الدرس التاسع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7527 33
الدرس التاسع

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك، حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، حيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{رضي الله عنك شيخنا، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (كِتَاب الْوَصَايَا)}.
نبدأ على بركة الله.
{قال المؤلف -رحمه الله- (كِتَابُ الْوَصَايَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا نَسوا تذكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الكتاب هو (كتاب الوصايا) وهو امتداد لِمَا تقدم ذكره من عقود التبرعات، فلمَّا كان الغالب على الوصايا أنها وصية بالإحسان، وصية بالتبرع، وصية بالمال، «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» ، وسيأتي الحديث عن ذلك تفصيلا، والحديث في ذلك تكميلاً، وإن كان باب الوصايا فيه مسائل ليس بابها باب التبرع، لكن ذكرت على سبيل التكميل، وعلى سبيل التتميم، ولكن من حيث الجملة؛ فإن ذِكْرَ المؤلف -رحمه الله تعالى- لهذا الباب بعد الوقف والهبة، وما فيها من الهدية والعطية ونحوها، وما فيها من التبرع، وما فيها من الإحسان، ثم ذُكر ما يكمل ويُتمم به الباب، والحاجة إليه ماسة.
والوصايا جمع وصية، والوصية من: وَصَّى بالشيء، إذا أمر به ووصله، وذلك أنَّ الموصي يصل ما بعد مماته لِمَا قبلها في حال حياته.
وحقيقتها في الاصطلاحات هو الأمر بالتصرف والإذن فيه، أو الوصية بالمال والتبرع به، فهي تكون على حالين، إمَّا تبرعات، وإمَّا أعمال وتفويض مخصوص بعد الموت، كرد دين، أو قيام على يتيم، أو تزويج بكر أو ثيب، أو نحو ذلك وهكذا.
إذًا هذا هو ما يتعلق بكتاب الوصايا، وباب الوصايا من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يُعنى بها، وإنَّ كثيرًا من الناس قد فرطوا في هذا الباب، فلحق بهم من بقاء تعلق الحقوق، أو حصول ما يتمنى أن لو استمر له به عمله، وبقي له أجره، من إجراء عمل، وإيقاف وقف، وصدقة جارية وهكذا؛ فلأجل ذلك لا ينبغي ألا يتوانى الإنسان عن كتابة وصيته، وسيأتي ما يتعلق بتفاصيل فيما سيذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-.
{قال -رحمه الله-: (يُسَنُّ لِمَنْ تَرَكَ مَالًا كَثِيرًا عُرْفًا الْوَصِيَّةُ بِخُمْسِهِ)}.
إذا المؤلف -رحمه الله تعالى- بدأ بما ذكرناه، وهو المناسب لِمَا تقدم من التبرعات، فذكر الوصية المستحبة، أو الوصية المسنونة، وهي أنَّ من (تَرَكَ مَالًا كَثِيرًا عُرْفًا)؛ فإنَّه يوصي.
ولم يعرف أنَّ أحدًا من أصحاب النبي إلا أوقف وتبرع، وسواء كان ذلك في حال حياته، أو كان ذلك وصية بعد مماته، والله -جل وعلا- قال: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء:11]، وجاء ذلك في حديث ابن عمر، «ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» .
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يُسَنُّ لِمَنْ تَرَكَ مَالًا كَثِيرًا عُرْفًا) لِماذا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هذا القيد، وهو من (تَرَكَ مَالًا كَثِيرًا)؟
لأنَّ من ترك مالاً قليلاً، فإنَّ ولده أولى به، والنبي قال في الحديث المشهور: «إنَّكَ إنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ» ، والنبي قال في الحديث الآخر: «كَفَى بِالَمرءِ إثمًا أن يُضَيِّعَ مَنْ يَعُول»، ولَمَّا كان الإحسان إلى الولد، والإحسان إلى الأهل من أعظم الإحسان، والصدقة على الزوجة وعلى الولد أفضل ما يُنفق فيه، كما في الحديث «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ» .
إذًا، إذا ترك الإنسان مالاً كثيرًا عند موته، وهذا المال يقوم بحاجة أهله، ويفي بما يحتاج إليه ورثته؛ فإنه يُستحب له أن يُوصي؛ فإن لم يكن كذلك، فإنَّ نيته من منع حصول النقص على ولده، والإحسان إليهم بإتمام نفقتهم، هو الخير كله، وهو الفضل والأجر عند الله تعالى.
قال: (عُرْفًا) فإنَّ هذا يختلف باختلاف الأحوال، فالآن مثلا قد تغيرت أحوال الناس وصار لهم حاجة إلى بيت أو سيارة أو بعض لوازم أخرى، وقد تكون غير ما كان في الأزمنة المتقدمة.
وكذلك ما يكون في هذه البلاد قد يختلف عمَّا يكون في بلاد أخرى تلي الزراعات مثلا، أو تتعلق أعمالها بالحرف ونحوها.
إذًا كل أهل محلةٍ، أو أهل زمان، أو كل من احتفت بهم ظروف، فهم بحسب ما احتف بهم، فَيُنَاُط ذلك بالعرف.
قال: (الْوَصِيَّةُ بِخُمْسِهِ)؛ لأنَّ النبي قال: «الثلثُ والثلثُ كثيرٌ» ، وجاء عن أبي بكر، وعن عليٍّ -رضي الله تعالى عنهما- أنهما قالا: "رَضِيت بِمَا رَضِيَ اللَّهُ بِهِ لِنَفْسِهِ"، وذلك في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال:41]، ولأنه لَمَّا قال النبي : «وَالثُّلُثُ كَثيرٌ» فالحط منه إلى الخمس يكون ذلك مناسبًا، وهذا هو مشهور المذهب، وأصله ظاهر في قول الصحابة، ومعناه بَينٌ من الحديث.
ولكن مع ذلك لا يمنع إذا كان للإنسان مالٌ كثير، كما أفاء الله على كثيرٍ من الناس في هذا الزمان، أن يُوصي بالثُّلُثِ؛ فإنَّه وإن أوصى بالثلث، فإن ما يبقى بعد ذلك كثير جدًا، يأتي على حاجة أهله ويزيد، ولذلك جاء عن القاضي وعن غيره أنه قال: "إذا كان المال كثيرًا فيوصي بالثلث".
وينبغي للإنسان إذا كان المال كثيرًا أن يُبادر نفسه، فيمضي من نفقاته، ويستعجل من صدقاته، ويوقف أمام عينيه، ويُجري عمله في حياته، ليكون أكثر ثباتًا لعمله، وكما جاء أنَّ خير الصدقة «أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى» ، فهذا لا شك أنه أولى وأتم، فعلى كل حال الخمس لمن كان عنده مال، ولكن لئلا يُضار بأهله أو ينقص عليهم؛ فإنه يغض من ذلك.
وإذا كان المال كثيرًا فلا يبعد أن يكون الوصول إلى الثلث له معنى صحيح، وهذا ما جاء عن بعض السلف، وعليه قول القاضي من الحنابلة -رحمه الله تعالى-.
ولا ينبغي أن يوقف الإنسان الصدقة إلى ما بعد مماته، فله أن يتصدق، وأن ينفق، وأن يتكثر من الطاعة في حال الحياة، وأن يدخر بعد ذلك ما أنفع له بعد مماته.
ثم هنا مسألتان مهمتان:
كم مِنَ الأموال التي تصدق بها الإنسان، كانت حماية لأموال ورثته، وحفظًا لخيرهم، وبقاءً لبركتهم، وقيامًا لتجارتهم، ومنعًا لحصول البلاء عليهم!
وكم من الناس الذين أعرضوا عن الوصية، وتركوا الإحسان إلى أنفسهم، فأهملهم أبناؤهم فلم يحسنوا إلى والديهم، وكان منهم الإساءة إلى أنفسهم بتلك الأموال، فربما أدخلتهم في البلاء، ورب جرت عليهم الضلال، وربما منعتهم من الخير الكثير، فاجتمع على ذلك أنواع البلاء، بلاؤه على نفسه، وبلاء أولادهم على أنفسهم، وبلاؤهم على والديهم بعدم صلتهم، والإحسان إلى من أحسن تربيتهم، وأفاء عليهم بالمال والخير الكثير.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَتَحْرُمُ مِمَّنْ يَرِثُهُ غَيْرُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ)}.
إذا المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن يُبين ما يَرد على الوصية من الأحكام، فتأتي على الاستحباب، وتأتي على التحريم، والتحريم بأن يوصي الإنسان لوارث، فإنَّ الله -جل وعلا- قد منع ذلك، «إنَّ اللهَ أعطَى كلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه فَلَا وصِيَّةَ لِوارثٍ» .
وكذلك الوصية بأكثر من الثلث، فالنبي نهى عن ذلك كما جاء في الحديث الذي في الصحيح، فلا يكن للإنسان أن يُوصي بأكثر من الثلث، وقد منع منه النبي ، ومن فعل ذلك فقد فعل فعلاً محرمًا، هذا من جهة التكليف، وأمَّا من جهة الصحة، فيقول الفقهاء: إنه يوقف على إجازة الورثة، وسيأتي هل هو إنشاء أو إجازة، سيأتي الكلام عليها أظن في ثنايا كلام المؤلف في مسائل لاحقة -بإذن الله جل وعلا-.
وهنا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: يُستثنى من الوصية بالثلث في التحريم من لا وارث له، فإذا لم يكن للإنسان وارث، فإنهم يقولون: يجوز للإنسان أن يوصي بماله كله، وقد جاء ذلك -أظن- عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
وكذلك لو كان له وارث، سواء كان رجلا أو امرأة، فالزوج عندهم لا يُرد عليه في الإرث، أي: لا يدخلون في مسائل الرد، ومعنى ذلك: أنَّ ما بعد حقهم لن يكون له وارث، وبالتالي فله أن يزيد بما لا ينقص حق الزوج.
فإذا كان الزوج مثلا يرث النصف، فأوصى بنصف ماله فحسن، وإذا كانت زوجته ترث الربع؛ لأنه لا وارث له، فأوصى هو بثلاثة الأرباع، فإنه لا يكون عليه غضاضة، وذلك بناء على ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من أنه يكون كمن لا وارث له.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ مَوْقُوفَةً عَلَى الْإِجَازَةِ)}.
مع كونها محرمة، إلا أنها من جهة الحكم الوضعي فتصح، وأكثرهم على أنها تصح تنفيذًا، وسيأتي إشارة إلى ذلك لاحقا.
{ثم قال- رحمه الله-: (وَتُكْرَهُ مِنْ فَقِيرٍ وَارِثُهُ مُحْتَاجٌ)}.
هذا الذي يُبين ما تقدم، إذًا هذا هو الحكم الثالث، فقد تقدم أنَّه يُسن لمن كان ماله كثيرًا، ويقابل ذلك من له مال قليل فإنه يُكره، فإنَّ إحسانه إلى وارثه أو لا، وإنَّ قيامه على من يتعلق به وجوب النفقة والإحسان إليه أوجب وأولى.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِالْوَصَايَا تَحَاصُّوا فِيهِ كَمَسَائِل الْعَوْلِ)}.
يعني: أنَّ الإنسان له أن يوصي بالثلث، ولكن لو أنَّ شخصًا أوصى وقال: لفلان هذه العمارة، ولفلان هذه السيارة، ولفلان هذه الأرض أو هذا البستان، فحصل في ذلك أنَّ مجموع هذه الأشياء أكثر من الثلث؛ فإنه يصير عليهم النقص بحسب أنصبائهم.
فإذا افترضنا أنَّ العمارة تكون ستين في المئة من الوقف ومن الثلث، والأرض تكون ثلاثين في المئة، والسيارة تكون عشرين في المئة، معنى ذلك أنها زادت بنسبة عشرة في المئة، فيكون عليهم النقص بقدر ذلك.
أو كان مثلا قد أوصى لهذا مئة ألف، وهذا خمسين ألف، وهذا ثلاثون ألف، فهذه مئة وثمانين ألفًا، ولكن لَمَّا نظرنا فإذا تركته لا تتجاوز أربعمائة ألف. فسيأتي عليها النقص.
وبناء على ذلك يكون عليهن النقص بحسب حاجة.
هذا فيما إذا أوصى إليهم بدون ترتيب، وأمَّا إذا قال: أعطوا فلانًا خمسين، ثم فلان خمسين، ثم فلان خمسين، فإنَّ الأخير لا يستحقها إلا إذا خرجت من الثلث، فلا يكون التحصيل في مثل هذه الحال؛ لأنَّ حقه متعلق بعد حق فلان الآخر، فيكون ذلك على سبيل الترتيب، ويكون الاستحقاق للأول؛ كأنه قال: أعطوا فلانًا، فإن بقي شيء فأعطوا فلانًا، فإن بقي شيء فأعطوا الثالث، فإذا لم يبق للثاني شيء أو بقي له النصف فيعطى الثلث بقدر ما تبقى، ولو كان أقل من ذلك، إلا أن يُجيز الورثة ما زاد، فإنَّ ذلك إحسان منهم إلى الميت، وإنفاذ له في الوصية.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتُخْرَجُ الْوَاجِبَاتُ مِنْ دَيْنٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُطْلَقًا)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ما كان على الميت من الواجبات يختلف عن الوصية، فالوصية تتعلق بالثلث، ولكن ما كان من الأشياء المتعلقة بذمة الميت، كما لو كان عليه حج، فالحج عبادة، فإذا كان عليه حج لازم، أو حج كان قد نذره، فهذا واجب عليه، وبناء على ذلك يكون من رأس المال، حتى ولو لم يبق للورثة شيء، وهذا بخلاف الوصية، فنحن إنما نمضي ما كان ثلثًا فأقل.
فمثل ذلك لو كان عليه دين، فإنَّ صاحب الدين يُعطى دينه حتى وإن لم يبق ريالا واحدًا للورثة، وكذلك لو كان عليه زكاة أخَّرَهَا، فتخرج الزكاة من رأس المال، حتى وإن كانت الزكاة لَمَّا جُمِعَت قد أتت على نصف المال، فنقول: يخرج ما عليه، ثم بعد ذلك يُنظر في الوصية، فيخرج ثلث ما بقي، ثم بعد ذلك يُعطى الورثة حقهم.
فلو لم يبق شيء بعد الحج أو الزكاة أو الدين، فلا يعطى أحد شيء، ويمضي ما كان عليه من دين أو حج أو زكاة.
{أحسن الله إليكم. يعني أول شيء بعد الوفاة لا ينظر إلى الوصية، وإنما ينظر ما عليه من حقوق سواء كان عليه دين أو ما شابه}
هذه المسألة يبحثها الفقهاء في كتاب الفرائض، باعتبار أن الفرائض ستأتينا بعد هذا الباب، ولكن أظن أن المنظمين لهذه الدورات قد جعلوا لها منهجًا خاصا، فلأجل ذلك ربما نتجاوزه ونترك الحديث في ذلك إلى مادة متخصصة، فيخصص لها وقت آخر، وهذا منهج مسلوك عند كثير من أهل العلم في اختصاص الفرائض بكتبها، والانتقال عما نظمه الفقهاء في متونهم، فانهم يذكرون ما يتعلق بتركة الميت من الحقوق، فأول شيء يُبدأ به: تجهيزه من كفن ونحوه؛ لأن هذا مثل ثوبه في الحياة فكذلك، ثم الديون المتعلقة بعين التركة، كما لو كان دينًا برهن أو جناية في عبد ونحوه، ثم بعد ذلك الديون المتعلقة بذمته، كما قلنا: من حج أو زكاة أو دين لم يوثق برهن، ثم بعد ذلك الوصية، ثم ما يُعطى للورثة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ لِعَبْدِهِ بِمَشَاعٍ كَثُلُثٍ)}.
وعلى كل حال يعني بالنسبة للأول والثاني ربما جاء شيء من الخلاف، ولكن هذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، أنَّ مؤن التجهيز وآلة التكفين وما يتبعها، مقدمة حتى على الديون المتعلقة بعين التركة، وقد لا يكون بينها تضاد كما يقول بعضهم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك: (وَتَصِحُّ لِعَبْدِهِ بِمَشَاعٍ كَثُلُثٍ)، العبد ملك للسيد، وبناء على ذلك هو مال موجود، ولكن قال أهل العلم: إن أوصى له بشيء لا يخلو من حالين، وسيذكرهما المؤلف -رحمه الله تعالى-، فلو قال: أوصيت للعبد بالسيارة، فهذا أوصى بماله لماله، فكلا المالين للورثة، فلا يكون لهذه الوصية اعتبار، ولكن إذا أوصى لعبده بمشاع كالثلث، كأن قال: لك ثلث المال، أو لك خمسة في المئة من المال، أو حتى لو قال: لك واحد بالمئة من المال، فبناء على ذلك كأنه أوصى بعتقه بواحد في المئة. لماذا؟ لأنه من جملة المال، وبناء على ذلك دخل عليه العتق، فلمَّا دخل عليه العتق؛ أمكن له التملك، وبناء على ذلك ننظر إلى هذه النسبة التي أوصى له بها، إمَّا أن تكون آتية على قيمة العبد، يعني: لو افترضنا مثلا أنَّ قيمة هذا العبد عشرة آلاف ريال، وقال: لك اثنان في المئة! فـلو كانت تركته مليون ريال، فمعنى ذلك أن اثنين في المئة يعني: عشرون ألف.
فإذا كانت قيمة هذا العبد عشرة آلاف، إذًا سيعتق هذا العبد كاملاً، وسيأخذ عشرة آلاف.
وأمَّا إذا كان قد قال له: لك واحد في المئة، وكانت قيمة العبد عشرين ألف، فهذا معناه أن العبد سيعتق نصفه، ونصفه يكون عبدًا، وهذا الذي يسمى عند الفقهاء: "المبعض"، وهو أن يكون العبد رقيقًا في بعض أحكامه، وحرًا في البعض الآخر، فيتعلق به أحكام الأحرار وأحكام العبيد في الحال نفسها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ)}.
هذا في حال أنَّه لم يأت على جميعه.
ثم قال: {(فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخْذَهُ)}.
هذا كما قلنا، إذا زاد شيء فهو للعبد، وإذا نقص فيعتق بعض العبد، وإذا كان لا له ولا عليه يعتق العبد برقبته وينفد.
{قال: (وَبِحَمْلٍ تَحَقَّقَ وُجُودُهُ)}.
كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إنه لو أوصى الإنسان بحمل جاز ذلك، فإذا قال: لجاري من جهة اليمين حمل هذا البعير، فنقول في هذه الحالة: يجوز، فهنا أجاز الوصية؛ لأنَّ باب الوصية هو باب التبرع، وإلا فإنه من جهة المعاوضات ونحوها لا يجوز أن يتعلق الحكم في المعاوضة في البيع ونحوه بحمل؛ لأنه فيه شيء من الغرر والجهالة، ولكن لَمَّا كانت الوصية ليست معاوضة، وإنما محضها تبرع؛ فإن حصل على أي وجه كان ذلك خيرًا وبركة، وإلا فلا شيء يفوت.
وكذلك لحمل، أي: لو أوصى لحمل، فقال: ما حملت به زوجة أخي من ولد، فله هذه السيارة، فيقال: كما أن الحمل المتحقق وجوده لا المشكوك فيه، فإنه يدخل في حكم الورثة، يعني: يُنتظر إلى أن تلده أمه، ثم يُعطى وإلَّا تُقسم التركة على ما سيأتي في ميراث الحمل، وهذا أيض سيشرح في المادة المخصوصة.
وبناء على ذلك قالوا: ما دام أنه يرث، فكذلك أيضًا تصح له الوصية في هذه الحال.
{هل يُفرق يا شيخ إذا كان قبل أربعة أشهر، يعني: قبل نفخ الروح أو بعده؟}.
نقول: إذا تحقق حمله فقط.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال: (لَا لِكَنِيسَةٍ وَبَيْتِ نَارٍ وَكُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنَحْوِهِمَا)}.
هذه وصية على محرم، أي على أمر لا يجوز، وبناء على ذلك لا يكون ذلك نافذًا، ولكن لو أوصى مثلا على أخيه وهو ذمي، فـ «في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ» .
ولو أوصى على بهائم ونحوها؛ جاز إذا كان على وجه الإحسان إليها، وليس على وجه تمليكها؛ لأنها لا تَملك شيئًا، وسيأتي هذا.
إذًا بيت النار الذي هو معبد المجوس، والكنيسة التي هي معبد النصارى، وكتب التوراة والإنجيل، هذه أمور محرمة، وبناء على ذلك لا تصح الوصية إليها، ولكن ما كان فيه أجر سوى ذلك؛ فإنه تصح الوصية له، وينفذ ذلك، ويكون له فيه أجر.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ بِمَجْهُولٍ وَمَعْدُومٍ، وَبِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ)}.
قوله: (وَتَصِحُّ بِمَجْهُولٍ وَمَعْدُومٍ) فلو قال: لك بعض ما في هذه الحقيبة، فهذا البعض قد يكون كثيرًا، وقد يكون قليلاً، فهو مجهول.
أو قال: "لك ما في هذا الإناء"، أو لك ما حملت به هذه الناقة، وهو معدوم، قد يصححونه، فمتى ما تحمل به هذه الشجرة. فيقولون: إن حملت فالحمد لله، وإن لم تحمل فلا شيء في ذلك، وعلى كل حال ربما جرى في ذلك شيء من الكلام، ولكن هذا قد سهَّل أو وَسَّعَ الفقهاء فيه من أجل أنه بابه باب التبرع، فلا يحصل فيه ما يحصل في المعاوضة من المنازعة ومن المقامرة، فقد يكون في ذلك غبن على واحد منهما، وأمَّا في هذا فإنه يصح، ويكون على ما تيسر.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَا حَدَثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ يَدْخُلُ فِيهَا)}.
يعني: لو كان أوصى لشخص بثلث ماله، أو بعشرة في المئة من ماله، وكان ماله مليون ريال، ثم دخل عليه ربح تجارة فصارت عشرة ملايين ريال، فنقول: إذًا له ثلث العشرة ملايين، أي: يتحصل على الثلث عند الموت، وليس ما يتعلق بالثلث عند كتابة الوصية.
لو قال: لَكَ هذه السيارة، ثم احترقت السيارة، فقد ذهب حكم الوصية، وليس لك شيء، وليس على الورثة تعويضه بما يقابله أو شراء له مثلها أو نحو ذلك؛ لأنَّ عين الْمُوصَى له قد تلف، فذهب حكم الوصية، ولم يستحق الموصى له شيئا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ فَلَهُ مِثْلُهُ مَضْمُومًا إِلَى الْمَسْأَلَةِ)}.
هذه يعبر عنها الفقهاء بوصية الأنصبة والأجزاء، ولهم فيها تفاصيل، وهي تمارين للفقيه؛ لتقوى بها ملكته، ويستطيع بها معرفة ما يتغير من أحوال الناس في طريقة الإيصال، فيتفنن الفقهاء في ذلك، وربما ذكروا مسائل وعرة وشديدة الصعوبة، وليس من السهولة أن يفهمها الطالب، وكل ذلك للتمرين وتقوية الذهن.
فالنصيب وهو القدر المحدد لوارث، فيقال: لك مثل يأخذ ابني، فلو كان له ابنان فيعطى وتقسم التركة كأنه بين ثلاثة. فهما وهو ثالثهم؛ لأنه قال مثلا: لك مثل ما لابني محمد، فيصيرون ثلاثة، ويكون له الثلث.
لو قال مثلا: له ثمن المال، أو له ربع المال، فيكون له ذلك، وهذا أيضًا قدرٌ محدد، وهذا إذًا هو ما يتعلق بهذه الطريقة، وهذا يذهب إليه كثير من الناس إذا كان قد أراد أن يوصي لورثة ابنه لو مات قبله، فيقول: لورثة ابني مثلا ما لأعمامهم أو ما لعماتهم -اللاتي هن بناته-.
إذا يُقدر ذلك بقدرهم، فيأخذ هؤلاء الورثة سواء كان واحدًا أو أكثر، ما كان يأخذ أبوهم لو كان حيا من جهة ما يرثه من والده.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَبِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ لَهُ مِثْلُ مَا لِأَقَلِّهِمْ)}.
لو قال: (بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ) كلمة أحد ورثته هذا مبهم، فقد يكون أكثرهم، وقد يكون أقلهم، فيقولون: الأقل هو المتيقن، وما زاد فهو مشكوك فيه، وبالتالي نعطيه القدر الأقل؛ لأنه هو القدر المتيقن فيه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَبِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ لَهُ سُدُسٌ)}.
السهم مشهور عند الفقهاء، فإذا قال: لفلان سهم في مالي؛ فيعطى السدس، وإذا قيل: فلان له سهمان؛ فيعطى الثلث، لأنَّ السدسين بمثابة الثلث، وهكذا.
وجعل السهم سدسًا جاء عن بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فجرى على ذلك فقيه الحنابلة على ما هو معتبر ومعتمد في المذهب عند أصول أحمد -رحمه الله تعالى-.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَبِشَيْءٍ أَوْ حَظٍّ أَوْ جُزْءٍ يُعْطِيهِ الْوَارِثُ مَا شَاءَ)}.
إذا قال صاحب الوصية: أوصي بشيء أو حظ، فهذه ألفاظ ليست مقدرة مثل المتقدم، وبالتالي لا حدَّ لها، فيوكل ذلك إلى الورثة، وهذا الشيء، وهذا الحدُّ، وهذا الجزء، يصدق على القليل وعلى الكثير، فما جادت به نفوس الورثة؛ صَدَقَ عليه أنه حظ، وَصَدَقَ عليه أنه أنفذ الوصية، ولم يستحق الموصى له أكثر من ذلك، حتى ولو كان شيئًا قليلاً؛ لأنَّ صاحب الوصية لو كان قد أراد شيئًا بعينه لبينه وحدده، فكأنه جعل ذلك إلى الورثة، وقد برئت ذمتهم بإعطائه ما يُطلق عليه هذا الاسم، وما يدخل في حدود كلام أهل اللغة -رحم الله الجميع.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ فِي الْمُوصَى إِلَيهِ)}.
إذًا هذا انتقال إلى مسائل أُخرى تتعلق بالوصية، ولكن فيمن يقوم على الوصية، وفيمن يعهد إليه بها، وفيمن ينفذها، وفيمن يرعاها، وهذا جاء عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وكان الوَصِيُّ مقدمًا حتى على العصبة في الولاية، وفي التزويج، وفي القيام على تقسيم التركة، وفي أشياء كثيرة، كما هو منصوص عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى- حتى في الولاية على اليتيم، ورعاية الصغير أو المعتوه.
إذًا الموصى إليه قد جاء فيه الأدلة، ودلت على ذلك النصوص، فكان مُعتبرًا صحيحًا، وعلى كل حال هي من الأمور المستقرة، وقد بينه المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال- رحمه الله-: (وَيَصِحُّ الْإِيصَاءُ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ عَدْلٍ، وَلَوْ ظَاهِرًا)}.
هذه شروط لا بد من توافقها في الموصى إليه، فلا بد أن يكون مُسلمًا، لأنَّ للوصي ولاية، وبالتالي لابد أن يكون للموصى إليه ولاية، والولاية لا تكون إلا لمسلم.
وأن يكون مكلفا، والمكلف هو العاقل البالغ، فلو كان غير عاقل، أو كان غير بالغ، لكانت عليه ولاية، وبالتالي لا يصح التوصية إليه.
وأن يكون رشيدًا، والرشد هنا في كل شيء بحسبه، فإن كان وصيًا في مال، فلا بد أن يكون ممن يُحسن البيع والشراء، ولا يُغلب في ذلك.
وإن كان وصيًا في تزويج وإنكاح ونحوه، فلابد أن يكون ممن يعرف الكفء من غيره، فهنا كما يذكر أهل العلم أنَّ الرشيد يكون في كل شيء بحسبه.
أن يكون عدلاً؛ لأنَّ الفاسق لا يُوثق به، فيمكن أن يكون منه لعب بالوصية، وربما يكون منه شيء من جلب الأمور إلى نفسه، والمحاباة لقريب له، وعدم السعي في الأحظ لمن أوصى إليه، فلا بد أن يكون عدلا، وأما غير العدل فلا يُعتبر، وذلك بحسب الظاهر؛ لأنَّ الأحكام إنما تُناط بذلك.
ولو اشترطنا العدالة الباطنة فلربما كان في ذلك شيء من الصعوبة في تحققها والقطع بها.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمِنْ كَافِرٍ إِلَى مُسْلِمٍ وَعَدْلٍ فِي دِينِهِ)}.
كذلك لو كان من كافر إلى مسلم فيوصي، يصح في ذلك، ولكن أيضا لو أنَّ كافرًا أراد أن يوصي إلى كافرٍ فلا بأس، ولكن يقولون: لا بد أيضًا أن يكون عدلاً في دينه، وهذا مشهور عندهم؛ لأنَّه ربما يترافع إلينا الكفار، فننظر إليهم بحسب ما يليق بهم.
فإذا علمنا أنَّ هذا ممن يرعى الأمور ويقوم بها على وجهها؛ فإنه تنفذ الوصية إليه وإلا فلا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَعْلُومٍ يَمْلِكُ الْمُوصِي فِعْلَهُ)}.
قوله: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَعْلُومٍ)؛ لأنَّ الوصية إلى شخص بأمر مجهول لا يتحقق فعله، ولا يتصور قيامه به، فلابد أن يكون معلومًا، حتى يُعلم قيامه به من عدمه، وَإِنفاذه لوصية من أوصاه من سواه، وبناء على ذلك لا بد أن يكون معلوم.
قوله: (يَمْلِكُ الْمُوصِي فِعْلَهُ)؛ لأنَّه ينقلُ ولايته إلى الموصى إليه، وبناء على ذلك، إذا لم يكن يملك فلا، فإذا مات وقال: انتبه لبيت جاري، وبيت جاره ليس من ضمن ولايته إليه، وليس له مسئولية عليه، فبناء على ذلك ليس له ذلك.
ولكن إذا قال: أوصيت إليك بتعاهد وقفي، فهذا صحيح. أو بتعاهد ولدي الصغير، أو بتعاهد تزويج ابنتي، أو نحو ذلك، فهذا مما يملكه، وبالتالي ينتقل إلى الموصى إليه كذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ مَاتَ بِمَحَلٍّ لَا حَاكِمَ فِيهِ وَلَا وَصِيَّ، فَلِمُسْلِمٍ حَوْزُ تَرِكَتِهِ، وَفِعْلُ الْأَصْلَحِ فِيهَا مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ وَتَجْهِيزِهِ مِنْهَا)}.
هذا لأنَّ الولايات في الشريعة في كل شيء بحسبه، فإما أن يكون منصوصًا عليها، ومنقولة من الموصي إلى الموصى إليه، وإمَّا أن تكون مستحقة بالأمر العام، فالله -جل وعلا- قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، فلأجل هذا قال الفقهاء: (وَمَنْ مَاتَ بِمَحَلٍّ لَا حَاكِمَ فِيهِ)، فإذا لم يكن لهذا وصي أو أحد يقوم عليه، فالسلطان ولي من لا ولي له، ولكن هذا ليس له وصي، وليس في المحلة حاكم، فإما أن يضيع ما خَلَّفَهُ بعده، وإمَّا أن يقوم عليه بعض من حضره من المسلمين، ولأجل ذلك ولما جاء في النصوص الكثيرة في كتاب الله -جل وعلا-، وفي سنة نبيه ، «المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا» ، «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»، إلى أحاديث كثيرة، فقد أخذ من هذا أهل العلم أنه يقوم بها من حضر، ويتعلق به حكم ذلك، ولا يجوز له التفريط، ولا التخاذل، ولا التأخر عن القيام بهذا.
قال: (فَلِمُسْلِمٍ حَوْزُ تَرِكَتِهِ، وَفِعْلُ الْأَصْلَحِ فِيهَا) إذًا هي على من حضر، وتكون فرض كفاية، فإذا انبرى لها من تقوم به الكفاية فالحمد لله، وإذا لم يوجد إلا واحد؛ تعين عليه، وإذا لم يكن الأكفأ إلا واحدًا؛ فإنه كذلك أيضا لا يجوز له أن يتأخر أو يتخلف أو يتوانى عن القيام بذلك.
وإذا قام بها بعض من حضر، (فَلِمُسْلِمٍ حَوْزُ تَرِكَتِهِ، وَفِعْلُ الْأَصْلَحِ فِيهَا)، وهذه ولاية بالأصلح، طبعا هو لم ينص على شيء، وبناء على ذلك، لو كان له بنت تركها بعده، فإنَّ هذا يزوجها بمن هو أوفق لها في ديانته وأمانته، ومن يُرضى في عقله وخلقه ونحو ذلك.
وإذا كان له مال وصية لأحد يقوم بها حتى يوصلها إلى من أوصي إليه، أو وقفًا فيقوم به حتى ينشأ وهكذا.
ولأجل هذا قال: (وَفِعْلُ الْأَصْلَحِ فِيهَا مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ)، فإذا مالٌ يُخشى فساده، فيبيعه حتى يحفظ وهكذا، فيتصرف فيه بما يكون الأصلح فيه.
{ثم قال -رحمه الله-: (مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ وَتَجْهِيزِهِ مِنْهَا)}.
أي إذا كان يحتاج إلى مؤنة تجهيز، فالميت أولى بماله، وبناء على ذلك يُجهز من ماله، ولأجل هذا ما يحصل عندنا أحيانًا في مغاسل الموتى، وأكثرها تقوم على الأوقاف وفعل المتبرعين، ولذلك يُعدون ما يُكفن به الميت، وما يُجهز به من حنوط، ومن طِيبٍ وسواه من جهة المتبرع، وهذا وإن كان فيه تيسير على الناس، لكنه فيه تفويت على الإنسان بابَ خيرٍ وبرٍّ عظيم؛ لأنَّ الأولى أن يكون من ماله.
فإذا كان الإنسان هذا أعظم أحواله، وهو حال قدومه على ربه، وإقباله على آخرته، فكما أنَّ الإنسان يتجمل لِمَا يفرح فيه من نكاح وعيد واجتماع ونحو ذلك، ويطلب لذلك الأكمل من ثيابه، كذلك يُفعل بالميت حال الممات ما يكون الأحسن من حاله من ماله هو، فإنه لم يحتج إلى أن يتصدق عليه أحد، أو أن يُحسن إليه بعد موته.
وكما أنك لا ترضى ذلك في حياتك، فإنَّه لا يُرضى لهذا في مماته، ولذا ينبغي أن يُتعهد هذا وأن يُظهر للناس.
وإنَّ أعجب ما رأيت أنَّ أناسًا ممن عُرفوا بالبر والإحسان، إذا ماتوا تُصدق عليهم بمثل هذه المؤن، وأُنفق عليهم، وتُركت هذه الأموال دونما أن يناله شيء منها، فاذا انضم إلى ذلك أنَّ أكثر ما يوجد في مثل هذه المغاسل ونحوها في تجهيز الميت، من الأشياء الرديئة!
فالكفن لا يَحسن أن يكون من الأكفان الطيبة، ومن الثياب الغالية الجيدة، وهذا موضع قدوم على الله، فيلبس الإنسان أحسن ثيابه كذلك، وبالتالي فقد فوَّتَ عليه أمرين:
الأول: أنك تركت الإنفاق عليه، وتركت الإحسان إليه بحسن ثيابه، وحسن طيبه، وحسن حنوطه ونحو ذلك.
وإذًا تجهيزه من هذا حتى في الأحوال التي تضيق بالإنسان، ولا يوجد من يقوم عليه، فـ "ماله" أولى به، وإذا أنفقت عليه تأخذ ما يقابل ذلك من نفقة تجهيز ونحوه.
وأمَّا إذا عدم هذا الميت فلا يترك بدون تجهيز، ولا يخلى، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ فَأُنْفِقُ عليه من مالي، وأُحْسِنُ إليه مما أحسن الله إليه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَعَ عَدَمِهَا مِنْهُ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، إِنْ نَوَاهُ، أَوْ اسْتَأْذَنَ حَاكِمًا)}.
قال: (وَمَعَ عَدَمِهَا مِنْهُ) وهذا كما ذكرنا أنه يُنفق عليه، ولا يترك دون تجهيز، ولكن إذا كانوا مثلا في سفر ثم رجعوا إلى البلد، وكان ولده حاضرًا، أو أحد من ورثته أو إخوانه من إذا يرجع عليهم فما ينظر ما لأنهم هما أولى به والعصبة أولى كعصبهم. فبناء على ذلك يرجع عليه أو إذا كان له مال في بلده. أو على من تلزمه نفقته. من والد من جد من أخ واه على حسب النفقات وأوسع الناس في النفقات الحنابلة -رحمه الله تعالى-. وسيأتي ذكر ذلك في النفقات.
النوى أن الرجوع متعلق بالنية. أمَّا إذا فعله على سبيل التبرع وهو مستحق للتبرع لكونه لا يملك شيئا ولا يوجد عنده ما يجهز به. فلا يرجع.
قال: (أَوْ اسْتَأْذَنَ حَاكِمًا) يعني: أنه يُحتاج إلى استئذان الحاكم في القيام به؛ لأنه إذا وُجِدَ الحاكم؛ فإنه هو الذي يقوم به، ولكن لا يعني ذلك أنَّ استئذان الحاكم ينفي عنه استحقاق الرجوع، فالرجوع بالنية مُطلقًا على ما يُفهم من كلامه، فمتى ما نوى الرجوع رجع، ولكن إن وجد الحاكم فيستأذنه؛ لأنَّ السلطان هو ولي من لا ولي له.
{أحسن الله إليكم، ورضي الله عنكم، وبارك فيكم، ونكتفي اليوم بهذا الفصل، ولعلنا يا شيخنا ننبه المشاهدين بأننا سوف ننتقل للفصل الذي يلي الفرائض، وأمَّا الفرائض فسوف تدرس كمادة مستقلة بإذن الله}.
على كل حال مثل ما ذكرت، وأريد أنا أن أنبه إلى مسألة لطيفة في كتاب الفرائض، وهي:
دراسة كتاب الفرائض في الكتب المخصوصة له، هو سَنَنٌ صار عليها الفقهاء كثيرًا، وفيها فوائد كثيرة، وفيها تفصيلات كثيرة، وقد لا تتأتى في كتب الفقهاء، خاصة في المتون منها، وهي أيسر أيضا من جهة ما يذكره الفرضيون، خاصة فيما يتعلق بالحساب، وما يلحق به في ذلك.
ولكن مع ذلك وإن انفرد الفرضيون بالتفصيلات، فلا يَستغني الطالب من الاطلاع في بعض الأحوال على مثل ما صدَّره الفقهاء في متونهم، وفي هذا فوائد لطيفة وتدقيقات جميلة، لا يَستغني عنها الطالب، وربما لا يتأتى له فهمها، خاصة أنَّ الفقهاء ربما أحالوا على ما ذكر في هذا الباب، أو في بعض لفظه، فيحسن أن يرجع إليه.
ونحن لولا ضيق الوقت، ووجود مادة ستدرس بخصوصها لأتينا عليه؛ لأنه من جملة هذا الكتاب، ولكن لَمَّا كان له وقت مخصوص، ومجلس فيه التفصيل، ومعنا وقت ضيق، فقد يُرى ذلك على سبيل الحاجة والضرورة، أن ينتقل منه إلى الباب الذي يليه.
{أحسن الله إليكم، ورضي الله عنكم، وسنبدأ -بإذن الله- الحلقة القادمة من (كتاب العتق)، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك