الدرس الثالث عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7534 33
الدرس الثالث عشر

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يشرحه لنا فضيلة الشيخ المفضال/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلاً وسهلاً، حيا الله طلاب العلم وطالباته، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق.
{أمين، رضي الله عنكم.
كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند المعلق على شرط}.
{إي نعم، نبدأ على بركة الله}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رحمه الله-: (وَالْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ غَيْرَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد،
فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من العالمين العاملين، وأن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، آمين يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
كنا في الدرس الماضي انتهينا إلى الشروط الفاسدة في النكاح، وهي المفسدة لعقد النكاح، وقد ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- نكاح الشغار، ونكاح التحليل، والمتعة، وانتهينا إلى ما يتعلق بنكاح المتعة، وأنه مما استقر الشرع على تحريمه، وأجمع على تحريمه أهل العلم.
ثم ذكرنا ما يتعلق بالكلام على النكاح بنية الطلاق، وذكرنا تفصيل كلام أهل العلم فيه. فمنهم من ألحقه بنكاح المتعة، كما هو ظاهر المذهب عند الحنابلة، وجرى على ذلك بعض أهل العلم المعاصرين.
ومنهم من قال: إن هذا النكاح له وجهة صحيحة، وأن النية لا تُؤثر فيه، وما دام أنه ليس له حَدٌّ ينتهي إليه، فإن استقراره واستمراره من انقطاعه إلى الله -جل وعلا- بخلاف نكاح المتعة الذي ينتهي ولو أراد البقاء والثبات فيه، وبناء على ذلك كان مختلفًا عنه.
وذكرنا لكم سبب التفريق بينه وبين نكاح التحليل، وإن كان كل واحد منهما فيه نية، فنية التحليل أثرت فجعلت ذلك داخلا في الوعيد واللعنة، ونية الطلاق هنا لم تمنع صحة العقد، ولم تلحق بصاحبها التبعة على قول من يقول بصحته، لِمَا ذكرنا من أنَّ هذا منهي عنه.
ولأجل ذلك كانت النية إلى المنهي عنه محرمة، بخلاف الطلاق من حيث أصله، فإنه جائز، وأبغض الحلال إلى الله الطلاق، فلذلك كانت النية إليه غير مؤثرة في المنع من ذلك، مع أننا نقول: ينبغي للإنسان ألا يدخل نكاحًا وهو يريد الانفصال، وألا يبدأ زواجًا وهو لا يريد الاستمرار فيه، فإنَّ في ذلك من تعريض البنت والمرأة للبلاء والفتنة، وقد يلحق بها من كسر الخاطر، وتغير الحال، وربما لحق بها بعد ذلك تبعات كثيرة.
ومع ذلك نقول: في بعض الأخ قد يُحدث الله من صلاح حال هذين الزوجين، واستقرار حياتهما ما يحصل من ائتلاف قلوبهما ما هو خير كثير، فكم من الناس بدأ وربما لم يكن راغبًا في الزواج، وله أمثلة كثيرة، وكل الناس يجمعون على أن هذا نكاح صحيح، يعني: مثل الذي لم يتزوج إلا لإرضاء والديه، أو لم يتزوج إلا لبعض ظروف احتفت به، ومع ذلك بعد الشروع في الزواج تنفتح بينهما من الحياة والألفة، ويدخل في قلوبهما من المحبة والمودة، ما لا يحصل لأناس كثيرين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك: (وَالْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ)، فلَمَّا كان عقد نكاح عقدًا عظيمًا، وله حرمته وسياجه في الشرع، وتستباح به الفروج كما قلنا، فإنَّ تعليقه على أمر مستقبل ينافي الاهتمام به، فلا ندري أينعقد هذا النكاح أم لا؟ فإذا قال: إذا جاء زيد من السفر أو إذا نزل المطر؟ فلا ندري أهي مزوجة أم لا؟ ولو أراد أحد أن يتزوجها وما يعقب ذلك من حصول الخلاف.
فإذا كان الفقهاء -رحمهم الله تعالى- لم يصححوا العقد المعلق في باب البيوع مع أنه أيسر لِمَا فيه من الغرر، فلا أن يكون ذلك في عقد النكاح من باب أولى.
بعضهم يقول: إلا أن يكون الشرط في الماضي أو انتهى، ويعلمون ذا فيكون وجوده كعدمه، لكننا لا نحتاج إلى ذكر هذا.
إلا في حال واحدة، وهو أن يعلق النكاح على مشيئة الله -جل وعلا-، فإنَّ تعليقه بالمشيئة جرت عادة الناس أنهم يطلبون ذلك تبركا، وحصولا للبركة من الله -جل وعلا-.
وبناء على ذلك وإن كان ظاهره التعليق إلا حقيقته التأكيد؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله -جل وعلا-، فكأنهم يقولون: هذا ما نحن فيه، ولم يبق إلا ما كتب الله -جل وعلا-، فلا يكون في ذلك حرج ولا غضاضة.
ثم قال -رحمه الله-: (وَفَاسِدٌ لَا يُبْطِلُهُ كَشَرْطِ أَلَّا مَهْرَ، أَوْ لَا نَفَقَةَ، أَوْ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ أَقَلَّ)}.
قوله: (وَفَاسِدٌ لَا يُبْطِلُهُ) هذا هو النوع الثاني من القسم الثاني، وهو القسم في الشروط الفاسدة، فإن الفاسد منه ما يفسد النكاح، وهي المسائل التي تقدم ذكرها.
وشروط لا تفسد النكاح مع فسادها وعدم اعتبارها، فإذا تزوجها على (أَلَّا مَهْرَ)، فإنه لا يتصور نكاحًا دون مهر، والله -جل وعلا- قال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء:4]. وسيأتي باب الصداق مفصلا في ذلك، فعند أهل العلم أنَّ هذا الشرط فاسد، وأن عقد النكاح صحيح، وأنه يُفرض لها مهر مثلها.
ومثل ذلك (أَوْ لَا نَفَقَةَ) فإذا شرط عليها أنه لا ينفق عليها، فإنَّ نفقتها تتجدد بكل يوم، فلا يمكن أن يسقط الإنسان ما يجب له في المستقبل، فلا يسقط الإنسان ما يجب له في المستقبل، ولذلك لو أنَّ شخصا طلق امرأة لم يتزوجها بعد، فلو تزوجها بعد ذلك لم يكن شيئًا؛ لأنه أنشأ شيئًا لم يكن يملكه، وكذلك هي أسقطت شيئًا لم يثبت لها، فإسقاطه كعدمه، فكم أنني لو قلت لك مثلا: إذا استدنت مني دينًا فلا أريد منك شيئًا، فاستدنت مني الدين فإنَّ إسقاطي السابق لا يُؤثر في الدين الثابت، ولا بد من إسقاط يلحق الثبوت، وهو أن يكون بعد شغول ذمتي بهذا الدين أيا كان المسقط منا. وكذلك إذا قال: (لَا نَفَقَةَ).
قوله: (أَوْ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ ضَرَّتِهَا أَوْ أَقَلَّ) إذا اشترط ذلك، فإن وفيا به على حسب اتفاقهما فهذا تبرع منها وإسقاط لحقها، ولكن ذلك لا يثبت من جهة شرطه، ولا يستمد منه لزوم من جهة إثباته في عقد النكاح، فوجوده في عقد النكاح لا اعتبار به، وهو ساقط فاسد لا أثر له، وإنما يحصل ذلك منهما على ما يتفقان عليه، من الإسقاط، ومن المسامحة، ومن طلب ما في النكاح من ألفة بينهما، أو محبة، أو مصالح مشتركة أخرى.
وهذه الأمثلة تُعيدنا إلى صورة من الصور التي يكثر حدوثها في مثل هذه الأوقات، وهي ليست يعني بحادثة جديدة، ولا بدع من الحال، لم تكن في الأزمان المتقدمة، بل هي موجودة معروفة، وهو الذي يسمى زواج المسيار، يعني: باعتبار أنه يأتيها في وقت مقطوع غير محدد، وفي الغالب أنَّ ذلك يكون دون علم زوجه أو بعض أهله، وربما أيضا يكون فيه نوع كتمان بعد شهادة الشهود، فمثل هذا الزواج هو زواج مكتمل أركانه، بشروطه وما يعتبر له، فلا غضاضة في هذا النكاح، وهذا هو الذي جاء عند السلف، وبوبوا عليه كما عند ابن أبي شيبة، باب تزويج النهاريات، وعند عبد الرزاق، ونحو ذلك. فكان معروفًا من وقت السلف، وجملة منهم لم يروا به بأسا؛ لأنَّ غاية ما في ذلك النكاح، أنها من جهة قد أسقطت بعض حقوقها، فهي على ما أسقطت، وهو طلب النكاح مع المسامحة في بعض الأمور، فهما على ما اتفقا عليه.
ولكن الذي نريد أن نقوله هنا: أنه لو جَدَّ لها أن تطلب ليلتها، فلها ذلك وليس له أن يمانع، ولو أرادت أن تطالب بنفقتها التي أسقطتها فلها ذلك، ولكن لها ما تستقبل من النفقة لا ما ذهبت من سالف الأيام؛ لأنها لَمَّا أسقطتها وذهبت، لم يكن لها أن تطلبها بعد ذلك، ولكن ما يأتي من أيام لاحقة، فلها تطلب قسمها، ولها أن تطلب نفقتها، ويلزمه الوفاء بذلك.
وهذا النكاح -في الحقيقة- قد يُحتاج إليه في بعض الأحوال، فقد تكون المرأة هي التي احتاجت، وقد يكون الرجل هو الذي احتاج، وقد يحتفُّ بكل واحدٍ منها منهما من الظروف. ما يستدعي أنه لا يستطيع القيام بكل واجبات النكاح، فإذا قام نكاحهما على مسامحة كل واحد منهما لصاحبه، فهما على ما اتفقا عليه، وينبغي للمسامح أن يطلب من الأسباب التي يرد بها المعروف، ويزيد بها من إحسان من أحسن إليه لهذه المرأة مقابل ما أسقطته قسمها، أو ما أسقطته من نفقتها ونحو ذلك. هذا من جهة.
ومن أحسن ما يمكن أن يقال في مثل هذه الأنكحة: إنها تحقق العفة وإن نقص فيها السكن، أمَّا العفة فكل واحد منهما يكون له من إشباع غريزته، وقضاء وتره، وإعفاف نفسه ما هو ظاهر.
ولكن قد يفوت فيه بعض أنس الزوجين، بائتلافهما في فراش واحد يوما بعد يوم، أو حالا بعد حال، فقد يكون في ذلك شيء من النقص، ولكن إذا علمنا ما فيه من مصالح أخرى؛ فإنه ينبغي ألا يُسد مثل هذا الباب، خاصة في مثل هذه الأوقات، الذي التي كثر بلاؤها، ويمكن للإنسان إذا فات عليه مثل ذلك النكاح، ألا يحصل له نكاح تام من كل وجه، فَيُعْوِزُهُ ذلك إلى أن يطلب إعفاف نفسه بسبل محرمة، وطرائق مأزورة مأثومة، فيلحق به من الاثم ما لا تحمد عقباه.
{أحس الله إليكم.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَإِنْ شَرِطَ نَفْيَ عَيْبٍ لَا يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ فَوُجِدَ بِهَا فَلَهُ الْفَسْخُ)}.
انتهى المؤلف -رحمه الله تعالى- من ذكر الشروط الفاسدة، وانتقل إلى بعض الشروط الأخرى التي قد يشترطها، فبعضها تكون على سبيل التأكيد، كما لو اشترط مثلا أن يمكن وطؤها، بأن لا يكون فيها عيب، وهذا سيأتي في عيوب النكاح، فكأنه جاء به للتأكيد.
ولكن بعض العيوب هي لا تصل إلى أن تكون فاسخة لعقد النكاح، لكن يؤكد على أن أنه يريدها، فلو اشترط مثلا ألا تكون صلعاء، لكون هذه العائلة مثلا ظهر فيها الصلع، أو شُهِرَ فيها الصلع.
كما لو شرط ألا تكون عوراء، وهكذا لو شرط شرطًا من الشروط التي لا تدخل في متعلق عيوب النكاح، ولكنه يحتاج إليها.
فإذا شرط مثل هذه الشروط استحق الفسخ لوجودها، وإلا لم تكن هذه العيوب، وإن كانت مؤثرة في النساء، بكافية في فسخ النكاح.
والحكم في الزوج مثل ما هو في الزوجة، فلو شرطت هي ألا يكون أصلعًا، أو ألا يكون أعورًا أو ألا يكون مقطوع اليد، أو نحو ذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله: (فصل في عيوب النكاح)}.
إذًا هذا الفصل فيما يتعلق بالعيوب التي تؤثر في النكاح، وتجعل لكل واحد من الزوجين إذا وُجِدَ في الآخر عيب من هذه العيوب أن يطلب الفسخ متى ما أراد، ويستحقه بحكم الحاكم في ذلك.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَعَيْبُ نِكَاحٍ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
نَوْعٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّجُلِ كَجَبٍّ وَعُنَّةٍ وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ كَسَدِّ فَرْجٍ وَرَتَقٍ ، وَنَوْعٌ اشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا كَجُنُونٍ وَجُذَامٍ ، فَيُفْسَخُ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ)
}.
أشار المؤلف -رحمه الله- في هذين السطرين إلى جملة العيوب في النكاح، وهنا يلحظ أولاً أنَّ الفقهاء لم يذكروا لذلك في الجملة ضابطًا، وإنما عدوها عدًا، وهذا العدُّ فيه نوع تفاوت، فمنهم من أوصلها إلى سبعة، ومنهم من زاد، وربما قاربت مع اجتماع الأنواع المشتركة والمختصة بكل واحد منهما، إلى ما يقرب من عشرين نوعا، فأيًّا كان ذلك، فنحن سنأتي إلى جملتها، ونقف قليلا مع هذا العد وذلك الحصر.
قال: (نَوْعٌ مُخْتَصٌّ بِالرَّجُلِ كَجَبٍّ) والجَب هو أن يكون الرجل مقطوع الذكر، والخصي هو مقطوع الخصية، والممسوح هو مقطوعهما جميعًا.
فإذا كان الرجل محبوبًا؛ فإنه لا يكون منه إمتاع لزوجته، ولا قضاء لوترها، وهو مقصود النكاح الأعظم، وبناء على ذلك تستحق معه فسخ النكاح.
ومثل ذلك إذا كان به (عُنَّةٍ) فالجب حقيقته انقطاع حسي، وأمَّا العنة فهي أن توجد الآلة، ولكنها لا تنتشر، فلا يصلب بحيث يكون منه إيلاج. فالعُنَّة مأخوذة من عُنَّةٍ الباب؛ لأنها تكون معترضة، وذلك أنَّ ذَكَرَ الرجل العنين كلما أراد أن يدخله اعترض، فبناء على ذلك سمي عنينًا، فالعنين عيب من عيوب النكاح، وكما قلنا أيضا: هو يمنع تحصيل المقصود الأعظم منه، وبناء على ذلك تستحق المرأة في مثل هذه الحال الفسخ.
وكذلك لو كان مقطوع الخصيتين، فإنَّ الخصية هي المحرك للرجل، ولذلك في الغالب أنه إذا قطعت خصيتي الرجل سقط شعر وجهه، فإنه تذهب رجولته، ويذهب ميله إلى النساء، ورغبته فيهن.
قال: (وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَرْأَةِ) إذًا النوع الثاني هو العيوب التي تختص بالمرأة.
قال: (كَسَدِّ فَرْجٍ وَرَتَق)، انسداد الفرج خلقة، أو يكون فيه (رَتَقٌ) وهو لحم يسده، ومثل ذلك العسل إذا عظم، وبعضهم قال: هو لحم، أو قالوا: رغبة تمنع لذة الوطء، فالمهم إذا تحصل من ذلك ما يمنع تلذذ الرجل بالمرأة وقضاء وطره، فإنَّ هذا يكون عيبًا، وذلك بانسداد الفرج، أو عظم يمنع دخول، أو نحو ذلك مما يكون في معناهما، وهي الرغوة، إذا قلنا: إنَّ العفل معناه الرغوة التي تكون في فرجها.
وعلى كل حال. فهذه كانت فيما مضى عيوب ثابتة لا يمكن علاجها، وأمَّا الآن فإنها أمور يسيرة، وبتدخل جراحي يسير يمكن الخلاص منها، ولعلنا أن نرجئ ما يتعلق بما جد بعد الانتهاء من ذكر بقية الأنواع.
قال: (وَنَوْعٌ اشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا كَجُنُونٍ وَجُذَامٍ) إذا كان بواحد منهما جنون، فهذا عيب يستحق به الآخر فسخ النكاح. يقولون: طيب هو عارف أنها مجنونة! نقول: لا. الجنون منه جنون مطبق، وهو الذي كل حياته جنون، وجنون غير مطبق، فهو في أول النكاح ما رأوا منه إلا حالا معتدلة، وجنونه ينتابه أحيانًا مرة بعد أخرى، وهذا الجنون سبق أنا ذكرناه في مجالس سابقة، وهو الذي يسمى الانفصام في الشخصية عند أهل الطب النفسي، وحقيقته أنه جنون إذا وصل إلى درجة الجنون؛ لأن بعض الانفصام في الشخصية هو تفاوت في اتزانها واعتدالها، ولكنه إذا وصل إلى مرحلة فتكون جنونا.
المهم أنه إذا وصل إلى هذه المرحلة، ووجد منه هذا الجنون، أو كان جنونا مُطبقًا، لكن لم يعلموا به، كما لو كان قد وكلوا شخصا ليعقد لهم، فلما رأوه فإذا هو شخص مجنون، أو جاءهم وهو في حال سكون وهدوء، ولم يحصل منه حديث ولا كلام فلم يشعروا بذلك، ففي كل الأحوال متى ما علم جنونه أو جنونها، فلكل واحد من الزوجين فسخ ذلك النكاح.
ومثل ذلك (الجذام) فإنَّ الجذام هي الآكلة، وهي عبارة عن مرض يدخل على الجسد فيتآكل، ويكون معه رائحة قبيحة جدا لا تحتمل، فكونه مرضا معديًا، وكونه فيه هذه الرائحة، يزيد ذلك أيضا من اعتباره مؤثرا في النكاح.
على كل حال، هذا هو الذي ذكره الفقهاء، وذكروا جملة أخرى مكملة لذلك.
إذا نظرنا في الواقع؛ فإن بعض هذه العيوب كبخر الفم ونحوه، قد لا تكون بذاك، وقد يكون ثم عيوب أكبر منها، ثم أيضا جَدَّ من الأدوية لمعالجة وما تندفع به هذه العيوب بأبسط طريق، مثل على سبيل المثال: انخراط ما بين سبيليها، فيمكن أن يخاط خياطة يسيرة تنتهي في يوم، وتشفى منه خلال أيام يسيرة، ومثل ذلك الرَتَق فيفتح ما كان فيه التحام، وهكذا.
إذًا ذهب بعض العلم كما نقل ذلك صاحب الإقناع وهو مشهور عنه، وفاض ابن القيم في جعل ضابط لطيف جدا فقال: إنه كل عيب حصل منه منع كمال الاستمتاع، أو حصول أكثره فهو يكون عيبا حاصلا في النكاح.
وبناء على ذلك إذا نظرنا إلى هذا الضابط فربما يكون أتم في تطبيقه، وأمنع من حصول الإشكالات، ولأنه جدت بعض العيوب التي قد تكون أشد مما ذكره الفقهاء، وقد يكون فيما ذكره الفقهاء أيضا ما يمكن تجاوزه بأبسط سبب، وأيسر معالجة، فقد يكون هذا الضابط بمثابة المناط الذي يمكن أن تعقد به، أو أن تحال عليه عيوب النكاح الموجبة، أو التي يستحق بها الفسخ في النكاح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَيُفْسَخُ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ دُخُولٍ لَا بِنَحْوِ عَمًى وَطَرَشٍ وَقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ إِلَّا بِشَرْطٍ)}.
إذا هذا بيان من المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما يترتب على هذا العيب إذا وجد أو إذا حدث وجعلهما على حال واحدة، يعني: سواء وجد إن لم يكن يعلم به فوجدوه، أو أنه كان في حال مستقرة فحدث له ذلك العيب.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: (فَيُفْسَخُ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ) أي: لكل واحد من الزوجين إذا رأى في زوجه عيبًا من هذه العيوب أن يفسخ بذلك العيب.
(وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَ دُخُولٍ)، يعني: لو كان هذا في سلامة وعافية ثم حصل به البرص، والبرص عندهم من العيوب التي عدوها، فهو تشوه فيه، ومع ذلك تكون معه رائحة مقززة.
فعلى كل حال إذا حدث فكما لو كان موجودا، وبناء على ذلك يستحق به فسخ النكاح؛ لأنه يمنع حصول الاستمتاع، وأنثى كل واحد من الزوجين بصاحبه.
قال: (لَا بِنَحْوِ عَمًى) هذه عيوب كبيرة مؤثرة في الإنسان، ولكنها لا تمنع كمال الاستمتاع، ولذلك لم يجعلها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- مسببة للفسخ، أو يستحق بها فسخ النكاح.
قال: (وَقَطْعِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ) كذلك لو كان مقطوع اليد والرجل، فإنه يمكن أن يستمتع بزوجته، ويمكن أن تستمتع به، ولأجل ذلك لا يعتبر ذلك مانعًا من استمرار العقد.
ولكن لو أن واحدا منهما لم يقبل لكونه أعمى أو لكونه فيه طرش لا يسمع، أو لكونه مقطوع اليد أو الرجل، وقد ظن أنه سيتأقلم فلم يتأقلم، أو لم يعلم بذلك!
فنقول في مثل هذه الحال: هذه عيوب لا يستحق بها فسخ النكاح من جهة ما قرره الفقهاء في عيوب النكاح، ولكن إذا لم تستقر حالك، ولم تأنس بهذا الزوج، أيتها المرأة أن تأنسي بهذا الزوج على هذه الحال، فيمكن أن تطلبي فسخ النكاح بالخلع، فجعل الشارع لها خلاصا من هذا العقد ولكن بطريق أخرى.
إذًا محل الكلام في العيوب في النكاح، إنما هي العيوب التي تمنع كمال الاستمتاع، وأمَّا التي قد يكره بها أحدهما صاحبه، فيمكن أن يطلب أحدهما الفسخ، أو يلجأ إلى الفراق، ولكن لذلك مأخذ آخر، فمن الزوج يكون الطلاق، ومن المرأة يكون طلب الخلع.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَمَنْ ثَبَتَتْ عُنَّتُهُ أُجِّلَ سَنَةً مِنْ حِينِ تَرْفَعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ فِيهَا فَلَهَا الْفَسْخُ)}.
الجب واضح، وبمجرد أن يكشف عن سراويله يعرف حاله فيستحق الفسخ لذلك، ولكن العِنَّة شيء آخر، فالذكر موجود، ولا يمكن أن يعرف هل هو قادر على الوطء أو لا؟ والوطء إنما يحصل على حيل انفرادهما، فقد يقول: فقد يطأها، وتقول هي: إنه لا يطأ، وبناء على ذلك كيف يثبت؟
في مثل هذه الحال إذا أقرَّ؛ فإنه يؤجل سنة، لربما يكون هذا الشيء عارضًا، ولربما يشتد عليه في الصيف، وقد يتلى عنه في الشتاء، والعكس بالعكس.
فإذا انقطع العلم أو ما يمكن أن يكون حائلا بينه وبين حصول الاستمتاع بزوجته، فإن الحاكم يفسخ النكاح.
ولكن إذا لم يقر فمن الفقهاء من يقول: إنه يدخل معهما امرأة ثقة، وتنظر إلى ذلك، فعلي كل حال، أنَّ للحاكم أن ينظر في ثبوت ذلك، سواء كان برؤية أهل الاختصاص والطب بالتقارير التي وجدت والأشعة ما يتبع ذلك من فحوصات مخبرية ونحوها، وقد يحتاج إلى شيء أيضا من أن يرى حالهما، أو أن يكتشف ما خصوصية ما بينهما لمصلحة كبرى، فإن أكثر ما في هذا انكشاف العورة، وانكشاف العورة يصح لأشياء كثيرة، كما يكون في التعالج، وكما يكون في التطبب، وكما يكون في إزالة نجاسة لغير قادر عليها ونحو ذلك. فهذه أعظم منها، فلو وجد فيها شيء من الاطلاع على العورات، فإن ما فيه من المصلحة أعظم.
والقاعدة عند الفقهاء -رحمهم الله- أنَّ ما كان تحريمه تحريم وسيلة، أُبيح للحاجة، وهذا من أعظم ما يباح فيه.
قال: (فَإِنْ لَمْ يَطَأْ فِيهَا فَلَهَا الْفَسْخُ) كما قلنا: فيفسخ عليه الحاكم في تلك الأحوال، وكل هذه العيوب لَمَّا كان مبدأها التنازع، ولَمَّا كان النكاح من العقود العظيمة التي يترتب عليها ثبوت نسب ونحوه، فإنه لا يكون الفسخ فيها إلا بالحاكم قطعًا للنزاع.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَخِيَارُ عَيْبٍ عَلَى التَّرَاخِي)}.
لأنه موجود ولا يمكن الخلاص منه، فربما تأخرت، وربما نظرت، وربما تأملت، ربما راجع نفسه، يمكن أن يصبر، أو يستشير أهل خبرة، أو يستشير من هو أسبق منه في نكاح، أو هي كذلك، وبناء على ذلك إذا طالب به ولو بعد وقت من علمه، أو طالبت به كذلك بعد وقت من علمها، فيقبل ويستحق المطالب منهما الفسخ.
فإذا قيل: إنه قد علم بذلك قبل شهر! فيقول: نعم أنا علمت ولكن لم يظهر مني رضا، أو تنازل عن حقي، أو إظهار الفرح بهذا الزوج كما كان حاله أولا.
فما دام أنه لم يكن منه شيء من ذلك فلا يضر ما كان من تراخيه في المطالبة بفسخ النكاح بعد ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (لَكِنْ يَسْقُطُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، لَا فِي عُنَّةٍ إِلَّا بِقَوْلٍ)}.
أي: إذا وجد منه ما يدل على الرضا، كأن يقول: رضيت بها مهما كان، كما يكون من حال كثير من الزوجات أو الأزواج في بداية الحال، إذا اكتشفوا فيظهرون من المساندة للآخر والثبات معه وعدم التأثر بذلك، ثم إذا مضت فترة أحسوا بأنهم غير قادرين على الاستمرار.
فنقول في مثل هذه الحالة: إذا ظهر منه ما يدل على الرضا، فإنه ليس له بعد ذلك أن يطالب بالفسخ، وغاية ما يمكن أن يفعل إذا كان منه رضا سابق أن يكون فسخ النكاح بالمخالعة إن كانت المرأة، أو بالطلاق إن كان الرجل، ولا يكون بالفسخ.
ما الفرق؟
الفرق كبير، فإذا كان الفسخ بسبب العيب، كأن يكون العيب فيها، فإنه يستحق مهره إذا لم يكن قد دخل بها.
وإذا كان الفسخ من جهة المرأة، فبناء على ذلك سيأتي ما يتعلق بتنصيف الصداق ونحوه، ولكنه يختلف فإنها لا تحتاج إلى أن تبذل عوضًا، بخلاف إذا كانت تفسخ بالمخالعة فإنها ستحتاج إلى بذل عوض ونحوه.
فإذا بينهما افتراق واختلاف.
قال: (لَكِنْ يَسْقُطُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا) فإذا وجد منه الرضا، فقد أذهب حقه في فسخ عقد النكاح بعيب من عيوبه.
(لَا فِي عُنَّةٍ إِلَّا بِقَوْلٍ) يقولون: إن العُنة مما يكون الرضا فيها صريحا، بأن يكون بالقول، وهنا أريد أن أقف موقفا، أن مسائل ما يكون من تزويج من لا همة له، أو من همته ضعيفة، كأن يكون كبيرًا مع بنت صغيرة أو نحوها، فإن أناسا قد يُقدمون على ذلك ولا غضاضة فيه من جهة الشرع من حيث الأصل، ولكن ينبغي أن يعلم إذا كان مثل ذلك الرجل غير قادر على إعطاء المرأة حقها، فإن بعض النساء خاصة إذا كانت بكرا أو صغيرة ربما لا تعرف، وكانت امرأة عفيفة بعيدة عن أسباب الشهوة وثورانها ونحو ذلك، ربما لا تعرف ما تؤول إليه الأمور، فينبغي لولي ومن في حكمه أن يبين ذلك، وأن يُشير عليها به، كما جاء عن الإمام أحمد، وجاء عن كثير من السلف؛ لأن مدة النكاح تطول، وحال النساء والناس يختلف، فربما تأتي في وقت ترى أنها بحاجة إلى شيء من الإعفاف، أو حصول كبت شهوتها وإشباع وطرها، فلا يتأتى لها ذلك، فالمهم أن الإقدام على من ضعفت همته لا إشكال فيه، ولكن ينبغي أن يعلم المقدِمُ أن كانت امرأة، أو أن يُعلمها وليها إن كانت غرة، بما تؤول إليه أمورها، لتدخل على وضوح ويقين؛ لأنه كمْ من النساء التي عرفت بعد ذلك فعضة أصابع الندم، أو سلكت مسلكا حراما، أو طلبت الفسخ والطلاق، وربما فات عليها أن تجد ما يمكن أن تجده من زوج يلائمها، وزوج ترضى به وتأنس في السكن معه واستقرار حياتهما.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا فَسْخَ إِلَّا بِحَاكِمٍ)}.
كما ذكرنا أنَّ الفسخ للحاكم، لأن أول شيء هذه أمور مختلفة، ثم أيضا من باب التعظيم لعقد النكاح؛ لأنه لو قلنا: إن الفسخ دون الحاكم مع أن العيب ظاهر، أو مع أن إقرار لكل واحد منهما بعيب الآخر، أو بما فيه، ولكن يأتي بعد شهر ويقول: لا هي زوجتي، وهي قد تزوجت، أو هي خطبت، أو نحو ذلك، فيفضي ذلك إلى حصول المنازعة.
فقطعا لهذه المنازعة، فإنه إذا كان عن جهة الحاكم، فإن مثل هذه المراجعات أو المنازعات تكون قد انكفأت وانتهت وطويت.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (فَإِنْ فُسِخَ قَبْلَ دُخُولٍ فَلَا مَهْرَ، وَبَعْدَهُ لَهَا الْمُسَمَّى يُرْجَعُ بِهِ عَلَى مُغِرٍّ)}.
قوله: (فَإِنْ فُسِخَ قَبْلَ دُخُولٍ فَلَا مَهْرَ)؛ لأنه إن كان العيب فيه فهي التي طلبت، وإن كان العيب فيها فهي التي تسببت في فسخ النكاح؛ فلأجل ذلك قالوا: لا مهر لها.
أمَّا إذا كان بعد الدخول ففيه استحلال لفرجها، والنبي ﷺ قال: «فَلَهَا اَلْمَهْرُ بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا»[1]، ولئلا يذهب استمتاعه بها مجانا، فلأجل ذلك قال: إنه لا يرجع عليها بشيء من مهرها، حتى ولو كانت مجنونة، أو كان بها هذه العلة أو تلك من العيوب التي توجب فسخ النكاح.
ولكن إذا كان ثم من غَرَّه، ولم يُبين له، كشخص لم يبين أنها مجنونة، أو أن بها برصًا، على ما قلنا من العيوب، على شيء من الاختلاف في تعدادها، وما يستقر من كونه عيبا من عيوبها.
فإذا كان شخص قد غرَّ فيرجع عليه بالمهر؛ لأنه هو الذي ورطه في هذا الأمر.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيُقَرُّ الْكُفَّارُ عَلَى نِكَاحٍ فَاسِدٍ إِنِ اعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ -وَالْمَرْأَةُ تُبَاحُ إِذَنْ- أُقِرَّا)}.
قوله: (وَيُقَرُّ الْكُفَّارُ عَلَى نِكَاحٍ فَاسِدٍ إِنِ اعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ) الكفار ما علاقتنا بأنكحتهم؟ محل كلام الفقهاء -رحمهم الله تعالى- هنا، إذا ترافعوا إلينا، فإذا كان عندنا إنسان من فرنسا أو من روسيا أو من أمريكا أو من أي بلد، وهم قاطنون في بلادنا، عمل أو نزهة أو سوى ذلك، فحصل بينهما خلاف، فترافعا إلى المحكمة عندنا، فنحن لا ننظر إلى أنهما لا يصح نكاح بعضنا من بعض، فكونه تزوج دون مهر، أو تزوج دون ولي، وهم ما داموا يرون صحة ذلك فلا إشكال، أو كانوا مجوسيا وتزوج عمته أو خالته، فما داموا أنهم يرون صحته في دينهم، فلا ننظر إليه، ولكن كما يقول المؤلف -رحمه الله-: (إِنِ اعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ).
والثاني: ألا يترافعوا علينا قبل عقده، وأما إذا طلبوا منا أن نعقد بين رجل وامرأة وهي عمته أو خالته، نقول: لا. نحن إذا أردنا أن نعقد فإننا نعقد على أحكام أهل الإسلام، فنقول لهم: إن العقد بينكما يحتاج إلى هذه الشروط التي تقدمت معنا، وأما إذا كانا قد عقدا فلا إشكال، ولا نقول: لا، أنت تزوجتها وهي في عدة، والمزوجة عندنا في العدة لا تزوج. بل ننظر إليهم ونحكم بينهم إن اختلفا في نفقة، أو في حصول طلاق، أو في رضاع ولد، أو في غير ذلك مما يكون بين الأزواج، فنحكم بينهم ولا ننظر إليهم ما داموا يعتقدون صحته.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ) طيب إذا أسلموا فهنا كيف نفعل بنكاحهم؟ نحن لا ننظر إلى انعقاد نكاحهم، ولكن ننظر إلى حالهم، فإذا كانت هذه الحالة التي أسلموا فيها حال يقر فيها الأزواج، فنعتبر زواجهم صحيحا، فإنَّ النبي ﷺ قد أسلم أناس كثير من الصحابة، وما رجع إلى أنكحتهم وقال: إن هذه كانت باطلة فصححوها، أو أن هذه تزوجت بغير ولي فأعيدوها أو نحو ذلك.
ما دام أنها تحل له في تلك الحال، فيمضي النكاح على ما هو عليه، فلو أنه لَمَّا أسلم لا تزال في عدة، وما يتزوجها إلا من شهر. وكانت معتدة مطلقة قبل أيام من زوج قبله، نقول: هي زوجة في عدة، فيفرق بينهما حتى تنتهي العدة، ثم يعقد بينهما عقد جديد.
لو كان مثلا متزوج لأختها وأسلم، فمعه الآن زوجة كتابية وأختها مسلمة، فلا يقر الزوج على أختين.
وبناء على ذلك يفرق بين واحدة، ولهم في ذلك تفاصيل، هل هي الأولى أو يختار؟ والحنابلة على أنه يختار كما في حديث غيلان وفيروز.
إذًا ننظر إلى الحال التي كان فيها حال إسلامهما، فإن كانت حال يمكن الزواج بينهما فبناء على ذلك يقران على ما كان عليه من نكاح، وأما إذا كان في حال يمنع انعقاد الزواج بينهما لو أردنا أن نعقد، فبناء على ذلك نفرق بينهما في تلك الحال حتى ينتفي ذلك العارض ثم يعقدان عقدًا جديدًا.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (بَابُ الصَّدَاقِ وَتَوَابِعِهِ)}.
هذا الباب، باب الصداق، وهو باب المهر، وله تسميات كثيرة، والقاعدة عند العرب أن ما كان شيئًا مهما فيسمونه بالأسماء الكثيرة، والصداق بالنسبة للمرأة مما جعله الله -جل وعلا- حظًّا لها، وحقا على الأزواج أن يبذلوه إذا أرادوا أن ينكحوا ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء:4]، والنبي ﷺ أصدق نساءه لَمَّا تزوج، والإجماع منعقد على ذلك، وهذا من أعظم ما جاءت به الشريعة في بذل لهذه المرأة في دخولها عقد النكاح، ودخولها تحت هذا الزوج، ما يكون تطييبا لخاطرها، وتفرح به من مال تحصله في ذلك، وتقضي به حوائجها.
إذًا هذا ما يتعلق بباب الصداق، فهو مستحب، وجاء الشرع به من كتاب وسنة وإجماع.
{ثم قال -رحمه الله-: (يُسَنُّ تَسْمِيَتُهُ فِي الْعَقْدِ وَتَخْفِيفُهُ)}.
إذا يُسنُّ تسميته، يعني: يسمون الصداق فيقولون: على ألف أو عشرين ألف أو مئة ألف، أو على هذه السيارة، أو هذه المزرعة، أو هذا البيت، سواء كان قليلا أو كثيرا، ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ [النساء:20]، فلا غضاضة أن تعطى المرأة شيئا كثيرا، أو أن تعطى شيئا قليلا، المهم أول شيء أنه يسمى فلا يبهم أو يؤجل، لأن ذلك مدعاة إلى النزاع وحصول الخلاف، ولذلك قالوا: إنه أقطع للنزاع.
الثاني: استحباب التخفيف، فمع ما قلنا من أنه يجوز أن تُعطى المرأة كثيرا، كما جاء في الآية، ولكن التخفيف فيه أتم.
أولا: أن النبي ﷺ قال: «أَعْظَمُ النِسَاءِ برَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَؤونَةً»، ثم إن النبي ﷺ كان يتزوج وفي غالب زيجاته على اثني عشرة أوقية ونصفا من الدراهم، يعني ما يساوي على سبيل المثال خمسمئة جرام من الفضة، وخمس مئة جرام من الفضة كمْ تساوي ذلك؟ الحقيقة أنه قد يحسب حسابا ويكون قليلا، وقد يرى أنه كان كثيرا فيما مضى.
 طبعا الفضة كانت تساوي أسعارا كثيرة، فقد جاء في أوقات أنها تساوي سبع ريالات للجرام أو نحوه، فإذا قلنا: سبع ريالات من خمسمئة، تكون ثلاثة آلاف وخمسمئة، فاذا اعتبرناها في تلك الأزمنة فلها شيء كثير.
والآن ربما يكون الجرام بريالين أو ريال أو نحو ذلك، فهو على ما يصل إليه ليس بالشيء الكثير، ولكن أيضا لَمَّا بعث النجاشي مهر أم حبيبة، كان مهرًا ليس بالقليل، فعلى كل حال يمكن أن يكون المهر كثيرا، ولكن كلما كان ذلك فيه يسر، كان ذلك مدعاة لحصول البركة والطمأنينة وتمام الزوجية ما لا حد له، والبركة من الله، والفضل من عنده، ولأجل ذلك لا ينبغي للإنسان أن ينأى بنفسه عن أسباب البركة، وطلب حصول خيرها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَكُلُّ مَا صَحَّ ثَمَنًا أَوْ أُجْرَةً صَحَّ مَهْرًا)}.
نعم، (كُلُّ مَا صَحَّ ثَمَنًا) من قليل أو كثير، ولذلك زوَّج النبي ﷺ امرأة بنعلين، وإزار، وشيء من القرآن -هذا على خلاف عند الحنابلة فيه، باعتبار أنه لا يكون ثمنا، أو لا تؤخذ الأجرة عليه-.
(أَوْ أُجْرَةً صَحَّ مَهْرًا) وبناء على ذلك نقول: يصح بالقليل الكثير.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَإِنْ لَمْ يُسَمَّ أَوْ بَطَلَتِ التَّسْمِيَةُ وَجَبَ مَهْرُ مِثْلٍ بِعَقْدٍ)}.
قوله: (فَإِنْ لَمْ يُسَمَّ أَوْ بَطَلَتِ التَّسْمِيَةُ)، لم يسم كأن يقول: زوجتك ابنتي وأعطها ما تريد، فهو لم يسم المهر.
(أَوْ بَطَلَتِ التَّسْمِيَةُ) كأن يقول: زوجتك على هذه الأواني الكبار بما فيها، على أن فيها عصيرا فبان خمرا، أو أنه كان يعرف أن فيها خمرا، فقال: زوجتك بهذه الأواني من الخمر، فهنا تبطل التسمية ويرجع إلى مهر المثل.
قال: (وَجَبَ مَهْرُ مِثْلٍ بِعَقْدٍ) إذًا المصير إلى مهر المثل، وسيأتي بيان تحديد مهر المثل، ولكن في كل الأحوال النكاح صحيح، سواء سموا مهرًا أو لم يسموه؛ لأنه في حديث معقل بن يسار أن تلك المرأة التي عقد عليها زوجها بدون مهر، فالنبي ﷺ فرض لها مهر مثلها بعد أن مات زوجها.
إذًا (وَجَبَ مَهْرُ مِثْلٍ بِعَقْدٍ) يعني: أنه يثبت بالعقد، فلا يحتاج إلى الدخول، ولذلك لو مات قبل الدخول بها؛ فإنه يُؤخذ من تركته، ولها مهر مثلها، كما قلنا في حديث معقل بن يسار.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ لَهَا وَأَلْفٍ لِأَبِيهَا صَحَّ)}.
يعني: الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يذكرون هذه المسائل لأنها تكون شائعة، فلما كانت شائعة يُحتاج إلى بيان حكمها، ومنعا لحصول الاختلاف فيها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن الأب له أن يتملك من مال ولده، وبناء على ذلك كأنه أخذ نصف مهر بنته، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن ذلك صحيح، وبناء على ذلك يصح هذا العقد، ويصح هذا المهر، ويعطى الأب ما اشترط.
ولذلك قال: (فلو طلق قبل دخول رجع بألفها، ولا شيء على الأب لهما) ما معنى ذلك؟
يعني: أن المهر كان ألفين، وأنه لَمَّا انتقل منها إلى أبيها انتقل ألف، فإذا فسد العقد قبل الدخول فلها نصف المهر، وبناء على ذلك الذي تصرفت فيه بإعطائها أبيها انتهى، فهو لم يعد الآن جزءا من المهر الذي في يدها، فعليها نصف المهر أن ترده، ونصف المهر الذي في يدها، وليس لها أن ترد ما أخذه الأب؛ لأنه تعتبر هبة وقد قبضها وملكها، فانتفى تصرفها فيه.
{أحس الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، ونكمل بإذن الله -تبارك وتعالى- في الحلقة القادمة.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم في الحلقة القادمة، أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1] السنن الصغير للبيهقي.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك