الدرس الثالث والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7530 33
الدرس الثالث والعشرون

أخصر المختصرات 4

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية (هداة الخيرية) لتعليم العلوم الشرعية، لا زلنا وإياكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياكم الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{الله يحفظكم شيخنا، نستأذنكم في إكمال القراءة}.
نعم استعن بالله تعالى.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ حُبِسَتْ أَوْ نَشَزَتْ أَوْ صَامَتْ نَفْلًا، أَوْ لِكَفَّارَةٍ، أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَوَقْتُهُ مُتَّسِعٌ، أَوْ حَجَّتْ نَفْلًا بِلَا إِذْنِهِ أَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ، سَقَطَتْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يبلغنا طاعته، وأن يجعلنا من ل مرضاته، وأن يجنبنا وإياكم الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولا في باب النفقات، في نفقة الزوجة، ولَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بأحكام النفقة في ذلك، أعقبها بالأحوال التي لا تجب فيها النفقة، أو تسقط فيها النفقة، فقال المؤلف -رحمه الله-: (وَمَنْ حُبِسَتْ)، ومبدأ هذه الأحوال التي تسقط فيها النفقة، أن النفقة مبناها على ما يُقابلها من تسليم المرأة نفسها وتمكينها لزوجها، فإذا تعذر هذا التمكين، فات عليها الاستحقاق والنفقة، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وَمَنْ حُبِسَتْ) حتى ولو كان ظلمًا، المهم أنه حيل بينها وبين زوجها.
(أَوْ نَشَزَتْ) والنشوز هو العصيان، وهذه زوجها على ما تقدم بيانه في العشرة الزوجية.
(أَوْ صَامَتْ نَفْلًا) تنفلت بالصيام، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه، ففي كل الأحوال هذه تسقط نفقتها.
(أَوْ لِكَفَّارَةٍ، أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَوَقْتُهُ مُتَّسِعٌ، أَوْ حَجَّتْ نَفْلًا بِلَا إِذْنِهِ أَوْ سَافَرَتْ لِحَاجَتِهَا بِإِذْنِهِ، سَقَطَتْ)، أنا سأقف مع (أَوْ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَوَقْتُهُ مُتَّسِعٌ، أَوْ حَجَّتْ نَفْلًا بِلَا إِذْنِهِ) ولكن قبل ذلك، ما يتعلق بالحبس والنشوز والصوم نفلا أو الكفارة أو السفر بحاجة، بإذنه أو بغير إذنه من باب أولى، في كل هذه الأحوال فات على الزوج حقه من زوجته، ففات عليها حقها منه، وهو نفقتها.
وأما بالنسبة الصيام والحج فلا يخلو، إن كان صياما واجبا أو حجا واجبا، أو قضاء في وقت يضيق، يعني: لم يبق إلا لقضائها؛ لأن المرأة يأتي عليها مانعها الشرعي فتحتاج إلى قضائه، ففي هذه الحالة لا يُحال بينها وبين النفقة، لماذا؟ لأن حق الله -جل وعلا- أسبق، قبل الزواج، ولَمَّا دخل بها يعلم أن عليها حج، وأن عليها نفقة، فلا يكون ذلك مانعا من حقها، فكأنه يعلم أن هذا حق عليها، وأنه يفوت عليه ما يفوت بسبب الصيام أو بسبب الحج.
فإذا حال الصيام إذن كان الوقت متسعًا فكأنها فوتت، وبناء على ذلك إذا ضاق الوقت استحقت؛ لأنه وقت لا بد لها منه، وهو وقت من صيام رمضان الواجب، فاستحقت النفقة، وكذلك إذا كان الحج، فإنها إذا حجت فرضها فهو مطلوب منها شرعا، والطلب سابق للنكاح، ومستحق قبله، وحق الله -جل وعلا- أوجب وأفرض، فتستحق النفقة.
وأمَّا إذا كان الحج نفلا فلا، ولكن يقول أهل العلم: المقصود بالنفقة في الحج هنا، ليس هو نفقة الحج، ولكن النفقة التي لو كانت عنده، وأما نفقة الحج، وهو ما يتطلب من مركوب، وما يتطلب من سكنى، وما يتطلب من أشياء أخرى، ونفقة في الحج من هدي وسو، وكفارة إن لزمت فكل ذلك لا يلزمه، بل ولا يلزم الزوج أن يحج بزوجته، فإن تبرع بذلك فحسن.
وكما قلنا فكل هذه المسائل إنما مبناها إذا حصل بينهما تنازع، أو وقع مطالبات ومحاققة، ما حقي وما حقك، وأما إذا أحسن إليها وأحسنت إليه، وزادها وقامت معه، وحج بها أو حج لها، أو أعطا ما تحج، أو أذن لها في التزود من الطاعات بصيام أو غيره، أو أذن لها في السفر مع لها، أو مع أخيها، وتبرع بنفقة سفره في سفر مباح، ولهو طيب لا حرمة فيه فالحمد لله، وكل ذلك مما يطلب أجره، ويكون للزوج في ذلك فضله، وترد المرأة الإحسان بالإحسان، والخير بالخير، والمعروف بالمعروف.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَهَا الكِسْوَةُ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فِي أَوَّلِهِ)}.
الكِسوة بكسر الكاف (وَلَهَا الكِسْوَةُ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فِي أَوَّلِهِ)، النفقة كما ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن لها عليه كسوة، وهذه الكسوة كما قال ل العلم: إنها كسوة شتاء وكسوة صيف، وبناء على ذلك متى تدفع؟ والكلام كما ذكرنا إذا كان ثَمَّ تنازع، إذا اتفقا، إذا أعطا، إذا زادها، كل ذلك الأمر فيه يسير، ولكن لو أنها طلبت، فإذا كانت تطلبه في أول العام ثم هو لا يُوَفِّها إلا في آخر العام لكان عليها فيه ضرر، ولأجل ذلك قال العلماء: إنها في أول العام، وإذا كان لهم عرف، أو إذا كان لهم اتفاق، أو إذا كانت الكسوة تتعلق بعيد أو بحال أو بموسم، وهم يقولون: كسوة شتاء وكسوة صيف، فإذا كان ذلك في أول الشتاء، وفي أول الصيف، فيكون كل ذلك ملائم للحال، ومحصل للمقصود، ولكن لو تأخر عليها، فإنه يُطالب بذلك، ويفوت حقها، ولها أن تطالبه وترفع ذلك إلى القاضي.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَتَى لَمْ يُنْفِقْ تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ)}.
يعني لو أنه لم ينفق عليها لأي سبب من الأسباب، فالذمة مشغولة، والدين ثابت، فكل يوم لا يُنفق عليها فيه، فإن ذلك يكون مُثبتًا محفوظا، ومتى ما طالبت به المرأة وجب عليه أن يؤديها، والمقصود بالزوجة أي: التي في عصمته، التي تحته، وليس المقصود فقط إذا فارقته، أو اختلفا أو غير ذلك، لا، حتى وهي معه لو أن أياما لم ينفق عليها وطالبت بها، فهي باقية في ذمته، سواء كانت قبل سنة، أو قبل عشر سنوات، فهي ثابتة؛ لأن ثبوتها سابق، ومضي الأيام وتغير الحال لا يغير من اللزوم، وإنما هل تطالبه أو لا؟ وهل تأذن أو تترك؟
فإذا تركت أو أسقطت فإن الأمر إليها، ولكن إذا أسقطت هذه النفقة لم يجز لها أن تطالب بها، لأن الإسقاط لا يحتاج إلى إيجاب ولا قبول، فلو قال: والله أنا قصرت في نفقتك سنتين وخلال المدة التي لم أعمل فيها، قالت: أبدًا فمجيئك نفقة، ولا أريد إلا وجودك، وأنت نور البيت ومثل هذا، فلما اختلفا قالت: أعطني نفقة سنتين! فهنا نقول: لا، لأنك قمت بإسقاطها، ولكن من حيث الأصل هي ثابتة في ذمته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ فَبَانَ مَيِّتًا رَجَعَ عَلَيْهَا وَارِثٌ)}.
إذا كانت تلي ماله فتأخذ من النفقة ما يقوم بها مما يليق بحالها على ما تقدم، ثم بان أنه مات، وبناء على ذلك تبين أنها لا تستحق تلك النفقة، وأن المال بعد موته مال وارث، فبناء على ذلك تعيد ما أخذت إلى مال الورثة، ثم تقتسمه هي وإياهم على حد سواء، بما جاء في قسمة الله -جل وعلا- في كتابه، وما جاء عن نبيه على ما درستموه في كيفية قسمة المواريث.
{قال: (وَمَنْ تَسْلَمَ مَنْ يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُهَا، أَوْ بَذَلَتْهُ هِيَ أَوْ وَلِيِّهَا، وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا وَلَوْ مَعَ صِغَرِهِ وَمَرَضِهِ وعِنَّتِهِ وَجُبِّهِ)}.
(وَمَنْ تَسْلَمَ مَنْ يَلْزَمُهُ تَسَلُّمُهَا)، لأنه تقدم بنا ما يتعلق بـ "متى يلزم المرأة أن تسلم نفسها ومتى لا يلزمها؟"
فإذا تسلم الزوج زوجته، فإنها في هذه الحال قد مكنت من نفسها، وحبست على زوجها، وحيل بينها وبين أسباب الرزق وطلب العيش وسو، وهو أمكنه من الاستمتاع بها ونحوه، فلأجل ذلك قال الفقهاء: متى ما تسلمها تعلق به حكم نفقتها، سواء كان قد تسلمها هو، أو قد جاءت هي إلى بيت زوجها، أو سلمها وليها لو كانت معتوهة، أو ليست كبيرة، فقد وجبت نفقتها -كما قال المؤلف- ولأننا قلنا: إن نفقة الزوجة مبناها على المعاوضة والاستحقاق؟ فهي مكنت من نفسها، وحبست نفسها على هذا الرجل، فمن حقها أن يُنفق عليها، وأن لا يحال بينها وبين ما تحتاجه من نفقة وكسوة وسكنى.
قال: (وَلَوْ مَعَ صِغَرِهِ وَمَرَضِهِ وعِنَّتِهِ وَجُبِّهِ)، هذه أحوال تمنعه من الاستمتاع أو تحول بينه وبين الاستمتاع، ولكن المانع جهته لا من جهتها، وبناء على ذلك نقول: في كل هذه الأحوال تجب عليه النفقة لها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا قَبْلَ دُخُولٍ لَقَبْضِ مَهْرٍ حَالٍّ وَلَهَا النَّفَقَةُ)}.
كما ذكرنا فيما مضى أن المهر إما أن حالا، وإما أن يكون مؤجلا، فإن كان حالا فيلزم الزوج قبل أن يستلم زوجته وقبل أن يدخل بها، أن يعطيها حقها في المهر، وبناء على ذلك لو أنه امتنع عن إعطائها حقها، فلها أن تمتنع من تمكين نفسها، ولكن هذه المدة التي جرت في المراجعة، في أن تسلم نفسها أو يسلمها مهرها، ربما تستمر لشهر أو لأكثر من ذلك، فهذا الشهر تكون النفقة على الزوج، لأنَّ الحيلولة دون التسليم من جهته؛ لأنه حق عليه أن يسلم المهر حتى تسلمه نفسها، فلما كان المانع من جهته كان الاستحقاق عليه، ولم يكن ذلك حائلا بينها وبين ما تستحقه من نفقة، لأنها في حقيقة الحال لم تمتنع، ولم تمنع نفسها أن يدخل بها زوجها، ولكنها طلبت حقها، والحق مقابل ما استحل من فرجها، ولا يمكن أن تحل فرجها وأن تمكنه من ذلك دون ما يقابله، فكان لها الحق في ذلك، فكل هذا إذا كان المهر حالا.
وأما إذا كان المهر مؤجلا فكأنها رضيت بتأخير المهر، وبناء على ذلك لا يجوز لها أن تمنع نفسها من التسليم، فلو امتنعت من التسليم فبناء على ذلك ليس لها نفقة؛ لأنها هي التي تسببت على نفسها بمنع استحقاق النفقة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ مُعْسِرٍ أَوْ بَعْضِهَا إِلَّا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ غَابَ وَتَعَذَّرَتْ بِاسْتِدَانَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَلَهَا الفَسْخُ بِحَاكِمٍ)}.
(وَإِنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ مُعْسِرٍ أَوْ بَعْضِهَا)، ما معنى هذا الكلام؟
يعني يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن الزوج إذا أعسر بالنفقة، أي النفقة التي يحصل بها الفسخ، ليس هي كل النفقات، لأنه تقدم معنا أن الموسر مع الموسرة عليه نفقات موسرين، والموسر مع المعسرة لها نفقات المتوسطين، والمعسر مع الموسرة لها نفقات المتوسطين، والمعسر مع المعسرة لها نفقات المعسرين، وهؤلاء الأربعة كلهم إذا وجدت منهم أقل النفقة التي هي نفقة المعسر لتقوم بها الحياة، ويشتد بها العود، فلا فسخ.
ثم بعد ذلك من له زيادة، له نفقة متوسطين، له نفقة موسرين تبقى على ذمة الزوج يجب عليه السداد، ولكنه لا يمكن أن يستحق الفسخ، ولكن إذا هؤلاء كلهم لم يستطيعوا حتى نفقة المعسر، هذا فيه ضرر بالغ عليها، لا تجد ما يسد جوعتها، أو ما يملأ بطنها.
وبناء على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: (فَلَهَا الفَسْخُ بِحَاكِمٍ)، والفسخ هنا إنما يكون بالحاكم؛ لأنها أحوال فيها تردد ويحتاج فيها إلى النظر ونحو ذلك.
ومثل الإعسار هو إذا غاب عنها وتعذرت الاستدانة، يعني: كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إذا أعسر لم يستطع النفقة المعسرين فهنا لها الفسخ بالحاكم، إذا غاب فالحال حالين، إما أن يمكن الاستدانة عليه فيستدان ويسجل عليه، وإذا جيء قيل: عليك كذا وكذا نفقة زوجك عليك.
فإذا لم يوجد من يستدان منه أو من يعطيه، أو كان في الناس ضعف، أو غير ذلك من الأسباب، أو عرف منه مطل وظلم، أو فقر وفاقة، أيا كان، المهم أنه لم يمكن الاستدانة عليه، فهناك تضرر المرأة، هي محبوسة عليه ولا تجد ما ينفق عليها منه، ولا يمكن أن يكون ذلك بشيء على ذمته، فللحاكم إذا ارتفعت إليه أن يفسخ نكاحها.
قال: (إِلَّا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ) ما معنى هذه المسألة؟ يعني لو كانت عليه لها نفقة سابقة، يعني خمس سنوات ماضية ما أنفق عليها، فعليه في ذمته لها: مئة وخمسة وعشرين ألف ريال. فهنا نقول: هذه المبالغ مثل الدين، هذا لا يوجب الفسخ بحال من الأحوال، وليس عليها إلا أن تطالب، وأن تنتظر حتى يوفيها كسائر الديون، ولكن امتنع من النفقة الحاضرة فلها أن تفسخ لئلا تتضرر بذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَرْجِعُ بِمَا اسْتَدَانَتْهُ لَهَا أَوْ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ مُطْلَقًا)}.
المستدانة لنفسها أو لولدها الصغير، فإن لها أن ترجع بهذه النفقات، لأنها مستحقة على زوجها، والنبي قال: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» ، وهي محبوسة عليه، ولا قدرة لها ولا لولدها الصغير على البذل والعمل ونحوه، وبناء على ذلك استحقته في مثل هذه الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَتَجِبُ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ لِكُلٍّ مِنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا، وَوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَوْ حَجَبَهُ مُعْسِرٌ)}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- انتقال إلى نوع آخر في باب النفقات الأقارب وهي نفقة الأقارب من: والدين وإن علوا، أو أولاد وإن نزلوا، أو أقارب، فهي نفقة القريب، والله -جل وعلا- يقول: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة:233]، والنبي يقول: «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» ، و «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ» ، وعمومات الأدلة، ولأجل -في هذا الفصل- يعقد ل العلم ما تجب من النفقة للأبوين والأولاد وسائر الأقارب، فبدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بالأبوين وان علوا، فقال: (وَتَجِبُ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ لِكُلٍّ مِنْ أَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا، وَوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ)، إذا بالنسبة للوالدين، أو ما يسمى عند الفقهاء بـ "عمودي النسب"، مثل: والده، أمه، أم أبيه، أم أمه، أم أبي أمه، أم أبي أبيه، أبي أبي أبيه، أبي أم أمه، أم أبي أمه، أيا كان، فما دام أنهما أبوان له، سواء من جهة أمه أو من جهة أبيه، فتجب لهما النفقة بكل حال، فشرطها الوحيد أن يكونوا في حاجة، وأن يكون قادرا، وستأتي هذه الشروط -بإذن الله جل وعلا-.
ما قدرها؟ قال: (بالمعروف)، وهذا معلوم في كل الأحوال بحسبه، ويختلف في البلدان، ويختلف في الأزمان، ويختلف في أحوال الناس، فمنهم من كانت أحواله موسرة، فيجب عليه ما يتعارف عليه أحوال ل اليسار، ومنهم معسرون أو مقلون، فيجب عليهم ما يليق بهم من حال، وبهم متوسطون يجب عليهم في ذلك ما يجب.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَوَلَدِهِ) أي: مثل ذلك، والكلام على ولده سواء كان ولدا صلبيًا، مثل: الابن، أو البنت، أو أبناء الأبناء، كـ ابن ابنه، ابن ابن ابنه، ابن بنت بنته، ابن بنت ابنه، بنت ابن ابن ابنه، بنت ابن ابن ابنته، إلى ما نزل.
ولذلك قال المؤلف: (وَوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ).
قال: (وَلَوْ حَجَبَهُ مُعْسِرٌ) كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إن النفقة على عمودي النسب دون قيد، ستفهم تمامها إذا جئنا إلى نفقة سائر الأقارب، فعلى سبيل المثال: لو كان جدك محتاجا وفقيرا، وأبوك هو الذي تلزمه النفقة للجد؛ لأنه ابنه، وهو أقرب منك، ولكن كان الأب معسرًا، فأنت من جهة الإرث والتوارث لا ترث جدك لو مات، وأما الذي سيرثه أبوك أليس كذلك؟ فمع كونك لست بوارث له، وكونك محجوبا منه بشخص معسر، فلا يعني ذلك سقوط النفقة، بل ما دمت قادرا فتجب عليك النفقة لجدك وهكذا.
إذًا النفقة تجب بدون قيد أو شرط التوارث بينهما، بل على الإطلاق، ويقابل ذلك ما يكون في سائر الأقارب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ لَا بِرَحِمٍ، سِوَى عَمُودَي نَسَبِهِ)}.
قوله: (وَلِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ) فيه سؤال، هل تجب على الإنسان نفقة سائر أقاربه سواء كان أخا أو عمًا أو ابن عم، أو ابن أخيه؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَلِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ بِفَرْضٍ)، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ النفقة تجب لسائر الأقارب لعموم الأدلة، وما جاء في الصلة، وقول النبي : «أمَّكَ وأباكَ، فأختَكَ وأخاكَ، ثمَّ أدناكَ أدناكَ» ، وأدلة كثيرة.
وقالوا: إن الله -جل وعلا- قال: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ [البقرة:233]، فهذه الآية دالة على أن الغنم بالغرم، فكما أنك ترثه لو مات، فإنك تنفق عليه لو احتاج.
وبناء على ذلك، لو أنت المعصب لابن عمك، لا عصبة له أقرب منك، فبناء على ذلك كما أنك ترثه إذا مات، فإنك تنفق عليه إذا احتاج، ولذلك قال: (وَلِكُلِّ مَنْ يَرِثُهُ)، وسواء كانت التوارث بالفرض أو كان بالتعصيب.
فأخوك لأمك تجب عليك نفقته لو احتاج، لأنك ترثه مثلا لو مات، بشرطه يعني: على ما دُرس في باب الفرائض، وهكذا.
ولأجل ذلك قال: (لَا بِرَحِمٍ)، أمَّا ميراث ذوي الأرحام، فإنه إنما هو على سبيل الاستثناء في عمومات الأدلة، ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال:75]، وبناء على ذلك لا يدخلون في لزوم النفقات، فلا يجب على الإنسان مثلا نفقة خاله، ولا نفقة عمته، ولا نحو ذلك؛ لأنهم من ذوي أرحامه.
{(أو نفقة شيخ قريب لا يرثه)}
أو كذلك قريب لا يرثه، مثل: لو كان ابن عمك محتاجًا، ولكن كان والده موجودًا، ولو كان والده فقيرا فلا تجب عليك النفقة، لماذا؟ لأنك لا ترثه لو مات، وبناء على ذلك لا تجب عليك نفقته لو احتاج.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (سِوَى عَمُودَي نَسَبِهِ)}.
قال: (سِوَى عَمُودَي نَسَبِهِ) مثلا ما قلنا، أما عمودا النسب فتجب النفقة بكل حال، سواء كنت وارثا لهم أو لا، ويجب على الجد النفقة على أحفاده، وإن لم يكن وارثًا لهم، أو ولو حجب من إرثهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (مَعَ فَقْرِ مَنْ تَجِبُ لَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ كَسْبٍ)}.
إذا (مَعَ فَقْرِ مَنْ تَجِبُ لَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ كَسْبٍ)، فإذا لا بد أن يكون فقيرا، وعاجزا عن الكسب، وأما إذا كان قادرا على الكسب، ثم يجلس لأنه يعلم أن أخ ينفق عليه أو نحو ذلك، نقول: أيها الأخ إن تبرعت فأنت محسن، ولكن لا يلزمك أن تنفق عليه، ولو ارتفع إلى القاضي وقال: هذا أخي غني، عنده أموال قدرها كذا وكذا، ولا ينفق علي، فيقول القاضي: لِمَ لَمْ تنفق عليه؟ قال: هو قادر على العمل والكسب، وهو الذي ترك العمل ليلهو أو ليتكاسل أو غير ذلك. فيقال في مثل هذا: لا تجب النفقة، ولكن لو تبرع فهذا حسن.
ولكن متى نلزمه؟ إذا كان فقيرًا وإن عاجزا عن الكسب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (إِذَا كَانَتْ فَاضِلَةً عَنْ قُوتِ نَفْسِهِ، وَزَوْجَتِهِ، وَرَقِيقِهِ، يَوْمِهُ وَلَيْلَتَهُ كَفِطْرَةٍ)}.
الشرط الثالث: لا بد وأن تكون هذه النفقة فاضلة عن حاجته، فلا يمكن أن تجب عليَّ نفقة ابن عمي، وأنا لا أستطيع تمام النفقة على ولدي، فإذا وجدت تمام النفقة على ولدي، فإنني لا أحتاج أن أقاسمهم على سبيل الوجوب لابن عمي، ولكن إذا زاد فإنَّ النفقة تجب، والنفقة واجبة في هذه الحال للأقرب فالأقرب.
إذًا هذه الشروط الثلاثة:
الأول: كون الوارث كونا المنفق وارثا إلا في عمودي النسب فلا يشترط ذلك.
الثاني: كونه فقيرا لا يستطيع الكسب.
الثالث: كون ذلك فاضلا عن نفقة الشخص، وما يجب عليه مما هو أولى من هؤلاء، فنفقة الزوجة سابقة، ونفقة الرقيق سابقة، ونفقة الولد -ابنا وبنتا- سابقة.
وبناء على ذلك، لا تجب عليه النفقة حتى تكتمل نفقتهم جميعا.
وقبل أن ننتقل إلى المسألة التي بعدها، فأحب أن أنبه إلى مسألة مهمة، وهي:
أولا: كثير من الأقارب يُقصرون في حق أقاربهم، فكم من الناس الذين جاد الله عليهم، وأفاض عليهم من الأموال، وكانوا في سعة من الحال، هم أسهل ما عليهم إفساد تلك الأموال، حتى إذا طُلب منهم الواجب، لنفقة أخ، أو ابن أخيه، أو جده، أو جدته، أو نحو ذلك، فإنهم يتأخرون ولا يُؤدون، فكل ذلك لا شك أنه محسوب عليه يوم القيامة، وإن استحيا بعض الأقارب أن يطلب نفقته، وأن يرتفع إلى القاضي لإيجاب ما له على قريبه، فإن ذلك لن يفوت عند الله- سبحانه وتعالى-.
وكم من الناس الذين أغلقوا بيوتاتهم خشية العار، وخشية كلام الناس والقيل والقال، ولكنهم في نفوسهم من الفاقة والحاجة ما يحتاجون إلى قريبهم.
كما نقول: يجب عليك أن تتفقد أقاربك حتى في غير النفقة الواجبة، فإن احتاجوا إلى شيء في مناسباتهم كنكاح، أو بعض أفراحهم، أو كان ذلك حاجة في علة أو مرض أو نحو ما يحدث لهم من ضغوط، في حريق، أو كساد مال لهم، أو خراب سيارة أو نحوها مما يحتاجون إليه، فيجب على الإنسان أن تكون يده رطبة، ويجب على الإنسان أن يتفقد ذويه، وما عُني شخص بذلك إلا أفاض الله عليه من الخيرات، وبارك الله له في المال، وكان ذلك داخل في الصلة، والصلة أعظم ما تكون بركة للإنسان، وخيرًا له في نفسه، وفي ماله، وفي له، وفي ولده، ﴿وَمَا يُلَقَّا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت:35].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (لا مِنْ رَأْسِ مَالٍ وَثَمَنِ مِلْكٍ وَآلَةِ صَنْعَةٍ)}.
هذه مسألة مهمة، في بعض الأحوال يكون عند الإنسان فاضل من نفقته، ولكنَّ نفقته تقوم على ذاك، يعني لو افترضنا أنَّ شخصًا يملك مزرعة، وهذه المزرعة تساوي خمسة ملايين ريال بأثمان ل السعودية! فهذا مبلغ كبير، ولو باعه لاستطاع أن ينفق على فلان وفلان من أقاربه، ولكن الحالة الموجودة فيه أنه لا يستطيع؛ لأن رزقه كفافا، فما يفد إليه من هذه المزرعة هو الذي يكفيه وولده، ولكن هذه المزرعة بالنسبة له رأس مال، وإذا باعها ذهب عليه ما يستطيع منه العمل والنفقة على له وولده، فهنا نقول: لا يُلزم ببيعها.
ولو كان إنسان يملك معملا لصناعة خبز مثلا أو لبعض المصنوعات أو غير ذلك، وثمنه عالٍ، ولكن هو الطريق الذي يحصل منه على كسب لله وولده، فهي آلته، وهي صنعته، فلا يطالب ببيعها حتى ينفق على قريبه، ولذلك قال المؤلف: (لا مِنْ رَأْسِ مَالٍ وَثَمَنِ مِلْكٍ).
ومثل ذلك (وَآلَةِ صَنْعَةٍ)، فلو كان يعمل مثلا في الصباغة والصباغة تحتاج إلى آلات، وهذه الآلات آلات مكلفة، لكن ما يتأتى له هو ما يكفي به بيته ويقوم به على له، فمثل هذا لا يطلب منه بيعها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَسْقُطُ بِمُضِيِّ زَمَنٍ مَا لَمْ يَفْرِضْهَا حَاكِمٌ أَوْ تُسْتَدَنْ بِإِذْنِهِ)}.
هنا كأنه يفرق بين هذه النفقة وبين نفقات الزوجات، فنفقة الزوجات لا تسقط بمضي الزمان، وأما نفقة الأقارب فإذا ذهبت الأيام لم تجب عليه، ولكن إذا طُلبت منه أو فرضت عليه فيجب، والذي يتأخر عنها تلحق ذمته، وإذا ارتفع هذا القريب إلى الحاكم ففرض له النفقة، فلم يوجد الرجل لسفر أو شغل أو تخفٍ أو سو، فأستدين عليه، فما استدين عليه يجب عليه سداده، ويلزم ببذل ما استدين عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنِ امْتَنَعَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ مُنْفِقٌ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ)}.
لو أنَّ شخصا -نسأل الله السلامة والعافية- امتنع، قالوا له: أخوك محتاج، قال: لا، لن أنفق عليه، فالناس يرونه، أو بعض جيرانه، أو بعض أقاربه الذين لا تلزمهم النفقة، قالوا: لا نتركه في هذه الحال يموت، فأنفقوا عليه بنية الرجوع، فإذا رفعوا إلى القاضي وقالوا: أنفقنا عليه -أيها القاضي- وكذا وكذا وكذا، من الأدلة والبرين على حاجة ذلك، وامتناع أخيه، فإنه يُلزم بسداد ذلك.
وكم من الناس الذي وقع منهم ن البلاء، والتنصل من الواجبات، ما يندى له الجبين ويعتصر له القلب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَهِيَ عَلَى كُلٍّ بِقَدْرِ إِرْثِهِ، وَإِنْ كَانَ أَبٌ انْفَرَدَ بِهَا)}.
هذه مسألة مهمة، لَمَّا قرر وجوب النفقة، فإن المؤلف -رحمه الله- يقول: إذا كان أبناء عم، كلهم أحوالهم طيبة، وابن عمهم هذا فقير، هل تلزمني أنا النفقة لوحدي؟ يقول المؤلف: لا، بل يلزمهم كل بقدر ميراثه، فإذا افترضنا مثلا أن عمهم الذي يرثونه لو مات، هما أخوان، فنقول: تجب عليكم النفقة نصفين، عليك نصف، وعليه نصف.
لو كان مثلا "أخ وأخته" يرثان عمهما إذا مات، فيجب على الشخص الثلثان وعليها الثلث، وهكذا كل يجب عليه بحسب إرثه.
فإذا كان الأمر كذلك، فإنها تتوزع على هذا النحو، ولو كانوا عشرة وأحدهم يأخذ السدس، وأحدهم يأخذ أقلَّ من ذلك أو أكثر، فكل يجب عليه من النفقة بحسب ما يلزمه.
وإذا تبرع بها أحدهم، أو إذا تفضل بها أحدهم، أو إذا زادوه فهذا إليهم كما قلنا، ولكن إذا أحضرت الأنفس الشح، وقبضت الأيدي، ولم يَجُدْ بما أمره الله -جل وعلا- من الفضل والإحسان فعند ذلك يلزمون بهذا القدر على هذا النحو.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ كَانَ أَبٌ انْفَرَدَ بِهَا) أي أن الأب تجب عليه النفقة أصالة حتى ولو كان مثلا ترثه أمه، وأمه غادرة مليئة قد ورثت من والديها مالا كثيرا، فإنها لا تلزمها النفقة، بل النفقة واجبة على الأب أصالة، ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:233].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَجِبُ عَلَيْهِ لِرَقِيقِهِ وَلَوْ آبِقًا وَنَاشِزًا، وَلَا يُكَلِّفُهُ مَشَقًّا كَثِيرًا)}.
هذا انتقال من المؤلف -رحمه الله تعالى- من نفقة الأقارب إلى نفقة الرقيق أو نفقة المملوك، ويدخل في المملوك كما قلنا في المجلس الماضي: الرقيق ونفقة البهائم وسوا، ولذلك قال: (وَتَجِبُ عَلَيْهِ لِرَقِيقِهِ)، فالنفقة للرقيق لازمة واجبة بكل حال وبدون قيد، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وَلَوْ آبِقًا وَنَاشِزًا) فالآبق هو الهارب، فلو أنه في حال هروبه استدان للنفقة، فجاء إلى سيده، نقول: ادفع ما عليك.
ولو أنه كان ناشزًا، أي يترفع عن خدمة سيده، يتململ ويماطل فنقول: نفقته واجبة ما دام محبوسا عليك، فإنك ملزوم بالنفقة في كل حال.
قال: (وَلَا يُكَلِّفُهُ مَشَقًّا كَثِيرًا) وهذا استطراد من المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما يلزم العبد لسيده، وهنا قبل توضيح هذه المسألة، أريد أن أنبه المشدين وطلاب العلم أن المؤلف -رحمه الله تعالى- لم يعرض لترتيب النفقات، ولتعلم أن نفقة الرقيق عند ترتيب ل العلم سابقة للنفقة على الولد، فلو أنَّ شخصًا ليس عنده نفقة كثيرة، فينفق على نفسه أصالة، ثم ينفق على رقيقه، فإن فضل شيء أنفق على ولده وابنته، وهكذا.
والزوجة نفقتها مستقلة؛ لأن مبناها على المعاوضة، فتستحق إذا مَكَّنته من نفسها استحقت ما لها.
قال: (وَلَا يُكَلِّفُهُ مَشَقًّا كَثِيرًا)، هذا أمر من الله -جل وعلا-، ومن نبيه في الإحسان إلى الرقيق، وعدم تكليفهم ما لا يُطيقون، كما جاءت بذلك السنة عن النبي : «فأطعِموهم مِمَّا تأكُلونَ ، وألبِسوهم مِمَّا تلبَسونَ ، ولا تُكَلِّفوهم ما يغلبُهُم ، فإن كلَّفتُموهُم فأَعينوهُم» ، وجاء ذلك في غير ما نص، والشريعة دالة على هذا، ولا شك أنه وإن كان رقيقا، وإن كان محبوسا على هذا السيد، فما فضله الله به من السيادة والملك، لا يعني التسلط عليه بالإتعاب والإيذاء والظلم، وهذا يسأل عنه العبد عند الله -جل وعلا-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُرِيحُهُ وَقْتَ قَائِلَةٍ وَنَوْمٍ وَلِصَلَاةِ فَرْضٍ)}.
إذا هذه تفاصيل كلها تدل على عدم المشقة، أو عدم التكليف للعبد ما لا يطيق، فوقت القائلة التي اعتاد الناس أن يستريحوا فيها، ووقت القائلة هو قبل الزوال، ومشهور هذا في العربية، وإن كان الناس الآن يظنون أن القائلة بعد الظهيرة، ويتعارفون على ذلك، فهذا من التخصيص العرفي للغة، وإلا فالأصل أن القائلة قبل الزوال لا بعده.
قال: (وَيُرِيحُهُ وَقْتَ قَائِلَةٍ وَنَوْمٍ) لا يمكن لشخص أن يطلب من مملوكه أن يكون عاملا في النهار، وأن يكون قائما على سيده في الليل، فلا بد أن يريحه في الوقت الذي يستريح فيه الناس.
قال: (وَلِصَلَاةِ فَرْضٍ) لأن حق الله -جل وعلا- واجب، ولا يمنعه من الصلاة، ولا يحول بينه وبينها، وإذا انصرف للصلاة ما يقول له: تركتني ولم تؤد حقي! نقول: هذا حق الله -جل وعلا- وليس له أن يمنعه منه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَليهِ عَلْفُ بَهَائِمِهِ وَسَقْيُهَا)}.
قال: (وَعَليهِ عَلْفُ بَهَائِمِهِ وَسَقْيُهَا) وكلمة (عَلْفُ) تضبط هكذا أو تضبط (عَلَفُ) هذا في سائر الأملاك من ذوات الأرواح، فيلزمه أن ينفق على هذه البهائم، وأن يسقيها، وقوله: (وَعَلَيه) يعني: واجبا، بمعنى أنه لو ترك ذلك لكان آثمًا. حتى وإن كانت ملكه؟ نقول: نعم، حتى وإن كانت ملكه. لماذا؟
لأن هذا الملك له روح، والروح محترمة ولا تظلم أو يساء إليها، ولذلك جاء في الحديث عن النبي : «دخَلَتِ امرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ، ربَطَتْها، فلَمْ تُطْعِمْها، ولَـمْ تَسْقِها، ولَـمْ تُرْسِلْها فتَأْكُلَ مِن خَشَاشِ الأَرْضِ» ، والنبي لَمَّا جاءه ذلك البعير، فقال: «إنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تجيعُهُ وتدئبُهُ» ، يعني: تتعبه، فدلَّ هذا على ذلك.
إذًا يعطي هذه البهائم حقها من السقي ومن الطعام، وهو ما يعرف بالعلف.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ عَجَزَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ ذَبْحِ مَأْكُولٍ)}.
(وَإِنْ عَجَزَ) هذه لا يُتصور فيها ما يتصور أن يستدين أو نحو ذلك، ولكن أن يستدين عليه وأن تطالبه بالرجوع، ولكن إذا عجز يجبر. يقال له: بعها أو أنفق عليها، وأمَّا أن تتركها فلا.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: يجبر على إجارتها؛ لأنه إذا أجرها قام المستأجر على إطعامها، أو كيفما اتفقا على ذلك، أو ما يأخذ من أجرة فينفق عليها. وقد مر بنا هل للمستأجر أن يستأجر بطعامها وشرابها أو لا؟
نقول: إذا كان ذلك بشيء معلوم صحَّ، وإذا كان ذلك فيه جهالة أو نحوه فلا تصح.
قال: (أَوْ ذَبْحِ مَأْكُولٍ) لأن ذبحها مأذون فيه فيريحها، ولكن أن يتركها لا هو الذي أطعمها، ولا هو الذي تصرف فيها بما يتحصل لها من علف وسقي وسواه فلا.
{أحسن الله إليكم.
قال- رحمه الله-: (وَحَرُمَ تَحْمِيلُهَا مُشِقًّا وَلَعْنُهَا وَحَلْبُهَا مَا يَضُرُّ بِوَلَدِهَا)}.
هذه من الأحكام التي ذكرها أهل العلم للبهائم، وليعلم ما جاء في شريعتنا من الكمال والتمام، ولقد صدق الله -جل وعلا- في قوله: ﴿اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وحتى البهائم قد ذكر الفقهاء -رحمهم الله- تفاصيل أحكامها، مما يكون من إطعامها وسقيها ومن عملها وسواه، ولذلك قال: (وَحَرُمَ تَحْمِيلُهَا مُشِقًّا)، قد ذكرنا حديث صاحب البعير، أو فتى الأنصار الذي شكا بعيره إلى النبي ، فلا يحملها ما لا تطيق، وأهل الإبل وأهل المواشي وأهل البقر يعرفون ما الذي تحتمله من العمل، وما الذي لا تحتمله.
فيعمل ما جرت به العادة وتعارف الناس عليه.
قال: (وَلَعْنُهَا) وذاك الرجل لَمَّا لعن دابته أمره النبي بتركها وتسييرها وقال: «خُذُوا ما عَلَيْهَا وَدَعُوهَا؛ فإنَّهَا مَلْعُونَةٌ» .
(وَحَلْبُهَا مَا يَضُرُّ بِوَلَدِهَا) للإنسان أن يتمنح منها، وأن يشرب من حليبها، ولكن لا يضر بولدها، فيعطى الولد ما يكفيه، ثم ما زاد بعد ذلك، فإنه لهم أن ينتفعوا به في نفس أو بيع أو سواه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَضَرْبُ وَجْهٍ وَوَسْمٍ فِيهِ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ)}.
قال: (وَضَرْبُ وَجْهٍ) فهذا لا شك أنه إيذاء للبهيمة، وهي لا تستطيع في بعض الأحوال أن تحول بين صاحبها وبين ذاك، خاصة إذا كانت مقيدة ونحوه، فيقول المؤلف -رحمه الله-: إنها لا تضرب في وجهها؛ لأن هذا فيه إيذاء لها، ولكن قد يحتاج إلى ضربها في سائر جسدها، وجبلت البهائم على ذلك، فإنها ربما تنقاد بهذا، ويذهب ما يكون من تلكؤها أو انحباسها ونحوه، ولكن ضرب في الوجه فهذا فيه إيذاء.
قال: (وَوَسْمٍ فِيهِ) كذلك الوسم في الوجه، هذا مما يكون إيذاء للحيوان، وكان الناس فيما مضي لا يستطيعون حفظ أملاكهم خاصة من إبل وربما خيل ونحوها إلا بوسم، فَأُذِنَ في الوسم في غير الوجه، إذا كان في الوجه فالمثلة فيه ظاهرة، والإيذاء فيه كثير، ولذلك منع منه، وأما في سائر البدن فإذا احتيج إليه جاز.
قال: (وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ)، فإذا احتاجوا إليه مثلا لئلا تختلط بغيرها ونحوه، وأن يحفظها الناس إذا عرفوا أن هذا ملك فلان، فإنهم لا يتعرضون له، ولكن هل نقول: إن الوسم باق هذا الوقت مع وجود أو مع إمكان غيره؟ يعني: فيما مضى يصعب أن يتأتى لهم وجود علامة لا تتغير إلا الوسم، ولكن الآن توجد مثل ما بالشرائح، وما يوجد مما يغرس في جسدها أو نحوه.
الحقيقة أنه إذا وجد ذلك على وجه يتأتى به المقصود، يمكن ألا يحتاج إلى الوسم، ولكن لا شك أن السنة جاءت بالإذن فالأمر فيه سعة وإن كان يحتمل المنع منه حال قيام هذه الأشياء الحديثة مقام ما كان في الأمر الماضي، خاصة أنه يحصل بها تشويه، وأنه يكون بها إيلام ونحوه، ولكن كثيرا من الناس إنما يحافظون على هذا الوسم ليس لقصد التعريف بها، أو بقاء ملكها أو لئلا تضيع مع غيرها، ولكن الكثير من ذلك مبناه على الاعتزاز بالآباء، والافتخار بالأسلاف، وإبقاء ذكرهم ونحو ذلك، وهذا ليس غرض صحيح.
ومما يفهم من هذا أنه لا يُترك على هذا النحو، ولا يخفف فيه، ويحتمل ذلك، وهو محل نظر واعتبار.
{أحسن الله إليكم شيخنا وشكر لكم، لعلنا نقف هنا}.
ما دام أننا انتهينا من الباب والوقت انتهى فالحمد لله، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
{شكر الله لكم شيخنا، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة.
وفي الختام أيها المشاهدون نشكركم على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك