الدرس الثلاثون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7533 33
الدرس الثلاثون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة، من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات في مجلس جديد من مجالس العلم، وفي تذاكر ومدارسة للسنة والفقه، وأسأل الله أن يبلغنا وإياكم الخير.
{نستأذنكم أن نبدأ على بركة الله.
كنا قد توقفنا عند فصل المرتد، وتحديدًا عند مسألة: (وَتَجِبُ التَّوْبَةُ)}.
نعم، استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (وَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَهِيَ: إِقْلَاعٌ وَنَدَمٌ وَعَزْمٌ أَنْ لَا يَعُودَ مَعَ رَدِّ مَظْلَمَةٍ لَا اسْتِحْلَالٌ مِنْ نَحْوِ غَيْبَةٍ وَقَذْفٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يُبلغنا وإياكم الخير والهدى، والبر والتقوى، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يجعلنا من المعلَّمين الموفقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الطلاب، كنا في المجلس الماضي، استهللنا الكلام في أحكام المرتد، ولَمَّا انتهى المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى استتابته بمعنى: طلب التوبة من المرتد الذي وقع في مكفر من المكفرات، فإنه ذكر ما يناسب هذه المسألة، وهي التوبة من الذنوب.
التوبة واجبة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [التحريم:8]، وعسى من الله واجبة، فالله -جلا وعلا- يكفر عن العبد ذنوبه ويتجاوز عنها، ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان:70]، إلى مسائل كثيرة، ذُكرت في مسائل التوبة، وهي من الأهمية بمكان، وليس الحديث مع أهميته، ولزوم التنبيه عليه، من التذكير بالتوبة، والحث عليها في كل حال، وفي كل آنٍ، وأن يتفقد الإنسان نفسه، وأن يحاسبها، وأن يراجع أمره، وأن ينظر في تقصيره، وأن يستدرك ما فات من أمره، فإنه لا يدري متى يحل الأجل، ومتى ينقضي العمر، ومتى يلقى الله -جل وعلا-، فكم من ملاقٍ لله على ذنوب كبيرة، وبليات عظيمة وموبقات، ولو كانت واحدة لأهلكت، فكيف وقد اجتمعت، فيوشك أن يحصل عليه الهلاك، وإن لم يتدارك نفسه، وإن لم يتولاه الله -جل وعلا- بلطفه ورحمته ومغفرته، والله يتولانا وإياكم بذاك.
فالتوبة واجبة من كل ذنب، إن كان صغيرا وإن كان كبيرا، والتوبة للعلم بينها وبين الاستغفار اجتماع واختلاف، فالاستغفار حقيقته دعاء بطلب المغفرة، فمن استغفر الله -جل وعلا- فكأنه طلب أن يغفر الله له.
وأمَّا التوبة فإنها فعل مقيد بشروط، إذا حصل من العبد، فإن الله -جل وعلا- وعده بلا شك أنه يُغفر له، وأنه يُذهب ذنبه، وتُمحى خطيئته، ويبدل الله سيئاته حسنات على أحد في هذه الآية. فلا بد من العلم بذلك.
إذًا الاستغفار ينبغي ألا ينفك لسان العبد وقلبه منه في كل حال، والتوبة يجب أن يراجع الإنسان نفسه، كلما رأى أنها قد وقعت أو تلطخت أو أخطأت، إن كان في قول، أو كان في فعل، أو كان في تعامل، أو كان في أكل للحرام، أو في سوى ذلك مما يُبتلى به العبد فيما بينه وبين الله، أو بينه وبين العباد، فإنه يتوب إلى الله -جل وعلا، وذلك واجب كما ذكر المؤلف -رحمه الله-.
وإنما تتأتى التوبة، فإذا قيل: هذا تائب، فهو إقلاع من الذنب، فمن كان يقع في الربا، فإنه يتوقف عنه، ومن كان يزني فإنه يُقلع عنه، ومن كان يأتي القمار أو المعازف أو سواها، فإنه يتوب من ذلك، إلى غير ذلك من الذنوب التي يُبتلى بها الناس عادة.
فهي (إِقْلَاعٌ وَنَدَمٌ)، يجب أن يقع في الإنسان من الأسف على ما فات، ومن الندم على ما جرى، ومن خوف مغبتها، فدائما يكون العبد خائفًا من جريرة تلك الذنوب، ومن أثر تلك المعاصي.
ثم هو (عَزْمٌ) على ألا يعود، فلا نُكوص، ولا تراجع، فهو يعزم، فإذا وفق إلى ذلك فالحمد لله، وإذا حصل منه أن غلبته نفسه فيتوب مرة أخرى، كما جاء ذلك في الأحاديث، فيمن أذنب فطلب الله المغفرة فغفر له، ثم عاد ثم استغفر الله -جل وعلا- فغفر له، فقال الله -جل وعلا-: «أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» .
إذًا هو (عَزْمٌ) -بلا شك- ينعقد في قلبه على ألا يعود، فهذه ثلاثة شروط لا بد منها في كل توبة، ويزيد شرطا رابعا وهو إذا كان يتعلق به مظلمة لأحد، أخذ ماله، أو اعتدى على مزرعته، أو شيئًا من ذلك، فإنه يرد المظالم إلى أهلها، فتتم بذلك الشروط الأربعة فيما إذا كانت الذنوب مظالم للعباد وخصومات أو حقوق لهم.
قال: (لا اسْتِحْلَالٌ مِنْ نَحْوِ غَيْبَةٍ) والاستحلال بمعنى: طلب التحلل، فكأنه جواب على السؤال، هل يجب على الإنسان أن يتحلل من الذنوب التي ليس فيها حقوق، يعني التي ليس فيها مال يرد، أو ليس فيها أمانة جُحدت، أو ليس فيها مال غُصِب؟
فهل يلزمه أن يتحلل، كما لو اغتاب، كما لو نَمَّ، كما لو قَذَفَ، كما لو شتم؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه لا يحتاج إلى أن يتحلله، بل هو كما ذكر أهل العلم، أن ما يكون من الدعاء له فيما يقابل ما كان منه من السوء والخطأ أولى وأتم.
لماذا؟ كأنه أولا يشير في هذه المسألة إلى خلاف بعض الفقهاء، الذين يقولون: إنه لا بد أن يستحله، ولكن الحنابلة والجمهور يقولون: إنه يوشك إن أخبره أن تغتم نفسه، أن يُوغر صدره، أن يعود عليه ربما بزيادة البلاء لا بنقصه، وبعود الأمر وتكبيره لا بانتهائه وحسمه.
ولأجل ذلك قالوا: إنه لا يحتاج إلى أن يستحله، بل يفعل ما يكون من الإحسان إليه، بقدر ما كان منه من الإساءة، وإذا كان في المجلس الذي كان فيه نحو غيبته فعاد وأثنى عليه، وأظهر لهم الندامة على ما كان منه، فمثل ذلك عظيم.
وكذلك إذا كان قد قذف شخصًا، فيذهب إلى المحل الذي قذف فيه، وإلى من أسمعهم من الناس ويقول: إنما أخطأت، وقلت وزدت، والله ما علمت عليه إلا خيرا، ونحو ذلك من الأعمال التي هي أولى من الاستحلال، وأمنع من حصول إيغار الصدور وزيادة الاختلاف.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَكُلُّ طَعَامٍ طَاهِرٍ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ حَلَالٌ، وَأَصْلُهُ الْحِلُّ)}.
انتهى المؤلف -رحمه الله تعالى- من مسائل الحدود، وهنا ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ما بين الحدود والقضاء، ما يتعلق بالأطعمة والأيمان والنذور، وهذا لا شك أنه من المسائل المهمة، وفيه مباحث لا ينفك الإنسان من الحاجة إليها.
المؤلف -رحمه الله تعالى- بَيَّن في هذا الفصل أحكام الأطعمة، وجوازها وإباحتها وما يحرم منها.
قال: (وَكُلُّ طَعَامٍ طَاهِرٍ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ حَلَالٌ، وَأَصْلُهُ الْحِلُّ)}.
ولفظة (كل) إشارة إلى الكلية، فهي دالة على الشمول والعموم، فالأطعمة الطاهرة التي لا ضرر فيها من حيث الأصل هي حلال؛ لأنَّ الأصل في الأشياء الحل والإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ فكان المحرم على سبيل الاستثناء، وهذا كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:57]، فلذلك قال الفقهاء: (وَكُلُّ طَعَامٍ طَاهِرٍ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ حَلَالٌ)، والحنابلة يزيدون فيقولون: وألا يكون فيه استقذار، ويخصونه بقيد ستأتي الإشارة إليه بعد ذلك -بإذن الله جلَّ وعلا- في محله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ نَجِسٌ كَدَمٍ، وَمَيْتَةٍ، وَمُضِرٌّ كَسُمٍّ، وَمِنْ حَيَوَانِ بَرٍّ مَا يَفْتَرِسُ بِنَابِهِ كَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَفَهْدٍ، وَثَعْلَبٍ وَابْنِ آوَى لَا ضَبُعٌ)}.
قوله: (وَحَرُمَ) قالوا: وبضدها تتبين الأشياء، فلما كان الطاهر الحلال كثيرٌ لا حَدَّ له؛ بَيَّنَ الحرام، فإذا بين الحرام دَلَّ ذلك على أن ما سواه حلال.
قال: (وَحَرُمَ نَجِسٌ) فكل نجس محرم على الإنسان تناوله؛ لأنه إذا كان يجب على المرء أن يتجنب النجاسات في ظاهر بدنه وفي ثيابه، فمن باب أولى أن يمنع نفسه أن تخالط داخله، وأن تصل إلى جوفه، وأن ينمو بها لحمه وشحمه، ولذلك قالوا: (وَحَرُمَ نَجِسٌ) وهذا بإجماع أهل العلم.
(كَدَمٍ، وَمَيْتَةٍ)؛ لقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ﴾ كما في الآية.
قال: (وَمُضِرٌّ كَسُمٍّ) أي أنَّ ما كان فيه ضرر فهو محرم؛ لأن الله -جل وعلا- نهى أن يضر الإنسان بنفسه، وحرَّم الخبائث على العبد، ولا شك أن كل ما فيه مضرة فهو خبيث.
قال: (كَسُمٍّ) فسواء كان سم النباتات، أو من الثعابين، أو غيرها من الحشرات أو سواها، أو كان ذلك مما يركب منها هذه التركيبات الكيميائية، فإذا كان فيه سم يحصل على الإنسان فيه ضرر، فإنه ممنوع منه.
قال: (وَمِنْ حَيَوَانِ بَرٍّ)، إذًا شرع المؤلف في الحيوانات، والحيوانات منها بري ومنها بحري، وقد بدأ بالبري؛ لأن البري هو الذي فيه تعداد، وأما البحري فسيأتي أنه حلال، واستثني في ذلك ما استثني، وسيأتي بيانه.
إذًا البري جاءت أدلة بتحريم أشياء منه، ولأجل هذا قال المؤلف: (وَمِنْ حَيَوَانِ بَرٍّ مَا يَفْتَرِسُ بِنَابِهِ)، الناب هو ما بعد الرباعية فإنه يكون له نابان في جهتي فم الأسد والنمر والفهد وغيرها من السباع. فلا يختلف أهل العلم في أن الأسد والنمر والفهد والذئب والكلب محرمة.
قال: (وثعلب) والثعلب على قول الحنابلة محرم أيضًا في أشهر القولين، وإن كان قد جاء قول آخر عند بعض الفقهاء، وجاء عن أحمد في رواية أنه حلال. إذًا هو على أنه ذو ناب، وأيضا يأكل اللحوم والجيف ويخلط هذا بذاك؟
قال: (وَابْنِ آوَى) وهو مثل الكلب يشبهه، فقالوا: إنه ذو ناب، ويدخل في المحرم في أظهر القولين.
هنا أشير إلى مسألة مُهمة الطلاب، وهي أنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أحيانا يتكلفون في ذكر صفات الحيوان الذي هو حلال أو حرام، مثل: الغراب، غراب الزرع، أو الغراب الأسود، أو نحوه مما ذكره في ذلك.
ومن أسهل ما يكون الآن في بيان هذه الأشياء حتى تتبينها، لا تحتاج إلى أن ترجع إلى كتب الجاحظ، ولا غيرها من كتب وصف الحيوانات، بل عليك أن ترجع إلى جوجل وستجد أنه قد دونت فيه هذه الحيوانات بصورها، فهي أيسر ما يكون على المرء معرفتها، وبيان ما الذي ينطبق عليه.
قال المؤلف -رحمه الله-: (لَا ضَبُعٌ)، الضبع من حيث الأصل هو ذو ناب، وأيضا مفترس، ويأكل بنابه، ويقع على الجيف، ولا يفترق عنها شيء، ولكن الحنابلة -رحمهم الله تعالى- كما الشافعية، ذهبوا إلى أنه حلال، وذلك لصريح الدليل فيه، وجاء في غير ما نص، ونحن أمة النصوص، ومتدينون ومحكومون بكتاب الله -جل وعلا- وسنة رسوله ، ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور:51].
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمِنْ طَيْرٍ مَا يَصِيدُ بِمِخْلَبٍ كَعُقَابٍ وَصَقْرٍ، وَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَنَسْرٍ وَرَخْمٍ، وَمَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ ذُو الْيَسَارِ كَوَطْوَاطٍ وَقُنْفُذٍ ونِيصٍ)}.
قال: (وَمِنْ طَيْرٍ مَا يَصِيدُ بِمِخْلَبٍ)؛ لأن النبي حرَّم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، فما كان له مخلب يصيد به، لا بد أن يكون يصيد به، فإذا كان له مخلب ولكنه لا يصيد به، مثل: الببغاء، مثل: بعض الطيور، فإنها حلال ويجوز أكلها، لكن إذا كان يصيد به (كَعُقَابٍ وَصَقْرٍ)؛ فإنها محرمة.
ومثل ذلك (مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَنَسْرٍ وَرَخْمٍ) والرخم والعقاب فيها تقارب شديد، ومثل ما قلنا: يمكنك أن تعرف ذلك من خلال ما يُرى من صورها.
قال: (وَمَا تَسْتَخْبِثُهُ الْعَرَبُ ذُو الْيَسَارِ) الحقيقة أن هذا القيد عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- هو نوع اجتهاد وتأمل، وهو مأخوذ من عموم قوله: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:57]، فهل بعض ما جرت العادة باستقراره أنه محرم أو لا؟
على سبيل المثال: (ونِيصٍ) وهذا النيص مثل: (قُنْفُذٍ)، فهو له شوك كبير، فيسمونه: أبو القنافذ، فهو كبير، ولكنه يأكل الزرع كثيرا، فمن جهة هو مثل الأرنب، ومثل الغزال ونحوها، ولكن كما قلنا: إنهم قالوا فيه نوع استقذار، ويدخل في التحريم بالخبائث، ولكن هذا القيد دخل عليه كثير من الخلافات، ولذلك كثير من فتاوى مشايخنا أفراد هذه المسائل على القول بإباحتها كـ (قُنْفُذٍ ونِيصٍ) ونحوها.
(الوَطْوَاطٍ) هو الخفاش، والخفاش في المشهور من المذهب عند الحنابلة أنه محرم، كما هو قول بعض الشافعية أيضًا، ولكن قال بعض الفقهاء: إنه لا يدخل؛ لا في ذي مخلب من الطير، ولا في ذي ناب من السباع، فهو حلال.
وأوسع المذاهب في باب الأطعمة هم المالكية، لأنهم ذهبوا إلى الآية، وما سواها جعلوه على الإطلاق أو زادوا فيه، وهم أقل من غيرهم في باب الأطعمة ونحوها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَا تًوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ كَبَغْلٍ)}.
يعني لو أنَّ شيئًا تولد من مأكول وغيره، كما لو كان مثلا تولد من ذئب وضبع، فهذا فيه شيء حرام، وفيه شيء حلال، فَيُغَلِّب الفقهاء الحرام، ومثل ذلك: البغل، فإنه نزو الخيل على الحمار أكرمكم الله، فيقولون: يسمى بغلا، فهذا فيه شيء حلال وهو الفرس، لأنَّ الفرس حلال كما دلَّت على ذلك السنة الصريحة، والحمار حرام، فيغلبون جانب الحرام، ولذلك قال: (وَمَا تًوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ كَبَغْلٍ) فهو حرام، فكل ذلك في الطيور ونحوها، لو كان من طيرين أحدهما حلال والآخر حرام فيكون حراما، أو تغلب جانب الحرمة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيُبَاحُ حَيَوَانُ بَحْرٍ كُلُّهُ سِوَى ضِفْدَعٍ وَتِمْسَاحٍ وَحَيَّةٍ)}.
طبعا المؤلف -رحمه الله تعالى- لم يذكر هنا بعض الأشياء المجمع على تحريمها، مثل: الحمر الأهلية، ومثل: الضفادع ونحوها، وكذلك مثل ما أمر الشارع بقتله من فواسق ونحوها.
ثم انتقل إلى حيوان البحر، فقال: (وَيُبَاحُ حَيَوَانُ بَحْرٍ كُلُّهُ سِوَى ضِفْدَعٍ وَتِمْسَاحٍ وَحَيَّةٍ)، أما حل حيوان البحر فهذا ظاهر؛ لأنَّ النبي قال: «هو الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه» ، وقوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ [المائدة:96]، فلم يخصص شيئا من صيودات البحر، بل جعل ذلك على الإطلاق، فدخل فيه ما عاش في البحر.
قال: (وَيُبَاحُ حَيَوَانُ بَحْرٍ كُلُّهُ)، هذا هو الأصل، فما وجدت من سمك أو أخطبوط أو كان من مثلا حوت أو كان من أشياء صغيرة في البحر مثل: الجمبري أو الأشياء الأخرى، فكلها داخلة في الحل.
قال: (سوى ضفدع) لأن الضفدع منهي عن قتلها، وجاء في ذلك الحديث.
قال: (وتمساح) بعض أهل العلم طرد الكلام في التمساح، فما دام أنه من حيوان البحر فهو مأكول، وبعضهم قال: لا هو ذو ناب، واستشكل ذلك، وهذا راجع إلى هل العبرة أنه ذا ناب ويفترس فيدخل فيما ذكر، أو لا؟
الحنابلة مالوا إلى التحريم مع أنه داخل في عموم صيد البحر، ولذلك في الرواية الثانية: قول لجمع من الفقهاء، وعليه الفتيا عند كثير من أهل العلم المعاصرين بحله.
الحية كذلك بعضهم حرمها، طبعا عندنا حية البحر، وأمَّا حية البر، فجمهور أهل العلم على أنها محرمة خلافا للإمام مالك -رحمه الله تعالى- فهل تلحق بذلك حية البحر أو لا؟ هذا هو محل الكلام.
الحقيقة مما يستشكل في ذلك ما يتعلق بالطيور التي تسمى برمائية، أو تعيش هنا وهناك، فبعضهم قال: ما كان أغلب حاله في البحر فهي بحري، وبعضهم قال: الذي يأوي إليه، فإذا كان يأوي إلى البر فهو حيوان بري، وإذا كان يأوي إلى البحر، والبحر ليس المقصود به البحر فقط، سواء كان نهر، أو بحيرة، أو غير ذلك، فالمهم أنه يعيش في الماء، فهنا قالوا: إذا كان يأوي للبحر فيكون داخلا في أحكام الحيوان البحري مما يشمله الحل والإباحة.
{مثل: السلحفاة؟}.
السلحفاة فيها بري، وفيها بحري، فالبري هل هي حلال أو لا؟ أيضا جرى فيها شيء من الاختلاف، فهي من ناحية لا تأكل المستخبثات وليست ذا ناب، ولكن هل تستقذر أو لا؟
بعضهم منعها، وإذا قلنا بأن الفتيا على أن القنفذ مما يحل باعتبار ما ذكروا أنه ليس يدخل في المحرم، فيمكن أن تكون السلحفاة أو ينجر ذلك إليها.
وهنا أنبه على مسألة مهمة، وهي أنه ربما لا يحتاج كثير من الناس إلى مثل هذه الأشياء، فإنها لا ترد إليهم، ولكن ابتلي الناس اليوم بهذه الأطعمة المصنعة، وفيها تركيبات الحقيقة أنها معقدة، وبعضها يختلف أهل الغذاء فيه، هل هو مركب من كذا أو من كذا، خاصة مما يستورد من بلدان غير إسلامية، فيدخل في ذلك من الإشكالات ما الله به عليم.
ونحن لسنا هنا في باب إفتاء ولا بيان لتفاصيل هذه الأشياء، ولكنه باب تعليم وتأصيل للطالب، وأما الاستعجال والسعي وراء الإشاعات التي ترد في هذه المقطوعات التي في التواصل ونحوها، فيجب لطالب العلم أن لا يبني علمه، ولا مسائله على مثل ذلك، ولو قالوا إنه يصنع من كذا وكذا، وهذا يقولون: فيه كذا، وهذا فيه كذا.
فهذا شيء ينبغي للإنسان ألا يلتفت إليه وإلا لحار ودخل في أخذ ورد، فهؤلاء يقولون كذا، وهؤلاء يقولون كذا، ومرة يكون هنا، ومرة يكون هنا، ثم من ناحية أخرى يوجد بعض الأشياء يُحتاج فيها إلى شيء من التوقي، وإلى شيء من البحث، وما يجد الإنسان بعد بحث واجتهاد إلا أن يبقى باب التحوط والورع؛ لأنها الحقيقة لا تنفك من إشكالات كثيرة.
أما الأوهام والإشاعات ونحوها فينبغي أن تتضح، وأما ما كان من بحث ونظر فإنه ينبغي للطالب أن يتتبع ذلك ويبنيه على أصول علمية واضحة عند أهل العلم، فإذا اتضح له الأمر فالحمد لله، وإذا بقي فيه تردد ونحوه فإذا اتقى «فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ» .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ اُضْطُرَّ أَكَلَ وُجُوبًا مِنْ مُحَرَّمٍ غَيْرِ سُمٍّ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ)}.
الاضطرار حال مخصوصة، والضرورات تبيح المحظورات ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة:3]، فيعلم من ذلك أنَّ من اضطر إلى طعام، وإن لم يتعاطَ هذا المحرم فيهلك، فان الضرورة تبيح المحظور، وإن حفظ نفسه من الهلكة أولى من تعاطي المحرم، ولأجل ذلك قال: (وَمَنْ اُضْطُرَّ أَكَلَ وُجُوبًا) فلا يجوز له أن يتورع عنه أو أن يترفع، وقيد ذلك أن يخاف الهلكة.
وأما إذا كان "لم يخف الهلكة"، فلا يجوز له، ثم إنه يجب ألا يكون باغيا، وألا يكون معتديًا، كمن كان في سفر محرم ونحوه.
قال: (غَيْرِ سُمٍّ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ)، إذا جاز الأكل، فإنه لا يأكل حتى يشبع، وإنما يأكل ما تندفع به هَلكته، ويحفظ بالأكل نفسه، ثم بعد ذلك يتوقف.
هل يحمل ونحوه؟ لأهل العلم في ذلك كلام، ولكن ليس هذا محله في مقام الاختصار والاستعجال، لأننا نريد أن نكمل الكتاب.
لكن قال: (غَيْرِ سُمٍّ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ) لأنَّ أكل السم لا يفيده شيئا، لأنه يريد الخلاص من الهلكة، والسم يُفضي إلى الهلكة، ولذا فأكل السم لا يباح بحال من الأحوال؛ لأنه لا يؤدي المقصود الذي طلبه الشارع، وهو استنقاذ النفس وحفظها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَلْزَمُ مُسْلِمًا ضِيَافَةُ مُسْلِمٍ مُسَافِرٍ فِي قَرْيَةٍ لَا مِصْرٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَتُسَنُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)}.
قوله: (وَيَلْزَمُ مُسْلِمًا ضِيَافَةُ مُسْلِمٍ) المسلم له حق على أخيه، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، وفي ذلك أدلة كثيرة، بل وفيه دلالة خاصة، كما جاء في الحديث «ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ، وفي رواية: «ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ». قَالَ: وما جَائِزَتُهُ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ ولَيْلَةٌ، والضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أيَّامٍ» ، فقال أهل العلم: هذا واجب على المسلم إذا جاء في القرى التي لا يباع فيها الطعام، ولا يوجد فيها ما يتحصل به الإنسان الأكل والشراب.
وبناء على ذلك إذا كان في مصر فلا تجب الضيافة، وإذا كان في قرية كما هو حال كثير من القرى الآن أن توجد فيها محال يباع فيها أكل، يوجد فيها طعام، هذه المخبوزات أو غيرها، أو من المغلفات ونحوها، انتهت حاجة الناس، وهذا بخلاف ما مضى، فإن الإنسان ينزل إلى محل لا يجد طعامًا يشتريه، ولا ينفك من الحاجة إلى أحد يُضيفه، ولأجل ذلك الواجب متعلق بذلك، وهو يوم وليلة على سبيل الوجوب، بل حتى لو لم يعطه لجاز له أن يستنقذ حقه، ويأخذ منه ما قدر عليه.
(وَتُسَنُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) كما جاء ذلك في الصحيح، ولكن بعد ذلك لا يجب عليه شيء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل "أَحْكَامُ ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ"
لَا يُبَاحُ حَيَوَانٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ غَيْرُ جَرَادٍ وَنَحْوِهِ "إِلَّا بِذَكَاةٍ")
.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام الذكاة، والذكاة بمعنى التمام والكمال، وحقيقتها إراقة الدم، وذبح الحيوان المقدور عليه الذي (يَعِيشُ فِي الْبَرِّ) يعني: البري، وذلك بقيد أو بطريقة مخصوصة، سيأتي بيانها -بإذن الله جل وعلا-؛ لأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة:3]، و «ما أنْهَرَ الدَّمَ» ، وكل كل ذلك جاء في أحاديث صحيحة عن النبي ، ولا يختلف أهل العلم أن الذكاة شرط لحل المذبوح وإباحته، وإلا كان ميتة، والميتة حرام، كما جاء ذلك في قول الله -جل وعلا-: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة:3].
قال: (لَا يُبَاحُ حَيَوَانٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ)، أمَّا البحر فكما قلنا: إن ميتته حلال فــ «هُوَ الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه» .
(غَيْرُ جَرَادٍ وَنَحْوِهِ)، فالجراد أيضًا مباح، لقوله : «أحلَّت لَكُم ميتتانِ ودَمانِ، فأمَّا الميتَتانِ، فالحوتُ والجرادُ، وأمَّا الدَّمانِ، فالكبِدُ والطِّحالُ» ، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (غَيْرُ جَرَادٍ وَنَحْوِهِ "إِلَّا بِذَكَاةٍ").
إذًا الذكاة واجبة وتكون بذبح بهيمة الأنعام، أو الدجاج، أو ما ماثلها مما يباح من الحيوانات أو الطيور ونحوها، والذبح هو إمرار السكين على رقبة المذبوح، وأمَّا النحر فهو غرز السكين ثم تحريكها، وهي في الإبل أولى، والذبح في البقر والغنم أولى، وإن ذبح ما يُنحر أو نحر ما يُذبح، كان ذلك جائزا إذا كان بشرطه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرُوطُهَا أَرْبَعَةٌ: كَوْنُ ذَابِحٍ عَاقِلًا مُمَيِّزًا وَلَوْ كِتَابِيًّا)}.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما تحصل به الذكاة، فقال: (كَوْنُ ذَابِحٍ) يعني: الذي يتولى الذبح (عَاقِلًا مُمَيِّزًا)؛ لأنَّ العاقل هو الذي يُتصور منه القصد، وأما المجنون فلا.
ومثل ذلك إذا كان صغيرًا غير مميز فلا يتصور منه القصد، فلا بد إذًا في الذكاة من القصد، وهذا لا يتأتى إلا من عاقل مميز، كما يقول ذلك أهل العلم.
وبناء على ذلك لو كان دون البلوغ لجاز تذكيته، طالما كان مميزًا.
قال: (وَلَوْ كِتَابِيًّا)؛ لأن الله -جل وعلا- أحلَّ طعام أهل الكتاب ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ [المائدة:5].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْآلَةُ، وَهِيَ كُلُّ مُحَدَّدٍ غَيْرُ سِنِّ وَظُفُرٍ، وَقَطْعُ حُلْقُومٍ وَمَرِيءٍ)}.
قوله: (وَالْآلَةُ)، هذا هو الشرط الثاني، فلا بد من أن يكون بآلة حادة، وهي التي يحصل بها نهر الدم، ولا يمكن أن يكون الذبح بشيء مُثقل، فلو رمى عليه حجرا كبيرا فمات، فإن هذا لا يحصل به تذكيه؛ لأنه لا يكون منه نحر للدم، فلا بد أن يكون محددًا مثل: السكين، الخنجر، السيف، الخشب الحاد، ونحوه.
قال: (وَهِيَ كُلُّ مُحَدَّدٍ غَيْرُ سِنِّ وَظُفُرٍ)، أمَّا السن والظفر فقد جاء النهي عنها في الحديث الذي في الصحيح، وبناء على ذلك حتى لو حصل إنهار الدم بها، فإنه يكون منهيًا عنه ومحرما، وعند الحنابلة أن النهي يقتضي الفساد، فلا تحل الذبيحة بتلك الحال.
قال: (وَقَطْعُ حُلْقُومٍ وَمَرِيءٍ)، قطع الحلقوم والمريء هما أصل في الذكاة، فالذكاة تحصل بأربعة أشياء بالإجماع، وهي: قطع الحلقوم والمريء والوجه، والحلقوم هو مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام والشراب، والوجدان وهما عرقان في جانب الرقبة، فإذا قطع هذه الأربعة حلت بالإجماع.
هل إذا كان ببعضها، يعني: إذا قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين أيضا في قول أكثر أهل العلم، ثم الحنابلة يقولون: إن الحلقوم والمريء كاف في ذلك، والغالب أنه لا يكون هذا إلا بقطع أحد هذين العرقين.
وهنا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أنه إذا تم ذلك على الوجه المطلوب كيفما قُطع، يعني: لو افترضنا وإن كان خلاف المعهود تماما، لو أنه شخصًا بدلا من أن يذبح الذبيحة من هذه الجهة، بدأ من هذه الجهة من الخلف، فهل تحل أو لا تحل؟
نقول: نرجع إلى ما ذكرنا، إذا كان يحصل بذلك قطع الحلقوم والمريء، فإذا قطعت فالحمد لله، وهي تحصل، فإذا نوى ذلك وهو قاطع للحلقوم والمريء حصل بذلك.
ولأجل هذا قال: (وَسُنَّ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ)، والودجان كما قلنا: عرقان بقطعهما يسيل الدم كثيرا، واستحباب ذلك عند الحنابلة؛ لأنه يخرج من خلاف من اشترط أن تقطع في حصول التزكية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ كَوَاقِعٍ فِي بِئْرٍ، وَمُتَوَحِّشٍ، وَمُتَرَدٍّ يَكْفِي جَرْحُهُ حَيْثُ كَانَ)}.
قال: (وَسُنَّ قَطْعُ الْوَدَجَيْنِ) وهذا كما قلنا قبل قليل.
ثم انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى حال مختصة، وهي أن تتعذر التزكية، كأن يَشرُد أو يهرب الضأن أو البعير أو نحوه، فهنا يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَمَا عَجَزَ عَنْهُ) من أرنب أو بعير أو نحوه، فيكون مثل المتوحش، ويكفي جرحه، يعني: أحكام الصيد، كيفما عقر، فإن ذلك يكون مثل التزكية، وسيأتينا أن الصيد لا بد من أن يكون بمحدد يكون معه سيلان دم وتسمية، ويحصل المقصود بذلك، وسيأتي بيانه.
إذا التزكية هي الأصل، ويمكن أن يكون العقر جائزا في أحوال مخصوصة، وهو أن يتعذر الوصول إلى هذه البهيمة، فيكون حُكمها حكم الصيد، ولذلك يقول أهل العلم: إن العبرة في الصيد أو في الحيوان الإنسي المستأنس بحاله، فإذا هرب كان مثل الصيد، والصيد إذا أُمسك، فإنه يكون مثل الحيوان المستأنس، فلا بد من تزكيته في تلك الحال.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَإِنْ أَعَانَهُ غَيْرُهُ كَكَوْنِ رَأْسِهِ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَحِلَّ)}.
يقول: هذا الذي عُقر، أنت الآن أرسلت عليه سهمًا وهو في البئر، فما ندري هل مات بالسهم أو أن رأسه كان في الماء فغرق به، فبناء على ذلك اجتمع هنا ما يحصل به إباحة، وما لا يحصل به، فيغلب الحل الحرمة، فبناء على ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لَمْ يَحِلَّ). وجاء هذا في الأثر في قول النبي فيمن أرسل كلبة فقال: إذا وجدت مع كلبك كلبا آخر فلا تأكل ونحوه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَقَوْلُ بِسْمِ اللَّهِ عِنْدَ تَحْرِيكِ يَدِهِ، وَتَسْقُطُ سَهْوًا لَا جَهْلًا)}.
(وَقَوْلُ بِسْمِ اللَّهِ) هذا هو الشرط الرابع عند الحنابلة في المشهور من المذهب، أن ذلك لازم، ولا تحل الذكاة إلا بذاك ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام:118].
(وَقَوْلُ بِسْمِ اللَّهِ عِنْدَ تَحْرِيكِ يَدِهِ) وهذا موضعها؛ لأن هذا هو موضع الذكاة، والتسمية على التذكية، فهي تكون عند إمرار اليد وتحريكها، وبناء على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا بد أن يقول: بسم الله، ولا يقوم غيرها مقامها.
(وَتَسْقُطُ سَهْوًا لَا جَهْلًا)، فإذا سهى الإنسان فلا إشكال في مثل تلك الحال، لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:286] قالوا من إنه لا جهل، علق الحكم في السقوط بالسهو لا بالجهل، ففرقوا بينهما على خلاف المألوف عند الحنابلة في أنهما عذران ومانعان يرفعان الحرج فيمن نسي أو جهل.
{أحسن الله إليكم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَذَكَاةُ جَنِينٍ خَرَجَ مَيِّتًا وَنَحْوِهِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ)}.
فلو أنَّ شخصا ذبح شاة، ثم وجد في بطنها جنينا، ومات هذا الجنين، فهل أيضا نسلخه ونأكل لحمه أو لا؟ يقول المؤلف: نعم، ما دام أنك ذكية أمه، فزكاة أمه زكاته، ما دام أنه قد خرج ميتا.
طيب لو خرج حيا؟ يقول الفقهاء: إن كانت حياة غير مستقرة ثم مات، فهو تبع لأمه، وأمَّا لو خرج حياة مستقرة، فإنه يُذبح وإلا لم يحل.
إذا ما خرج حيا حياة مستقرة، فإنه يحتاج إلى تزكية خاصة، وأمَّا ما خرج ميتا أو نحو ميت، كمن به حركة ثم لفظ أنفاسه بدون أن تستقر حياته، فذكاة أمه ذكاة له، وهذا هو الذي جاء عن السلف -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-.
{أحسن الله إليكم.
كما قال -رحمه الله- (وَكُرِهَتْ بِآلَةٍ كَالَّةٍ وَحَدُّهَا بِحَضْرَةِ مُذَكٍّ)}.
قال: (وَكُرِهَتْ بِآلَةٍ) يعني: ينبغي ألا تكون الآلة غير شفرتها غير محددة، أو غير حادة فإن هذا يفضي إلى تعذيب البهيمة، وإيذائها والنبي قال: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» ، فليجد ذلك قال الفقهاء وكره بالة كآلة، وحدها بحضرة وذكي لأنه يحس فينبغي ألا يعني يحصل حد الشفرة أمام ما يراد تذكيته؛ لأن هذا فيه إيذاء له، وعدم إحسان للذكاة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَسَلْخٌ، وَكَسْرُ عُنُقٍ قَبْلَ زُهُوقٍ، وَنَفْخُ لَحْمٍ لِبَيْعٍ)}.
قال: (وَسَلْخٌ، وَكَسْرُ عُنُقٍ قَبْلَ زُهُوقٍ) أي: الروح، يعني بعض الناس إذا طبعا إذا ذبحت للذبيحة فحتى تخرج روحها لا بد أن تترك قليلا حتى تخرج روحها، فبعض الناس بعد أن يقطع الحلقوم والمريء، وفي أثناء خروج الدم وهي تلفظ أنفاسها يبدأ في سلخها، وهذا من الإيذاء لها، ولأجل ذلك قال الفقهاء: (كره)، ومثل ذلك أن يُكسر عنقها هو نوع إيذاء فلا يكون ذلك إلا إذا انتهت حركتها وخرجت روحها.
قال: (وَنَفْخُ لَحْمٍ لِبَيْعٍ) بعض الجزارين ونحوهم إذا ذبح فتح فتحة ثم نفخ، فتكبر قليلا وتعظم، فكأنها ذات لحم كثير، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا كان النفخ لأجل البيع فلا، وأما إذا كان النفخ لأجل تسهيل السلخ، حتى ينفك الجلد عن اللحم، فهذا لا حرج فيه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ تَوْجِيهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَرِفْقٌ بِهِ، وَتَكْبِيرٌ)}.
توجيه إلى القبلة هذا من السنة، وأن يكون على (شِقِّهِ الْأَيْسَرِ) كما جاء في الآثار، (وَرِفْقٌ بِهِ) كما قلنا: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ»، (وَتَكْبِيرٌ) أي أن يقول: الله أكبر، كما جاءت بذلك السنة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصل أَحْكَامُ الصَّيْدِ.
الصَّيْدُ مُبَاحٌ، وَشُرُوطُهُ أَرْبَعَةٌ)
}.
هذا الفصل في أحكام الصيد، فالمؤلف لَمَّا ذكر الذكاة، كان من المهم أن يُذكر ما يتبع ذلك من أحكام الصيد، والصيد اقتناص الحيوان البري المتوحش الذي لا يُقدر عليه، سواء كان بسهم، أو سواء كان رمح، أو سواء كان بما يستعمل الآن من آلات للصيد حديثة، وإن كانت الآلات هذه اختلف فيها عند بعض أهل العلم المتأخرين، قالوا هل يجوز بها الصيد أو لا؟
فعلى كل حال الشرط عند الحنابلة والفقهاء واضح، وهو حصول إنهار الدم، وهذه يحصل بها جميعا، يحصل بها إنهار الدم، ولها مور في البدن وتجرح، فكل ذلك يدل على أنها في حكم المحدد لا في حكم المثقل.
ولكن لو تصور أن يوجد شيء يَرمي بثقل، ولا يكون فيه مور في البدن ولا جرح وخروج للدم، فإنه لا يكون مما يحل به المصيد.
والصيد كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا: حلال؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة. ولكن ذكر بعض أهل العلم إذا كان ذلك على سبيل اللعب، فيكون مكروها، ويمكن أن يكون محرمًا، كما لو كان ذلك مثلا لمحرم أو في الحرم أو نحوه، أو كان على سبيل يستدعي الظلم والعدوان، كأن يتسلط على بعض أماكن الناس في بيوتاتهم، أو في بساتينهم، فيدخل عليهم فيكون في ذلك ما يَنقلها إلى الحرمة والمنع.
{أحسن الله إليكم، لعلنا نرجئ بقية المسائل إلى الدرس القادم}.
فيما ذكرنا بركة، نسأل الله الإعانة والتوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{الحمد لله رب العالمين، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم بعون الله -تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك