في مصلحة الوقف، ويسعون فيه، ونحو ذلك.
إذا لم يكونوا محصورين، أو لم يكن ثَمَّ ناظرٌ، أو كان على جهة، فالحاكم؛ لأنه ولي من لا ولي له، وهو يرعى مصالح المسلمين، وقد ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أنه من أهم ما يقوم عليه القاضي في المهام، أن يلي أوقاف المسلمين؛ لأنه ينوب عن الإمام الأكبر، ويقوم على مصالح الناس، فكان ذلك من أعظم ما تُوكل إليه من المهام.
قال: (كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ) كمستشفى، أو شراء الأدوية الطبية، إلى غير ذلك.
فإذا لم يوجد الناظر فيكون الحاكم، سواء وَلِيَ ذلك بنفسه، أو جعل ذلك إلى شخص، أو إلى جهة، أو إلى لجنة، أو إلى بيت خبرة، أو لغير ذلك.
وقد جدت من الأمور الكثيرة الآن وطرائق جديدة في رعاية هذه الأمور مما يحصل به الخير، وإن كان أيضًا لا بد فيه من التدقيق، فإنه وإن تنوعت معارف الناس، ووجد احتراف في بعض الأعمال، إلا أنه قلت في الديانة، فحصل الإخفاق في الأمانة، والإخلال بالواجب، والمحاباة، والتساهل باعتبار أنها أوقاف، ولا يتساهلون في ذلك لو كانت لهم أعمالاً وتجارات، والله المستعان.
{جزاكم الله خيرًا شيخنا، ولعلنا نكتفي بهذا القدر، ونكمل -بعون الله تعالى- في الأسبوع القادم}.
لا مانع إن شاء الله
{أحسن الله إليكم.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك