الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7546 33
الدرس الثاني

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائهِ بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياكم الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، أسأل الله أن يزيدكم من العلم والهدى.
{آمين، رضي الله عنكم وأرضاكم، شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند باب الإجارة}.
{قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: مَعْرِفَةُ مَنْفَعَةٍ وَإِبَاحَتُهَا، وَمَعْرِفَةُ أُجْرَةٍ إِلَّا أَجِيرًا وَظِئْرًا بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد؛ فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجري لي ولكم الخير، وأن يُيسر لنا ولكم الأمر، وأن يُتم علينا النعم، وأن يُسهل لنا الأرزاق، وأن يحفظنا من الحرام، وأن يُعيننا لِمَا فيه صلاح أمر الدنيا والآخرة، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي استهللنا مُقدمةً يسيرة، أو بيان أصل مشروعية الإجارة والحاجة إليها، وكنا توقفنا عند شروط الإجارة التي تتوقف عليها.
فقال المؤلف -رحمه الله-: (مَعْرِفَةُ مَنْفَعَةٍ)، فلابد للمؤجر أن يعرف المنفعة التي سينتفع بها المستأجر، فإذا كانت منفعةً محرمة، أو كانت منفعةً مجهولة، فإن ذلك لا يكون صحيحًا، لِما يكون فيه من الجهالة.
فعلى سبيل المثال: المنفعة تُعرَف بماذا؟ إمَّا بالعرف أو بالوصف، فيقول مثلًا: أنا أحتاجها لأن أجعل فيها هذه الآلات، فيقول: ما هذه الآلات؟ فيقول مثلًا: آلاتٌ مصنوعةٌ من البلاستيك، أو من كذا أو كذا؛ لأنها لو كانت مثلًا من الحديد الصلب فربما أثرت على بنائه، وربما أحدثت فيه شرخًا، فلابد أن يعرف ذلك، فإذا عُرفت المنفعة بوصفٍ نافٍ للجهالة حصل بذلك المقصود.
أو بالعرف: فإذا كان مثلًا قد أَجَّرَه لسكنى الدار، فسكنها هو وزوجه وولده فلا بأس في ذلك ولا غضاضة، لكن لو أنه جاء وسكن وكان من الأشخاص التي لا أسر لهم، فبدل أن يسكن في هذه الدار ثلاثة صار في كل غرفةٍ عشرة، فصارت هذه الدار فيها ثلاثون شخصاً أو أربعون! فهذا لا شك أنه خارجٌ عن العرف.
أو أخذ هذه الدار التي هي للسكنى فجعلها مصهرًا يُصهر فيه الحديد، ومعنى ذلك أنه سيكون فيه إحراق، وسيكون فيه دخان، وسيكون فيه إتلاف، وسيكون فيه روائح كريهة أو غير ذلك.
إذًا لابد أن تكون هذه المنفعة إمَّا معروفةً بالعرف أو بالوصف.
ولأجل هذا، إذا كان ذلك في حد الوصف المعروف لم يكن له أن يعترض.
وفي المقابل لو أنه جاء فاستأجرَ هذه الدار للسكنى، فلمَّا جاء وإذا معه ثلاثة من الولد، قال: لا أنا لا أُسْكِنُ أحدًا معه ولدٌ صغير أو معه ولد، يقول: ما دام أنك أتممت العقد فالعقد صحيح، والسكنى معروفة ولا يخلو أحدٌ من ولده، والأصل أن ذلك صحيحٌ، فليس لك أن تمتنع ولا أن تعترض، وله الحق فيما عاقد عليه، والانتفاع بالمنفعة التي اتفقتما عليها، فلا يكون له مَدخلٌ عليه وليس فيها إشكال.
قال: (وَإِبَاحَتُهَا)، يعني: أن تكون المنفعة مُباحةً لا محرمة، فمن استأجر دكانًا مثلًا ليبيع فيه مواد محرمة، كآلات لهوٍ، أو دخانٍ، أو خمرٍ، أو غير ذلك مما يحرم، فلا يجوز، ولا ينعقد هذا العقد؛ لأنه على عقدٍ محرم، فلابد من المنفعة.
لقائلٍ أن يقول: لماذا اشترطت إباحة النفع في الإجارة بينما لم تشترط في البيع، أي أن يكون ينتفع بها نفعًا مباحًا؟
نقول: في الإجارة العين لازالت لصاحبها وهو مسؤول عنها، ولأجل ذلك لَزِمَ أن ينظر في الإباحة، وأمَّا البيع فقد انتقلت العين، وللمشتري أن يتصرف بها جميع أنواع التصرفات، ولكن مع ذلك لم يترك الفقهاء هذا الباب، ولذا قالوا -وأنتم تذكرون هذا، حيث أتينا على دراسته من قبل-: إذا غلب على ظنه أنه يستعملها في محرم لم يجز.
قال المؤلف: (وَلَا بَيْعَ سِلَاحٍ فِي فِتْنَةً وَلَا عِنَبٍ لمَنْ يتَّخِذُه خمرًا)، فإذا غلب على ظنك أنه يتخذها لمنفعةٍ محرمة لم يجز البيع، ولكن ليس لك أن تسأله؛ لأن تمليك العين والمنفعة يُفضي أن يتصرف فيها سائر التصرفات، فلا يَحرم عليك إلا أن تعلم أنَّ منه تصرفٌ محرمٌ غالب على الظن، أو متحققٌ، أو منصوص عليه، فعند ذلك لا يجوز كما في الإجارة سواءً بسواء.
طبعًا (وَإِبَاحَتُهَا) لابد أن تكون هذه الإباحة إباحة مطلقة، يعني ما تكون الإباحة للضرورة أو عند الحاجة، كجلود الميتة التي لا تنتفع بها إلا في اليابسات أو غير ذلك، فيقولون هنا: لا تدخل في الإجارة، وكذلك أن تكون لمنفعةٍ مقصودة، وأمَّا إذا كانت منفعة غير مقصودة فعندهم أن ذلك لا يكون صحيحًا.
قال: (وَمَعْرِفَةُ أُجْرَةٍ)، معرفة الأجرة أَصْلٌ لئلا يكون بها تنازع، فإذا أَجَّرَه وأدخله الدار وقال اتفقنا، فقد يقول أحدهما: أنا كنت أظنها بخمسة، وهذا يقول أنا كنت أعتقد أنك ستدفع عشرة! فلمَ يكون هذا التنازع؟! ولأجل ذلك قطع الشارع، ولابد أن تكون الأجرة معلومةً وأن يتفقا عليها.
وجاء عند أحمد وغيره، أَنَّ النَّبِيَّ «نَهَى عَنْ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ حَتَّى يُبَيَّنَ لَهُ أَجْرُهُ» ، أو كما جاء في الأثر عن النبي .
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إِلَّا أَجِيرًا وَظِئْرًا بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا)، ما معنى الظئر؟ الظئر من اظَّأَرَتِ الناقة، ما معنى ذلك؟ يقولون: هي التي تعطف على ولد غيرها، ومن عجائب خلق الله -جلّ وعلا- في الناقة، أنَّ لبنها لا يكون في ثديها، بل يكون في باطنها، فإذا قَرب منها ولدها وأحست به؛ درّت اللبن وعطفت حتى نزل إلى ثديها، فاستطاع أن يلتقم الثدي، وإلا فلا، ولذلك حتى الذين يريدون أن يحلبوها لهم، يأتوا ويقربوا ولدها؛ حتى إذا قَرب الولد أبعدوه وأخذوا ما أرادوا من حليبها.
ولَمَّا قالوا: "اظَّأَرَتِ الناقة" كانت بعض الإبل لطيبها أو ليونتها تعطف على غيرها، والظئر كذلك هي المرأة التي تسقي ولد غيرها، فيقولون: إنَّ الظئر فيما مضى كانت ترضع الغير.
فعندنا هنا أنه في كثير من الأحوال على طعامهما، هل هذا الطعام معلوم؟ لا، فيقولون: إن ذلك جائزٌ؛ لأنَّ الله -جلّ وعلا- قال: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق:6].
وقد جاء عن ابن عمر، وعن أبي بكر، وابن عباس، وعن غير واحدٍ من أصحاب النبي أنهم أجازوا أن تُستأجر المرأة للرضاعة بطعامها وكسوتها، وبناءً على ذلك قالوا: هذا صحيحٌ، مع أن الطعام أو الكسوة مما يحصل فيه تفاوت، فيكون فيه نوع جهالة، لكن لمجيء ذلك في الآثار، ولكون ذلك يُحتاج إليه؛ جاز ذلك، ومثل هذا أجير في نخل، فلاح، وغيره، إذا كان على ملء بطنه جاز ذلك.
وهذا كان موجودًا حتى عندنا، فنحن نعيش اليوم في نعم كثيرة، وكان آباؤنا -ليس أجدادنا- أي الآباء الأقربين، كانوا في ضيقٍ وشدةٍ من الحال، الله بها عليم، حتى إنَّ مَن كَبُرَ من الآباء، كانوا يفلحون من الصباح إلى المساء بملء بطنٍ فقط، لا يَنقل معه شيء، ولا يحمل معه طعامًا إلى أهل، ولا غير ذلك، فقط ليضمن ملء بطنه في ذلك النهار، والله المستعان.
ماذا إذا حصل الخلاف؟ يعني لَمَّا جيء بالطعام، قال: ليس هذا هو الطعام، أنا أريد أرفع الطعام وأحسنه، فيقولون: إنَّ مَردَّ ذلك إلى العُرف، فالعرف أن ما يكون لمثلهم من الطعام الذي يحصل به سَدَّ جوعتهم وملء بطونهم، وهو من المعتاد لأمثالهم، فإنه يكون كذلك وإلا فلا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَعْرِفَةُ أُجْرَةٍ إِلَّا أَجِيرًا وَظِئْرًا بِطَعَامِهِمَا وَكِسْوَتِهِمَا، وَإِنْ دَخَلَ حَمَّامًا، أَوْ سَفِينَةً، أَوْ أَعْطَى ثَوْبَهُ خَيَّاطًا وَنَحْوَه؛ صَحَّ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلٍ)}.
يعني جرت العادة في بعض الأعمال أنه لا يكون فيها اتفاق على الأجرة، فمثّل المؤلف -رحمه الله- بأمثلةٍ سائدةٍ في ذلك العصر، يأتي إلى الحمام -وهو مكان المغتسل، خاصة في الأماكن الباردة لا ينفكون من الحاجة إلى ذلك- فيدخل ثم إذا انتهى قال: كم أجرتك؟ فيعطيه الأجرة.
أو يركب السفينة حتى إذا وصل إلى ما يحب أن يصل إليه سأله عن الأجرة، فأعطاه.
أو أعطاه ثوبه ليخيطه أو ليصلحه أو نحو ذلك.
فيقولون هنا: يصح وله أجرة المثل، فهما إما أن يتفقا، فإذا قال: الأجرة لك كذا، فالحق لهما لا يعدوه، ولكن لو حصل بينهما خلافٌ، فهذا قال أريد عشرة، قال ليس لك إلا خمسة، فنقول: ما أجرة المثل في مثل هذا، خاصة أن مثل هذه الأعمال متكررة وسائدة كثيرة، فبناءً على ذلك ينظر إلى أجرة المثل فيعطى مثلها، ولا يكون في ذلك إشكالٌ.
لو أنَّ شخصًا وقف لك في الطريق فحملك، وأنت لا تدري أهو محسنٌ أو طالبٌ للأجرة؟ فلا شك أنه إذا كانت سيارته سيارة أجرة، فلا شك أن له الأجرة حتى ولو لم يقل بكم، ولكن إذ لم تكن السيارة سيارة أجرة -وهذا بغض النظر عن الناحية النظامية- نحن نقول: لو طلب أجرةً هل له أو ليس له؟
بعض أهل العلم يقول: إذا كان مثله يتصدى لذلك، يعني: كان مثلًا نجارًا ومعه آلة النجارة ونحوها، فهذا كأنه اتفاقُ، ولكن إذا لم يكن فيكون على سبيل التبرع، هذا هو الأصل إلا أن يشاء.
فبعضهم يقول: إذا كان له عادةٌ بالعمل، فذلك كافٍ أو عادة ٌبأخذ الأجرة، وهو ممن يتصدى لذلك.
وبعضهم يقول: الأمر أوسع من هذا، فيكون له أجرة مادام أن عادته أن يأخذ أجرةً على مثل ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَهِيَ ضَرْبَانِ: إِجَارَةُ عَيْنٍ: وَشُرِطَ مَعْرِفَتُهَا، وَقُدْرَةٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا، وَعَقْدٌ فِي غَيْرِ ظِئْرٍ عَلَى نَفْعِهَا دُونَ أَجْزَائِهَا، وَاشْتِمَالُهَا عَلَى اَلنَّفْعِ، وَكَوْنُهَا لِمُؤَجِّرٍ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا)}.
قال: (وَهِيَ ضَرْبَانِ: إِجَارَةُ عَيْنٍ: وَشُرِطَ مَعْرِفَتُهَا)، إذًا هذه الإجارة إمَّا أن تكون إجارة على عملٍ في الذمة أو إجارةٌ على عين، فبدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- في إجارة العين، العين مِثل: سيارة، دابة، بيت، دكان؛ هذه على عين.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هذه لها شروط، فَشَرَعَ المؤلف في ذكر شروطها، فيقول: لابد من معرفتها بالرؤية، فلابد أن يُعرف هذه الدار أين هي؟ فناؤها الذي في قبالة بابها، كم فيها من المنافع، وأماكن الطبخ، وغير ذلك من الأشياء. أي لابد برؤية، أو صفةٍ تكفي، فإذا كانت الصفة كافية فيكون ذلك نافعًا.
هذا الباب فيه تشعبات كثيرة، ولكن نحاول نشير إلى بعضها، يعني الآن عندنا كثير من الناس يستأجرون عن طريق بعض المواقع -لن نسمي موقعًا بعينه- ولكن مثل: الفنادق والشقاق والسيارات وكثير من الأمور تتم عن طريق هذه المواقع، هل هي إجارةٌ صحيحة أو غير صحيحة؟
طبعًا عندنا الصور، لكن في كثير من الأحوال لا تكون الصورة للعين التي ستأخذها أنت، أي: للغرفة مثلًا، الذي أنت وقع عليه العقد، فهم يجملون ويأتون أحسن ما عندهم مثلًا من الغرف، يأتون ببعض المرافق العامة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هي التي ستؤجر.
لكن هل التصنيف الفندقي مثلًا أو بعض الصفات المعتبرة كافيةٌ في هذا أو ليست بكافية؟
طبعًا لو قلنا: إنها غير كافيةٍ؛ لأفضى إلى إشكالات كثيرةٍ جدًا، ولكن ينبغي التحرز في ذلك والتحقق، فعلى من يصدرون هذه التطبيقات أو كذا أن يستحضر أنها إجارة، وأنه لابد أن يكون المستأجر على علم بهذه العين، ووصفٍ كامل، وهذا يحصل كثيرًا خاصة مع -مثل ما يقولون- احترافية الأعمال ونحوها، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك حاصلًا في كل ما يتعلق بهذه الأمور.
شراء تذاكر الطيران هذا استئجار، أحيانًا تستأجر ثم تكون في الدرجة الأولى، أو الدرجة الثانية، أو الثالثة السياحية، أو الهيئة الاقتصادية، ثم تجئ وتجد الأمور على خلاف، إما الطائرة صغيرة، فالمركب الذي يكون للدرجة العالية أو درجة رجال الأعمال أو نحوها مثل الاقتصادية، وبالتالي يكون في ذلك غبنٌ، ولم يكن فيه توضيحٌ.
إذن هذا فيه شيءٌ من الإشكالات، ولابد أن يكون فيه علمٌ ووضوح لذلك، خاصةً إذا بُيّن المعقود عليه.
جاء راكب الطيارة ولم يجد فيها أكل، لم توزع هذه الوجبات، أو وزعت وجبات ليست بذاك، ننظر إلى العقد، هل كانت الوجبات مضمنة في الأجرة مضمنة، أو هي بذلٌ وزيادة من المؤجر وإباحةٌ منه، فكل هذه تختلف.
لكن الظاهر ليس كذلك، ولذلك لو كان فيها نقصٌ بعض هذه الوجبات أو سوء أو نحوه، اشتكى وكان لشكايته اعتبار ونحو ذلك.
إذًا مادام أنها جزءٌ من المعقود عليه فلابد فيها من التوضيح والبيان على سبيل الإجمال، أو على سبيل التفصيل بما تنتفي معه الجهالة.
إذًا معرفة العين هو من الأمور المهمة ويحصل فيه إشكالات.
قال: (وَقُدْرَةٌ عَلَى تَسْلِيمِهَا)، أيضًا لابد أن تكون هذه العين مقدور على تسليمها، فعلى سبيل المثال: لو أَجَّرَهُ سيارةً وهذه السيارة لم تزل بيد مستأجرٍ سابق، هذا يُفضي إلى أن هذه الإجارة إجارةٌ قد انتفى شرطٌ من شروط تأجير العين، وهو عدم القدرة على تسليمها.
(وَعَقْدٌ فِي غَيْرِ ظِئْرٍ عَلَى نَفْعِهَا دُونَ أَجْزَائِهَا)، العقد أيضًا لابد أن يكون على النفع لا على الأجزاء؛ لأنه لو كان على الأجزاء فإنه يكون بيعًا، لو أستأجر منك فطيرة أو شطيرةً ليأكلها ذهبت، فإذًا حقيقتها أنها أشياء تتلف، وبناءً على ذلك تكون بيعًا.
يقولون: إلا الظئر، فإنه عقدٌ على الاستئجار، ومع أنه شربٌ للبن وإتلافٌ له، لكنهم أدخلوها في دائرة ما يصح وإن كان فيه نوع إتلاف.
بعض أهل العلم قالوا أن هذا يصح وهذا العقد، لكن كونه يوصف إجارةً أو غير ذلك لا يُغير من الحقيقة شيئًا، وهذا على طريقة شيخ الإسلام كما في القواعد النورانية، وأنه قال: إن العبرة في العقود بالمعاني لا بالمباني أو بالحدود ونحوها؛ مادام أن الحقيقة واضحة وما يراد من العقد قد استبان لكل واحدٍ منهما، فالاختلاف في التسمية أو التفاوتات في الوصف لا تُؤثر على تحقيق الحقيقة والوصول إليها.
{قال -رحمه الله-: (وَاشْتِمَالُهَا عَلَى اَلنَّفْعِ)}.
إذًا لابد أن تكون هذه العين مُشتملةً على النفع، ولا يُحال بينها وبين النفع إما في الحقيقة أو في الحال، فلو كان استأجر مثلًا دارًا ليسكنها ولكنها غير مُهيئةٍ للسكنى، لكونها مخربةٌ أبوابها، والعرف أنه لا يُسكن في دارٍ لا أبواب لها، فيقول: أنا وصفت لك، فهي دار، وفيها خمس غرف، وفيها كذا وكذا، ولكنها دارٌ بلا أبواب! أو ليس فيها كهرباء! هذا لا يمكن، والعرف جارٍ بأنه لا يمكن استئجار دار لا كهرباء فيها، وبناءً على ذلك نقول: هذه غير مُشتملةٍ على النفع.
لو كانت سيارةً خربة لا يتحرك محركها، فما الفائدة من أن يستأجرها؟
إذًا لا بد أن تكون مشتملةً على النفع وإلا لم يحصل المقصود من ذلك، لو كانت أرضٌ للزراعة مثلًا ولكنها سبغة لا تنبت، فإذًا لا يمكن الانتفاع بها.
أو قالوا: تعذر نفعها، يعني نقول مثلًا: شخص استأجر محطةً للوقود لكي يشغلها، فتأتي السيارات ويعبئ الوقود ونحوه، ثم أغلق هذا الشهر، فهذا أفضى إلى تعذر النفع، وبناءً على ذلك ينفسخ العقد في مثل هذه الحال؛ لذهاب شرطٍ من شروط الاستفادة من العين، وهو اشتمالها على النفع طيلة فترة العقد.
وكذلك الظئر لم يدر لبنها، ما الفائدة منها؟ وهكذا.
{ثم قال: (وَكَوْنُهَا لِمُؤَجِّرٍ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا)}.
إذًا لابد أن يكون مالكًا أو مأذونًا له فيه، مثل: من كان واليًا على مال يتيم أو نحو ذلك، أو وكله، أو أذن له في الانتفاع منها، كأن أعاره دارًا ليؤجرها وينتفع منها، المهم أنه مأذون له في ذلك، فكيفما كان سواء كان مالكًا للعين وهذا هو الأصل، أو كان مالكًا للمنفعة بإعارة أو غيرها.
ولذلك بعضهم يقول: المأذون له فيه قد يشمل ذلك كله، فلا يكون على هذه الجملة غضاضة، وإلا ليس بالضرورة أن يتحقق أنه مالك للعين، ليس هذا هو المقصود، المقصود أنه يتأتى منه بذل هذه المنفعة للمستأجرِ وقت هذا العقد، فإذا تأتى له كأن يكون مثلًا مالك للواقف، أو كان مأذونًا له بإعارة، أو موهوبًا لهذه المنفعة لمدة سنةٍ أو سنتين أو نحو ذلك، فيكون له الحق في تأجيرها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِجَارَةُ الْعَيْنِ قِسْمَانِ: إِلَى أَمَد مَعْلُومٍ يَغْلِبُ عَلَى اَلظَّنِّ بَقَاؤُهَا فِيهِ)}.
(وَإِجَارَةُ الْعَيْنِ قِسْمَانِ)، إذًا لا يزال الحديث في القسم الأول وهو إجارة العين، (إِلَى أَمَد مَعْلُومٍ يَغْلِبُ عَلَى اَلظَّنِّ بَقَاؤُهَا فِيهِ) ولو طالت، وبناءً على ذلك لو أنه أَجَّرَ السيارة لمدة عشر سنوات، الغالب أنَّ السيارة تبقى هذه المدة ولو طالت، وبناءً على ذلك يصح هذا العقد ويكون صحيحًا، ويكون لازمًا ولا غضاضة في مثل تلك الحال على هذا الأمر.
الثاني أنه كما قال المؤلف: أن يكون الأمد معلومًا، أما لو كان مجهولًا فلا؛ لأنه يفضي إلى حصول الغرر على واحدٍ منهما، وحصول المنازعة بينهما، فإذًا لابد أن يكون الأمد معلومًا، وهذا أصل في كل المعاملات، وذكر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما هو في مجموع الفتاوى في أول المعاملات خمسة أصول من بينها انتفاء الجهالة، وانتفاء الغرر، والربا، والقمار... ونحو ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (الثاني: لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ، كَإِجَارَةِ دَابَّةٍ لِرُكُوبٍ أَوْ حَمْلٍ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّن)}.
قال: (الثاني: لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ)، يعني إما أن يتعلق إجارة العين بوقت أو يتعلق بعمل، فيقول: (الثاني: لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ) فإذا أجره هذه الدار مثلًا كي يُنهي فيها كتابة ورقة، فهي لعمل معلوم، ومتى ما انتهى من كتابة الورقة انتهت الإجارة.
(إِجَارَةِ دَابَّةٍ) أي لكي يذهب بها إلى القصيم مثلا، أو أن يسافر بها إلى مكة، أو نحو ذلك، فهذا عمل معلوم.
(أَوْ حَمْلٍ إِلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّن) مثل ما قلنا من قبل، أو سفينة لتحمل له أثاثًا أو متاعًا إلى الضفة الأخرى أو نحو ذلك.
إذًا إما على عمل، وإما أن يكون ذلك على وقتٍ معين.
{ثم قال -رحمه الله-: (الضَّرْبُ اَلثَّانِي: عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مَوْصُوفٍ، فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهَا بِعَمَلٍ أَوْ مُدَّةٍ كَبِنَاءِ دَارٍ وَخِيَاطَةٍ، وَشُرِطَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَضَبْطُه ُ وَكَوْنُ أَجِيرٍ فِيهَا آدَمِيًّا جَائِزَ التَّصَرُّفِ، وَكَوْنُ عَمَلٍ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَة)}.
(الضَّرْبُ اَلثَّانِي: عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّة)، هذا الضرب الثاني مقابل الأول وهو إجارة العين، فهنا (عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ)، فمثلًا لو عاقده على أن يبني له حائطًا أو جدارًا، هل هذا العمل موجود؟
لا، بل هو في الذمة، أنا أستطيع أن أُحضر لك هذا الطوب، وخليطها الذي تتماسك به ونحو ذلك، وأبنيها لك، إذًا هذا عقدٌ على منفعةٍ في الذمة.
(فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ)، أي أنه معلوم، ومبين، وليس فيه جهالة، وينتفي معه الإشكال.
إذًا هذا العقد كما ذكر المؤلف -رحمه الله- على مَنفعةٍ في الذمة ويقابل العقد على العين المعينة.
قال: (عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ أَوْ مَوْصُوفٍ)، كما لو قال له: تخيط هذا الصوف لتجعل منه كساءً، أو لتجعل منه مَحملًا، أو نحو ذلك.
(أَوْ مَوْصُوفٍ) في الذمة؛ هذا العمل الموصوف، مثل أن يقول له: تبني دارًا مكونةً من أربع غرف، وفيها كذا وكذا، أو أن تنقل هذا الطوب وهو حجمه كذا، وثِقله كذا، والمسافة من كذا إلى كذا؛ فهي موضحةٌ مبينة، فيكون ذلك صحيحًا، وتنعقد الإجارة، ويلزم كل واحدٍ منهما الوفاء بما عليه.
قال: (فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهَا بِعَمَلٍ أَوْ مُدَّةٍ كَبِنَاءِ دَارٍ وَخِيَاطَةٍ)، يعني يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا كان على منفعة في الذمة فيشترط إمَّا تقديرها بالعمل، فيقول: تبني لي هذا الجدار بارتفاع مترين، وطول عشرين متر، وسمك خمسة عشر سنتيمتر مثلًا إلى غير ذلك، وفيه كذا وكذا وكذا، أو تبني لي مدة أسبوع، فأخذه بالمدة، فما أنجز في هذا الأسبوع أنجز، وما لا ينتهي بانتهاء ذلك.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذًا هذا هو الذي يكون عليه الأصل.
هل يمكن أن يكون بهما جميعًا: بعمل ومدة؟
هذا هو الذي عليه عمل الناس، لكنه عند الفقهاء فيه إشكالٌ كبير، وعدمه فيه إشكالٌ أكبر، كيف؟ يعني مثلًا لو قال تبني لي هذا الحائط في عشرة أيام، فبنى الحائط في ستة أيام، فجاء ليذهب قال: لا، بقي لك أربعة أيام، فعليك أن تبني لي هذه الغرفة الأخرى! لأننا اتفقنا على عشرة أيام، وهذا يقول: نعم ولكني أنجزت، وزدت من العمل وأتعبت نفسي لأنتهي منها.
إذًا كونهما داخلان في بعض يفضي إلى الإشكال.
أو العكس: لو أنه قال: تبني لي هذا الحائط في عشرة أيام، فما بنى إلا نصفه وانتهت العشرة أيام، فقال: أنا انتهيت لأنَّ الأيام العشرة قد انتهت، فيقال له: لا، أنا اتفقت أن تبني الحائط، فيكون فيه إشكال.
فيقولون: إذًا إمَّا أن يتوجه الشرط إلى مدة، أو أن يتوجه إلى عمل، ولا يكونا جميعًا، ولكن هذا فيه إشكالٌ أكبر كما قلنا، وهو في الواقع لو قال له: تبني لي هذه الدار بخمسين ألف، فبدأ في البناء، وعادة الناس في دورهم أن يبقوا مثلًا عاماً أو ستة أشهر أو أكثر أو أقل، فهذا بدأ في البناء، وانتهت سنة، وسنتين، وثلاث، وأربع، وخمس سنوات وهو لم ينته بعد.
{هذا كله بناء!}.
كله بناء، فهذا يتضرر، لو أنه اشترط مدةً لأنصفه وأنجزه، هذا يقول: أنا ما طالبتك الآن بالأجرة، وإنما أخذت من الأجرة بقدر ما أنجزت فعليك أن تنتظر، وهذا كلما رأى عملًا أحسن أو أكسب له ذهب وتركه، فيفضي إلى إشكال.
لو وضعناه إلى مدة مُعينة وأعطاه، والعادة أن هذه المدة ينهي فيها البيت، فقال: أستأجرك مدة سنة للبناء ونحو ذلك وكذا وكذا، ثم بدأ يعطيه، انتهت السنة وهو لم يُنجز إلا نصف العمل، فتضرر هذا، قال: إنما أعطيتك هذه الأجرة على أن هذه الأجرة عادةً لبناء بيتٍ كامل، قال له صاحب العمل: أنا ما فرطت أنا أعمل من الصباح إلى المساء كسائر العاملين، ولكنه بطيءٌ في عمله، كسولُ في أدائه، فيحصل إشكال.
فلأجل ذلك: هل يمكن القول أن ما آل إليه عمل الناس اليوم صحيحٌ، وعلى أي شيءٍ يُحمل؟ لو قلنا: إن العقد متوجهٌ إلى العمل وإلى المدة، هذا فيه إشكالُ مثل ما تقدم، ولو تركناه موجهًا إلى عمل أو مدة؛ لحصل أيضًا الإشكال الذي ذكرناه، فما المخرج من ذلك؟
يمكن أن يقال: إن العمل مناط الأجرة، مثل: بناء البيت، بناء الحائط، إصلاح هذا الجدول، ونحو ذلك، وتكون المدة شرطًا في ذلك كالشروط في البيع، وهو الذي يتأتى به عدم حصول التأخر، ونحو ذلك.
وبناءً على هذا إذا حقق له هذا العمل انتهى الأمر، وليس له أن يلزمه بعد ذلك، وإذا لم يُحققه في المدة؛ فإنه لا يستحق الأجرة، لكونه أضر بصاحب العمل، ونحو ذلك.
فيمكن أن يقال: مادام أنَّ الإجارة شبيهةٌ بالبيع من جهة أنها بيع منافع، والبيع يصح فيه شرطٌ كما مر بنا الشروط في البيع، فلا يبعد أن تصح الإجارة على هذه الصورة، ويكون الشرط فيها شرطًا في الإجارة، وليس جزءًا من العقد ولا محلًا للاتفاق، تحصيلًا للمنافع التي يحتاج إليها الناس في هذا اليوم، ومنعًا للضرر الذي يكون، ولئلا يكون فيه ازدواجٌ في أنَّ العقد في الإجارة إمَّا على مدة أو على عمل.
ولأنه لو قلنا الحقيقة بعدم ذلك؛ لأفضى إلى إشكالاتٍ كبيرة، وما يترتب على الناس في تأخير بعض أعمالهم أكثر بكثير من ارتفاع أجرةٍ، بل ربما تكلف ضعف ما كان عليه من بناء، بسبب هذا التأخر أو ذلك التصرف؛ لأنه لم يوجد في ذلك عليه تقييدٌ بوقت واعتبارٌ لحال.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهَا بِعَمَلٍ أَوْ مُدَّةٍ كَبِنَاءِ دَارٍ وَخِيَاطَةٍ، وَشُرِطَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَضَبْطُه وَكَوْنُ أَجِيرٍ فِيهَا آدَمِيًّا جَائِزَ التَّصَرُّفِ)}.
(فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُهَا بِعَمَلٍ أَوْ مُدَّةٍ كَبِنَاءِ دَارٍ وَخِيَاطَةٍ)، كما قلنا: إما عمل أو مدة وبينا ما يتعلق بها من توضيح.
قال: (وَشُرِطَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَضَبْطُه)، طبعًا هذا واضح، حيطان كثيرة، منها حائطٌ لا يكلف إلا ألف ريال، وحائط تبلغ تكلفته خمسين ألف، بحسب ما طُلب فيه من مواد، وما اشترط فيه من قوة ومتانة وتزويق وتجميل وغير ذلك، فإذًا هي مختلفةٌ فلابد أن يكون الضبط ليمنع الخلاف ولئلا يحصل بينهما نزاع.
قال: (وَكَوْنُ أَجِيرٍ فِيهَا آدَمِيًّا جَائِزَ التَّصَرُّفِ)، فلا يمكن أن يكون الأجير فيها غير آدمي؛ لأنها التزام، وذمته يتوجه إليها الانشغال بخلافهما سواها، فبناءً على ذلك لابد أن يكون جائز التصرف وهو الحر المكلف الرشيد، على ما مر بنا كثيرًا في المحجور عليه، وفي مواضيع مختلفة في الفصل الماضي.
لو كان غير آدمي لم يصح العقد؛ لأنه لا يمكن؛ حتى ولو اعتادت بعض الدواب أو البهائم، العقد لا يتوجه إليها، وإنما يتوجه إلى آدمي.
وأن يكون (جَائِزَ التَّصَرُّفِ)؛ فلو كان صغيرًا أو مجنون أو نحوه، فإنه لا يكون إلا ما يؤذن للصغير من التصرف فيه، كالأشياء التافهة أو نحوها، مما ذكر الفقهاء لهم تقييداتٍ فيه.
{لا يشترط في الإسلام أن يكون المتعاقد معه مسلمًا؟}.
لا، لا شك أنه يمكن استئجار الذمي، ويمكن استئجار غيرهم كما حصل في قصة النبي .
ثم قال -رحمه الله-: (وَكَوْنُ عَمَلٍ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَة)}.
هذه مسألةٌ عظيمة، مسألةٌ طويلة، مسألة ٌكبيرة، مسألةٌ يلحق الإنسان فيها من الضعف ما يلحقه.
أعمال القربة، وأعمال الطاعات، وأعمال البر والعبادات يجب على المرء فيها أن يخلص لله -جلّ وعلا-، والإخلاص هو أن يكون الشيء ناصحًا، بألا يكون فيه أي غَششٍ ولا دَخن، فلا يدخل عليه داخل لا من قريبٍ ولا من غيره، والعمل لا يكون مقبولًا لله -جلّ وعلا- إلا أن يكون قد تجرد فيه قلب المسلم من كل إرادةٍ من إرادات الدنيا والرغبة منها.
ولذلك جاء في الحديث أنَّ النبي قال: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى»، إنما بالحصر "ما نوى"، فمن نوى الله -جلّ وعلا- كان له أجره من الله، ومن نوى غيره كان له الهواء والبلاء، ولذلك قال: «فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ» قصدًا «فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ» ثوابًا، ومن لا فلا، «ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود:15-16]؛ والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًا، فلا شك أنَّ هذه الأعمال مما ينبغي أن يكون الإنسان مخلصًا فيها من كل وجه.
لكن السؤال: هل أخذ أجرةٍ على عملٍ من هذه الأعمال يناقض الإخلاص وما ينعقد عليه القلب من تحقيق القصد لله -جلّ وعلا- أو لا؟
أولًا: لا يختلف أحدٌ من أهل العلم على أنَّ العبادات المختصة التي لا يقوم بها الإنسان لنفسه، أنه لا يجوز فيها اتفاقًا أخذ أجرةٍ عليها ونحو ذلك؛ لأنَّ هذا يُعارض حقيقتها.
ولكن تأتي الأعمال الأخرى مثل: إمامة الناس، أو القضاء بينهم، أو تبيين العلم وتوضيحه، وهداية الناس إلى الحق، وتفسير القرآن، ورواية أحاديث السنة، ونحو ذلك مما هو من العبادات لله -جلّ وعلا- وفيه نفعٌ للناس أو تعلقٌ بالغير.
فمن أهل العلم من قال: هذه تنافي الإخلاص، فمن أخذ أجرةً عليها فقد فات إخلاصه، ولا يُستثنى من ذلك إلا ما استثناه الدليل، ودلّ عليه النص، وقد جاء في نحو ذلك أن النبي كما في حديث عثمان بن العاص: «واتَّخذ مؤذِّنًا لا يأخذُ علَى أذانِهِ أجرًا» ، وجاء في روايات كثيرة شيءٌ من الوعيد، ولكن في أسانيدها مقالٌ.
فمن هذا أخذ الحنابلة وسلكوا مسألة التحوط وقالوا: إن ذلك غير جائزٍ، وهو مذهب الحنفية، بينما ذهب بعض الفقهاء كالشافعية والمالكية إلى أن أخذ الأجرةِ في هذا لا يعارض الإخلاص.
{على تعليم العلم الشرعي}.
على تعليم العلم، وإمامة الناس، والقضاء، والأذان، وما في حكمه من الأعمال التي فيها تعبدٌ، وفيها تعلقٌ بحقوق الآخرين، وقالوا: إن النبي أذن في حديث أبي سعيد أن يأخذ على القراءة والرقية جُعلًا، «إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتابُ اللهِ» ، فقالوا: هذا جائز، وأخذه كونه جُعلًا أو إجارةً أو نحو ذلك جائزُ.
وجاءوا إلى ما في الجهاد من الترغيب فيه، وأخذ الغنيمة ونحو ذلك، ولكن قالوا: إنَّ هذا جاء به النص، وقالوا في حديث عثمان بن العاص والذي فيه: «واتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً»، يعني: أنه يمكن أن يكون، وأن الحالة حالة كمالٍ وتمام، لا حالة جواز وعدمه.
ولا يختلف أحدٌ من أهل العلم على أنَّ من تولى مثل تلك الأعمال ولم يأخذ شيئًا، فهذا هو التمام، وبراءة الذمّة والكمال من كل وجه.
بل حتى في الجهاد الذي أُذن فيه نصًا على الغنيمة، فقد جاء في الحديث أن النبي قال: كما عند مسلم «ما مِن غازِيَةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ فيُصِيبُونَ الغَنِيمَةَ، إلَّا تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أجْرِهِمْ مِنَ الآخِرَةِ، ويَبْقَى لهمُ الثُّلُثُ، وإنْ لَمْ يُصِيبُوا غَنِيمَةً، تَمَّ لهمْ أجْرُهُمْ» .
إذًا لا يختلف أحدٌ من أهل العلم على أنَّ التمام والكمال ألا يأخذ على ذلك أجرًا.
لكن هل يمكن أن نمنع منها؟
فظاهر كلام الحنابلة كما قلنا على سبيل التحوط، ولكن لَمَّا كثرت حاجات الناس، وقلّ من يتصدّى لمثل هذه الأعمال، والحاجة داعيةٌ إلى وجود من يقوم بإمامة الناس، وانتظام صلاتهم، وأذانهم، وهدايتهم إلى العلم، وبيان السنن، والحفاظ على ذلك، وقد لا يتأتى خاصةً في هذه الأزمنة المتأخرة من ينقطع لذلك بدون أن يكون له أجرةٌ، مع ضعف بيوت المال، وقيامها بما يجب من الجُعُل والرزق الذي يُرزق به أولئك المُتنسكون أو المُتعبّدون لله، والمتبرعون بمثل هذه الأعمال؛ فكان في ذلك تيسيرًا أو تخفيفًا أو تسهيلًا، خاصةً مع عموم الحاجة، وعموم البلوى بأن الناس لا يقدرون على الانفكاك من السعي في حاجاتهم والانقطاع لمثل هذه الأعمال، والتي لا تقوم إلا بما يعطونه تكسبًا.
فإن كان ذلك على سبيل الجُعل والرزق من بيت المال، فهذا لا إشكال فيه، وحتى الحنابلة كما يقول غير واحد من أهل العلم في شروح الأخصر وغيرها: لا يختلف أن يكون ذلك صحيحًا إذا كان رزقًا من بيت المال، ولكن إذا كان إجارةً فهذا هو مناط الخلاف.
ويمكن أن يعوزنا القول إلا أن ما منا أحدٌ إلا تلبس بمثل أن يتصدى لبعض الأعمال ويأخذ عليها أجرةً، فعسى الله أن يعفو عنا، وأن يجعل لنا معذرةً بين يدي لقاه، وألا يضيع أجرنا، وألا يجعلنا ممن ضاع نصيبه، وفات حظه في الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أن يدخل الإنسانُ بمثل هذه الأعمال، أن لا يكون له بها إلا كِسرة الخبز، ولقمة العيش في هذه الدنيا، ثم يَصلى تبعتها، ويلقى بلاءها يوم لقاء الله -جلّ وعلا-.
فإن أول من تُسعر بهم النار ثلاثة: «تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ»، فنخشى أن يكون ذلك داخلٌ في هذا المعنى. أي إذا قيل: إنه لا يجوز أخذ أجرة على مثل هذه الأعمال، ولكن بدٌ من التوسعة، والحال كما ذكرت، خاصةً وأن القول في ذلك له أصلٌ في حديث أبي سعيد، وقال به الشافعية والمالكية، وهو قولٌ عند الحنابلة، والله يتولانا بلطفه، ويعفو عنا في تقصيرنا وخللنا، والله المستعان.
وتلاشى فيما تأخر من الزمان، من طهرت قلوبهم حتى تجردت لله جلّ وعلا فاستوت عندهم حطام الدنيا ورغباتها وشهواتها، فلم يرفعوا لها رأسًا، ولم يلتفتوا لها قصدًا، ولم يعطوها في أنفسهم شيئاً، فكانوا في ذلك أخلص، وكانوا لله جلّ وعلا أتقى، وكانوا في عملهم أكمل، لكن ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت:35].
على كل حال هذا موضعٌ من المواضع الذي ذكر فيه الفقهاء ما يتعلق بأخذ الأجرة على أعمال القربة.
فقول المؤلف -رحمه الله-: (وَكَوْنُ عَمَلٍ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَة)، شرطٌ في صحة الإجارة وانعقادها على ما ذكره الفقهاء والحنابلة في المذهب عندهم المقرر، والله المستعان.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَعَلَى مُؤَجِّرٍ كُلُّ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ وَعُرْفٌ، كَزِمَامِ مَرْكُوبٍ وَشَدٍّ، وَرَفْعٍ وَحَطٍّ)}.
طبعًا كما قلنا: من أخذ الرزق من بيت المال هذا تتابعت عليه الأدلة، وأبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- قد وليا الخلافة وأخذا من بيت المال ما يتقويان به، وهذا لا يختلف فيه أحدٌ من أهل العلم، ولكن الكلام فيما آل إليه أمر الناس من أن يكون ذلك إجارةً.
ثم يقول المؤلف: (وَعَلَى مُؤَجِّر) هذا انتقالٌ فيما يترتب على عقد الإجارة.
قال: (كُلُّ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ وَعُرْفٌ، كَزِمَامِ مَرْكُوبٍ وَشَدٍّ، وَرَفْعٍ وَحَطٍّ) إذًا كل هذه باعتبار العرف فيها، هذه فيما ذَكروا فيما مضى، الآن باعتبار ما يختلف فيه الأمور باختلاف حاجاتها، يعني اختلفت حاجات الناس، اختلفت الأمور التي يتعاقدون عليها.
لو استأجر شخصٌ سيارة، فهل من لازم ذلك أن يكون فيها وقودها، أو يكون الوقود على مستأجرها؟
ظاهر كلامهم أنه يكون على المؤجر، ولذلك حتى قالوا في أن أجرة الدابة بطعامها أن ذلك ليس بصحيح؛ ولأن حقيقة استئجار السيارة لمنفعة المشي والانتقال ونحو ذلك، ولا تتأتى هذه المنفعة إلا بأن يكون فيها وقود.
فعلى كل حال: هو مشكلٌ جدًا، والواقع أن تعاطي الناس لجعل هذه الآلة بدون ما وقود، وأن الوقود على المنتفع بذلك، فهل يمكن أن يكون هذا العقد صحيحًا، يعني بدون أن يكون فيه وقود أم لا؟
لا شك أنه لو كان فيه وقود صح أنه من جهة المعنى لا يتأتى المنفعة التي هي الانتقال، ولا يشتري السيارة ليتزين بها، لكن لينتقل بها، لا يتأتى ذلك إلا بهذا الوقود، فكما لو أجر شخصٌ آخر دابةً ميتة لا يمكن أن يتأتى منها المنفعة.
فعلى كل حال هو مشكل فيما آلى إليه أمر الناس، لكن بدٌ من هذا، ولذلك لما قال علي في الأجير المشترك وسيأتينا، قال: لا يصلح أمر الناس إلا هذا، وجود هذه الآلة والتمكين منها وحبسها على صاحبها، قد يقال: إنَّ ذلك قدرٌ كافٍ، وهي ليست محل إفتاءٍ مني، وإنما هي تقريرٌ للبحث والنظر أنَّ ذلك كافٍ في تعلق العقد به، وأنَّ هذا الوقود مثل ما يُستهلك من ماءٍ أو غيره في الدار يكون على صاحب الدار ونحوها.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم}.
طيب ما يمنع، أحيانًا بعض إذا توقف عند جملة مكملة يكون ذلك أدعى لارتباط الذهن واستدعاء ما مر وهذا أنفع لنا، نترككم في حفظ الله ورعايته، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{أحسن الله إليكم شيخنا ونفع الله بكم، الشكر موصول لكم مشاهدي الكرام على طيب المتابعة، نلتقي بكم في الحلقات القادمة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك