الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7531 33
الدرس الثالث

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات.
نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي- رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، من طلبة العلم والحريصين على التلقي والأخذ والمدارسة، بلَّغهم الله أعلى المنازل.
{أحسن الله إليكم شيخنا، كنا قد توقفنا عند (فصل الإجارة) وتحديدًا عند مسألة: (وَعَلَى مُؤَجِّرٍ كُلُّ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ وَعُرْفٌ)}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَعَلَى مُؤَجِّرٍ كُلُّ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ وَعُرْفٌ، كَزِمَامِ مَرْكُوبٍ وَشَدٍّ، وَرَفْعٍ وَحَطٍّ، وَعَلَى مُكْتِرٍ نَحْوَ مَحَمِلٍ وَمِظَلَّةٍ وَتَعْزِيلُ نَحْوَ بَالُوعَةٍ إِنْ تَسَلَّمَهَا فَارِغَةً، وَعَلَى مُكْرٍ تَسْلِيمُهَا كَذَلِكَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يُتِمَّ علينا وعليكم نعمه، وأن يُبلغنا طاعته، وأن يجعلنا من أهل مرضاته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- قوله: (وَعَلَى مُؤَجِّرٍ كُلُّ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ وَعُرْفٌ) وهذا بيان بمُتعلقات عقد الإجارة على كل من المؤجر والأجير، وهذا أيضًا إنما هو في حال وهو ألا يكون بينهما اتفاق، فإذا كان بينهما اتفاق فالعود إلى هذا الاتفاق، بشرط ألا يكون ذلك الاتفاق يعود على أصل العقد بالنقض، أو يخالف حقيقة مُقتضى الإجارة، أو يدخل فيه مغامرة، أو مقامرة، أو غرر، أو جهالة.
فإذا لم يكن بينهما اتفاق، وَنَصَّ العقدُ على أشياءٍ محددة ونحو ذلك، فالعرف جار بما قرره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فقالوا: (وَعَلَى مُؤَجِّرٍ كُلُّ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ وَعُرْفٌ، كَزِمَامِ مَرْكُوبٍ وَشَدٍّ) فإذا استأجر الإنسان دابةً ليركبها، فلا يحتاج أن يأتي بهذا الزمام، أو بهذا الذي يجلس عليه، أو ما يُشَدُّ به، أو نحو ذلك، لكونها أشياء معلومة.
قال: (وَرَفْعٍ وَحَطٍّ) يعني: كل ذلك مما يُلزم به الناقل والحامل.
قال: (وَعَلَى مُكْتِرٍ نَحْوَ مَحَمِلٍ وَمِظَلَّةٍ) يعني: إذا كان له شيء جرت عادته أن يجلس عليه، فالمحمل وما في معناه هو بمثابة الأثاث الذي يجعل في المنزل، فكما أنَّ الإنسان يأتي به، فكذلك هنا يأتي الإنسان به على ما جرت به العادة.
أمَّا إذا اتفقا على شيء، فهما على ما اتفقا عليه، وأما إذا كان لهم عرف خاص في تلك المحلة بأشياء محددة، فهم على ما تعارفوا عليه، ولكنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يُقرر ما جرت به العادة من حيث الأصل.
ثم قال: (وَتَعْزِيلُ نَحْوَ بَالُوعَةٍ إِنْ تَسَلَّمَهَا فَارِغَةً)، والتعزير هو التفريغ، فلا بد أن يُفرغها إذا كان قد تسلمها فارغة، وهذا كما يقال عندنا الآن: صَفر الكهرباء، يعني: لا بد أن تسلمها مثل ما استلمتها، وألا يكون على عداد الكهرباء مبالغ مطالبة ونحو ذلك؛ لأنَّ هذه الكهرباء من الأشياء التي انتفعت بها، والعرف جار على أنها تكون على المستفيد أو المستأجر أو المكتري ونحو ذلك.
(إِنْ تَسَلَّمَهَا فَارِغَةً) وأمَّا إذا كان خلاف ذلك، فهما على ما جرت به العادة.
(وَعَلَى مُكْرٍ تَسْلِيمُهَا كَذَلِكَ) هذا من حيث الأصل، فالأصل أنه يفرغها له.
عندنا مسألة، وهي في الحقيقة من الأهمية بمكان، وهي على سبيل المثال: إذا أَجَّرَ سيارة. فإذا أَجَّرَ سيارة، فمن الملحوظ هنا أن الدابة ليس على المستأجر أن يُطعمها، أن يؤكلها، أن يشربها، أن يسقيها، فهل يلزم من استأجر سيارة أن يضع فيها وقودًا أو أن ذلك على المؤجر؟
ظاهر كلامهم قد يُفهم منه أنَّ الوقود على المؤجر، باعتبار أن المؤجر عليه ما تحتاج إليه الدابة من طعام وسقيٍ وعلفٍ ونحوه.
ولكن إذا نظرنا إلى أنَّ السيارة ليست كالدابة، وإن كان يتأتى منها ما يتأتى من الدابة من النقل، ولكنها بمثابة البيت، وأن ما في البيت من استهلاك للكهرباء والماء ونحو ذلك هو على المستأجر، وبناء على ذلك: يكون الوقود على المستأجر.
والعكس بالعكس، فعلي سبيل المثال: إطارات السيارة، وإن كان فيها نوع استهلاك، وكذلك مثلا تغيير زيوت المحرك ونحوه، وان كانت مستهلكة إلا أنها على المؤجر، وهذه بمثابة الأشياء التي تكون كالمستقرة في البيت، ولذا تكون على المؤجر.
وبناء على ذلك: كانت صورة السيارة، ودفعًا لحصول الإشكالات التي قد تحصل، وهذا لو قلنا: إنَّ الوقود على المؤجر ولا يصلح غير ذلك لحصلت إشكالات كثيرة في تأجير السيارات ونحوها، ولذا فإنَّ أقرب ما يكون لهذه الصورة، أنَّ تأجير السيارات بمثابة تأجير البيوتات، وأنَّ الوقود بمثابة ما يستخدم وما يستعمل من الكهرباء والماء، وما يستعمل من حطب أو غاز أو نحوه، وبناء على ذلك: يكون ذلك على المستأجر لا على المؤجر، فتستقر الأمور.
والحقيقة أنَّ ثمَّ مسائل كثيرة يُحتاج فيها إلى تدقيق، خاصة الآن التأجير عن طريق المواقع الإلكترونية، وما يترتب على ذلك من حجز تذاكر الطيران، وما فيها من تبعات، هل هو على المقعد، أو هو على الطعام، أو على بعض الخدمات الأرضية، أو هو على مجموعها، ونحو ذلك؟
لكن هذه في الحقيقة تحتاج إلى مزيد وقت، وإلى تفصيل، ونحن إنما في باب التأصيل والتوضيح للأصل على ما ذكر في هذا الباب من المسائل.
{ثم قال- رحمه الله-: (فصل في لزوم الإجارة.
وَهِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ، فَإِنْ تَحَوَّلَ مُسْتَأْجِرٌ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ بِلَا عُذْرٍ فَعَلَيْهِ كُلُّ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ حَوَّلَهُ مَالِكٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ)
}.
قوله: (فصل في لزوم الإجارة) يعني أنَّ هذا الفصل في أحكام عقد الإجارة وما يترتب عليه، أي: متى ينفسخ؟ ومتى لا ينفسخ؟ وإذا قلنا باللزوم فما الذي يجب على كل واحد منهما في تلك الحال.
قول المؤلف: (وَهِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ) بمعنى أنَّ كلا من المؤجر والمستأجر، أو الْمُكْري والْمُكْتَري، إذا دخلا في هذا العقد، لم يكن لواحد منهما أن يفسخ ذلك العقد من تلقاء نفسه، وأنَّ مَرَدَّ فسخ العقد إمَّا لإكماله، أو للتراضي في فسخه، وأمَّا ما عدا ذلك؛ فإنه من حيث الأصل لا ينفسخ، وستأتي أشياء ينفسخ بها العقد، وسيذكرها المؤلف، وما سوى ذلك فإنَّ العقد لازم، وإن العقد باقٍ، وعلى كل منهما الوفاء بما عليه، فعلى المؤجر أن يُبقي العين بيد المستأجر، وعلى المستأجر أن يدفع الأجرة بكمالها وتمامها؛ ولأجل ذلك قال: (وَهِيَ عَقْدٌ لَازِمٌ).
وقد ذكرنا أنَّ العقود منها: (لَازِمٌ) مثل: البيع والإجارة، ومنها (جَائِزٌ) مثل: عقود الجعالة، ومثل: المسابقة، والوديعة أيضًا.
ومن العقود ما هو لازم من جهة، وجائز من جهة، كالرهن، والضمان، والكفالة، فمن جهة الراهن، ومن جهة المكفول والمضمون عنه لازم، وأما من جهة: المرتهن، والمضمون له، والمكفول، فهو في حقه جائز.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَإِنْ تَحَوَّلَ مُسْتَأْجِرٌ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ بِلَا عُذْرٍ فَعَلَيْهِ كُلُّ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ حَوَّلَهُ مَالِكٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: الأثر المترتب على كون العقد لازمًا، أنه إذا تَحَوَّلَ المستأجر في أثناء المدة بلا عذر، فعليه كل الأجرة، وبلا عذر يعني: يمنع من الاستيفاء من المنفعة، وأما إذا كان بعذر ينفع من الاستيفاء من منفعة كدار انهدمت أو نحو ذلك، فهذا له عذر، فينفسخ العقد. ولكن من حيث الأصل تحول، أي أنه مثلا قد استأجر على أنه سيبقى في هذه المدرسة سنة في هذه البلدة، فَحُوِّلَ من هذه المدرسة إلى بلد أخرى، يُدَرِّسُ فيها، ويُعَلِّمُ الطلاب، أو في مصنع، أو في أي وظيفة من الوظائف.
فهو قد بنى أموره على أنه سيمضي هذه السنة في هذه المدينة، واتفق مع صاحب هذا البيت على إيجار سنة، وأمضى هذا، وبعد شهرين نُقِلَ من محله الذي هو فيه إلى بلدة أخرى، فلم يكن بحاجة إلى البقاء في هذا المنزل، فنقول في مثل هذه الحال: العقد لازم له، والأجرة عليه، ولا يجوز له أن يفسخ العقد من تلقاء نفسه، فإن رضي المؤجر فذاك، وإن لم يرض فيلزمه ما يلزم المستأجر إلى آخر يوم قد استأجره، وله منفعة ذلك في المقابل.
والعكس بالعكس كذلك، فلو أنَّ المؤجر بعد أن عقد له سنة كاملة، وبعد شهرين بدا له أن يتزوج أو يُزوج ابنه، أو ينتفع بالبيت، عارية لأحد أقاربه، أو هبة، أو إصلاح، أو بيعٍ، أو سوى ذلك، فأراد أن يخرج المستأجر فنقول: ليس لك عليه سبيل، وليس لك عليه طريق، وهو باق في مسكنه ما بقي العقد حتى آخر يوم من هذا العقد، وبناء على ذلك إذا تراضيا على أن يخرج فهما على ما تراضيا له عليه؛ لأن الحق لهما، وأما إذا لم يتراضيا فيجب أن يبقى إلى نهاية المدة، ولذلك قال المؤلف -رحمه تعالى-: (وَإِنْ حَوَّلَهُ مَالِكٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ)، فلو أنه تحول بعد شهرين، نقول: لا تستحق أيها المالك لا ليوم سكنه، ولا لشهر، ولا لأكثر من ذلك؛ لأنه لم يستوف العقد الذي تم عليه التعاقد والاتفاق.
والعكس بالعكس، فلو أنَّ هذا المستأجر خرج قبل نهاية العقد، فعليه أن يدفع الإيجار إلى آخر يوم من العقد، ولكن من لازم ذلك أن المالك ليس له أن ينتفع بهذه المدة، فلا يُؤجر محله شخصًا آخر، ولو أُجِّرَ فإن المستحق لهذه الأجرة هو المستأجر؛ لأنه بمثابة أنه حلَّ محله في الانتفاع، وهو مالك للمنفعة، فإذا بُذِلَتْ لشخصٍ آَخر فهو الذي يأخذ عِوَضَها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ، وَمَوْتِ مُرْتَضِعٍ، وَانْقِلَاعِ ضِرْسٍ، أَوْ بُرْئِهِ وَنَحْوِهِ)}.
قوله: (وَتَنْفَسِخُ بِتَلَفِ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ) أي لو أنَّ السيارة التي أُجّرت احترقت، أو أنَّ البيت قد انهدم؛ فإنَّ العقد ينفسخ؛ لتعذر إمكان الاستيفاء من السيارة مثلا.
وكذلك لو مات المرتضع، وهما عقدا على أن ترضعه لمدة عام، فإذا مات قبل إتمام العام، فلا يمكن أن يستوفى من المنفعة لفوات المستأجر.
قال: (وَانْقِلَاعِ ضِرْسٍ، أَوْ بُرْئِهِ) فلو لو أنه اتفق مع طبيب على أن يقلع له هذا الضرس، ثم انقلع الضرس من نفسه، أو اصطدم بجدار فانقلع الضرس، فعلى كل حال قد فات المحل الذي حصل عليه العقد، وبناء على ذلك: تنفسخ الإجارة في تلك الحال.
{ثم قال- رحمه الله-: (وَلَا يَضْمَنُ أَجِيرٌ خَاصٌّ مَا جَنَتْ يَدُهُ خَطَأً، وَلَا نَحْوَ حَجَّامٍ، وَطَبِيبٍ، وَبَيْطَارٍ، عُرِفَ حِذْقُهُمْ إِنْ أَذِنَ فِيهِ مُكَلَّفٌ، أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهِ، وَلَمْ تَجْنِ أَيْدِيهِمْ، وَلَا رَاعٍ مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ)}.
قول المؤلف -رحمه الله-: (وَلَا يَضْمَنُ أَجِيرٌ خَاصٌّ مَا جَنَتْ يَدُهُ خَطَ) هذا بيان لأحوال الإجارة، فالإجارة على قسمين إمَّا أجير خاص، وإمَّا أجير مشترك، والأجير الخاص عند أهل العلم هو الذي قُدِّرَ عمله بالزمن، فيعمل عند الإنسان خمس ساعات مثلا، أو عشر ساعات، أو اليوم كله، وذاك الذي يعمل لك خياطة هذا الثوب، أو بناء هذا الحائط، فهو يبني لك، ويبني لغيرك، أو يصلح سيارتك، ويصلح سيارة الأخرين وهكذا، فهذا يُسمى أَجيرا مُشتركًا، وهذا يُسمى أَجيرًا خاصًّا، ولكل واحد منهما أحكام تخصه.
فالمؤلف -رحمه الله- بدأ بأهم ما يكون بينهما من الفرق، فقال: (وَلَا يَضْمَنُ أَجِيرٌ خَاصٌّ)، وبناء على ذلك نقول: الأجير الخاص ما جنت يده خطأ فإنَّه لا ضمان عليه في تلك الحال، فعلى سبيل المثال: لو أنه اسْتُؤجِرَ لإن يكون خادمًا في البيت، فحمل بعض المتاع، فسقط منه فتلف، فلا ضمان عليه.
ولو أنه قاد السيارة فاصطدمت فانحرفت بدون تفريط أو تعد منه؛ كأن لم يكن نائمًا مثلا، أو لم ينشغل بجوال أو غيره، وكذلك لم يكن متلاعبًا. فانحرفت السيارة بسبب مطب في الطريق مثلا أو نحو ذلك فاصطدمت بشيء، فلا ضمان عليه، وضمانها على مالكها. وهكذا.
إذا هذا هو أهم ما يكون من تعلق الأجير الخاص بالنسبة للمستأجر، ويدخل في هذا أيضًا من يعملون في المطاعم، ومن يعملون في البيوتات من الخدم، أو في قيادة السيارات ونحو ذلك ممن يعمل أيضا في الشركات، فكل هؤلاء يعد أجيرًا خاصًا.
كثير من الناس لا يعرف ما يتعلق به من حكم، وربما طُلِبَ منه تغريم حال حصول الخطأ منه، وذلك لا يلزمه بالمرة، فليتنبه لذلك لأنه لا يلزمه شيء، وليس لأحد أن يُلْزِمَه حتى ولو قيل: حتى لا يتكرر منه ذلك. ولذلك نقول: ليس لك عليه سبيل إلا لو كان مخطئا، كأن قطع إشارة، فحينئذ يلزمه غُرم ذلك، أو لو كان أسرع أكثر من السرعة المحددة فيلزمه؛ لأنه هو الذي أَخَلَّ، وهو الذي تَعَدَّى، وهو الذي فَوَّت ما يجب عليه أن يفعل، وأمَّا إذ لم يفعل شيئًا ثم نُلزمه بغرم، أو نلحق به ضمانًا فلا.
وأما الأجير المشترك فسيأتينا، وهو بضد ذلك، فإذا حصل منه شيء فعليه ضمان.
والحقيقة أنه كان من الممكن أن نترك حتى يأتي، ولكن المؤلف ذكر بعض الأمثلة بين هذا وذاك، فمن الجيد أن نتعرض للأمر.
مثال: أنت تركت عنده هذا الثوب ليخيطه، فخاطه وتلف بعضه، فنقول هنا: يضمن. وأما لو قال: أنا ما فرطت، وإنما هذه هي الآلة التي أخيط بها. نقول: لا. لماذا؟
من جهة الأصل هو أمين، ولكن جاء عن الصحابة كعلي -رضي الله تعالى عنه- قال: لما كانوا هم الذين ينفردون بالأعمال، ويشتغل لأناس كثير، فلا يبعد منه الخطأ كثيرًا، فقال -كما جاء عن علي-: لا يُصلح الأجراء إلا ذاك، يعني: إذا ما ضمناهم حصل منهم تفريط، وإذا ما ضمناهم جرى منهم تلاعب كثير، فلأجل ذلك قالوا: إنه يضمن في تلك الحال.
قال: (وَلَا نَحْوَ حَجَّامٍ، وَطَبِيبٍ، وَبَيْطَارٍ، عُرِفَ حِذْقُهُمْ وَلَا نَحْوَ حَجَّامٍ، وَطَبِيبٍ، وَبَيْطَارٍ، عُرِفَ حِذْقُهُمْ إِنْ أَذِنَ فِيهِ مُكَلَّفٌ أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهِ وَلَمْ تَجْنِ أَيْدِيهِمْ) الطبيب عادة يصنف كأجير مشترك، والحجام أجير مشترك، تأتيه أنت وآتيه أنا وليس يستأجر بالوقت المعين لهذا البيت أو لهذا الشخص أو ذاك.
ولكن لَمَّا كانت هذه المهن فيها خصوصية، وأن التلف يأتي من التفريط ويأتي من سواه، ولو أننا جعلناه فيما يدخله الضمان لامتنع الأطباء من علاج الناس؛ لأنه قد يُؤدي مهنته على أتم شيء، ثم يأتي العطب والتلف والهلاك على الشخص من جهة أخرى، فعلى سبيل المثال: هو عمل عملية الزائدة له، وأنهى كل شيء، ولكن هذا المريض معه التهاب في الدم، فحصل له سريان فلحقت به علة وارتفع الضغط لديه أو نحو ذلك، فتلف، فلو أننا ألزمناه بالدية فقد يمتنع الأطباء عن علاج الناس، ولأجل ذلك قال الفقهاء: إنهم لا يضمنون بشرطين:
أولاً: أن يكون قد عُرِفَ حِذقهم، وأما إذا كان طبيبًا لا يعرف حذقه، وفيه تهور، وعرف بكثرة أخطائه، فهذا يضمن لئلا تستطيل يده على الناس، فيجري منه شيء من الخلل.
كذلك أن يكون له إذن، وأما الذي تصرف من نفسه وقال أنا سأعالجك كمن جاء لتنظيف أسنانه، فلمَّا نَظَّفَ أسنانه فإذا فيه سن فيها تسوس، أو فيها علة، فقام وقلعها. نقول: أنت لم تؤمر بهذا، وهذا يعد من باب التعدي منك، وبناء على ذلك ما يحصل من عمل غير مأذون به فيلزمه الضمان، ويلحقه التبعة، سواء كان مكلفًا أو ولي غيره.
إذا كان غير مكلف فلغير المكلفين من الصغار والمعاتيه والمجانين، فلا بد أن يأذن وليهم، فإذا أذن وليهم فكما لو أذنوا، وبناء على ذلك لو تطببوا فحصل عليه من أثر ذلك الطب، ولا نقول من الطبيب، فلو حصل له سراية أو تبعة، وعُرف حذق الطبيب ولم يكن منه تعدٍ ولا تفريط، فإنه لا يضمن في تلك الحال، ولو كان في صورتها أنه أجيرٌ مشترك، والأجر المشترك عليه الضمان.
المؤلف قال: (وَلَا رَاعٍ مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ) وهنا أطلق الراعي، سواء كان الراعي لما انبهم من شخص بعينه أو لأكثر من شخص. ما السبب في ذلك والله تعالى أعلم؟
الحقيقة أنَّ المسألة فيها شيء من الإشكال، فإذا قلنا: إنه يرعى لأقوام كثيرين، فهذا مثل الطبيب ومثل غيره، وإذا قلنا إنها لشخص واحد، فأظن أن هذه سببها أنَّ أسباب العطب للبهائم ونحوها تكثر، وتأتي من أشياء لا تخطر على البال، فعلى سبيل المثال هو يرعى هذه البهم من: إبل، أو غنم، أو نحوها، ولكن قد يكون من بعضها عَدْوٌ وإسراع، فتبعد عن القطيع فيحصل عليها تلف، ولا يمكنه لحقها أو حفظها أو الإسراع إليها، وقد يسرع إليها حينئذ الذئب ومثل ذلك.
فإذًا قد يكن منه ما جرت به العادة في فعله، ولكن ذلك لا يكفي لحفظ ذلك القطيع، فيكون التلف من غيره، فحينئذ ليس عليه ضمان، ولكنه لو تَعَدَّى، كحال من نام وتركها، والعادة جارية على أنه لا يتركها، ولا تغيب عينه عنها، فإذا ذهب وتركها، فنقول في مثل هذه الحال: عليه ضمان، وإلا فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَضْمَنُ مُشْتَرِكٌ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ لَا مِنْ حِرْزِهِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ)}.
قوله: (وَيَضْمَنُ مُشْتَرِكٌ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ) أي أجير مشترك، وهو الذي عبرنا عنه مثل الذي يتقبل سيارات الناس لإصلاحها، أو يبني بيوتات الناس، أو عنده منجرة فيصلح الأخشاب أو والأبواب ونحوها، فهذا أجير مشترك، فما تلف بفعله فهو ضامن له، ولكن من حرزه فلا، وبناء على ذلك لو أنك تركت سيارتك عنده، ثم لَمَّا أراد إصلاح الكهرباء ضرب هذا واحترقت مثلا آلة الكهرباء في السيارة، فنقول: عليه ضمان ذلك، ولكن لو أنه بدأ الإصلاح وقبل أن يتمه جاء الليل فتركها إلى الصباح، فجاء سارق وأخذ آلة الكهرباء، يعني: فكها وأخذها، ففي مثل هذه الحالة حصل تلف ولكنه ليس بفعله، وإنما من حرزه، فهنا نأتي إلى هذا الأجير ونقول: هل تركت الباب مفتوحا؟ هل كان منه تفريط؟ هل كان منه تعدٍ؟
فإذا لم يحصل شيء من ذلك، فلا ضمان عليه.
ثم يقول: (وَلَا أُجْرَةَ لَهُ) هنا لو كان قد أصلح هذا العطل، ولكن الألة فُكَّتْ وسرقت، فنقول: أكثر ما يَفوت عليه أنَّ أجرته قد ذهبت. لماذا ذهبت الأجرة في مثل هذه الحال؟
لأن استحقاقه للأجرة إذا سلم المنفعة، وهذا انتفع بها، استلم آلة تعمل ولا عطب بها، ولا سواه، فبناء على ذلك نقول: هذا ذهبت عليه آلته، وهذا ذهب عليه عمله؛ لكون هذا السارق قد سرق هذه الآلة وأخذها.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَالْخَاصُّ مَنْ قُدِّرَ نَفْعُهُ بِالزَّمَنِ وَالْمُشْتَرِكُ بِالْعَمَلِ)}.
أي أنَّ هذا للفارق بينهما.
{قال: (وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ بِالْعَقْدِ مَا لَمْ تُؤَجَّلْ)}.
بمجرد العقد فالأجرة لازمة، وتستقر هذه الأجرة بتمام المنفعة، فإذا اتفقت على أن يخيط ثوبك بمائة ريال، فهو استحق الأجرة، أي: لزمت الأجرة في ذمتك لهذا الخياط، فإذا خاط استقرت الأجرة لا مناص، وأكمل مهمة على أتم وجه، وبناء على ذلك تستقر الأجرة.
لكن لو أنكم تعاقدت على عقد الإجارة، ثم بعد ذلك مات الخياط، ففي هذه الحالة وإن كانت هي لازمة، ولكن لأنه لم يتم فعل المعقود عليه، فينفسخ العقد والمئة في جيبك، ولا حَظَّ له في شيء من ذلك وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُسْتَأْجِرٍ إِلَّا بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِهِمَ)}.
إذا العين التي سُلِّمَتْ إلى المستأجر للانتفاع بها، كما لو كانت هذه الدار، أو تلك السيارة، أو هذه الآلة، فهي في يده يد أمانة، فلو حصل بعد ذلك على أن الدار انكسرت بعض نوافذها، أو انخلع بابها، أو فسدت الكهرباء فيها، أو ما سوى ذلك، فقال: لم يكن شيئا من فعلي، وإنما هو منها. فنقول: الأصل أنه أمين، وبالتالي إذا اختلفوا ولا بينة على أنها جَرَتْ بفعل المستأجر، فيقبل قوله بيمينه، فلو قال: أنا رأيتك تكسرها. نقول: هل عندك دليل على أنه كسرها؟ فإذا قال: نعم، نحن كنا موجودون في البيت، وهؤلاء الشهود شهدوا على أنه غضب من بعض ما جرى، فضرب النافذة. فنقول: صحيح. ولكن إذا لم يوجد فنقول: ليس لك إلا يمينه، فلو أنه حلف وقال: والله لم يكن مني فعل، ولم يكن مني أي أذى، وإنما هذا فعل بعض اللصوص أو بعض جهال الجيران أو غير ذلك، ولم يكن مني أي تفريط أو نحوه. فحينئذ لا يلزمه في ذلك شيء.
وقوله: (وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نَفْيِهِمَ) ونفيهما أي في التعدي والتفريط، والتعدي هو فعل ما لا يجوز له، والتفريط ترك ما يجب عليه، فهذا معنى نفيهما.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل في الْمُسَابَقَةُ)}.
هذا فصل في أحكام المسابقات، والمسابقات من أكثر المسائل حاجة إلى بيان ما يتعلق بأحكامها، سواء كان ذلك في ابتدائها والدخول فيها، أو كان ذلك فيما يؤخذ عليها من سَبَقْ أو عِوَضْ، فمن حيث الأصل في الشرع أنَّ باب المسابقة ما كان فيه تقوية، أو ما كان فيه أُنسٌ، أو ما كان فيه منفعة، فهو مباحٌ ومطلوبٌ، وسيمثل المؤلف -رحمه الله تعالى- بمثل: السباق على الأقدام، أو المصارعة التي لا أذية فيها ولا ضرر، إلى غير ذلك من السباحة وما سواها، فكل هذه المسابقات جائزة، ولكن الأصل في هذه المسابقات أنها إنما تتوجه إلى الأشياء التي فيها نفع ولا ضرر فيها، وما كان فيه ضرر فلا يخلو من أن يكون فيه قمار أو كان فيه أذية، فهو محرم، وما كان سوى ذلك مثل: لعب الورق أو غيره فيكرهه الفقهاء.
طبعا يُستثنى من ذلك ما جاء النص بتحريمه كما هو في الشطرنج مثلا عند جمهور أهل العلم، وكذلك النرد، «مَن لَعِبَ بالنَّرْدَشِيرِ، فَكَأنَّما صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ ودَمِهِ»[1]، وجاء عن الصحابة أنَّ الشطرنج شَرٌّ من النرد، فألحقه بها الحنابلة، كما هو قول الجمهور خلافًا للشافعي المنع منها وحرمتها، والشافعية يجيزون ذلك.
على كل حال، فهذه الأشياء التي فيها إباحة والتي فيها كراهة، أنا أريد أن أنبه على أن بعض هذه الألعاب وإن كان فيها كراهة من حيث الأصل، ولكن لَمَّا تعددت الآن عند الناس طرق اللهو، وكان فيها أشياء تقود إلى الحرام، فإنه في الحقيقة قد ترتفع الكراهة، وتعود إلى الإباحة، فيكون هذا اللعب بالورق أفضل من دخول الإنسان إلى هذه المنصات والمواقع، وما يعرض فيها من أصوات محرمة ومن مناظر، وقد يكون فيها شبهات إلى خلاف ذلك.
ولكن نأتي إلى العوض؛ فإنَّ العوض بابه أضيق، والشرع أصلا منع بذل العوض على سبيل المقامرة، فمن يكسب يأخذ، ومن لا يكسب لا يأخذ، إلا في أشياء محدودة لِمَا فيها من خصوصية نفعها في باب الجهاد، وما يكون فيها من تقوية المسلمين على أعدائهم، وما سوى ذلك فإنه باق على تعظيم أمر الأموال، وأنها لا تُبذل إلا فيما فيه فائدة، وأنَّ الناس منهيون عن المقامرة والمغامرة التي فيها إفساد للأموال، وفيها منع للعمل؛ لأننا لو أنجزنا مثل هذه المقامرات لترك الناس الأعمال، وبناء البيوتات، وما فيه أثر طيب، والتخصص في التقنية والحاسب وغيرها، واشتغلوا بمثل هذه المقامرات، وما يُجمع في السنوات قد يجمعه في الأيام، والعكس بالعكس، فما يجمعه الناس في سنواتهم، ويكدون فيه ويكدحون طيلة أعمارهم قد يذهب عليهم في لحظات، فلأجل ذلك مَنَعَ الشارع ذلك حفظًا للأموال، وتعظيمًا لأمر الأعمال، حتى يَلتفت الناس إلى ما فيه عمارة البلاد، وإلى ما فيه أثر نافع، وإلى ما فيه خير كثير.
{قال -رحمه الله-: (وَتَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَى أَقْدَامٍ، وَسِهَامٍ، وَسُفُنٍ، وَمَزَارِيقَ، وَسَائِرِ حَيَوَانٍ، أَوْ بِعِوَضٍ، إلِاَّ عَلَى إِبِلٍ، وَخَيْلٍ، وِسِهَامٍ)}.
كما قلنا: إنَّ هذه المسابقات من حيث هي فالأمر فيها فيه سعة، لِمَا فيه من اللهو المباح، ولِمَا فيه من تسلية النفوس، وإذهاب كدرها، أو كدها وكدحها وتعبها، ما فيه من عناء الزمان، وهموم الأيام، وتغيرات الأحوال. فيخرج الإنسان بها من حال إلى حال، ليقوى إلى الحال التي يحب أن يعمل فيها، أو يؤنس أهله أو نحو ذلك، وهذا له أدلة كثيرة، فالنبي سبق عائشة، وحديث الحبشة الذين كانوا يلعبون في المسجد بالحراب ونحو ذلك.
إذًا لا غضاضة في ذلك ولا حرج، ولكنه قال: (أَوْ بِعِوَضٍ)، أي أنَّ العوض لا، فبابه محصور وطريقه محدود.
قال: (إلِاَّ عَلَى إِبِلٍ، وَخَيْلٍ، وِسِهَامٍ)؛ لأنَّه كما قال : «لا سَبَقَ»، والسَبَقَ هنا: معاوضة أو عوض، «إلاَّ في خفٍّ أو في حافرٍ أو نصلٍ»[2]، وهذا معلومٌ أنَّ المقصود به هو السهام والرمي أو المسابقة على الإبل أو على الخيل، كما بَيَّنَ المؤلف -رحمه الله تعالى-.
وقد ألحق بعض أهل العلم بذلك ما قد يكون بابه باب تعليم العلم والمنافسة فيه، كالمعاوضة على العلوم الشرعية وحفظ القرآن ونحو ذلك، وتعلم العلم، والانتهاء من المتون العلمية في الفقه والتوحيد والحديث ونحوها، فيكون ذلك أدعى لحمل الناس على البر والهدى، والمسابقة في الخير والتقى، فكما جاء ذلك عن ابن تيمية، وجرى عليه كثير من المتأخرين -رحمهم الله تعالى-.
هل هذه الأشياء الثلاثة على سبيل الحصر أم أنه يمكن أن يقاس عليها؟
الحقيقة أنَّ الفقهاء كأنهم حصروها؛ ولأنَّ ذلك جاء على سبيل الاستثناء، والقاعدة عند الفقهاء أن المستثنى لا قياس فيه، ولا توسعة لبابه، ولكن ربما لا تكون هذه الأشياء موجودة في هذا الزمان، أو الحاجة إليها في تقوية المسلمين وإعداد العدة في جيوشهم أقل، وربما كان غيرها أكمل وأتم، ولذلك ربما ذهب بعض الفقهاء كفقهاء المالكية وغيرهم، إلى تعدية ذلك ما يكون به تقوية الجيش من هذه بأعيانها التي جاء بها النص، وما شابهها مما يحصل به التقوية، وقد يكون في هذا القول قوة من هذا من جهة المعنى، وإن كان الإنسان يقصر من جهة التقرير أو الإفتاء بذلك.
هنا مسألة، حَسَنٌ أن نُلقي لها بالاً، وهي ما يحصل تبعًا في المسابقات من التشجيع، والتشجيع عند الفقهاء عموما مكروه، والتشجيع يقصد به الجمهور الذي يحضر مثلا بعض المنافسات أو المسابقات أو غيرها، يعتبرون أن التشجيع لأحد الفريقين أو الشخصين أو كذا مكروه، لماذا؟
لِمَا يحصل فيه من إيغال الصدور، ولذلك نحن نرى ما يسمونه بالتعصب وغيره، وتكون تبعاته كثيرة، وربما حصلت في ذلك مناحرة، أو منافرة، وربما امتدت إلى ما هو أشد من ذلك، فيتنبه لهذا.
أيضا خُصَّ هذا التشجيع بما يكون فيه حثٌّ على العلم أو حَملٌ على ما يكون فيه من الأمور الشرعية، كما يجعله المدرس بين الطلاب بمنافسة في حفظ أو دراسة أو حفظ حديث أو غيره، فيكون ذلك لعظيم الأثر فيه، فإن الأمر فيه يكون أوسع، والكراهة فيه تكون مرتفعة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشَرْطُ تَعْيِينِ مَرْكُوبَيِنِ وَاتِّحَادُهُمَا، وَتَعْيِينُ رُمَاةٍ، وَتَحْدِيدُ مَسَافَةٍ، وَعِلْمُ عِوَضٍ، وَإِبَاحَتُهُ، وَخُرُوجٌ عَنْ شَبَهِ قِمَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ)}.
(وَشَرْطُ تَعْيِينِ مَرْكُوبَيِنِ) لأنَّ المقصود من بذل العوض في المسابقات، أن اعتمادها ليست على قائدها، وإنما اعتمادها على تدريب هذه المركوبات من الخيل وغيرها، وبناء على ذلك هي التي يكون بينها التنافس، وإنما هذا يقودها.
ولأجل ذلك: إذا اختلف هذا الراكب، ليس بالضرورة أن يكون بينهما فرق كبير بين من هذا القائد أو ذاك؛ لأنَّ العبرة والمعول على جودة هذه البهيمة في الركض والجري، كالخيل والإبل ونحوهما.
قال: (وَاتِّحَادُهُمَ) لأنه إذا لم يكن بينهما اتحاد، فهذا من نوع وهذا من نوع أخر، فأصلا لا يكون فيها منافسة، ونحن نعلم أنَّ الغالب أنها تكون مقامرة، فترجع إلى أنها بذل العوض بما لا فائدة فيه، فالذي نريده وهو تجويد المركوبات وتقويتها، لا يتأتى بذلك، فلما كانت ترجع إلى حصول المقامرة ونحوها، لا فائدة لنا فيه، وبناء على ذلك نمنعها.
ومثل ذلك تعيين الرماة، فالقوة والحذق عند الرماة راجع إلى الرامي، وليس إلى القوس أو التي يرمي بها، ونوعية السهام. وبناء على ذلك لا بد أن يكون معرفة من سيرمي؛ لتقوى المنافسة ويحصل بذلك الترقي أو في الحذق في هذه المهنة. وبناء على ذلك لا بد من تحديد المسافة؛ لأنه إذا لم تحدد المسافة فغاية ما يكون في ذلك أنه نوع إتعاب وإهلاك، وترجع إلى المقامرة، ونحن نريد أن نعرف أن هذا الهدف يصيب خلال ثلاثمئة متر، ولكن نجعله في الهواء، هذا قد يبعد مرة أبعد، وهذا أبعد. إذًا لم تكن فائدة من ذلك.
وكذلك أيضًا إذا جرت الخيل، إذا لم يكن لهم حد يحدونه، ما لم تكن ثمة فائدة من ذلك.
قال: (وَعِلْمُ عِوَضٍ) العوض الذي اتفقا عليه يكون معلومًا حتى تنتفي الجهالة، فلا تكون فيها مقامرة، فلو كان هذا بازلاً لهذه الصرة وأنا مني هذه الصرة، فهذه فيها مقامرة، قد لا تكون هذه الصرة مساوية لهذه الصرة، وقد تكون هذه أكثر، فكأنها مقامرة أكثر من أنها منافسة على التعليم والحزق لهذه المهن الشريفة.
قال: (وَإِبَاحَتُهُ) فلا بد أن يكون مُباحا، فلا يكون من الأشياء المحرمة وغيرها، وهذا معلوم.
قال: (وَخُرُوجٌ عَنْ شَبَهِ قِمَارٍ) يقول الحنابلة: أن يؤتى بشخص ثالث، يعني: إما أن يكون العوض مبذولا من واحدٍ منهما، لا من الاثنين، أو إذا كان من الاثنين أن يدخل معهما ثالث لا يدفع، فيقولون: إذا كان كلاهما يدفع فغالب ومغلوب، ودافع ومدفوع له، فيكون القمار في هذا حاصل، ولكن إذا كان معهم ثالث، فقد يربح الذي دفع، وقد يربح الثالث، وقد يربح الذي لم يدفع شيئا، ولم يستعد بدفع شيء، وبناء على ذلك قالوا: لا بد من وجود ثالث، وهذا مشهور المذهب عند الحنابلة، واعتمدوا فيه على الأثر، ومن أهل العلم من قال: إنَّ الأثر ضعيف لا يستقيم، وأن الإذن جاء فيه، وبناء على ذلك فالمعاوضة فيه مقبولة بالنص، وعلى هذا جرى ابن تيمية وكثير من المتأخرين في الإفتاء، بأنه لا يحتاج إلى إدخال ثالث لحصول ذلك.
ولابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه الفروسية كلام طويل في أنَّ هذا الذي يسمونه المحلل، أو رافع شبهة القمار -الثالث- أنه لا حاجة له، وأطال البحث في ذلك.
{قال -رحمه الله-: (فصل في الْعَارِيَةُ)}.
انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- من عقود المعاوضات وما يتعلق بها، إلى المنافع وإباحتها لها وبذلها، والإحسان فيها.
والعارية من: العُرِي، وهي الشيء الذي عَرِيَ من الانتفاع به، فهذا أصل مأخذها، ولذلك يقولون: العَيَّار، وهو الشخص الفارغ الذي لا شغل له، فيذهب ويجيء.
والعارية من جهة المعنى: إباحة نفع عين بلا عوض، فهي تبيح له نفع العين بلا عوض، فهذا معنى العارية، وقد جاء الشرع بالأمر بها لعمومات الأدلة وذم من منعها، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون:7]، يعني: في إعارته إذا استغنوا عنه، وكانت العرب بمروءتها تستعيبُ أن يمنع الإنسان العارية إذا كان قد استغنى عنها واحتاجها قريب، أو جار، أو أحد ممن له به صلة.
فهذا بالنسبة للعارية، وهي داخلة فيما جاء به الشرع من قول الله -جل وعلا-: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2]، وأدلة الإحسان، وأيضا ما بين أهل الإسلام من الولاية والمحبة والقربى، ونفع الغير، والإحسان إليهم، «في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ»[3]، أيما كان الانتفاع.
والعارية حتى لغير مسلم، كما لو كان ذميًا، أو كتابيًا، أو مُستأمنًا، فكلهم فيه إحسان، ولمن بذل له النفع أن له الأجر من الله -جل وعلا-.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالْعَارِيَةُ سُنَّةٌ)}.
نعم العارية سُنة من حيث بذلها لِمَا فيها من النفع، ولِمَا فيها من الإحسان، ولِمَا فيها أيضا من عموم الأمر في قوله -جل وعلا-: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:2]، ولكن من جهة المستعير هي مباحة؛ لأنَّ النبي استعار، ولأجل ذلك كانت الاستعارة مباحة، ولأنه لا ينفك أحد من الحاجة إلى ذلك، مهما كان الإنسان فإنه إن اشترى سيارة لحاجته إليها في كل يوم، فقد ينتقل إلى محلة أخرى لا يستطيع أن ينقل معه سيارته، وقد يكون له صديق يأخذ منه السيارة ينتفع بها ولا يضر صاحبها، فلو أنه سيحتاج إلى أن يشتري هنا سيارة أو هنا سيارة لتضرر، وحاجة الأشياء لبعضها قد تكون قليلة أو غير متكررة، فلو أنَّ الإنسان تملك أو استأجر كل شيء جرت به حاجته ولو لمرات قليلة، فإن ذلك قد يُفضي عليه بالكلفة ما لا يطيقه الإنسان، فلأجل ذلك لا ينفك الإنسان من الحاجة إلى الاستعارة، والانتفاع بما عند غيره من أخ أو صديق أو صاحب أو آحاد المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَكُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ نَفْعًا مُبَاحًا تَصِحُّ إِعَارَتُهُ إِلَّا الْبُضْعَ)}.
 قوله: (وَكُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ) إذن الذي لا تبقى عينه، ليست بابه باب الإعارة، وإنما هو بابه باب الهبة، فإذا أعطيت شخصًا طعامًا ليأكله أتلفه، وبناء على ذلك: لا يدخل في هذا الباب، وإذا أعطيت شخصًا ماء ليشربه، أو عصيرًا أو نحو ذلك، لأتلفه.
إذًا باب العارية إنما هو فيما يبقى عينه، فإذا أعطيت شخصًا حطبًا ليوقد به ناره، أو ليصلح به غداءه، فهذا لا يمكن أن يكون عارية؛ لأنه لن يستطيع أن يُرجع هذا الحطب، فإمَّا أن يكون قرضًا لكونه سيرد بدله، وإمّا أن يكون إعطاء وهبة؛ لأنه سيتلفه بلا عوض.
وأما إذا كان يرد بدله، فلابد أن يكون شيئا يمكن أن ينتفع به فلا يتلف، مثل: ثوب ليلبسه ويصلي فيه، ثم يرده بسيارة ليذهب بها، أو لينقل متاعا وهكذا، فإنها تدخل في ذلك في هذه المسألة.
قال: (نَفْعًا مُبَاحً) فيمنع ما لو كان النفع محرمًا، فإذا أعطاه مثلا الجوز ليلعب بها القمار، كانت لهم طريقة في التعامل بها، أو نحو ذلك، كان محرما؛ لأنها تُفضي إلى محرم.
إذن لا بد أن يكون النفع مُباحًا.
ولو أعطاه آلة ليكسر بها باب جاره، أو ليسرق بها شيئا أو نحو ذلك، كان نفعًا محرمًا، ولم يكن جائزًا.
قوله: (إِلَّا الْبُضْعَ) هذا في المستثنيات التي لا تدخلها الإعارة، وهو البضع بالنسبة للأمة، فالأمة إذا أعار الإنسان أمة للخدمة، فإنه ليس للمستعير أن ينتفع ببضعها؛ لأنَّ البضع لا يملك، وإنما يحل له الانتفاع للمالك الأَمَةِ، وبناء على ذلك لَمَّا لم يكن هو مالكًا له، لم يكن له أن يعيره، وهذا فيه محاذير كثيرة، ولذلك كان عند أهل العلم أنه لا يدخل في ذلك.
أظن أنَّ الوقت قد انتهى كما تشير إلي، فنجعل ذلك في مستهل اللقاء القادم -بإذن الله جل وعلا-.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------
[1] رواه مسلم (2260).
[2] أخرجه أبو داود (2574) واللفظ له، والترمذي (1700)، والنسائي (3585).
[3] أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك