الدرس الخامس والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7534 33
الدرس الخامس والعشرون

أخصر المختصرات 4

{الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية (هداة الخيرية) لتعليم العلوم الشرعية.
لا زلنا وإياكم -أبها الأحبة الكرام- في شرح كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، من طلاب العلم والطالبات.
{الله يحفظكم شيخنا، نستأذنكم في إكمال القراءة}.
نعم استعن بالله تعالى.
{قال- رحمه الله-: (وَلِلْقَصَاصِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
لا يزال الحديث موصولا فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-، في كتاب الجنايات، وقد شرع في تفاصيل الكلام على القصاص، ولن تجدوا -أيها الطلاب- في مثل أبوب القصاص ما كنتم تجدونه من بيونة العلم وقبوله ونتائجه، فما في هذا الباب إلا قتل وجناية واعتداء، وما يقابلها، وما فيها من كفارة ونحو ذلك، ولكن -لا شك- أن العلم كله مما أُمِرَ الطالب بتعلمه، ويحصل به الخير، ويستفيد منه.
وإن كانت هذه الأبواب، من جهة العناية بها والحاجة إليها، إنما يُعنى بذلك من يلون هذه الأمور كالقضاة وغيرهم، ولكن لا ينفك طالب العلم الذي يجلس للتعليم، ويصدر عنه الناس ويتعلمون، من أن يكون عارفا بها عالما بتفاصيلها، وأن يكون الطالب الذي لا يحتاج إلى ذلك كثيرا، على أقل الأحوال يكون مُلمًا بمجامع المسائل. وهذا الكتاب كما قلنا: إنما هو مختصر، وما فيه إلا أمهات المسائل في كل باب.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَلِلْقَصَاصِ) والقصاص من قَصَّ الأثر، إذا تبعه، وذلك أنه يُفعل بالقاتل ما فُعِلَ بالمقتول، أو بالجاني ما فُعِلَ بالمجني عليه، إذا كانت تلك الجناية فيما دون النفس مما يدخلها القصاص، والاقتصاص من الجاني، فالله -جل وعلا- قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:179]، ولكن وإن قلنا: القصاص مشروع من حيث الأصل، ولكن لا بد من اكتمال الشروط التي تتعلق به، وعدم حصول ما يمكن أن يكون سببا للزيادة، أو سببا لعدم الاستحقاق، ولأجل ذلك ذكر المؤلف هذه الشروط الأربعة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلِلْقَصَاصِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: تَكْلِيفُ قَاتِلٍ، وَعِصْمَةُ مَقْتُولٍ)}.
إذا لا بد هنا أن يكون القاتل مكلفًا، فلو كان القاتل صغيرًا، أو لو كان القاتل مجنونا، فمثل هذا جنايته ليست ليس فيها تعمد؛ لأنه لا قصد له، حتى ولو وجدت معه آلة، حتى ولو أخذ المسدس وصوبه، لأنه لا يدري أنَّ هذا المسدس يفعل ما تفعله العصا أو أشد أو أقل أو غير ذلك، وبناء على هذا فتكليفه شرط لأنَّ يقام عليه القصاص. وأما إذا كان غير مكلف فلا.
وبناء على ذلك يقول الفقهاء: (تَكْلِيفُ قَاتِلٍ، وَعِصْمَةُ مَقْتُولٍ)، لا بد أن يكون المقتول معصوم الدم، وأمَّا إذا كان مباح الدم فلا، سواء على وجه الخصوص، كما لو كان استحق القصاص منه، وستأتي الإشارة إلى ذلك، أو كان ممن أُبيح دمه لكونه حربيًا، أو لغير ذلك من الأسباب، كما كان في عهد أنه أباح دماء أقوام بسبب ما فعلوه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعِصْمَةُ مَقْتُولٍ، وَمُكَافَأَتُهُ لِقَاتِلٍ بِدَيْنٍ وَحُرِّيَّةٍ)}.
(وَمُكَافَأَتُهُ)، المكافأة شرط في حصول القصاص، فلا يُقتل مسلم بكافر، ولا يُقتل حر بعبد، وهذا في قول عامة أهل العلم، ولهذا لا بد من المكافأة والتكافؤ حتى يستحق القصاص، ويدخل في الآية ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٩].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَدَمُ الْوِلَادَةِ)}.
ما معنى (وَعَدَمُ الْوِلَادَةِ)؟ يعني: ألا يكون القاتل والدًا للمقتول، فإذا كان القاتل والدًا للمقتول، فإنه مع كونه معتديًا، ومع كونه جانيًا، ومع ما يلحقه من الإثم، ومع ما يمكن أن يُعذر به، إلا أنه لا يُقتل بولده، لأنه لا يمكن أن يكون الولد الذي هو سبب لإيجاده، أن يكون هذا الولد سببا لانعدام والده، مهما كانت جنايته، ولذا جاء في الحديث: «وَلَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِالْوَلَد» ، سواء كان أبًا، أو جدًا، أو جد أبيه، أو نحوه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله- (وَلِاسْتِيفَائِهِ ثَلَاثَةٌ)}.
الضمير في (وَلِاسْتِيفَائِهِ) راجع إلى القصاص، وننتبه لأنّ شروط القصاص شيء، والاستيفاء شيء آخر، يعني: الشروط هي التي تُؤهل لتحصيل القصاص، ثم بعد ذلك ننتقل إلى الاستيفاء، والتوفية: يعني إما أن تكون الآن، أو تكون بعد شهر، أو تُؤجل إلى مدة محدودة، قريبة أو بعيدة، ولكن لا يمكن أن يكون استيفاء حتى تكتمل شروط القصاص، فهي القاعدة الأولى للاستيفاء.
الاستيفاء ملاحظة إلى الحال التي يكون المقتص منه فيها حتى يحصل القصاص على وجهه، ولا يكون في ذلك اعتداء، ويكون المستوفي ممن له الاستيفاء، على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-.
والاستيفاء إمَّا أن يكون من المجني عليه، إذا كانت الجناية فيما دون النفس، وإمَّا أن يكون من أولياء الدم، إذا كان ذلك في القتل وإزهاق الروح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (تَكْلِيفُ مُسْتَحِقٍّ لَهُ)}.
من استحق استيفاء القصاص لا بد أن يكون مكلفًا، فإذا كان مثلا المجني عليه الذي قطعت يده صغيرا، فلا يمكن أن يُطالب بالقصاص، ويستوفى من هذا الجاني حتى يبلغ، فينظر في رأيه وفي اختياره؛ لأنه قبل ذلك لا رأي له.
مثل ذلك لو كانت جناية على أبيهم وفيهم صغار أو معاتيه، فينتظر حتى يبلغ الصغير ويطلب الاستيفاء.
إذًا لا بد من (تَكْلِيفُ مُسْتَحِقٍّ لَهُ)، حتى ولو طال ذلك، ولو بقي زمنًا مديدًا، وستأتي الإشارة إلى ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَيْهِ)}.
أولياء الدم هم من يرثون الدم، وهم الورثة الذين يرثونه، فلا يدخل فيهم محجوب عن الميراث، فإذا اجتمعوا في المطالبة حصل الاستيفاء بلا إشكال، وإذا عفوا جميعا انتهى الأمر، وأسقطوا حقهم، وأمَّا إذا عفا بعضهم وطالب بعضهم، فهنا لا يتأتى الاستيفاء منه؛ لأنَّ بعضهم عفا، فقال أهل العلم: إنه لا يستوفى إلا إذا اجتمع الجميع، ولأنَّ من لم يعفُ فله "البدل" أي: الدية، وهو ما يصطلحان عليه، ولذلك قالوا: الشرع يجنح إلى الأيسر والأسهل، ولأجل ذلك إذا عفا بعضهم فإنَّ الدم لا يتجزأ، وبناء على ذلك يُنتقل إلى البدل من دية وما يصطلحان عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأَنْ يُؤْمَنَ فِي اسْتِيفَائِهِ تَعَدِّيِهِ إِلَى غَيْرِ جَانٍ)}.
قوله: (وَأَنْ يُؤْمَنَ فِي اسْتِيفَائِهِ تَعَدِّيِهِ إِلَى غَيْرِ جَانٍ) يحصل طبعا في القتل كما يحصل في غيره، وأما في القتل فله صورة واحدة، وهو أن يكون القاتل مثلا امرأة حامل، أو كانت غير حامل لكنها حملت، فإذا قُتِلَتْ وهي حامل، فذاك يُفضي إلى موت جنينها، وجنينها لا جناية منه، ولا سبب لِيقتص منه ويُقتل وتذهب روحه، فلأجل ذلك ننتظر إلى أن يُولد، وأن يسقى اللبن، ويؤمن أن تستقر حياته وتستقيم، وفي هذا قصة ماعز، وفي غيرها دليل على أنَّ غير الجاني لا، حتى وإن كان ذلك في حد، ولكنه لا يُنتقل إلى غير الجاني في الاستيفاء.
كذلك فيما دون النفس هذا كثير، فإذا كان الإنسان -على سبيل المثال- فيه علة، وإذا استُوفِيَ منه في هذه الحال فيمكن أن يسري هذا القصاص، فبدلا أن تذهب يده التي حصل منه اعتداء مثله على المجني عليه، تذهب روحه.
وبناء على ذلك إذا قال الأطباء له في حال لا يمكن الاستيفاء منه، كما لو كان يتعاطى مثلا مسيلات للدم، فمسيلات الدم هذه وإن كانت تحتاج إلى قصير إلا أنه لا يمكن أن يستوفى وهو في تلك الحال، لأنه يمكن أن ينزف، وممكن أن يتعدى فبدلا من أن تقطع يده كما قطع هو يد المجني عليه، أن تذهب روحه، أو كان مثلا فيه شدة برد، أو آلة كالَّة فيها شيء من التعفن، ويمكن أن تفضي إلى التعفن.
المهم إذا كان في حالة يمكن أن يكون منها سراية أو لا يؤمن في الاستيفاء من التعدي يمنع منه في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَيُحْبَسُ لِقُدُومِ غَائِبٍ وَبُلُوغٍ وَإِفَاقَةٍ)}.
إذا كان هذا الجاني قد جنى، واتفق الأولياء الحاضرون على قتله، ولكن بقي منهم واحد غائب، فبناء على ذلك لا يفتات عليه فينتظر، ولَمَّا كان الانتظار فيه خشية أن يذهب هذا ويستخفي، أو ينطلق في البلدان فلا يعثر عليه بعد ذلك، فيحبس لأجل ألا يفوت الحق لصاحبه أو لأولياء الدم في ذلك.
قال: (وَبُلُوغٍ) كذلك لو كان في الأولياء صغار فينتظرون إلى أن يبلغوا، حتى ولو كان حملا، فإنه يُنتظر إلى تلده أمه، ثم يبلغ هذا الصبي، فيستوفى منه، وهذه في الحقيقة من الشارع عدل أيما عدل، فإنه لَمَّا كان الاستيفاء حق لكل أحد أن تبرد نفسه، ويذهب حنقه من هذا الذي قتل أبيه، فإن لكل واحد أن يكون له المطالبة في ذلك، فما فيها من شفاء غليله وحصول انطفاء النار التي يكتوي بها في قلبه، أعظم مما يحصل من الافتيات عليه وتسريع قتله، كما أنها أيضا من جهة أخرى أن في قتله تفويت على هذا، فيمكن أن يكون منه عفو، ويمكن أن يكون لهذا الجاني أيضا فرجة لا يدري ما الله صانع فيها.
قال: (وَإِفَاقَةٍ) يعني: لو كان غير عاقل، أي لو كان مجنونًا، أو معتوهًا. قد يقال: إن المعتوه أو المجنون لا يمكن أن يعقل، قالوا: حتى ولو بقي ثلاثين عاما، إما أن يعقل هذا المجنون فيطالب فيستحق القصاص، وإلا يبقى هذا حتى يكتب الله، أو يمضي الله شأنه، فلو مات هذا المجنون قبل، واتفق الأولياء الباقون فالحمد لله، وإن عفا أحدهم ذهب إلى الدية، وإذا لم يحصل هذا ومات القاتل فذلك أيضا انتهاء للأمر.
المهم أنه لا يفتات عليهم حقهم، ولكن ذلك لا يُستوفى إلا باجتماع الأولياء، ولا يكون ذلك إلا بحال قصد، ولا يكون القصد إلا من بالغ عاقل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ بِحَضْرَةِ سُلْطَانٍ أَوْ نَائِبِهِ، وَبِآلَة مَاضِيَةٍ، وَفِي النَّفْسِ بِضَرْبِ الْعُنُقِ بِسَيْفٍ)}.
قال: (وَيَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ بِحَضْرَةِ سُلْطَانٍ أَوْ نَائِبِهِ)، لأنَّ هذه يمكن أن يكون فيها نوع اعتداء، ولا يحسن ذلك على وجهه، فلا بد من السلطان أو نائبه، ولذلك جاء في الحديث «واغْدُ يا أُنَيْسُ علَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، فدلَّ ذلك على أنه لابد من حضور الإمام، أو من أنابه للقيام بهذا الأمر، والولاية في هذا الاستيفاء، لكنه لا يُترك ذلك إلى أولياء الدم؛ لأنه ربما نكلوا بهذا القاتل، وربما تشفوا منه بإيذائه في القتل، أو التمثيل به، كأن يقطع أو يُجَدِّع بعض أعضائه، أو أنفه، أو نحو ذلك، فعلى كل حال، لَمَّا كان الأمر حق لهم، ولَمَّا كان هذا الحق لا بد أن يُستوفى على وجهه، لا يزاد فيه ولا ينقص، فإنه لا يحكم ذلك إلا من له ولاية، من سلطان، أو حاكم، أو من ينوب مناصبهم في ذلك.
قال: (وَبِآلَة مَاضِيَةٍ) لأنَّ الآلة الكالَّة قد يكون فيها إيذاء، والنبي يقول: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ» ، حتى ولو كان هذا جانيا، فإنه لا يعني ذلك أن تذهب عليه الرحمات كلها، فهو أيضا جانٍ من جهة، ويرحم من جهة أخرى، بأن يُستوفى منه على وجه صحيح دونما إيذاء أو تنكيل.
(وَفِي النَّفْسِ بِضَرْبِ الْعُنُقِ بِسَيْفٍ)، هذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- في الاستيفاء في القصاص، هل يكون فيه المماثلة أو هو مخصوص بالسيف؟
الحنابلة يذهبون إلى ما جاء في الحديث «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيفِ» ، وإن كان جمع من محققي الحنابلة، وعليه قول جماعة من أهل العلم، أن مقتضى القصاص أن يُقتل بما قتل به، إذا كان على وجه مباح، أو على وجه يمكن ذلك، فإذا كان مثلا قد قَتَلَ بالتغريق في الماء، فَيُغَرَّق في الماء كما غَرَّقَ ميتهم، وإذا كان ضربه بمسدس مثلا فيضرب بمسدس مثله، وإذا كان قد ضربه بسوط، فيضرب بالسوط حتى يموت، أو لو كان قد ضربه بحجر على رأسه حتى ذهبت روحه فيفعل به ذلك، وهذا على مقتضى قوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٩]، وهذا قول له قوة من جهة دلالات النصوص، وذهب إليه جمع من أهل التحقيق، منهم: ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَيَجِبُ بِعَمْدٍ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ)}.
كما أشرنا في درس ماضٍ، ما الذي يجب بقتل العمد؟
ظاهر كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه أحد شيئين، فإذا عُفي عن أحدهما بقي الآخر، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَجِبُ بِعَمْدٍ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ)، فإمَّا أن يُطالبوا بالقود، أو يطالبوا بالدية، فيخير الولي في ذلك، فإذا قال: عفوت، فالأصل إذا قال: عفوت عن القود أو عن القتل أو نحوه، فهذا ظاهر في أنه يريد الثاني، ولكن إذا قال: عفوت وأطلق، فهل يكون ذلك عفوا عن الدية أيضا؟
بعضهم يقول: على القول الثاني يمكن أن يكون، وبعضهم يقول حتى ولو.
أمَّا على هذا القول، فإذا عفا عن أحدهما فينتقل إلى الآخر، ولذلك يقولون: سواء قال: عفوت إلى الدية، أو قال: عفوت وسكت، فإن الدية تكون مستحقة له بكل حال، ولذلك قال: فيخير الولي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَيُخَيَّرُ وَلَيٌّ، وَالْعَفْوُ مَجَّانًا أَفْضَلُ)}.
إذا هو على التخيير للولي، ويفعل ما تطيب به نفسه، سواء كان واحدًا أو أكثر من ذلك،
(وَالْعَفْوُ مَجَّانًا أَفْضَلُ)، لا شك أنه إذا عفا عن القتل إلى الدية، كان محصلا للأجر، ومخففا على أخيه، ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، فدل على أنه يمكن أن يعفو، وأن يكون ذلك فضل منه وعفو، فينتقل إلى الدية.
ولكن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: لو عفا أولياء الدم عن القتل وعن الدية، فهذا أفضل، ودلالات النصوص تدل على ما جاء في العفو، وما يدخره الله -جل وعلا- له من الأجر والمثوبة، وذكرنا القيد في ذلك عند ابن تيمية وعند بعض أهل العلم، أن هذا بما لا يكون فيه تسهيلا على من عُرفوا بالظلم، والعدوان، واستباحة الدماء، والتسلط على الأنفس، فيكون ذلك طريقًا إلى ألا يهتموا بدماء الناس، وأن يتسلطوا عليها لأي سبب، أو لأي وهلة، نسأل الله السلامة والعافية، فلا يكون العفو على قول ابن تيمية في مثل هذه المسائل هو الأفضل، بل منع دابرهم، وقطع شرهم، ومن مثلهم ممن يضعف وازع الخير في قلبه، والخوف من ربه، فإنه يرتدع إذا حصل ردع للمجرمين، وقتل للقاتلين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَتَى اخْتَارَ الدِّيَةَ أَوْ عَفَا مُطْلَقًا أَوْ هَلَكَ جَانٍ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ)}.
قوله: (وَمَتَى اخْتَارَ الدِّيَةَ) ما معنى هذا الكلام؟ يعني: إذا اختار الدية، فليس له بعد ذلك أن يرجع فيطالب بالقود.
(أَوْ عَفَا مُطْلَقًا)، وإذا قال: عفوت، ثم جاء وقال: أريد القتل؟ نقول: لا، ولكن له أن يطالب بالدية؛ لأنَّ الدية فيها إرضاء لقلبه، وجبر لخاطره، ولأنها أيضا ترغيب لهم في العفو، وتيسير على القتلة من حصول القصاص والقتل.
قال: (أَوْ هَلَكَ جَانٍ) فإذا هلك الجاني، فقد فات محل الاستيفاء، وبالتالي لا يمكن أن نفعل ما يفعله أهل الجاهلية، فيُقتل أخوه أو يقتل ابنه أو نحو ذلك من الثأر الذي يبعثه الشيطان، ليبقي الشرور في المجتمعات، وهذا قَتَلَ ثم هؤلاء يَقتلون، ثم هذا! نقول: لا، لأن محل الاستيفاء هو القاتل، أو هو الجاني الذي باء بالسيئة، والذي تعرض للكبيرة والموبقة، فإن هلك بموته فقد فات محل الاستيفاء، فتتعين الدية في مال الجاني.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ وَكَّلَ ثُمَّ عَفَا، وَلَمْ يَعْلَمْ وَكِيلٌ حَتَّى اقْتَصَّ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا)}.
أي: من وَكَّل شخصًا في الاستيفاء، وذهب الوكيل ليستوفي، ثم عنَّ لهذا الشخص -ولي الدم- أن يعفو فعفا، ولكن ما وصل العفو إلى الوكيل حتى نفذ، فهذا الوكيل معذور في أنَّه نَفَّذَ ما طُلب منه، ولم يكن منه تجاوز أو افتيات، فبناء على ذلك لا شيء عليه، وهذا العافي، حصل له الأجر وسابقة الحسنى، لكنه استوفي منه فجاز ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ وَجَبَ لِقِنٍّ قَوَدٌ أَوْ تَعْزِيرُ قَذْفٍ، فَطَلَبُهُ وَإِسْقَاطُهُ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ فَلِسَيِّدِهِ)}.
هذا فيه إشارة إلى أن ولي الدم له الاستيفاء بنفسه، إذا كان يقدر ذلك؛ لأنَّ هذا مما يحصل به أيضا انطفاء جمرة غضبه، وشفاء غله ونحوه، فإذا لم يكن يستطيع أن يستوفي بنفسه، فإنه يوكل شخصا ليقوم بذلك، وإلا قام به السلطان من جهته، كما هو المعمول به في أكثر الأحوال عندنا في هذا الوقت.
ثم انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- وقال: (وَإِنْ وَجَبَ لِقِنٍّ قَوَدٌ) والقن يقصد به العبد، فإذا وجب له قود، وشخص قطع أصبعه، فيقاد إذا اتفقت الشروط بأن تساويا في عبودية وفي سائر الشروط الأربعة التي تقدمت.
من الذي له أن يطالب بذلك ومن يعفو؟
يقولون: القن نفسه، فإذا قال: يقطعون أصبعه كما قطعت أصبعي، فليس للسيد أن يقول: لا، بل نريد الدية، لأنَّ باب الجناية مردها إلى النفس في التشفي، وذهاب ما في الجناية من وسمة عار، وضيق نفس ونحوه، فيقول المؤلف: هذا حقه، فله أن يستوفي، وله أن يطالب بالمال.
ومثل ذلك إذا كان فيه تعذير القذف، فلو قذف هذا القن، وجيء به ليعزر، طبعا إذا قذفه فإنه يعذر، فبناء على ذلك لو قال سيده: يعطينا المال أفضل، نقول: العار لحق بالعبد، فلا يندفع ذلك بالمال، فإذا طلب العبد إمضاء التعزير فيه فهو حقه، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (فَطَلَبُهُ وَإِسْقَاطُهُ لَهُ) فإن أراد أن يطالب به، وإن أراد أن يعفو دون مقابل، وإن أراد أن ينتقل إلى المال، كل ذلك إليه، ولكن لو مات فسيده هو الذي سيرثه، فينتقل ما كان له من حق إلى سيده.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْقَوَدِ فِيهَا، وَهُوَ نَوْعَانِ)}.
(وَالْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْقَوَدِ فِيهَا) من جهة ما يتعلق به من أحكام، وما يجب فيه من شروط، على ما تقدم فيما مضى من المكافأة، والتكليف، وعدم الولادة، وعصمة المجني عليه، ونحوه مما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-.
(وَالْقَوَدُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْقَوَدِ فِيهَا) فيما يعتبر في ذلك كله، طبعا ما الذي يُقتص فيه؟ وما الذي لا يقتص فيه؟ هذا ما سيذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-، فيما يأتي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي الطَّرَفِ، فَيُؤْخَذُ كُلٌّ مِنْ عَيْنٍ وَأَنْفٍ وَأُذُنٍ وَسِنٍّ وَنَحْوِهِمَا بِمِثْلِهِ)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (أَحَدُهُمَا) يعني: الذي يحصل فيه استيفاء وقصاص فيما دون النفس في الأطراف، فإذا اعتدى شخص فقلع عينه، فإنه يفعل بالجاني إذا طلب المجني عليه مثل ما فعل فتقلع عينه، وإذا كان قد مثلا قطع أذنه، فكذلك يفعل بالجاني مثل ما فعل به، ولذلك قال: (مِنْ عَيْنٍ وَأَنْفٍ وَأُذُنٍ وَسِنٍّ)، فكذلك يقلع سِنَّه كما قلع سِنَّ المجني عليه، لأنَّ ذلك ونحوه ممكن.
قال: (وَنَحْوِهِمَا بِمِثْلِهِ) لا بد أن يكون بمثله، فلا ينتقل إلى غيره، ولا يقال: هذا ما عليه أقل! بل لا يفعل إلا فيما يماثله، وسيأتي ذلك فيما يذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بِشَرْطِ مُمَاثَلَةٍ، وَأَمْنٍ مِنْ حَيْفٍ، وَاسْتِوَاءٍ فِي صِحَّةٍ وَكَمَالٍ)}.
(بِشَرْطِ مُمَاثَلَةٍ) والمماثلة يقولون: في الاسم والموضع، فالاسم إذا كان مثلا أصبع الإبهام، فإبهام، والموضع من اليمنى من اليمنى، فإذا ما كان عنده إبهام في اليمنى، وقال: أنا أقتص من الإبهام اليسرى، نقول: لا، لا بد من التساوي في الاسم وفي الموضع، وإذا كان في اليسرى فيكون في اليسرى، وإذا كان مثلا قلع عينه وهي لا ينظر بها لكونه أعمى، فلا يُقتص من سليمة، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (بِشَرْطِ مُمَاثَلَةٍ، وَأَمْنٍ مِنْ حَيْفٍ) يعني ما يكون فيه حيف، يعني: زيادة، فإذا كان يحصل بذلك حيف، أو لا يتصور أنه يحصل بذلك المماثلة، فلا يكون في ذلك القصاص، وهم يحددون هذا بقولهم: له حد ينتهي إليه، فإذا كان له حد ينتهي إليه فنعم، فلو ضربه مثلا في أنفه، فهشم أنفه. هذا قد يُستطاع أن يُفعل، وقد لا يُستطاع، فلا يدرى هل نستطيع؟
ولكن إذا كان قد قطعه من مارن الأنف كما يقولون، فهذا قدر معروف، ويمكن أن يفعل به مثل ذلك، فيرسم مثلا هذا الموضع، ويحدده الأطباء، ثم يقطعون منه مثل ما قطع من هذا الشخص.
إذًا، إذا آَمِنَ الحيف أمكن القصاص وإلا فلا.
ثم قال: (وَاسْتِوَاءٍ فِي صِحَّةٍ وَكَمَالٍ) فلا يستوفى مثلا من يد صحيحة، وقد قطع يدا شلاء، ولا من ناقصة بكاملة، فلا تؤخذ الكاملة بالناقصة، فلو كانت مثلا يد المجني عليه في الأصل ليس فيها إلا أصبعان، ثم نأتي ونقطع من هذا يدا كاملة بخمسة أصابع أو نحوها، فهذا فيه زيادة، إذًا لا بد أن يستويا (فِي صِحَّةٍ وَكَمَالٍ).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الثَّانِي: فِي الْجُرُوحِ، بِشَرْطِ انْتِهَائِهَا إِلَى عَظْمٍ كَمُوضِحَةٍ وَجُرْحِ عَضُدٍ وَسَاقٍ وَنَحْوِهِمَا)}.
(وَاسْتِوَاءٍ فِي صِحَّةٍ وَكَمَالٍ) يعني نحددها أكثر، الصحة أن تكون صحيحة، فلا نأتي إلى عين -كما قلنا- غير مبصرة قطعها، ونأخذ بها عينا صحيحة مبصرة، الكاملة مثل ما قلنا، يد مكتملة الأصابع، أو يد صحيحة بيد شلاء أو نحوها، فلا بد من حصول الاستواء في الصحة وفي الكمال.
الثاني في الجروح:
قال: (الثَّانِي: فِي الْجُرُوحِ، بِشَرْطِ انْتِهَائِهَا إِلَى عَظْمٍ)، فاذا كان قد ضربه في جرح في فخذه، فمن يأمن أو يضمن لنا أنه إذا جئنا لنجرح الجاني أنه يكون مثل جرح المجني عليه سواء بسواء، فيقولون: إذا كان له حد ينتهي إليه من عظم، فهذا واضح، يعني: لو كانت الموضحة التي في الرأس إلى العظم، والموضحة التي توضح العظم، فمن السهل أن نصل إلى العظم، وجرت عادتهم فيما مضى، أنهم كانوا يعرفون طول الجرح في كم عرضه، إلى هذا العظم فيبزغونه وهكذا، حتى يصلوا إلى ما من هذا الجاني فعله بالمجني عليه، فيفعل به كذلك.
ولكن إذا لم يكن، كما قلنا لو كان الجرح في بطنه، فيمكن أن نأتي لنجرحه في بطنه، وإن كان ممتدا مثلا بطول خمسة سنتيمتر أو نحوها، لكن إذا جئنا نفعل يصل إلى أمعائه، فتنفتق أمعاءه، فاذا لا يمكن ذلك.
ولذا قالوا هنا: إذا أمكن أن تكون منتهية إلى عظم، طبعا فيما مضى كما ذكر الفقهاء -رحمهم الله، يعني: إذا كان ينتهي إلى مفصل، فهذا واضح، فإذا ينتهي إلى المرفق أو ينتهي إلى مفصل الكف، إذا الأنملة أو نحوها، فهذا واضح ويستطاع، ولكن مثلا لو كان قد كسره من وسط ذراعه، أو من وسط ساقه، فلا يتأتى في مثل هذا الأمن وإمكان الاستيفاء على وجه التمام والكمال.
ولأجل ذلك قالوا: لابد أن يكون على وجه يُؤمن فيه من الحي، وهذا في الحقيقة فيما مضى واضح كلامه، ولكن في الأوقات الحاضرة مع تطور الطب، بعض هذه الجروح خاصة التي يمكن تصويرها عبر هذه الأشعة ونحوها، وببعض الآلات يمكن يعني أن تنقش أو أن يوصل إليه بنحو ما وصل إليه الجاني.
هل يمكن أن نقول الآن: إنه قد أمكن، وبناء على كلامهم فيما مضى أنه يحصل القصاص على هذا النحو؛ لأنَّ الأمن الحيف متوقع فيفعل به ما فعل، لأنَّ هذا داخل في عموم القصاص؟
على قول ابن تيمية، لأنَّ ابن تيمية وسع دائرة القصاص، حتى في اللكمة واللطمة ونحوها، قال: إنها تدخل فيه، فعلى قولهم يمكن أن يقال في نحو مثل هذه الأشياء أنه يستوفى فيها، ولكن جريان الفقهاء فيما أصلوه ونقلوه ونحوه، يعني أنه مقيد بمفصلٍ أو جرح ينتهي إلى عظم، وهذا يعني محل نظر وبحث، ويمكن ألا نحتاج إلى مزيد من هذا، والله يعين من ولي هذه الأمور، ولكن يهم الطالب أن يعرف مأخذ المسألة، أو ما يمكن أن تُبنى عليه المسألة، فيمن يقول بإمكان الاستيفاء في هذه الأوقات بأحوال أكثر، حتى ولو كانت بما لا ينتهي إلى مفصل، ولا ما ينته إلى عظم ونحوه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَجُرْحِ عَضُدٍ وَسَاقٍ وَنَحْوِهِمَا)}.
كذلك إذا كان الجرح في العضد والساق، فإن كانت تنتهي إلى عظم فيحصل فيها القصاص، وأما إذا لم ينته إلى عظم كما ذكرنا أنه لا تؤمن، فعلي قول المتقدمين أن هذا لا يتأتى فيه القصاص الذي يحصل به الأمن من الحَيْف، ويمكن فيه الاستيفاء على وجه التمام والعدل والمساواة.
وعلى القول الآخر كان هذا محتملا، وقد يسأل أهل الطب فإذا أمكن ذلك فهو محتمل على قول بعض أهل العلم أو بعض الفقهاء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتُضْمَنُ سَرَايَةُ جِنَايَةٍ لَا قَوَدٍ، وَلَا يُقْتَصُّ عَنْ طَرَفٍ وَجُرْحٍ)}.
ما معنى قوله: (وَتُضْمَنُ سَرَايَةُ جِنَايَةٍ لَا قَوَدٍ)؟ سرايا يعني: انتقال الجرح إلى ما هو أكثر منه، فإذا كانت السراية أو الزيادة في هذا الجرح مبناها على ظلم وجناية، على اعتداء وتسلط، فما تبعها مضمون، فلو أنَّ شخصا مثلا تسلط على آخر حتى قطع أصبعه، فإذا جئنا وقطعنا أصبعه حصل مساواة، ولكن لو أننا رأيناه ينتشر الآن واستدعى دخوله المستشفى ثم نزف ومات، فنقول: يقتل لأنَّ موته بسراية جناية هذا الجاني، وسراية الجاني مضمونة، فكان كما لو أنه تعمد قتله فيقتل به، لأن أصلها من اعتدائه، فما تسبب إليه اعتداؤه فهو مضمون عليه.
ولأجل ذلك قال الفقهاء: لا يُستعجل إلى الاستيفاء فيما يتصور أنه لم يستقر فيه الجرح، فينظر ويمكث، لأننا لو اقتصصنا منه، يمكن أن يسري فيزيد، وبناء على ذلك قالوا: ينتظر حتى ينظر إلى أي شيء يستقر في هذا الجرح، ثم يقتص من الجانب بمثل ما فعل بالمجني عليه.
أمَّا إذا كانت السراية من قود، فهي هدر، يعني: لو أن هذا قطع أصبعه، فجئنا وقطعنا أصبع الجاني، ثم بعد ذلك نزف، فنقول: هذه السرايا هدر. لماذا؟ لأنها أثر فعل مشروع؛ لأنَّ فعلنا في الاختصاص مشروع، ما دام أننا نعلم من حيث الأصل أنه ليس فيه ما يستدعي السرايا، يعني: ما ذكر الأطباء أن فيه علة يتصور معها أن تسري معه، أو أن تزيد، أو أن تتسبب عليه في أعظم من ذلك، فتكون السراية في مثل هذا هدر، فلهم مات فهو الذي تسبب على نفسه، ونحن إنما فعلنا به ما هو مشروع فعله في مثل حاله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يُقْتَصُّ عَنْ طَرَفٍ وَجُرْحٍ، وَلَا يُطْلَب لَهُمَا دية قبل البرء)}.
كما قلنا؛ لأنه قبل ذلك يمكن أن تكون لهما سراية، فيفضي ذلك إلى أن الاقتصاص كان على غير وجهه، فلا يحصل به المعنى المقصود من القصاص وحقيقته المساواة والتماثل، فلا يكون ذلك إلا بعد البرء؛ لأنه يستقر الجرح، ويعرف قدره، ويعلم هل يمكن الاستيفاء منه أو لا؟
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَدِيَةُ الْعَمْدِ عَلَى الْجَانِي، وَغَيْرُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ)}.
إذا المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد أن أنهى ما يتعلق بالقصاص، والأحكام المتعلقة بذلك، سواء في شروط القصاص، أو في الاستيفاء، والمسائل التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في النفس وما دونها، بعد ذلك انتقل إلى البديل الآخر للقصاص، وهي الديات.
والديات من: "الْوَدْيِ"، "ودي، يدي، دية"، إذا أدى ما يقابل الجناية، وفعل ما يدفع أو ما يقابل جنايته مما جاء الشرع به، فهذا الفصل عقده الفقهاء في الديات، وهي جمع دية؛ لأنَّ المقصود أن الدية قد تكون للنفس، وقد تكون لما دونها، فالمنافع فيها ديات، والأعضاء فيها ديات، وتفاصيل ذلك سيأتي إليها المؤلف -رحمه الله تعالى- فلأجل ذلك جمعها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَدِيَةُ الْعَمْدِ عَلَى الْجَانِي، وَغَيْرُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ)}
هذا من جهة الأصل، أنَّ المتعمد هو موحل في الإثم، متقصد للسوء، ولأجل ذلك لا يناسبه تخفيف، فما كان عليه من دية فإنها تلزمه، وهو الذي يبذلها، وهو الذي يُكلف بها، وأمَّا إذا كانت الدية على المخطئ، فالمخطئ لا ذنب له، ولأجل ذلك لا نحمله ما لا يطيق، ولكننا لا نفوت على المخطئ عليه حقه، فتوجب الدية لهذا الذي مثلا أصيبت عينه، أو أصيب في بعض بدنه بما فوق ثلث الدية، أو نحو ذلك، فعند ذلك قالوا: إن الدية ثابتة له، لكنها تجب على عاقلة الشخص تخفيفا عليه، فتجب على عاقلته، وهم عصباته على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ قَيَّدَ حُرًّا مُكَلَّفًا أَوْ غَلَّهُ أَوْ غَصَبَ صَغِيرًا فَتَلِفَ بِحَيَّةٍ أَوْ صَاعِقَةٍ فَالدِّيَةُ)}.
هنا قال: (وَمَنْ قَيَّدَ حُرًّا مُكَلَّفًا أَوْ غَلَّهُ) فقيد ذلك بأنه قَيَّدَهُ وغلَّه، فالقيد ما هو؟ هو ما يربط في ساقيه، فلو كان قيد فقط، فإنه يمكن أن يمشي، وبناء على ذلك لو أنه قيده ولم يغله فمات فلا دية، كأنه هو الذي فرط في حق نفسه، كان يمكنه أن يتخلص، كان يمكنه أن يذهب، كان بيده أن يتمكن من حركته، فكأنه هو الذي عَرَّضَ نفسه للهلكة، ولكن إذا غُل فَرُبِطَ في شجرة، أو في جدار، أو في الأرض، أو ربطت رجلاه بظهره بما لا يستطيع معها نهوض ولا قيام، فعند ذلك حيل بينه وبينه، فلو أصابته صاعقة فإنها كأن هذا الذي غَلَّه وقيده تسبب عليه في هذه الصاعقة، فتكون عليه الدية في هذه الأحوال.
لكن هناك في المكلف أي: البالغ العاقل، لا بد أن يكون "قيد وغل"، يعني: يحول بينه وبين الحركة، لأنَّ القيد لا يمنع الإنسان من الحركة وإن كانت حركته محدودة، ولكنه لا يمنعه من الحركة، ولكن من غصب صغيرا فتلف بحية أو صاعقة، فعليه الدية في كل الأحوال، سواء كان مغلولا، أو كان مقيدا أو لا؛ لأنَّ الصغير لا يحسن إعتاق نفسه ولا تخليصها، فبكل الأحوال هذا الذي قصده أو تسلط عليه هو الذي تسبب عليه، فتجب عليه الدية في الحالين جميعًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (لَا إِنْ مَاتَ بِمَرَضٍ أَوْ فَجْأَةً)}.
(لَا إِنْ مَاتَ بِمَرَضٍ أَوْ فَجْأَةً)، فالموت كما أنه يأتيه حال كونه مغصوبا، أو حال كونه مغلولا، يأتيه في حال كونه مطلقا أو بين أهله أو نحو ذلك، فكأنه وافق أن تأتيه المنية وهو في هذه الحال، لا أنَّ هذا الذي غَلَّه أو أن هذا الذي غصبه سَبَبٌ عليه في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَدَّبَ امْرَأَتَهُ بِنُشُوزٍ أَوْ مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ، أَوْ سُلْطَانٌ رَعِيَّتَهِ بِلَا إِسْرَافٍ، فَلَا ضَمَانَ بِتَلَفٍ مِنْ ذَلِكَ)}.
هذه الأفعال المشروعة إذا فُعِلَتْ على وجهها، وترتب على ذلك شيء من التلف، فهو هدر؛ لأنه غير مضمون، لأنه فعل ما يجوز له فعله، فتأديب الرجل امرأته جاءت به النصوص، وجاء ذلك في الصحيح عن النبي ، وفي آية سورة النساء، فلا غضاضة في مثل ذلك.
أو معلم صبية؛ لأنَّ هذا من متطلبات التعليم، ويحصل به التهذيب، ولا يصلح الصبية إلا ذلك، فإذا فعل ذلك على وجه محدود ومعروف عند أهل الخبرة وأهل المعرفة، أن ذلك ليس فيه تعدٍ، وإنما فيه حمل له على الانتباه، وزيادة له في الحرص، ومنع له من الغفلة واللعب، فلا يكون عليه في ذلك دية ولا مطالبة؛ لأنه فعل ما يشرع له فعله.
قال: (أَوْ سُلْطَانٌ رَعِيَّتَهِ) كذلك لأنه مطلوب من السلطان أن يؤدب الناس، وأن يحملهم على الخير، وأن يمنعهم عن فعل ما يسوء.
{قال -رحمه الله-: (بِلَا إِسْرَافٍ، فَلَا ضَمَانَ بِتَلَفٍ مِنْ ذَلِكَ، ومن أمر وَمَنْ أَمَرَ مُكَلَّفًا أَنْ يَنْزِلَ بِئْرًا أَوْ يَصْعَدَ شَجَرَةً فَهَلَكَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ)}.
قوله: (ومن أمر وَمَنْ أَمَرَ مُكَلَّفًا أَنْ يَنْزِلَ بِئْرًا أَوْ يَصْعَدَ شَجَرَةً فَهَلَكَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ)؛ لأنَّ هذا لم يكرهك على ذلك، والإنسان يَعرف ما يستطيع مما لا يستطيع، فهذا المكلف هو الذي جنى على نفسه، بأن عرضها لشيء لا يستطيع فعله، فهذا الآمر لا شيء عليه، ولو كان مُكْرِهًا له فهذا شيء آخر كما تقدم، ولكن ما دام أنه مجرد أمر، فهذا مكلف يعرف ما يصلحه وما لا يصلحه، وما يحسنه وما لا يحسنه، وما يمكن أن يتعرض به للهلكة، وما يحصل عليه به سوء، فلأجل ذلك لو هلك لكان إنما هلك بفعل نفسه، وهو الذي تسبب عليها، فلا ضمان على آمرٍ في تلك الأحوال كلها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَوْ مَاتَتْ حَامِلٌ أَوْ حَمْلُهَا مِنْ رِيحِ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، ضَمِنَ رَبَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ عَادَةً)}.
هذا ذِكْرٌ من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- لأمثلة بعيد وقوعها، ولكنها ما دامت سببًا مباشرا تُحِقق فيه، فإنه يلحقه الضمان من كان سببًا في ذلك.
(وَلَوْ مَاتَتْ حَامِلٌ أَوْ حَمْلُهَا مِنْ رِيحِ طَعَامٍ) يُعرف أنَّ الحامل تكره بعض الأشياء وتبغضها، وتتغير نفسها بذلك، فإذا كان ذلك معلوما مستقرا، فكأنما هذا الذي عرضها لهذا الطعام تسبب عليها بالهلكة، فيلحقه الضمان في تلك الحال، ما دام معلوما مستقرا.
وأما إذا كان غير معلوم، لم تجر به العادة، كانت بالأمس وقبل أمس تشم هذا الطعام وتتعرض لهذه الروائح ولا شيء بذلك، فعند ذلك لا يكون فيه ضمان، ولكن إذا علم وهو معروف ومستقر ثم عرضت، فكأنما تسبب ذلك في هلكتها، وبالتالي يلحقه ضمانها أو ضمان حملها، أو ما هلك منهما.
{أحسن الله إليكم شيخنا، لعلنا نقف عند هذا القدر}.
نعم، هذا فيه بركة وكفاية.
{أحسن الله إليكم، وفي ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المتابعون الكرام على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك