الدرس الثالث والثلاثون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7546 33
الدرس الثالث والثلاثون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حياكم مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلاً وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{نستأذنكم في البدء}.
نعم. استعن بالله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وفي مزك معرفة جرح وتعديل، ومعرفة حاكم خبرته الباطنة، وتقدم بينة جرح)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد، فقد أتينا في الدرس الماضي على ما يتعلق بالدعوات، ثم بدأنا في البينات، وهنا لَمَّا ذكر أن البينة وهي الشهادة يُشترط عدالتها، إما أن يعرف القاضي عدالتها، وإما أن يكون هناك من يزكيه، ولذلك قال: (وفي مزك معرفة جرح وتعديل)، فلا بد إذًا من مزكٍ لتعديل الشهادة، ولا بد أن يكون هذا المزكي الذي يقول: هذا شاهد عدل، يعني: ربما لا يكون له علاقة بالقضية، ولا يعرف ما تدور فيه مجرياتها، ولكن يعرف أن هذا الشخص الشاهد في القضية عدل، فيقول: هذا عدل. فيقول المؤلف: لابد أن يكون عارفًا ما يجرح به وما يعدل به حتى يصح حكمه بأنه حينما يزكي هذا بأنه عدل، أن يكون حكمه صحيحًا.
قال: (ومعرفة حاكم خبرته الباطنة)، إذا يَشترط أن يكون الحاكم قد عرف خبرة الباطنة، وهذه تعرف بالأمور الخاصة، مثل: سفر ونحو ذلك، فيكون مما يعرف في ذلك.
قال: (وتقدم بينة جرح)، يعني: لو من يعدله من الناس، فيقولون: هذا شاهد عدل، ووجد من الناس من لا يعدله، فيقولون: هذا رجل يشرب الخمر، وهو فاسق، فهنا الجرح مقدم على التعديل؛ لأن التعديل أصل، والجرح ناقل عن الأصل فيكون مُقدما على ذلك، وهي أخص، فتكون مقدمة عند أهل العلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فمتى جَهِلَ حاكم حال بينة طلب التزكية مطلقا، ولا يقبل فيها وفي جرح ونحوهما رجلان)}.
قال: (فمتى جهل حاكم حال بينة طلب التزكية مطلقا) كما قلنا: إما إن يعرف عدالة الشهود أو يطلب التزكية، وإذا لم يعرف عدالتهم لتكون الشهادة على وجهها، وهو: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ فلا بد أن نعرف أنه من ذوي العدالة، ونعرف أنه من ذوي العدالة إما بعلم القاضي أو بمزك يزكيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ولا يُقبلُ فيها وفي جرح ونحوه إلا رجلان)}.
إذًا لابد من شخصين، ولا بد أن يكونا رجلين يشهدان بذلك، ويخبران بما فيه من جرح، وأما النساء وغيرهم فإنهم لا يدخلوا في محال الشهادة؛ لأنَّ شهادة النساء إنما في الأموال فحسب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ومن ادعى على غائب مسافة قصر، أو مستتر في البلد أو ميت أو غير مكلف وله بينة، سُمِعَتْ وحُكم بها في غير حق الله تعالى، ولا تسمع على غيرهم حتى يحضر أو يمتنع)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في القضاء على الغائب ومن في حكمه، فالأصل في القضاء أن يكون حضوريا، فيحضر المدعي والمدعى عليه، حتى يدفع كل واحد منهما بما يراه الحق في نفسه، فالمدعي يطلب ذلك له، والمدعى عليه يدفع ذلك عن نفسه، ولا يتأتى ذلك إلا بحضورهم، فبحضورهم يتأتى العدل ويقام الحق، ولكن في بعض الأحوال قد يحتاج إلى أن يُنظر في القضية قبل حضور أحدهما، فما هي الأحوال المستثناة؟
قال المؤلف: (ومن ادعى على غائب مسافة قصر)، أي: لا يمكن حضوره، خاصة فيما مضى، حيث كانت تقطع في الوقت الطويل، فللقاضي أن يستمع إلى المدعي في ذلك.
قال: (أو مستتر في البلد) هو متخف وكلما طلبوه لم يجدوه، وإذا خرج خرج في ثوب امرأة ونحو ذلك، فلا يُستطاع الوصول إليه، فلا يضيع حق من له حق.
(أو ميت) كأن يكون قد ادَّعى على ميت، (أو غير مكلف) أي: كان صغيرًا، إذًا بهذه القيود، هذا أن يكون أيضا له بينة، وأما إذا ادعى عليهم بدون بينة فلا يقبل.
إذًا، إذا كانوا أحد هؤلاء، وكان له بينة فللقاضي أن يسمعها، وأن تكون في غير حق الله -جل وعلا-، وأمَّا حقوق الله فمبناها على المسامحة، زنا، أو شرب خمر، أو نحوه.
حتى حد السرقة، إذا كان المقصود بذلك إقامة الحد، وأما إذا كان المقصود بذلك رد المال فإن السرقة فيها جانبان، حق مالي، وحق حدي، الذي هو حد الله -جل وعلا- في السارق، فإذا كان لإثبات المال الذي سرقه ليرده، فتكون مالية فتقبل في مثل هذه الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ولو رُفع إليه حكم لا يلزمه نقضه يُنفذه لزمه تنفيذه)}.
عندنا القضاء يكون إمَّا لإصدار حكم أو تنفيذه، فإذا كان هذا الذي رُفِعَ إليه لتنفيذه، يقول: يا شيخ هذا القاضي الذي كان قبلك حكم لي بأن لي على فلان خمسة آلاف، فَعُرِضَتْ عليه، أي: على هذا القاضي الجديد فينفذه.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ولا يلزمه نقضه)، يعني: أنه إذا كان له رأي آخر في مجريات القضية، يرى أنَّ اجتهاده غير اجتهاد الحاكم، فإنَّ اجتهاده لا يرفع حكم الحاكم الماضي، بمسائل يسوغ فيها الاجتهاد، ويسوغ فيها الاختلاف. ولكن قالوا: إلا إن تكون القضية فيها مخالفة صريحة لأمرٍ قطعي من الكتاب والسنة، أو ما اتفق عليه سلف الأمة، فإذا كان يحكم بربا وتجويزه، أو أن يحكم بصحة نكاح باطل، فليس للحاكم أن يُجري ذلك ولا ينفذه، بل لا بد عليه أن يبطله، وأما ما سوى ذلك، فما دام أنها من المحال التي يسوغ فيها الاجتهاد، فإن حكم الحاكم لا يرفع حكم الحاكم الأول.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ويُقبل كتاب قاض إلى قاض في كل حق آدمي، وفيما حكم به لينفذه لا فيما ثبت عنده ليحكم به، إلا في مسافة قصر)}.
قال: (ويقبل قاض إلى قاض) هذه المكاتبات بين القضاة مما يحتاج إليها، ولكن لَمَّا كانت عُرضة لأن يكون فيها شيء من التدليس، أو الكذب، أو التزوير، ونحو ذلك، قيدت، -وطبعا في غير ما هذا الكتاب- بينوا كيف تختم؟ وكيف يشهد عليها؟ وكيف تنقل؟ حتى لا يكون فيها شيء من ذلك، ولكن من جهة هي مما يُسَهِّل الوصول إلى الحق، وما يثبت في جُدة يُحكم به في الرياض، ويمنع ذلك من طول القضية، أو تتابع الزمن عليها، فلأجل ذلك كان هذا معمولا به، وقالوا: إنَّ النبي كتب في أمور عظيمة في الدعوة إلى الإسلام، كملك الروم وفارس ونحو ذلك، فدل ذلك على أنَّ المكتوب إذا كان موثوقًا، فهو قائم مقام المنطوق، وبناء على ذلك يحكم به في حقوق الآدميين.
وأما حقوق الله فكما قلنا: إنها مما يطلب فيها الستر، وتدرأ بالشبهات، فينبغي أن لا تدخل في مثل هذه الأمور.
قال: باب آخر من كتاب القاضي إلى القاضي فيما حكم به لينفذه، فإذا كان قد حصل التداعي والترافع وصدر الحكم، ثم انتقل إلى قاض آخر لينفذه، فيكون كذلك.
قال: (لا فيما ثبت عنده ليحكم به) فلو أنه كتب له أنه ثبت عندي كذا وكذا وكذا، بأن لفلان خمسة آلاف لتحكم به، فيقول لماذا أحكم به؟ بل أنت الذي تحكم به، وما دام أنه قد ثبت عندك فأنت الذي تحكم به، فأنت الذي سمعت إلى البينة، وأنت الذي نظرت إلى دفع الخصم، وأنت الذي تعلق بك ذلك، فلا يحتاج، إلا أن يحتاج إلى ذلك، قال أن يكون فيه (مسافة قصر) فيشق عليه أن يذهب، فبناء على ذلك لَمَّا سمع القاضي الآخر في تلك البلاد الشهود لكونهم لن يحضروا مجلس القضاء هنا، ثَبَّتْ شهادتهم، وكان فيه كلفة في أن يكون مجلس الحكم واحدا، فيقول: إذا كان في مسافة قصر، فتأخذ الحكم على الغائب، وإن كان ذلك يسمع إليها يعتبرها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل وَالْقِسْمَةُ نَوْعَانِ.
قِسْمَةُ تَرَاضٍ: وَهِيَ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ إِلَّا بِضَرَرٍ أَوْ رَدِّ عِوَضٍ كَحَمَّامٍ وَدُورِ صِغَارٍ)
}.
هذا في أحكام القسمة، وهي لها تعلق بالمعاملات، ولها تعلق بالقضاء؛ لأنه غالبا أن القسمة إنما تنشأ عن خلاف، فيقول -رحمه الله تعالى-: هذا الفصل معقود في القسمة، وحقيقتها تمييز ما لكل واحد من الحق بنصيب مختص يستطيع التصرف فيه، ويتخلص فيه من شريكه.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (قِسْمَةُ تَرَاضٍ: وَهِيَ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ إِلَّا بِضَرَرٍ أَوْ رَدِّ عِوَضٍ كَحَمَّامٍ وَدُورِ صِغَارٍ)، أي: الحمام الذي يتخذونه لتسخين الماء والتنظيف، لو قسم سيكون محل يستحم فيه الناس ومحل للتهيئة، فلا يمكن قسمه.
ومثل المطعم، مكان لتجهيز الطعام ومكان لبيعه، فإذا قُسِمَ يتضرر الناس، ولذا فهو لا ينتفع به إلا بهذا، فيقولون: إنه لو قسم على هذا فهذه قسمة تراض، فإذا تراضوا وأمكنهم الانتفاع بطريقة ما فهو لهم.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: (وَدُورِ صِغَارٍ) إذا أعطيته غرفة فات عليه مكان قضاء الحاجة، ولا يدفع مكان إلا بمحل تُقضى فيه الحاجة عادة عند الناس. إذًا هذه تكون عن طريق التراضي، فإذا تراضيا فهما على ما تراضيا عليه، وهي التي لا تنقسم إلا برد عوض، وكما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إِلَّا بِضَرَرٍ) أي: بحصول الضرر، فإذا اتفقا فهما على ما اتفقا عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ لَهَا رِضَا كُلِّ الشُّرَكَاءِ وَحُكْمُهَا كَبَيْعٍ)}.
إذا هذا النوع الأول، وهي الشركة التي فيها ضرر، أو رد عوض، لا بد من رضا الشركاء؛ لأن حكمها حكم البيع، فكما أنك إذا اشتريت من فلان ساعة، أو اشتريت سيارة، أو بيت، فلابد من رضاه، فهذه إذا قُسِمَت بين الشركاء فحقيقتها أنهم كأنما تبايعوا، فأخذ هذا مقابل هذا، وهذا دفع عوضا عما زاد عنده من ذاك، ولذلك قال: (وَحُكْمُهَا كَبَيْعٍ) فلابد فيها من الرضا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ دَعَا شَرِيكَهُ فِيهَا، وَفِي شَرِكَةٍ نَحْوَ عَبْدٍ وَسَيْفٍ وَفَرَسٍ إِلَى بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أُجْبِرَ)}.
لأن هذا مصلحة له، فلابد أن يجيب، وأمَّا أن يمسكها، فلا هو الذي باعه، ولا هو الذي أجرها، وأضر بالشريك فالضرر مرفوع، وما فيه مصلحة لهما محفوظ.
{قال: (فَإِنْ أَبَى بِيعَ أَوْ أُوجِرَ عَلَيْهِمَا، وَقُسِمَ ثَمَنٌ أَوْ أُجْرَةٌ)}.
إذا أبى فإنه يباع عليه، أو يؤجر عليه، يؤجرها القاضي وتقسم ثمن الأجرة بينهما؛ لأنه لا ينفي كون حقه ثابتا في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الثَّانِي: قِسْمَةُ إِجْبَارٍ: وَهِيَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهَا وَلَا رَدَّ عَوَضٍ كَمكَيلٍ وَمَوْزُونٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَدُورٍ كِبَارٍ، فَيُجْبَرُ شَرِيكٌ أَوْ وَلِيُّهُ عَلَيْهَا، وَيَقْسِمُ حَاكِمٌ عَلَى غَائِبٍ بِطَلَبِ شَرِيكٍ أَوْ وَلِيِّهِ، وَهَذِهِ إِفْرَازٌ)}.
هذا هو النوع الثاني من أنواع القسمة، واسمحوا لنا سنستعجل قليلا؛ لأن هذا أخر درس ولا بد من الإتيان على ما بقي من مسائل إلى نهاية الكتاب.
القسمة الثانية: قسمة إجبار، وهي التي لا يحتاج فيها إلى رضا؛ لأنه لا فرق فيها، ولا تفاوت، فلا يحتاج فيها إلى ما يتعلق بكل واحد من الشركاء، ولذلك قال: (لا ضَرَرَ فِيهَا وَلَا رَدَّ عَوَضٍ)، كمثل لو كانت شراكتهم في مائة صاع من البر، لهذا خمسين ولهذا خمسين وهما شيء واحد، ودرجة واحدة.
أو أرض كبيرة يمكن قسمها ولا يتضررون بذلك، فهذا يأخذ الجزء الشرقي وهذا يأخذ الجزء الغربي، ولكل واحدة ممر، ولكل واحدة منافع، أو مستوية لا يمكن فعل ذلك فيها.
فلأجل ذلك قال: (فَيُجْبَرُ شَرِيكٌ أَوْ وَلِيُّهُ عَلَيْهَا) سواء كانت لمن لهم عليهم ولاية كصغار أو مجانين أو غيرها، أو وكيل أو أصيل.
(وَيَقْسِمُ حَاكِمٌ عَلَى غَائِبٍ بِطَلَبِ شَرِيكٍ) فلو كان غائبًا ومدته تطول، فإن الشريك يتضرر، فيقوم الحاكم في القسمة في مثل تلك الحال، ولذلك قال: (وَهَذِهِ إِفْرَازٌ) لأنه إفراز الحق، يعني: بعد أن كان الحق متداخلا بكل شبر أو كل ذرة بين هذا وذاك، فرزنا ما لهذا وما لهذا، الشركاء أو الثالث والرابع كذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ كَوْنُ قَاسِمٍ مُسْلِمًا، عَدْلًا، عَارِفًا بِالْقِسْمَةِ مَا لَمْ يَرْضَوْا بِغَيْرِهِ)}.
لا بد أن يكون القاسم ممن ترضى قسمته؛ لأنها نوع حُكم، ولذا لابد أن يكون مسلما عدلا، يُؤدي الأمور على وجهها، وأن يكون عارفا بالقسمة، وكيف تقسم الأشياء، كل مال بحسبه، سواء كان في أمور السيارات، أو قطع غيارها، أو كان ذلك في الزراعات، أو كان ذلك في الأمور الطبية أو نحوها.
قال: (مَا لَمْ يَرْضَوْا بِغَيْرِهِ) لو رضوا بوالدهم، أو بجارهم فلان، أو بإمام المسجد، ما تنتهي بالخصومة، ويحصل به الرضا، وهو المطلوب لأن الحق لهم لا يتجاوزهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَكْفِي وَاحِدٌ وَمَعَ تَقْوِيمٍ اثْنَانِ)}.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيَكْفِي وَاحِدٌ) هو قاسم واحد يتحرى العدد، ولكن إذا كان فيها تقويم أشياء، فالتقويم يحتاج فيه إلى أهل الاختصاص، فبناء على ذلك يكون قاسما، فيقومان أن هذا البيت يساوي آلاف، وهذا البستان يساوي ستة آلاف، ونحو ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتُعَدَّلُ السِّهَامُ بِالْأَجْزَاءِ إِنْ تَسَاوَتْ، وَإِلَّا بِالْقِيمَةِ أَوْ الرَّدِّ إِنِ اقْتَضَتْهُ، ثُمَّ يُقْرَعُ وَتَلْزَمُ الْقِسْمَةُ بِهَا)}.
إذًا عندنا إمَّا القسمة بالأجزاء وهذا إذا تساوت، كأن يكون هذا له مائة متر، وهذا له مائة متر. أو هذا له خمسون صاعا، وهذا له خمسة وعشرون صاعا، باعتبار أن له الربع، وهكذا.
إذًا إما أن تكون بالأجزاء أو بالقيمة إذا لم تتساوَ فبالقيمة، فهذا يأخذ ألف متر، وهذا يأخذه ستمائة متر؛ لأن فيها بناء أو فيها غرسا، أو نحو ذلك، فيقيمون ما في هذا من الزيادة، يساوي ما عند فلان من زيادة في المساحة، وهكذا.
قال: (أو الرد) فهذا يأخذ هذه المساحة ويرد على فلان خمسون ألف ريال، أو نحو ذلك.
إذًا هذه ثلاث أحوال، وكيفما حصل واتفقا على ذلك حصل المقصود.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يُقْرَعُ وَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّتْ وَلَزِمَتْ بِرِضَاهُمَا وَتَفَرُّقِهِمَا)}.
قال: ثم يقرع وتلزم القسمة كما قلنا، يعني بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد، وإن خير أحدهما الآخر قال: خذ هذا ولا هذا اللي تريده، فاتفقا على شيء، وما أحسن السماحة، «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى» ، وما عُرف أحد تسامح في مثل ذلك ورضي على نفسه بالنقص أو بالأقل حتى يرضي صاحبه، ويمنع الخلاف، ويرفع الخصومة، إلا أعقبه الله -جل وعلا- التوفيق والبركة، وردَّ الله له شيئًا من حيث لا يشعر، خاصة إذا كانت بين جارين، أو بين أخوين، أو كانت قسمة ورثة، أو كانت بين ضعفة، كأخ ضعيف أو أخت ضعيفة أو نحو ذلك.
فينبغي للإنسان أن يطلب مسالك الفضل، وأن يعود على أخيه بالزيادة والإحسان، وألا تحضر نفسه الشحيحة، وألا يستمع إلى أهوائه وإلى جشعه وحرصه، فإن ذلك يفوت كثيرا من توفيق الله له، وربما فاتته البركة، وربما عادت عليه بالنقيصة، يعني: ما طلبها وحرص عليها كانت سببا للنقص عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الشَّهَادَاتِ)}.
هذا في الشهادات التي هي من أهم ما يحكم به، إن كان ذلك في الحدود، أو كان ذلك في الحقوق، وجمعها لأنها لكل شهادة مخصوصة في عددها، وفيما يعتبر فيها، وسيأتي بيان ذلك فيما يذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من المسائل.
{قال -رحمه الله-: (تَحَمُّلُهَا فِي غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ فَرْضُ كَافِيَةٍ، وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ عَيْنٍ مَعَ الْقُدْرَةِ، بِلَا ضَرَرٍ)}.
إذا هي من جهة مشروعة ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾، والنبي : «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ» ، فلا إشكال فيها.
من جهة تحملها وأدائها، والتحمل يعني: لو قال: انظر فلان قال لي كذا، اسمع، احفظ، فيجب على الإنسان أن يتحمل؛ لأن هذا سبيل لأداء الحق.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَرْضُ كَافِيَةٍ) فلو كان عشرة الذين سمعوه في إثبات حق أو في ظلم أو في قذف فطلب منهم، فلا بد على الأقل أن يشهد بذلك اثنان، فإذا شهد اثنان حصل فرض الكفاية، وإذا امتنع الجميع فهم فوتوا عليه حقا، واستدعوا حصول الظلم عليه.
قال: (وأداؤها فرض عين)، فإذا طلبت من إنسان فيجب عليه أن يؤديها (مَعَ الْقُدْرَةِ، بِلَا ضَرَرٍ)، لا يجوز له أن يتأخر عن أدائها؛ لأنها هي السبيل لوصول الحق إلى مستحقه، ولكن بشرط أن يكون قادرا على ذلك، فلا يُحال بينه وبينها، وألا يلحقه ضرر، كما لو كان يخاف على نفسه، أو يحصل عليه تهديد أو نحو ذلك.
فلا يختلف أهل العلم إذًا من التحمل والأداء هو شيء واحد داخل فيما أمر الله جل وعلا به من الشهادة، ولأنه لا يتأتى أداء الشهادة إلا بتحملها، ولكن أداءها لا يكون إلا مع القدرة، وأن ذلك واجب إذا أُمِنَ الضرر.
{أحسن الله إليكم.
قال رحمه الله: (وَحَرُمَ أَخْذُ أُجْرَةٍ وَجُعْلٍ عَلَيْهَا، لَا أُجْرَةُ مَرْكُوبٍ لمُتَأذٍ بِمَشْيٍ)}.
الشهادة إنما هي لله -جل وعلا- فلو كان فيها مؤاجرة لأفضى ذلك إلى الظلم فيها، وحصول شهادة السوء، ولكن أيضا لا يضار بالشاهد، فإذا كان يتعنى للوصول إلى المكان الحكمي، فأعطى أجرة ذلك، كالذي يأتي من جدة مثلا بتذكرة طيران، أو يسكن في الرياض اليوم أو نحو ذلك، فيعطى ما جاء لأجله، وما يحتاج من النفقة لأداء تلك الشهادة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُهُ بِرُؤْيَةٍ، أَوْ سَمَاعٍ، أَوِ اسْتِفَاضَةٍ عَنْ عَدَدٍ يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ فِيمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ غَالِبًا بِغَيْرِهَا، كَنَسَبٍ، وَمَوْتٍ، وَنِكَاحٍ، وَطَلَاقٍ، وَوَقْفٍ، وَمَصْرِفِهِ)}.
لا بد من العلم اليقيني، ولذلك النبي قال: «هَلْ تَرَى الشَّمسَ؟» قَالَ: نَعَم، قال: «فَعَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ» ، وذلك لا يتأتى إلا برؤية، أو بسماع.
وأما ما يشك الإنسان فيه أو يظن أو يقول: والله ها، ويطلب الشهادة، لا ما دام ما تيقنت فلا تشهد.
إذا لا بد من تحقق العلم بالمشهود، أو استفاضة يعني: ظهور الأمر، فهذا يحصل في أشياء كثيرة، وربما كانت أكد مما تعلمه بعينك، أو تحققته بنفسك، فمثلا لو جيء إليكم وقيل: تشهد أن فلانا هو ابن فلان، وهو جاءكم من عشرين سنة، كل يعرفه بذلك، وهو معكم في المدرسة وكذا، فحتى ولو لم تكن تعرف أنه فعلا حضرت أنه ولد لفلان من فلانة، وأن فلانة هي زوجة فلان ونحو ذلك، فلا يحتاج إلى شيء من هذا ما دام أنه مستفيض.
(أو موت)، جاركم ميت، أنت ما حضرت ولم تره وهو يلفظ أنفاسه، لكن تعرف أنه مات ومستفيض وكل يعرفون ذلك، وأولاده قسموا إرثهم ونحوه، فهذا معلوم، فإذا كان عن عدد وقع واشتهر فيستقر العلم به، ولك أن تشهد بذلك ولو لم تكن حضرت وفاته أو رأيته يلفظ أنفاسه.
ومثل ذلك النكاح والطلاق، الآن في جيرانكم فلان زوج فلانة، هل أنت اطلعت على عقودهما؟ لا ما اطلعت على عقودهما، ولكن ليس يمكن أن أحد لا يشهد بذلك، فهي أعلى من درجات الشهادة.
(أو الوقف)، وقف الملك عبد العزيز على الحرمين كل يعرفه، وإن كان لم يعرفه تفاصيل ذلك أو يدخل فيه، ولكن هذا مشتهر، فيكون مستفيضا، فيصح أن يحكم به شخص أو نحو ذلك، ومثل ذلك الأوقاف المعلومة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَاعْتُبِرَ ذِكْرُ شُرُوطِ مَشُهُودٍ بِهِ وَيَجِبُ إِشْهَادٌ فِي نِكَاحٍ وَيُسَنُّ فِي غَيْرِهِ)}.
لو أرادوا أن يشهدوا على شيء، فلا بد أن يعرفوا شروط المشهود به، فهم دائما يمثلون بالرضاع، يقولون أنت تعرف أن الرضاع لا بد من خمس رضعات، فإذا ما كان يعرف أنها خمس رضعات فقد يظن أنها إذا رضعت مرة حصل بذلك الرضاعة، فلا بد أن يكون يعرف الشروط حتى نتيقن أنه شهد على ما يوصل إلى الحق الشرعي الصحيح.
قال: (وَيَجِبُ إِشْهَادٌ فِي نِكَاحٍ وَيُسَنُّ فِي غَيْرِهِ) مستحب أن يشاهد فيها إلا النكاح فانه يجب كما جاء ذلك في حديث عمران وغيره «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ فِي شَاهِدٍ إِسْلَامٌ، وَبُلُوغٌ، وَعَقْلٌ، وَنُطْقٌ، لَكِنْ تُقْبَلُ مِنْ أَخْرَسَ بِخَطِّهِ، وَمِمَّنْ يُفِيقُ حَالَ إِفَاقَتِهِ، وَعَدَالَةٌ، وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ)}.
قال: (وَشُرِطَ فِي شَاهِدٍ إِسْلَامٌ وَبُلُوغٌ، وَعَقْلٌ، وَنُطْقٌ)، فلابد أن يكون كذلك بالغا عاقلا ناطقا؛ لأنها الوسيلة إلى إيضاح ما لديه، ولكن تقبل من أخرس، لو كان الأخرس أمكنه الكتابة، لأن الكتابة كالنطق، وإنما يخاف من الإشارة لأن الإشارة قد تلتبس، فنظن أنه يشير إلى ثبوت ذلك وهو يشير إلى نفيه، أو أنه يعتقده وهو لا يعتقده، والناس يتفاوتون في ذلك، وأما الكتابة فمقطوع بها، فلذلك قالوا: إنه كما لو كان ناطقا.
وممن يفيق حال إفاقته إذا كان به جنون غير مطبق، وهو الذي يسمى في بعض مراحله انفصام الشخصية، وهو الذي في بعض أحواله معتدل وفي بعضها غير معتدل، إذا كان في حال اعتداله فيقبل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَدَالَةٌ، وَيُعْتَبَرُ لَهَا شَيْئَانِ: الْأَوَّلِ: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ، وَهُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ بِأَنْ لَا يَأْتِيَ كَبِيرَةً، وَلَا يُدْمِنَ عَلَى صَغِيرَةٍ.
الثَّاني: اسْتِعْمَالُ الْمُرُوءَةِ بِفِعْلِ مَا يُزَيِّنُهُ وَيُجَمِّلُهُ وَتَرْكِ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ)
}.
كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أن من شروط الشهادة العدالة، فلا بد أن يكون عدلا بنص الآية.
بم تتحقق العدالة؟
كما قلنا في الدرس الماضي: إنها تتحقق بأمرين: الصلاح في الدين، أي: لا بد أن يكون شخصا مستقيما في ديانته، يؤدي الفرائض برواتبها؛ لأن الذي لا يؤدي إلا الفرائض هذا ضعيف في ديانته.
واجتناب المحارب بأن لا يفعل الكبائر، ولا يدمن على صغيرة.
واستعمال المروءات، وإن لم تكن أمورا لازمة ولكنها تشين الرجال أو تزينهم، فما يكون من كرم الإنسان، وما يكون من نصرته للمظلوم، وما يعرف به من خلال طيبة، ترفع وتزيد مروءته، وضد ذلك بضده.
إذا قالوا إن هذا هو معتبر في أن يكون الشخص عدلا، وحقيقة أن هذه الأمور كما ذكر غير واحد من أهل العلم: أنها تعتبر باعتبار الأزمنة، وتختلف باختلاف الأحوال فإذا كان زمان صلاحنا ضُيق فيها وقبل من يكون عدلا على وجه الحقيقة والتدقيق، وإذا فسد الزمان وتغيرت الأحوال، كما آل إليه الأمر في أحوال متأخرة، فيتخفف ذلك، وتعتبر العدالة بقدرها، ويتخفف في بعض قيودها.
{أحسن الله إليكم.
من قال -رحمه الله-: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِ عَمُودَيْ نَسَبِهِ لِبَعْضٍ وَلَا أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَلَا مَنْ يَجُرُّ بِهَا إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعُ بِهَا عَنْهَا ضَرَرًا، وَلَا عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ)}.
هذا إذا فيمن لا تقبل شهادتهم؛ لأن الأصل أن الشهادة تقبل، فإذا بينا من لا تقبل شهادته فبقي الآخر على العلم، فبضدها تتبين الأشياء؛ لأنها هي المحصورة، فلو شهد أب لابنه؟ فهو متهم في ذلك. ولو شهد الابن لأبيه؟ هو متهم في ذلك. والزوج لزوجته؟ والزوجة لزوجها؟ فقالوا بذلك إنه لا تعتبر كشهادة يُعول عليها في الحكم، ولا من يجر بها إلى نفسه نفعا، يقول: نعم صح شراء فلان من فلان، ولكن أنت الذي تشهد أنت شريك لفلان، فأنت حينما تثبت الشهادة فأنت لا تثبت الشهادة وأنت جزء من الدعوة، فكأنك تثبت الحق لنفسك.
وكذلك إذا كان يدفع بها عن نفسه ضررا، كما يقول مثلا: ما أخطأ فلان، وهو فاعل نفس فعله، لأنه سيلحقه بذلك إذا حكم بأنه مخطئ أنك سيلزمك ما لزمه.
ولذلك قالوا: لا يقبل شهادة العاقلة بجرح الشهود، لو جاء العاقلة وقالوا: الذين شهدوا بأن فلانا قاتل، هي ستثبت عليهم الدية، فيقولون: لا، أصلا الشهود فيهم كذا وكذا، فلا يقبل جرحهم؛ لأنهم يدفعون عن أنفسهم ما قد يجب عليهم من دية وغيرها.
قال: (وَلَا عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ)، كذلك لو جاء عدو يشهد على عدوه يمكن أنه يتشفى منه أو ينتقم منه أو نحوه، إلا في النكاح فيقولون: إنه لا يفضي إلى شيء من ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ سَرَّهُ مَسَاءَةُ أَحَدٍ أَوْ غَمَّهُ فَرَحُهُ فَهُوَ عُدُوُّهُ)}.
يعني هذا تحقيق العدو الذي لا يتعلق به جواز الشهادة عليه فلا تقبل عند القاضي، الذي يفرح إذا في حصلت عليه مساءة، ويحزن إذا حصلت له نعمة، فهذا عدو له.
{(وَمَنْ لَا تُقْبَلُ لَهُ تُقْبَلُ عَلَيْهِ)}.
هذا بلا شك، يعني لو كان ما تقبل لك شهادة الأب لأبيه، فجاء الأب وشهد على ابنه أنه مخطئ، وأن عليه حق، فهذا أعظم في أن يصدق؛ لأن شفقته تمنعه أن يشهد، فإذا شهد عليه فدل على أن الحق ثابت من كل وجه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ. وَشُرِطَ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ بِهِ أَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ أَرْبَعًا)}
ذكر المؤلف ما يشترط في شهادة الزنا، أربعة شهود بنص الآية، ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾، فإذا لا بد من أربعة شهود، كما نصت بذلك الآية، وأجمع على ذلك أهل العلم.
والإقرار ذكروه تبعا، وقالوا: إنه يثبت كما الشهادة، فحكموا بأربع مرات، وأيضا النبي رده أكثر من مرة حتى أقر بعد إقراره، وإن كان هذا أيضا قد يقال فيه: إنه يقبل بأقل من ذلك، كما هو قول آخر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَفِي دَعْوَى فَقْرٍ مِمَّنْ عُرِفَ بِغِنًى: ثَلَاثَةٌ)}.
من ادعى أنه فقير بعد أن كان غنيا فلا تقبل منه مجرد دعوة، ولكن من كان من الأصل لا يعرف بغناه، فإذا ادعى وقال: أنا فقير، أنا محتاج قُبِلَ ذلك.
ولكن واحد غني، له شركات، وله أموال، وعرف بثراء، أو بخير كثير، ثم ادعى فقرا، يقول اشهد كما في حديث قبيصة حتى يشهد ثلاثة مِن ذَوي الحِجا مِن قَومِه لقد أصابَتْ فُلانًا الفاقةُ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَفِي قَوَدٍ وَإِعْسَارٍ وَمُوجِبِ تَعْزِيزٍ، أَوْ حَدٍّ وَنِكَاحٍ وَنَحْوِهِ وَمِمَّا لَيْسَ مَالًا، وَلَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، أَوْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا رَجُلَانِ)}.
إذًا أغلب الأمور يطلب فيها شاهدان، إما أن يكونا من الرجال، مما تختص به المسألة الأولى، القود الذي هو القصاص، إعسار، واحد معسر موجب لتعزير أو حد أو نكاح فهذا يطلب فيه رجلا، وأهم شيء أنه لا يكون من الأمور المتعلقة بالأموال، وأما المتعلق بالأموال فسيأتي ذكره في المسألة التي تليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَفِي مَالٍ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ: رَجُلَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي)}.
في المال وما يقصد به المال، يقبل فيه رجلان، يقبل فيه رجل وامرأتان، ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ قال أهل العلم: آية الدين جاء فيها ذكر شهادة المرأتين مع الرجل، فدل ذلك على أنه تقبل شهادتها فيما يتعلق بالأموال ونحوها، أو فيما تختص به النساء، كالرضاع ونحوه، كما في القصة التي جاءت في الحديث، وسيأتي ذكرها الآن.
قال: (أو رجل ويمين)، يعني إذا كانت الدعوة في أمور مالية، ولم يوجد إلا شاهد فإنها تقبل، لأن النبي قضى بالشاهد واليمين، وقالوا: مع أن الأصل أن اليمين على المدعى عليه، فكيف انتقلت على المدعي؟ قالوا: لأن اليمين من حيث الأصل هي في جانب أقواهما، والعادة أن المدعى عليه أقوى جانبه؛ لأن الأصل براءته، فلما وجد شاهد قويت جهة المدعي، ولكن الشاهد لا يقضى به بمفرده من حيث الأصل، فانضم إلى ذلك أن يحلف ليقوى جانبه، ويقبل فيه، وهذا عند مسلم في صحيحه، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أنه يقضى بالشاهد مع اليمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَفِي دَاءٍ وَدَابَّةٍ وَمُوَضِّحَةٍ وَنَحْوِهِمَا قَوْلُ اثْنَيْنِ، وَمَعَ عُذْرٍ وَاحِدٌ)}.
هذه أشياء مما يطلب فيها قول أهل الخبرة ونحوها، (دَاءٍ وَدَابَّةٍ وَمُوَضِّحَةٍ) التي توضح العظم.
(وَنَحْوِهِمَا قَوْلُ اثْنَيْنِ) ولكن إذا تعذر، فيكون واحدا؛ لأن المقصود منها التوثق من تحقق ذلك، والأصل هما اثنان، ولكن قد لا يتسنى ذلك في كثير من الأمور فيكتفى بالواحد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا كَعُيُوبِ نِسَاءٍ تَحْتَ ثِيَابٍ، وَرَضَاعٍ، وَاسْتِهْلَالٍ وَجِرَاحَةٍ وَنَحْوِهَا فِي حَمَّامٍ، وَعُرْسٍ: امْرَأَةٌ عَدْلٌ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ)}.
إذا هذا الذي تقبل فيه شهادة النساء، ما لا يطلع عليه الرجال غالبا، إما أن نقبل شهادات النساء، وإما أن يبقى الأمر بضياع، فلأجل ذلك تقبل شهادة النساء في عيوب امرأة فيها مثلا برص، وهو من عيوب النكاح، ولا يطلع عليه الرجال، هي تتستر وترخي خمارها. فإذا إذا شهدت النساء بذلك حكم به القاضي، والرضاع مثل ذلك، واستهلال المولود، يعني أنه استهل وثبتت حياته لتترتب بذلك أحكام الحياة ثم مات. والجراحة ونحوها في الحمام، أماكن النساء في عرس في أماكن ما في إلا النسا، إما أن نثبت أن فلانة ضربت فلانة وأما بالنساء وإما أن تبقى دون ما حكم، فلأجل ذلك قالوا: تقبل شهادتهن.
قولنا: تقبل شهادة النساء لا يعني أنه لو شهد بها رجل لا تقبل، فلذلك قال: أو رجل عدل إذا شهد بها، ولكن هذه من حيث الأصل أنها تقبل شهادة المرأة فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي كُلِّ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي)}.
(وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ) يعني أن تشهد بشهادة فلان، ما معناها؟ يعني مثلا أن فلانا شهد أن زيدًا اقترض من محمد مئة وخمسين ألف، أنا لم أحضر، ولكن أخبرني صالح بذلك، قال: أنا أشهد أن زيدًا أخذ من محمد مئة وخمسين ألف، فأنا شهادتي فرع عن شهادة صالح، فهل يحكم إن أدليت بهذه الشهادة أن يحكم بها القاضي أو لا؟
يبين المؤلف -رحمه الله تعالى- من حيث الأصل أنه يمكن قبول الشهادة على الشهادة كما يقبل كتاب القاضي عن إلى القاضي، ولكن سيبين ما يقيد ذلك فيه وما يعتبر له.
{قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ تُعْذَرُ شُهُودِ أَصْلٍ بِمَوْتٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ غَيْبَةٍ مَسَافَةَ قَصْرٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ)}.
إذا أول شرط أن يتعذر شهود الأصل، وأما إذا أمكن شهود الأصل، فلماذا نأتي إلى الفرع؟ ما دام أن "صالح" موجودا فلا يحتاج إلى شهادتي، فيقول المؤلف: يتغيب سواء كان بالموت أو بالمرض أو بالغيبة أو بالخوف من السلطان، عليه مشكلة، أو أي شيء، وأما ما سوى ذلك فالأصل هو شهادة الأصل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَدَوَامُ عَدَالَتِهِمَا)}.
قوله: (وَدَوَامُ عَدَالَتِهِمَا) من هم؟ شاهد الأصل وشاهد الفرع، وأما إذا لم توجد عدالة في شاهد الأصل فالفرع فرع عنه، فانتهت، وإذا وجدت شهادة الأصل بقيت عدالة شهادة الأصل لكن الفرع ليس بعدل لن تقبل، لأننا لا نأمن أنه لم يكن أخذ من الشاهد الأصل صحيحًا أو كذب فيها على شاهد الأصل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَاسْتِرْعَاءُ أَصْلٍ لِفَرْعٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ فَيَقُولُ: اشْهَدْ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَشْهَدَنِي عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا وَنَحْوِهِ، أَوْ يَسْمَعُهُ يَشْهَدُ عِنْدَ حَاكِمٍ، أَوْ يَعْزُوهَا إِلَى سَبَبٍ كَبَيْعٍ وَقَرْضٍ)}.
هذا استرعاء أصل لفرع، يعني ما تقول: والله أنا أتكلم في المجلس وقال كذا، لا، لابد أن يقول: اشهد أني شهدت عليَّ فلان، أو يكون قد أدى بالشهادة عند القاضي، أنا سمعته وهو يؤدي الشهادة عند القاضي، يقول: أشهد أن فلانا ابن فلان أخذ كذا وكذا، يعني أن تكون مضبوطة؛ لأن أداء الشهادة على وجه له أول وآخر ومتعلق وأثر، يختلف عن الحديث عن أمر ربما تنقص بعض أموره، أو لا تدخل فيه وهي مؤثرة.
أو يذكر السبب فإذا ذكر سبب عرف أنه تعلق به ذلك على وجه دقيق.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَأْدِيَةُ فَرَعٍ بِصِفَةِ تَحَمُّلِهِ)}.
يعني أن يقول: والله سمعته يشهد ذلك عند القاضي، أو يقول: أشهدني، وقال: اشهد بأني أقول كذا، فلا بد أن يبين في صفته، ما يقول أشهد أن فلانا أخذ مائة وخمسين ألف، لا، بل لا بد أن يقول: أشهد أن فلانا أشهدني، أشهد أن فلانا شهد عند القاضي بكذا، وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (وَتَعْيِيِنُهُ لِأَصْلٍ، وَثُبُوتُ عَدَالَةِ الْجَمِيعِ)}.
أن يعين الشاهد الفرع للأصل، فيقول: شهدت أن فلانًا ذا هو الذي شهد بذلك، لأنه قد يكون أكثر من شاهد.
وثبوت عدالة الجميع كما قلنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ مَالٍ قَبْلَ حَكَمٍ لَمْ يُحْكَمْ)}.
لو كانوا شهدوا على فلان أنه أخذ من فلان مائة وخمسين ألف، ثم رجع الشهود، رجوع الشهود هذه من مسائل المهمة فلم يحكم به، ما دام القاضي لم يصدر الحكم فإن رجوعهم نقض لما أثبتوه، فبناء على ذلك لا يجوز للحاكم أن يحكم به.
{قال -رحمه الله-: (وَبَعْدَهُ لَمْ يُنْقَضْ وَضَمِنُوا)}.
أمَّا إذا كانت الشهادة بعدما أصدر الحكم حكما، فإنه لا ينقض حكمه، حتى ولو رجعوا وقالوا: والله ترى فلانا ما أخذ ونحن كاذبون أو مخطئون، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه لا ينقض لماذا؟ لأنهم شهدوا بشيء، والآن ادعوا خلافه، فقد تكون دعواهم صحيحة، وقد تكون شهادتهم صحيحة، وبناء على ذلك نعاملهم، فالشهادة وقعت على وجهها فتكون مؤدية للحق، وهم الذين رجعوا فيتحملون ما رجعوا فيه، لأن الخلل أصلا قد يكون في رجوعهم وليس في شهادتهم، فلا نضمن، ولأجل ذلك نعاملهم بالأشد، هم يضمنون، والذي شهد له يأخذ ما شهد له به.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ بَانَ خَطَأٌ مُفْتٍ أَوْ قَاضٍ فِي إِتْلَافٍ لِمُخَالِفَةِ قَاطِعٍ ضَمِنَا)}.
خطأ المفتي أو القاضي من حيث الأصل هو معذور، لأنه لو لم يكن كذلك لما تصدى الناس لهذه الأمور، ولكن إذا كان في مخالفة قاطعة مما لا يسوغ فيها الاجتهاد، يكون قد حصل منه تفريط، فيلحقه في ذلك الضمان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الْإِقْرَارِ. يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ)}.
هذا الكتاب هو آخر كتاب في هذا المتن، والفقهاء يبدأون بالطهارة وينتهون بالإقرار، وقال أهل العلم: في هذا فائدة جليلة، وهي أن المتعلم يبدأ بنقاء نفسه وطهارتها وذكائها بالإسلام، وسلوك أهل الصفات الطيبة، والخصال الحميدة، ولا يزال ينقيها ويطهرها.
ثم إنه لا يصل إلى الختام إلا مقرا بضعفه، معترفا بتقصيره، طالبا من الله -جل وعلا- العفو والمغفرة، ونحن أحوج ما نكون إلى أن نقر أننا مقصرون في أمورنا كلها، وأيضا مخلون بجملة مما نحن بصدده، مما شرعنا في شرحه، وتبيين مسائله، خاصة مع ضيق الوقت، وتتابع الشرح ونحوها، وضعف في المتصدي لذلك، فعسى الله أن يعفو عنا ما كان من تقصير وخلل، وعسى الله أن يقبل منا ما كان من توفيق وسداد، وعسى الله أن يبلغنا وإياكم الخير والفلاح، والنجاح في أمر الدنيا والآخرة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ بِلَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ)}.
إذا حقيقة الإقرار هو اعتراف الإنسان بما عليه، اعتراف الإنسان بما يلزمه شرعًا، من مال أو حق أو سواه، ولذلك يقول: (يَصِحُّ مِنْ مُكَلَّفٍ) لا بد أن يكون عاقلا بالغا، وأما الصغير فاعترافه زيادته مثل نقصه، لا يعتبر به.
وأن يكون (مختارا) فلا يكون مكرها، لأن الإكراه لا تكليف فيه، وربما حمل على ما لا يعتقده، ولذلك خُفف عن المسلم في حال نطقه بالكفر في الإكراه.
قال (بِلَفْظٍ أَوْ كِتَابَةٍ أو إشارة)، قال: له خمسة وعشرون ألف، أو كتب ذلك أو أشار، قال: نعم، له خمسة آلاف أو نحوها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (أَوْ إِشَارَةٍ مِنْ أَخْرَسَ لَا عَلَى الْغِيَرِ إِلَّا مِنْ وَكِيلٍ وَوَلِيٍّ وَوَارِثٍ)}.
(لَا عَلَى الْغِيَرِ) ما يعترف بالإنسان أقوله ترى على فلان خمسة آلاف، هذا ليس اعترافا، هذا دعوى أن على فلان كذا، أو شهادة، فإذا ما نحن بصده هو الاعتراف والإقرار، ولذا لو قلت: أنا وفلان أخذت من زيد عشرة آلاف، يصح إقراري على نفسي، ولا يصح إقراري على صاحبي، ولو كنا أخذناها سويا، ولأجل ذلك قال(لَا عَلَى الْغِيَرِ)، إلا ثلاثة: الوكيل، إذا كان وكيلا في الإقرار، أو الولي: ولي اليتيم والسفيه والمجنون، أو وارث: كأن يقر على مورثه إذا كان قد مات، فله أن يكون لأنه لا مصير إلا ذاك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ مِنْ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا لِوَارِثٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِجَازَةٍ)}.
(وَيَصِحُّ مِنْ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ) مع أنه متهم، لو أقر لفلان بخمسة آلاف قد يكون أراد الإضرار بورثته، أو الإحسان إليه، أو نحو ذلك، ولكن الأصل أنه يصح ذلك.
{(وَلَوْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ أَجْنَبِيًّا وَيَصِحُّ لِأَجْنَبِيٍّ وَلَوْ صَارَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَارِثًا)}.
هذه مسألة مهمة، ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ومرت بنا في الوصية، والمؤلف هنا قال: إنه يعتبر وقت الإقرار لا وقت الوفاة في حاله، أن يكون وارثا أو أن يكون غير وارث، مع أنهم ذكروا هناك أنه لا بد أن محل الاعتبار في حال الموت الذي هو وقت ثبوت الوصية وما يتعلق بها.
{قال -رحمه الله-: (وَإِعْطَاءٍ كَإِقْرَارٍ)}.
نعم لو أعطاه خمسة آلاف، يقول إنها كدين أو كذا، فهذا كإقرار.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَإِنْ أَقَرَّتْ أَوْ وَلِيُّهَا بِنِكَاحٍ لَمْ يَدَّعِهِ اثْنَانِ قُبِلَ. وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ صَبِيٍّ لَهُ عَشَرٌ أَنَّهُ بَلَغَ بِاحْتِلَامٍ)}.
(وَإِنْ أَقَرَّتْ أَوْ وَلِيُّهَا بِنِكَاحٍ)، لأنها ادعت بحق عليها، فيقبل إقرارها، ولكن بشرط أن لا يكون فيه تنازع، فإذا قالت: أنا زوجة لفلان، فهي أثبتت على نفسها حقوق لفلان، ولكن إذا كان فلان وفلان فهذا يُفضي إلى أنها تفوت حق الآخر، فلا يقبل منها في مثل هذا الإقرار لأنه يفوت ما للآخر من حق.
ولكن إذا كان لجهة واحدة وليس فيها اختلاف أو تنازع فيقبل إقرارها.
قال: (وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ صَبِيٍّ لَهُ عَشَرٌ أَنَّهُ بَلَغَ بِاحْتِلَامٍ) الاحتلام لا يعرف إلا من جهة الإنسان، لأنه شيء خفي يقع في حال نومه، يصبح عليه أو نحو ذلك، ولكن إذا كان أقر أنه بلغ خمسة عشر، فهذا يعرفه والده، ويعرف إخوانه، ويعرفه من حوله.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَقَالَ: "نَعَمْ" أَوْ "بَلَى" وَنَحْوَهُمَا أَوِ "اتَّزِنْهُ" أَوْ"خُذْ" فَقَدْ أَقَرَّ)}.
إذا قال نعم أو بلى، فالجواب معاد في هذا، فكأنه قال: نعم أخذت خمسة آلاف، بلى أخذت منه هذه السيارة، وهكذا.
(أَوِ "اتَّزِنْهُ") يعني: خذ حقك، عد فلوسك أو نحوها، فكأنه أقر بذلك، فهو كإقرار ولا إشكال.
{(أَوِ "اتَّزِنْهُ" أَوْ"خُذْ")}.
يعني ليس فيها ضمير يعود إلى ما تقدم، فإذا كان فيها ضمير قال: نعم، بلى، خذه، اتزنه، واتزنه وخذه فيها ضمير يعود إلى محل الإقرار، وأما إذا قال: خذ أو اتزن قد يكون راجعا إلى هذا، وقد يكون راجعا إلى غيره، وبناء على ذلك لا يكون إقرارا.
{أحسن الله إليكم.
وقال- رحمه الله-: (وَلَا يَضُرُّ الْإِنْشَاءُ فِيهِ)}.
يعني: قول إن شاء الله هنا، وان كانت ليست عبارة معتادة في استعمالها بهذه الطريقة؛ لأن الآية إن شاء الله بها التحقيق ولا يراد بها التعليق.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَلَهُ عَلِيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي، أَوْ ثَمَنُ خَمْرٍ وَنَحْوِهِ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ، وَلَهُ أَوْ كَانَ عَلِيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ أَوْ بَرِئْتُ مِنْهُ فَقَوْلُهُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ عَزَاهُ لِسَبَبٍ فَلَا)}.
طبعا هذه المسائل فيها بعض الإشكال، ولكن نحن سننبه إلى ما ذكر المؤلف، لأن الوقت ما بقي معنا إلا دقائق يسيرة، ونريد أن نصل إلى ما وصل إليه المؤلف من ختام هذا الكتاب.
(وَلَهُ عَلِيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي)، فهل أول كلامه ثابت فيمنع ما ينفيه في آخره، أو أن آخره متصل بأوله فيعتبر فيه كلام، والمؤلف -رحمه الله تعالى- قال: إن مثل هذه إذا قال له علي ألف لا يلزمني أو خمر ونحوه يلزمه الألف، يعني: كأن الإقرار الأول لا ينفيه ما يدفعه في الآخر، فلأجل ذلك قال بثبوت ذلك، وهذه مسألة فيها كلام، أو في بعض تفاصيل ألفاظها
ومثل ذلك إذا ادعى أنه من أصل شيء لا يثبت شرعا، كأن يكون ثمن خمر أو نحوه، أنت ثبتت عليك ألف، ثم ادعيت أنها من خمر، فهل نصدقك في أنها من خمر أو لا نصدقه؟ هذا شيء آخر، فهذا مأخذ كلام الفقهاء- رحمهم الله-.
(وَلَهُ أَوْ كَانَ عَلِيَّ أَلْفٌ قَضَيْتُهُ أَوْ بَرِئْتُ مِنْهُ) هو الآن اعترف بالألف، ثم ادعى القضاء أو البراءة، فمثل ذلك لهم كلام هل هذا؟ فالمؤلف- رحمه الله تعالى- يقول: على إنها يعتبر قوله، مع أن هذه المسألة وتلك المسألة التي قبلها، متوافقة، والأصل طردها، ولكن لهم في هذا كلام طويل، الآن لا يسعنا إلا أن نشير إلى أن لهم مأخذان في التفريق بينهما، ويمكن أن يكون محل تفصيل ذلك وقت آخر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَنْكَرَ سَبَبَ الْحَقِّ، ثُمَّ ادَّعَى الدَّفْعَ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يُقْبَلْ)}.
إذا قال: لا أنا ما أخذت منه، ولا استدنت لزواجي، ثم ادعى الدفع، فهو يكذب نفسه، فبناء على ذلك لا يقبل منه ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَقَرَّ بِقَبْضٍ أَوْ إِقْبَاضٍ أَوْ هِبَةٍ وَنَحْوِهِنَّ، ثُمَّ أَنْكَرَ وَلَمْ يَجْحَدْ إِقْرَارَهُ وَلَا بَيِّنَةَ، وَسَأَلَ أَحْلَافَ خَصْمِهِ لَزِمَهُ)}.
هذه مسألة كثيرة الوقوع، يعني أحيانا في مجريات التعاقدات يكتب أو يلتزم مثل الذي يكتب "سند قبض"، قبضت منك خمسة آلاف، يكتبها لك مكتب العقار، أو كذا وأنت ما بعد أعطيته، هذا مع من أقر بقبض أو أقبض، أحيانا يؤخر الدفع أو معطيات الدفع، فيأتي ويقول: أنا ما قبضت، طيب أنت كاتب، فيقول: صحيح أنا كتبت بس أنا ما أخذت، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ثُمَّ أَنْكَرَ وَلَمْ يَجْحَدْ إِقْرَارَهُ) يعني: أنا كاتب له، (وَلَا بَيِّنَةَ) يعني ما في بينة تثبت أنهم لما حصلوا ما كان معهم أحد، أنه أعطاه أو ما أعطاه، يحلف خصمه أنه ما استلم شيئا، لكثرة وقوع هذه المسألة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ بَاعَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَعْتَقَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ، وَيَغْرَمُهُ لِمُقَرٍّ لَهُ)}.
واحد باع عبده، ثم قال: أنا أعتقته أصلا. كأنك تريد أن تضر بهذا الذي اشتراه، فلا يقبل منه، أو وهبته أو نحو ذلك.
{(وَإِنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ مِلْكِي، ثُمَّ مَلَكْتُهُ بَعْدُ، قُبِلَ بِبَيِّنَةٍ مَا لَمْ يُكَذِّبْهَا بِنَحْوِ قَبَضْتُ ثَمَنَ مِلْكِي. وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ مُقِرٍّ إِلَّا فِي حَدٍّ لِلَّهِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلِيَّ شَيْءٌ، أَوْ كَذَا، أَوْ مَالٌ عَظِيمٌ وَنَحْوُهُ، وَأَبَى تَفْسِيرَهُ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ، وَيُقْبَلُ بِأَقَلِّ مَالٍ، وَبِكَلْبٍ مُبَاحٍ، لَا بِصَبِيَّةٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ قِشْرِ جَوْزَةٍ وَنَحْوِهِ)}.
يقول: لو ادعى لنا حين البيع لم يكن في ملكه كأن يكون في ملك والده ثم ملكته عاد علي بالإرث أو فيقولون: إنه يقبل ذلك منه ببينة، ولا يقبل رجوع مقر إلا في حد الله -جل وعلا-، فلو أقرَّ بخمسة آلاف ثم رجع لم يقبل منه، إلا في حدود الله كما تقدم معنا في الزنا وشرب الخمر.
وإن قال له عليَّ شيء مجمل، الأشياء الآن في إقرار الأشياء المجملة، أو كذا أو مال عظيم وأبى تفسيره حبس حتى يفسره لأنه لا يعلم إلا من جهته، ولا يمكن أن نحكم عليه بقليل أو بكثير.
ولو فسره بأقل شيء ينطبق عليه الاسم صح ذلك، لأنه ينطبق الاسم على القليل وعلى الكثير، لو قال مال عظيم ثم قال: هي مائة ريال نقول: صحيح، ما يمكن أن نقول: لا، لأنه لم يعرف إلا من جهته، ولا يعرف إلا من جهته، ولا نستطيع أن نثبت أكثر من ذلك.
(أو بكلب مباح) صح ذلك إذا كان كلب صيد، كلب ماشية، ونحوه.
(لَا بميتة أَوْ خَمْرٍ أَوْ قِشْرِ جَوْزَةٍ وَنَحْوِهِ) إذا قال: ما عليَّ خمر أو ميتة أو نحوه، لا يقبل ذلك منه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَهُ تَمْرٌ فِي جِرَابٍ أَوْ سِكِّينٌ فِي قِرَابٍ, أَوْ فَصٌّ فِي خَاتَمٍ, وَنَحْوُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْأَوَّلُ)}.
يعني هذه الأشياء التي هي أوعية، حين دخلت في الإقرار لم تدخل على أنها جزء من المقر به، بل على أنها وعاء للمقرر، فبناء على ذلك يقولون: لا يلزمه إلا القدر الذي أقر به وهو الفص أو السكين، أو التمر الذي في الجراب، وأما الجراب والقراب والخاتم فليست محلا للإقرار.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِقْرَارٌ بِشَجَرٍ لَيْسَ إِقْرَارًا بِأَرْضِهِ, وَبِأَمَةٍ لَيْسَ إِقْرَارًا بِحَمْلِهَا, وَبِبُسْتَانٍ يَشْمَلُ أَشْجَارَهُ)}.
من حيث الأصل أن هذه لها ارتباط ببعض، ولكن يمكن فصلها، فإذا قال: هذه الأشجار لأخي فلان، فليس يعني ذلك أنه اعتراف بأن الأرض لأخيه، بل له الشيء، ومثل ذلك لو اعترف بأمة، فإنه لا يعني ذلك أن حملها له، وهكذا، وأما البستان فاسم البستان من حيث اللغة يشمل الشجرة والأرض، وبناء على ذلك يدخل فيه، فيتعلق به الإقرار.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا صِحَّةَ الْعَقْدِ, وَالْآخَرُ فَسَادَهُ فَقَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ)}.
الأصل أن الأمور تقع على وجه صحيح لا على وجه فاسد، فمن ادعى وقوع أمر على الوجه الصحيح، هو الذي قوله يقدم، وهو الذي معتبر، فعليه أن يحلف على ذلك، ويقبل في مثل تلك الحال.
{قال -رحمه الله-: (وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
تَمَّتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ النَّافِعَةُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ, نَهَارَ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَأَلْفٍ بِقَلَمِ مُؤَلِّفِهَا مُحَمَّدِ الْبِلْبَانِيِّ الْخَزْرَجِيِّ الْحَنْبَلِيِّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ بِمَنِّهِ)
}.
نأتي في هذا إلى ختام هذا متن الموفق المبارك، وعسى الله -جل وعلا- أن يغفر لماتنه وكاتبه، ومقرره ومحرره، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته، ولعلك أن تلحظ أن هذا وقع منه في رابع وخمسين لألف من الهجرة، ولم يزل يعود عليه الطلاب تحريرا وتوضيحا وشرحا وقراءة وحفظا، فرحم الله كاتبه، وأجرى الله عمله، وأوصل إليه ثوابه، وبلغه أعلى درجات العلم ومنازله، وجعلنا وإياكم في حوض العلم، وميدانه، وأعلى بنا مقامه، ورفع بنا منارة، ورزقنا فيه الهدى والتوفيق والسداد، وجعلنا من المقتفين سنة خير العباد، محمد ، ما أحسن أن تفنى في ذلك الأوقات وتقطع الأيام، وينهي الإنسان حياته، وهو في العلم والهدى، في طلب سنة النبي المصطفى، وما أشد الأيام التي ضاعت بدون ما علم، وبدون ما هدى، والتي ذهبت سبهللة، ليست تأتي يوم القيامة إلا وبالا على المرء، واقترف فيها ما اقترف من الردى.
هذا نظم أهل العلم، وهذا ما كتبوه، وهذا ما سطروه، تطفلنا عليه، فذكرنا بعض توضيح لعبارة، أو شرح وتقريب لمسألة، على وجه فيه من الاختصار، وفيه من الضعف، وفيه من التقصير، والله يتولانا بعفوه ومغفرته.
ولولا أنَّ ابتلينا بذلك لما كنا أهلا له، وعسى الله أن يعفو عنا في الحالين، فيما تصدينا له، وفيما شرحناه، وفيما فات علينا من تقصير، أو ما فات علينا من توضيح، وما جرى منا من تقصير، أو عثرة أو غيرها.
وعسى الله -جل وعلا- أن يبلغكم أعلى المنازل وأرفعها، وأن يجعل هذه الجادة التي سلكتموها، والطريق الذي طلبتموه، أعظم ما تلقون به الأجر عند ربكم، وأتم ما يكون من البركة لكم في حياتكم، وأن يدفع عنكم كل سوء ومكروه، وأن يحمل عنكم كل هم وغم، وأن ييسر لنا ولكم كل أمر، وأن الخير والهدى والسداد، وأن يجزي كل من كان مُقيما لهذه الجادة، داعيًا إلى هذا الميدان، باذلا في ذلك وقته، وجهده وعمله، ومنفقًا في ذلك ماله، وأن يُقيم العلم على جادة صحيحة، وعلى سنة نبينا ، وأن يتولانا وإياكم برحمته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ على حسن شرحكم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن متابعتكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك