الدرس الثاني والثلاثون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7530 33
الدرس الثاني والثلاثون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حياكم مشاهدينا الكرام في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلاً وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{نستأذنكم في البدء}.
نعم. استعن بالله تعالى.
{قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الْقَضَاءِ. وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَالْإِمَامَةِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته، وأن يبلغنا مرضاته، وأن يصرف عنا نقمه وبلاءه، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- (كِتَابُ الْقَضَاءِ)، ويليه (كتاب الشهادات) وبه ينتهي الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في مسائل الفقه، وما سطحوه في هذه الأبواب، مما يُعنى به المكلف، ويحتاجه المسلم.
و (كِتَابُ الْقَضَاءِ) من أعظم الأبواب وأنفعها، ومما يدل على ذلك ما جاء من الوعيد الشديد فيمن أخل بالقضاء، فإن الوعيد الشديد دال على أن من أحسن فيه وأتم، وأن من أكمل فيه وعدل، فإنه يكون له الأجر العظيم، لذلك جاء عن بعض السلف أنه كان يقول: لئن أقضي في مسألة بين اثنين بالحق، خير من أن أغزو سنة في سبيل الله، ولِمَا يترتب على إقامة العدل من استقرار الناس، وصلاح أمورهم، وزيادة عِمارة الأرض، والبيع والشراء، وضبط الحقوق، ومنع اللصوص والتجاوز والظلم والعدوان.
والقضاء من: قَضَى إذَا أَتَمَّ الأمر، وإذا فصل، وإذا انتهى، كلها تدل على معنى قضى.
وحقيقته في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات، ولذلك الفرق بينه وبين الفتوى أنَّ هنا فيه إلزام، وهناك لا إلزام، والفتوى تكون على وجه الخصوص في مسألة معينة، والفتية تكون في الأمر الخاص، وتكون في الأمر العام، وكلاهما في الأحكام الشرعية، وما يتعلق بما جاء في الملة السمحة والحنيفية، التي جاء بها نبينا .
قال: (وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ)، فهو من فروض الكفايات التي لا ينفك الناس من الحاجة إليها، فإذا تركها الناس أثموا، وإذا قام بها بعض من لا يكفي آثم من لم يقم بها، وإذا أداها الناس على الوجه الذي تحصل به الكفاية، سقط الإثم عن الباقين، ولذلك قال: (كالإمامة)؛ لأنها متفرعة عن الإمامة العظمى، فكما أنَّ الناس لا ينفكون عن الإمامة العظمى، فإنَّ أعظم ما يُعنى به الإمام الأعظم هو إقامة العدل، والفصل بين الخصومات، وما يتعلق بذلك من ولاية القضاء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَيُنْصِبُ الْإِمَامُ بِكُلِّ إِقْلِيمٍ قَاضِيًا، وَيَخْتَارُ أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُ عِلْمًا وَوَرَعًا)}.
قال: (فَيُنْصِبُ الْإِمَامُ بِكُلِّ إِقْلِيمٍ قَاضِيًا)، لأنَّه لا ينفك من أن الناس يحتاجون إليه في كل حال وآن، فإذا لم يكن في الإقليم الذي هم فيه، فإن ذلك يُفضي إلى أن تلحقهم كلفة في طلب الحق، ومنع الظلم، وأداء الحقوق وغيرها، وربما ضيعوا حقوقهم لأجل أن الانتقال لطلبها يكلفهم، ولذا لا بد أن يكون في كل إقليم ما يغنيه.
(وَيَخْتَارُ أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُ عِلْمًا وَوَرَعًا)، لِمَا يترتب على ذلك من العدل، ومنع الحكم بالجهل، أو بالهوى، أو الميل للعصبية، أو سوى ذلك من الأمور، مع ما في أيضا العلم والورع، من توفيق الله وعلا للعبد، وإلهامه الحق، وإرشاده إلى ما يكون به التوفيق، إذا التبست الأمور ولم يتبين المحق من المبطل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَأْمُرُهُ بِالتَّقْوَى وَتَحَرِّي الْعَدْلِ)}.
ومع ذلك مع كونه أفضل ما يكون علما وورعًا، فإنه لا بد أن يؤمر بالتقوى، فإنَّ الفاضل قد ينسى، وإن الرجل الصالح قد يهوى، وإن الإنسان ليس بمنفك عن أن يقع في الجهالات، أو أن يخطفه الشيطان إلى المحرمات، فلذلك يُؤمر بتقوى الله وتحري العدل والاجتهاد فيه.
وقال: (تحري العدل)؛ لأن العدل منه ما هو بين فهذا لا إشكال فيه، فيخاف مما يلحق الإنسان من الهوى، ولكن في بعض الأحوال قد يكون العدل ملتبسًا، فيحتاج إلى أن يستفرغ وسعه، يعني: لا يكفي أن يكون قاصدًا للحق، وبناء على ذلك يُلقي الأمر كيفما كان، بل لابد أن يستنفذ وسعه، وأن يجتهد أمره حتى يصل إلى الحق الذي يطلب.
{قال -رحمه الله-: (وَتُفِيدُ وِلَايَةُ حَكَمٍ عَامَّةً فَصْلَ الْحُكُومَةِ، وَأَخْذَ الْحَقِّ وَدَفَعَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَالنَّظَرَ فِي مَالِ يَتِيمٍ وَمَجْنُونٍ وَسَفِيهٍ وَغَائِبٍ وَوَقْفِ عَمَلِهِ لِيُجْرِيَ عَلَى شَرْطِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)}.
قال: (وَتُفِيدُ وِلَايَةُ حَكَمٍ عَامَّةً فَصْلَ الْحُكُومَةِ)، إذا ما الذي تفيده الولاية؟ ما الذي يفيده القضاء؟ الولاية في القضاء إما أن تكون عامة أو تكون خاصة، فهنا يعنى بما يتعلق بالقاضي على وجه العموم، وهي التي عندنا الآن تعتبر مثل ما نقول: بالصلاحيات، ما الذي يتعلق به؟ فيقول المؤلف -رحمه الله-: إذا كانت الولاية فعنده فصل الخصومة، أخذ الحق ودفعه، وما يتبع ذلك من انتزاعه من الظالم وإيصاله إلى صاحبه، والنظر في أموال اليتامى وتنميتها ومنع تآكلها، إلى غير ذلك من أمور كثيرة.
ومثل ذلك: المجنون والسفيه والغائب ووقف عمله، الوقوف التي موجودة في محل عمله، يعني محال إقليمه، فكل الأوقاف هو المسؤول، عنها (لِيُجْرِيَ عَلَى شَرْطِهِ) أي على شرط الواقف، (وَغَيْرِ ذَلِكَ) لأنه نائب منابه، وقائم في محله، إذا لم يكن ناظر، أو إذا وجد ناظر يخل، أو نحو ذلك.
وذكروا مجموعة مع هذه الأشياء، ولكن الوقت ضيق جدا، فنحن لا نستطيع أن نأتي عليه.
هي الولاية العامة، ولكن الآن بالنسبة للقضاء هي مُبَينة كل ما يُعنى به القاضي على وجه العموم، على وجه الخصوص، الأشياء التي تدخل في مسؤوليته، والأشياء التي لا تدخل في مسؤوليته، فالمؤلف يبينها من حيث العموم.
إذا جاء الحاكم وقيد ذلك في بعض الأمور، أو نقلها إلى جهات أخرى، حتى المراقبة على الأسواق كانت من أمور القضاة، والآن في جهات أخرى كالبلديات وغيرها ونحوه.
الأوقاف الآن لها جهات خاصة تعنى بها، ما لم تصل الأمر إلى خصومة وغيرها، مثل مثلا ما يتعلق بأخذ الحق ودفع محاكم أخرى للتنفيذ ونحوها.
وأموال السفهاء فيها جهات للقاصرين ونحوهم للقيام عليهم.
فعلى كل حال ما يوكل إلى الشخص وهو مبين واضح، وإذا لم يكن مبينا فهو على وجه العموم، فذكرها فيما يدخل في ولايته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَهُ عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ الْعَمَلِ، وَخَاصًّا فِي أَحَدِهِمَا أَوْ فِيهِمَا)}.
كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إن القاضي على أربعة أحوال، إما عموم في عموم، يعني هو مسئول عن جميع المحال كلها في جميع الأمور جميعها، وإما أن يكون خاصا في خاص، كأن يقول: أنت في هذا المكان أو في هذه القرية في أمور النكاح والزواج، وما يتبعه من طلاق ونحوه، فهذا خاص في خاص، وإمَّا يكون خاصا في عام، كأن يقول: أنت في أمور الجنايات في عموم الإقليم أو عموم البلد، أو العكس أن يكون عاما في خاص، فيقول: أنت تلي كل شيء في هذه القرية، فإذًا هي أربعة أحوال كما ذكرها المؤلف هنا في هذه الجملة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ كَوْنُ قَاضٍ بَالِغًا، عَاقِلًا، ذَكَرًا، حُرًّا، مُسْلِمًا، عَدْلًا، سَمِيعًا، بَصِيرًا، مُتَكَلِّمًا، مُجْتَهِدًا وَلَوْ فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ)}.
هذه بعض الشروط التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- فقال: (وَشُرِطَ كَوْنُ قَاضٍ بَالِغًا، عَاقِلًا)؛ لأنها من أمور التكليف، وهي مما تدرك إذا تم الإنسان رشده وعقل أمره، وكان ممن تتعلق به التكاليف ونحوها.
وأن يكون (ذكرًا) لأن المرأة مع ما فيها من الفضل، وما لها من المنزلة، إلا أن النبي قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» ، فلما كان هذا في الولاية العظمى، والإمامة في القضاء متفرعة عنها، فإن جمهور الفقهاء يقولون: إنها لا تلي ذلك؛ لأن هذا مما جاء به عن النبي تخصيص وحصر وقصر.
وأن يكون (حرا) لأنّ العبد موقوف أو محبوس على سيده، فلا يمكنه ذلك، مع أنه قد لا يكون فيه نقص من جهة إدراكه وعلمه ونظره، ولكنه لا يستطيع القيام على أمور الناس لأنه محبوس على سيده.
قال: (مسلما) فلا شك أن الإسلام أصل أصيل في ذلك.
وأن يكون (عدلا)، وسيأتي ما تقوم عليه العدالة، من صلاح الإنسان في دينه، واستقامة مروءته ونحو ذلك، وسيفصلها المؤلف -رحمه الله تعالى؛ لأنَّ غير العادل يقابله الفاسق، والفاسق لا يؤمن على أحكام الناس وأموالهم ولا دمائهم ولا العناية بأمورهم، من أموال اليتامى، وتزويج المرأة التي لا ولي لها، وما يتبع ذلك من أمور لا يقوم بها إلا العدل.
قال: (سميعا) فإن السمع هو الآلة التي يستطيع بها فهم الخصومة.
وأن يكون (بصيرا)، وكونه بصيرا ذكره جمع من الفقهاء، وإن كان الأعمى قد يكون عنده من الإدراك بسمعه ما قد يفوت عليه العلم به ببصره، ولكنه لا شك إذا كان بصيرا فهو أكمل، وإن كان العمى كما عليه العمل الآن ليس بمانع عن القيام بالقضاء.
قال: (متكلما) لأنه لا بد أن يلفظ بالحكم وأن يظهره.
ثم قال: (مُجْتَهِدًا وَلَوْ فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ)، هذه الحقيقة من المسائل المشكلة جدا، فإنه أن يوجد مجتهد مطلق يلي القضاء فهذا من الأمور النادرة؛ لأن الاجتهاد المطلق تكاد تغيب شمسه الآن لولا ثلة قليلة جدا، والله يتولانا برحماته، فلو كان مجتهدا في مسألة، يستطيع تمييز الروايات والعلم المعتمد من سواه، ونحو ذلك، أو يكون من أصحاب الوجوه، ثم الأقل من ذلك أن يكون ضابطا للمذهب، وفي كل ذلك ينبغي أن يُولى الأعلم، والأكفأ في ذلك، وفي كل زمان، ما يحتف به من أمور والأصلح فيه هو الأصلح، والأحسن فيه هو الأوجب، فيجتهد في ذلك بقدره، ولكن ينبغي ألا يفتات غير المجتهد على درجة الاجتهاد، كما يحصل في هذا الزمان، فإن أناسا كثير ممن يلون هذه المهمة، هم لم يبلغوا درجة الاجتهاد، ولم يقربوا منها، ولكنهم ربما تسوروا على بعض المسائل، اختار هنا أو ذهب هنا، ولا يكون هذا -لا شك- أن فيه مزلة قدم واعتبار، أو إمكان حصول الخطأ، ولو أن الإنسان عرف منزلته سلك ماء سطره له الفقهاء ورسموه، فحصل عليه خطأ لكان معذورا، ولكن إذا تجاوز ذلك ثم أخطأ كان هو متجاوزا فيلحقه التبعة، ولا يعفى عنه بما يكون في رغبته من الاجتهاد.
هذه مسألة كبيرة لكن الوقت لا يسمح تفاصيل ما يتعلق بها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ حَكَّمَ اثْنَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي كُلِّ مَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ مَنْ وَلَّاهُ إِمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ)}.
هذه مسائل التحكيم، وهي من المسائل المهمة والأمور التي ينبغي الاعتناء بها.
من حكموا شخصا، ما دام أنه يصلح للقضاء فإن حكمه نافذ، كما في قصة أبي شريح، والذي كان يلقب "أبا الحكم"، فسأله النبي ، فقال: لأنه يأتي إليَّ الرجلان من قومي يختصمان فأحكم بينهما، فقال : ما أحسن هذا، فأقره النبي على ما هو عليه من العمل، ولكنه أنكر عليه الاسم؛ لأن الحكم هو الله -جل وعلا- فقال: «فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟» قال: سبعة. قال: «فمَنْ أكبرُهم؟» قال: شُرَيحٌ. قال: «فأنتَ أبو شُريحٍ؟» ، فهنا يكون إذن التحكيم محال الذهاب الى القاضي الذي نصبه الإمام.
وعندنا في المملكة العربية السعودية التحكيم له مسار معتمد في القضاء، فإذا جاءت الورقة التي حكِّمَت من مُحَكَّمٍ معتمدٍ فإنها تأخذ من النفاذ والقوة والإلزام ما يأخذ حكم القاضي، فيكون ذلك من التوسعة على الناس، وهذا أيضا فيه التسهيل في تسريع القضايا خاصة مع ازدحامها، وفيه أيضا سهولة انتهاء الناس فيما يتراجعون فيه، خاصة إذا كان كلا الخصمين يطلب الحق ولا يطلب إلا الذي له، فإنَّ ذلك أسهل عليهم وأرفق، مع أنه يُستنكر في هذا ما ترتفع فيه أجرة المحكم كثيرا، فإن الفقهاء ذكروا أنه يأخذ شيئا، ولكن ما يُفسح له فيه هو ما تقضى به حاجته، ما يقابل قضاء وقته، ولكن لا ينبغي التكثر في ذلك أو الزيادات التي تضر بالناس.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ كَوْنُهُ قَوِيًّا بِلَا عُنْفٍ، لَيِّنًا بِلَا ضَعْفٍ، حَلِيمًا، مُتَأَنِّيًا، فَطِنًا، عَفِيفًا)}.
لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يُشترط للقاضي من شروط، أراد ما ينبغي للقاضي ما يتحلى به من سمات وصفات، ولذلك ألَّف الفقهاء -رحمهم الله تعالى- كتبا في أخلاق القضاة، وما يُعنى به القاضي، فيقولون: لا بد أن يكون (قويا)، لأن مجلس الحكم ترتفع فيه الأصوات، ويتنازع فيه الناس، فإذا لم يكن قويا فإنه يوشك أن يكون لا هيبة له، وربما أن يتجاوز في مجلسه وفي محل حكمه.
قال: (بلا عنف) لأنه إذا كان فيه عنف، فإنه قد يُنَفِّر الناس، ويمنع صاحب من حقه وأنه قد يعنفه أو يشتد عليه.
قال: (لينا بلا ضعف)، فاللين في مثل هذه الحال يقرب من أراد طلب حقه بدون ما أن يلحقه رزية، أو أن يدخل عليه شيء من الوصف البذيء أو الشدة أو نحوها.
والقوة تمنع أصحاب الجهالات من أن يُذهبوا هيبة القضاء، أو يتجاوزوا أو يتسلطوا على الخصوم.
قال: (حليما)؛ لأنه ربما استُفِزَّ، وربما أراد بعض الماكرين من الخصومات أن يخرجه من طوره، فإنه إذا خرج من عقله ونظره وحسن تدبيره، فات عليه حسن النظر في المسألة بالعدل فلا يوفق، فإذا كان ذا حلم وفق -بإذن الله جل وعلا-.
(متأنيًا) فإن العجلة ليست بممدوحة البتة، وما استعجل شيء إلا كان عاقبة ذلك الخيبة والخسارة إلا في الطاعة، وقد مدحها الله -جل وعلا- في قوله: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾، وأمَّا ما سوى ذلك فإن التأني فيه من أهم ما يكون سببا للوصول إلى الحق والسلامة من سواه.
قال: (فطنا عفيفا)، فإنَّ الفطنة يدرك بها الأشياء الخفية، وإن بعض الناس ربما لا يدرك الحق مما يلفظه الخصمان، وقد يدرك ذلك من ثنايا الكلام إذا كان فطنا، فإذا أدار الأمور وردها؛ عرف من بعض كلمة ما يمكن أن يكون فيها من محق أو مبطل، أو من أمور تدله على ما يكون سببا للوصول إلى الحق والحكم به.
(وأن يكون عفيفا)؛ لأنَّ غير العفيف يمكن أن تنفتح نفسه، فيأكل الباطل، أو يتجاوز ويفرح بأن يهدي إليه هذا، وأن يعشيه ذاك، فيقع في الشر والبلاء والمحرم، نسأل الله العافية والسلامة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَ مُتَحَاكِمِينَ فِي لَفْظِهِ وَلَحْظِهِ وَمَجْلِسِهِ وَدُخُولٍ عَلَيْهِ)}.
هناك في أول الكتاب قال: (وعليه تحرير العدل)، يعني في العموم، وعلى وجه الخصوص في الفصل في المسألة، وإعطاء المحق حقه، مع دفع الظالم عن ظلمه.
وهنا العدل في مجريات القضية، حتى ولو أعطيت هذا حقه، ولكن إذا كان الخصم الآخر تضحك إليه وإذا تكلم هذا رفعت الصوت عليه، وإذا أعدت الحديث إلى الآخر تلطفت معه بالعبارة، تفضل ماذا عندك. وإذا جاء الثاني تقول له: "قل" فيكون بينهما فرق، فقد يرى الإنسان أنه قد يهضم حقه، ولأجل ذلك حتى في مجريات القضاء يجب على القاضي أن يتحرى العدل، ولذلك قال: (فِي لَفْظِهِ).
كلمة خفيفة هنا وهنا تتباين معنى ذلك أن فيه مبدأ ميل، وجور وظلم، ومثل ذلك إذا تحدث هذا نظر إليه، وإذا تحدث هذا قلب الأوراق التي بين يديه، أو ما سوى ذلك من أشياء، ولذلك قال: (فِي لَفْظِهِ وَلَحْظِهِ) يعني: نظره، (وَمَجْلِسِهِ) يعني: ما يجلس هذا بجواره وهذا أمامه أو هذا في مكان مرتفع، وهذا في مكان منخفض، فلا بد أن يكونوا في حال مستوية.
(وَدُخُولٍ عَلَيْهِ) أي: ما يدخل هذا ويجلس معه نصف ساعة، ثم يدخل الآخر، فإن هذا يُظن به ظن سوء ونحو ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيرًا، أَوْ حَاقِنٌ أَوْ فِي شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ كَسَلٍ، أَوْ نُعَاسٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ حَرٌ مُزْعِجِ)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَحَرُمَ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيرًا)؛ لأن القضاء يحتاج إلى استقرار الإنسان، واستقامة عقله، وحسن نظره، ولا يؤدى ذلك في الحال التي يشوش فيها على القاضي، فإذا غضب، فإنه يذهب حُسن نظره، ولذلك قال النبي : «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ» .
هنا قيدها المؤلف فقال: (وَحَرُمَ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ كَثِيرًا)، لماذا؟ لأن خروج الإنسان عن حد الاعتدال اليسير، هذا غالب شائع، ولا ينفك أحد منه، وبناء على ذلك لا يكون هذا مما ينفك منه الإنسان في حال من الأحوال، ولكن الغضب الزائد غير المعتاد هو الذي يشوش على الإنسان، فلذلك هو الذي يمنع منه في حال القضاء.
وأيضًا كل ما كان في نحوه، يعني: مما يخرج الإنسان من اعتداله، فإذا كان حاقنًا يريد قضاء حاجته، فإن الحاقن لا يستطيع أن ينظر، ولا أن يستمع إلى هذا، ولا أن يميز بين أمر مشتبه وسوى ذلك.
أو في شدة جوع مثله، أو في عطش شديد، أو همٍّ أهمه، كأمر زواج أو أمر عملية جراحية لزوج أو ولد أو والد أو غيرها، أو مَلل يلحق النفس من الضعف، من الإملال، من الإعراض، مما لا يستطيع معه أن يجمع قلبه، ولا أن يضم شتاته، ومثل ذلك أحيانا: الكسل أو النعاس الذي يغلب على الإنسان، ومثل ذلك البرد المؤلم أو الحر المزعج، فكل هذه أحوال تخرج عن حد الاعتدال، فيمنع منها القاضي، وكما قلنا: إن الأشياء اليسيرة من هذا لا تضر؛ لأنه لا ينفك أحد منها، ولكن إذا زادت فيخاف أن يقع الإنسان في الجور، بناء على أنه ليس في حال اعتدال يميز بين المحق من المبطل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَقَبُولُ رِشْوَةٍ وَهَدِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ مَنْ كَانَ يُهَادِيه قَبْلَ وِلَايَتِهِ وَلَا حُكُومَته لَهُ)}.
قال: (وَقَبُولُ رِشْوَةٍ) الرشوة مأخوذة من الرشا، وهو الحبل الذي يقلى في البئر بالدلو ويؤخذ به الماء، لأنها حبل يوصل به إلى الظلم والقلب على المحق وغيره، والنبي قال: «لعَنَ رسولُ اللهِ الراشيَ، والمُرْتَشيَ، والرائشَ» ، وهو الوسيط بينهما، فهذا من أعظم ما يكون من الأمور، ولا يجوز للراشي أن يرشي، ولا يجوز للقاضي أن يقبل، ولكن هنا هو بمعرض الكلام عن القضاة لا بمعرض الكلام على الخصوم، وإن كان جميعهم يحرم عليه تعاطي مثل ذلك.
ولكن قال أهل العلم: إنه لو كان في محل لا يعرف فيها عدله، وهو يعلم أنه مظلوم، ويريد أن ينتصف من ظلمه، وهم يأخذون الرشاوي ونحوها، فأعط ما يدفع به ظلمه، فقالوا: إنه قد يخفف في ذلك، لما جاء في أثر ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
قال: (وَهَدِيَّةٍ مِنْ غَيْرِ مَنْ كَانَ يُهَادِيه) الهدايا لها حالان:
إما شخص له حكومة وترافع بين يدي القاضي، فلا يجوز أن يُهدي له كائنا من كان، وتكون رشوة بكل الأحوال.
وأمَّا إذا لم يكن ممن له قضية، فلا يخلو من أحد رجلين:
إما أن يكون لا يعرف بتواصل مع القاضي وإهداء له ونحوه، فلا يجوز له؛ لأنه ما أهدى إليه إلا لعله أن يحتاج إليه إذا ترافع، فيكون له سبب ثابت.
وأما إذا كان الشخص له علاقة إخوة أو صداقة أو قرابة أو جوار أو نحو ذلك، كأن يرسل له طعاما، أو يرسل له شيئا، أو كسوة، أو نحو ذلك، فيتهادون، فما دام أنه يهاديه قبل وليس له أيضا أمر مرفوع بين يدي القضاء، فلا بأس؛ لأن هذا مبناه على ما كان عليه قبل ولاية القضاء، وقبل أن يبتلى بهذا المنصب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَلَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ)}.
القاضي لا ينفذ حكمه على عدوه، لأنه مُتهم حتى ولو تحرى العدل، فقطعا لدابر ما تميل به النفس، ولئلا يقال: إنه قضى عليه لأنه عدوه أو نحو ذلك، فبناء على ذلك لا يكون للحاكم أن يقضي على عدوه، فلو جاء وترافع اثنان، وأحدهما بينه وبين القاضي عداوة، فإنَّ القاضي متهم في مثل هذا إذا قضى عليه، ولأجل ذلك يرفع الحكم لقاضٍ آخر، ويحيله إلى جهة أخرى، ليخلص نفسه من هذه التهمة.
قال: (وَلَا لِنَفْسِهِ)، لو كان شيء يعود إلى نفسه كما لو ترافع إليه ولده بشيء يتعلق به، أو زوجه أو خادمه أو نحو ذلك.
قال: (وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ)، لو كان أبوه ترافع بين يديه، أو زوجه ونحو ذلك، وستأتي الإشارة إلى من لا تقبل شهادتهم للشخص.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ اسْتَعْدَاهُ عَلَى خَصْمٍ فِي الْبَلَدِ بِمَا تَتْبَعُهُ الْهِمَّةُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ إِلَّا غَيْرَ بَرْزَةٍ فَتُوَكِّلُ، كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ وَجَبَ يَمِينٌ أَرْسَلَ مَنْ يُحَلِّفُهُمَا)}.
هذه في إجراءات التحاكم، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لو أن شخصا استدعى على شخص، رفع عليه دعوة، فيقول: إما أن يكون هذا في أمر تافه، أو في أمر له شأن، فإذا كان في أمر تافه لا يعتبر الناس به، هذا أخذ مني ريالا، أو خمسة ريالات، هذا ليس من عادة الناس أن يترافعوا في ذلك، فيقول: لا يلزم القاضي أن ينظر فيها، ولا يلزم أن يحضر الخصم لأجل ذلك، لأن ما في هذا من ضياع الوقت وإشغال ونحوه أعظم ما يكون فيه، ولكن إذا كان شيء تتبعه الهمة، كأن يقول: ضرب ولدي، أو كان في أمر مالي له اعتبار، يلزم الإحضار، ويجب على القاضي أن يتولى ما عليه من ولاية، وأن يطلب من عليه خصومة، وأن يحضره إلى مجلس القضاء.
قال: (إِلَّا غَيْرَ بَرْزَةٍ) وهي المرأة التي عرفت ملازمتها بيتها، وتستحي أن تذهب إلى الأماكن العامة، كأماكن البيع والشراء، فهذه لا تذهب إلى مجلس القضاء، وإذا دعي عليها أو احتاجت فتوكل، فإذا تعلق شيء بشخصها، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- فإن القاضي هذه الحال يرسل إليها كما لو كانت عليها يمين، لزمتها اليمين، لا تدخلها نيابة فتحلف أو فيرسل إليها من تحلف أمامه بالصيغة والهيئة المطلوبة.
والآن فقد تيسرت الأمور، ويمكن أن يتم ذلك عبر وسائل الترافع المرئي ونحوه هذه من أعظم ما فتح الله علينا هنا في هذه البلاد، ولكن للأسف ذهبت أولئك النسوة اللاتي يلزمن البيت ويحفظن، أسأل الله أن يحفظ نساء المسلمين، فاحتاجت النساء إلى الذهاب للعمل ونحوه، فربما تكون هذه قليلة، يعني أن توجد في مثل هذه الوقت، التي لا تستطيع البروز إلى مجلس القضاء.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. وَشُرِطَ كون مُدَّعٍ ومنكر جائز التصرف)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- هو في الدعاوى، يعني: ما يدعيه الإنسان، وإضافة الإنسان إلى نفسه الاستحقاق، ويقول: هذا لي، هذا أنا أحق به، هذا ليس لفلان، مما يكون في يد الغير، أو في ذمته من ديون، من أموال، من حقوق، ومن سواها.
والبينات يعني: الدلائل والبراهين التي تُقام ثبوت الحق أو إثبات أن هذا حق له، وأن هذا مما يتعلق به، وهذا الباب فيه صعوبة، ويُحتاج فيه إلى وقت في تفصيل بعض مسائل فيه، ولكن نحن لضيق الوقت وحتى ننتهي إلى لم يبق لنا إلا درس واحد، فسنعرض لها عرضا يسيرا.
قال: (وشرط كون مدّع ومنكر جائزي التصرف) المدعي يعني: الذي يدعي الحق ويطلبه، والذي لو ترك الدعوة لترك، كأن أقول: لي خمسة آلاف عليك، فأنا لو تركت المطالبة فلن تجيء، فالمدعي هو الذي إذا تَرَكَ تُرِكَ بخلاف المدعى عليه، والمدعى عليه الذي لو ترك لم يترك بل يطلب ويلزم بالحضور ونحوه، فلذلك قال: كون المدعي أو المدعى عليه لا بد أن يكون جنائزي التصرف، وكما مر بنا فيما يعتبر في جواز التصرف، أن يكون عاقلا، وأن يكون بالغا، وليس بسفيه، بل يكون رشيدا، فلا بد أن يكون كذلك.
إذا كان الدعوة لصغير أو سفيه فوليهم يقوم مقامهم، أو كانت الدعوة عليهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وتحرير الدعوى، وعلم مُدَّعى به إلا فيما نصحه مجهولًا كوصية)}.
(وتحرير الدعوة)، فإذا كان يقول مثلا: أنا أطالبه بخمسة آلاف، وزوجتي أيضا تطالبه بثلاثة آلاف، فنقول: توقف، أنت تطالبه فهذه دعوى، وزوجتك تطالبه فهذه دعوى أخرى، فإذًا لابد أن تكون الدعوة محررة.
ومثل ذلك لو قال: هو أخذ مني خمسة آلاف وقذفني، هذا شيء وهذا شيء، فالمهم أنه لا بد أن تكون الدعوة محررة، فلا يدخل فيها ما ليس منها، مما يكون معه إشكال، ولا يمكن أن تكون أيضا ناقصة، أنا أطلبه دين، كم الدين؟ قد يحتاج إلى بيان وتفاصيل في هذا الأمر، فإذا لا بد أن تكون الدعوى محررة كما قال المؤلف -رحمه الله-.
(وعلم مدعى به) فإذا قال مثلا: سيارة وسكت، السيارات أنواعها وأحوالها كثيرة جدا، قال أطالب بدين وسكت، لابد من التحديد. يقول مثلا: لي عليه بيت في المكان الفلاني، طيب ما حقيقة هذا البيت؟ إلا أن بعض الدعاوى تقبل أن تكون فيها جهالة، كما لو قال: إن الميت أوصى لي مثلا بوصية، فالوصية ربما لا تكون محددة، ولكنه قال: لك وصية، فجاء هذا وادعى وقال: والدكم قال: لي وصية، فلا يسأله القاضي ويقول ما الوصية، وإنما يتحرى ويطلب أين وصية والدكم، وماذا فيها؟ ويحقق ذلك بحسب ما يتبين له، فتقبل في بعض الأحوال فيها جهالة، ولكن من حيث الأصل فالدعوة لا تكون إلا في مدعى به معلوم.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (فإن ادعى عقدًا ذكر شروطه، أو إرثًا ذكر سببه، أو مُحَلًّا بأحد النقدين قَوَّمَه بالآخر، أو بهما فبأيهما شاء)}.
فإن ادعى عبدا ذكر شروطه، لو قال: أنا اشتريت من فلان، نقول: كيف اشتريت؟ لأنَّ بعض الناس قد يعتقد أن الهدية شراء، أو نحوها، أو العكس، أو الجعل إجارة أو الإجارة جعل، فإذا لا بد أن يذكر ما يتبين فعلا أن هذا الذي ظنه هو حقيقة مكتمل، حتى يتبين أو يكون للقاضي الفصل في تلك الخصومة، وتمييز من له الحق ممن ليس له شيء.
(أو إرثا)، كأن يقول: أنا وارث لفلان، فيسأل وارث لفلان كيف؟ يقول: قريبة، صرت قريبا، فإذا قال: والله أنا أُدلى به بسبب، وأنا ابن ابنه، أو أنا أخوه لأمه، وليس فيه من يمنعني من أصل وارث، ولا فرع وارث، وهكذا. فإذًا لا بد أن يذكر السبب.
قال: (أو محلا النقدين قومه بالآخر) إذا احتاجت المسألة إلى تقويم، فإذا كانت الدعوى مثلا على آواني فيها ذهب، إذا آل الأمر إلى تقويمها فتقوم بالفضة، لئلا ذهب بذهب فيكون فيه تفاوت فيقع في الربا.
ولكن إذا كانت بهما، يعني: فيها ذهب وفيها فضة، فإنها تقوم بهما؛ لأن الذهب والفضة هي قيم الأشياء، ولكن يقولون: إذا جاء ليعتاض عنها، فلا يعتاض عنها بذهب وفضة، نقول كم هذه فيها ذهب وفضة، عشرين جرام وعشرين جرام مع هذه الأواني، تساوي كذا وكذا من الذهب.
طيب هي فيها خمس جرامات، وفيها ثلاثة، وبتساويها بعشرة جرامات ذهب، معنى ذلك أن فيه تفاضل. نقول: لا بأس أن تقومها بالذهب، ولكن بعد ذلك تقول تأخذ بها شعيرا بقيمة عشرة جرامات، أو أرزا، أو كسوة من داء، من صوف أو سواه.
{قال -رحمه الله-: (وإذا حررها فإن أقر الخصم حكم عليه بسؤال مدع، وإن أنكر ولا بينة فقوله بيمينه، فإنك لا حُكِمَ عليه بسؤال مدع في مال وما يقصد به)}.
قال: (وإذا حررها) يعني القضية جاهزة الآن للنظر، فإن أقرَّ الخصم حَكَمَ عليه، كأن يقول: نعم ما قاله صحيح.
قال: (حكم عليه بسؤال مدع)، ما معنى ذلك؟ يعني: يقول يا شيخ احكم عليه، لأنه أقر الآن؛ لأنهم يقولون: هو حق للمدعي، فلا بد من طلبه، وبناء على ذلك قالوا: لا بد من ذلك.
وإن أنكر قال: لا والله لا عندي فلوس ولا شيء، قال: (ولا بينة) إذًا الأصل أنه يتوجه إلى المدعي طلب البينة؛ لأن النبي قال: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر» ، لك بينات فيدلي بها، وإذا احتاج إلى وقت أنظره الحاكم، وذهب ليردها ويأتي بها، وبعد ذلك ينظر فيها ويحكم بالبينة إذا ثبتت، فإن لم توجد بينة، أو وجدت بينة ولكنها لا تؤدي الحق، فإنه يوجه إلى المدعى عليه اليمين، ولذلك قال: (وإن أنكر ولا بينة فقوله بيمينه)؛ لأن النبي قال: «البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر»، وجاء في ذلك ألفاظ كثيرة، فإذا تتوجه إليه اليمين، فيقسم على نحو ما طلبه الخصم، يعني إذا قال: أنا أدَّعى عليه بخمسة آلاف من شراء كذا وكذا مثلا، فيحلف أنه ما اشترى منه، ولا تعلق بذمته هذه الخمسة آلاف أو نحوها، فيجعل القاضي الصيغة التي توافق الدعوة، ثم يحلف عليها المنكر.
إذا لم يحلف ونكل، فالنكول هنا هو الامتناع عن اليمين، والامتناع قد يكون لقصد؛ لأنه ظالم، لأنه كاذب، وقد يكون لغير ذلك، فإنَّ من الناس من يحفظ يمينه، ويقول: يميني أعظم من أن أحلف في هذا حتى ولو لزمني هذا الأمر، ولذلك جاء عن ابن عمر أنه امتنع من اليمين، ودفع ما طلب منه، وإن لم يكن يرى أن ذلك عليه حقيقة، فيقول: إن أدفع من مالي وأفتدي به عن يميني، فهو أحفظ لي من أن أحلف فيها في أمر من أمور الدنيا، وهذا نوع من أنواع التعظيم لله -جل وعلا-، وصيانة ليمينه؛ لأنه يمكن أن يكون قد لحقه شيئًا من الخطأ، أو سوء الفهم؛ إلى غير ذلك.
قال: (فإن نكل)، هل يحكم بالنكول؟ هذه مسألة كبيرة عند الفقهاء، أو يحتاج رد اليمين أو نحوها، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنه إذا نكل حُكِمَ على الناكل.
ولكن يقول: بسؤال مدع، فإذا امتنع عن اليمين، يقول المدعي: احكم عليه، فإذا طلب ذلك حَكَمَ عليه، ولكن إنما يحكم بالنكول، يعني: بالامتناع عن اليمين بأنها تفضي إلى ثبوت الحق للمدعي في الأمور المالية، وما يُقصد به المال، وأما في غير الأمور المالية فلا، فلو أنه مثلا كان يدعي عليه أنه قذفة، فلم يكن له بينة، وهذا امتنع من اليمين أنه ما قذفه، فالقذف ليس أمرا ماليا، فبناء على ذلك لا يثبت باليمين.
إذًا إنما يكون في مال، أو ما يقصد به المال، من دين، من ثبوت حق، من أرش عيب، من أشياء تتعلق بذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ويستحلف في كل حق آدمي سوى نكاح ورجعة ونسب ونحوها، لا في حق الله كحد وعبادة)}.
قال: (ويستحلف في كل حق آدمي)، أي من الحقوق الآدمية فيحلف فيها إذا لم توجد البينة على المطلوب وما يدعيه المدعي، إلا النكاح والرجعة، فإذا ادعى شخص على امرأة أنها زوجته، ولم يكن له بينة، أو لم توجد البينة، ماتوا أو تفرقوا أو لم يجدهم أو نحو ذلك، والمرأة قالت: ليس زوجا لي، فلا يطلب منها القاضي أن تحلف، لماذا؟ لأنها لو حلفت هل سيحكم القاضي بأنها زوجته؛ لكونها امتنعت؟ أي: لو امتنعت من اليمين، فما دام أنها لا يفضي ذلك، فلذلك يقولون: إن هذه يمين أضعف من أن يثبت بها نكاح.
ومثل ذلك: الرجعة والنسب، بأن هذا فلان ابن فلان ونحوه.
قال: (لا في حق الله كحد وعبادة)، أمَّا في حقوق الله -سبحانه وتعالى- فلا يستحلف من ادعى عليه في شيء منها، فلو ادُّعى على فلان بأنه -نسأل الله السلامة والعافية- شاربًا للخمر، أو فاعلا للفاحشة، أو نحو ذلك. فإذا أنكر ذلك تُرِكَ؛ لأنه أصلا لا يُقضى بالنكول؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأيضا لأنه يطلب فيها الستر.
وحتى لو أقر يُعرض له كما جاء معنا في أنه يمتنع أو يمكن أن يعود على إقراره، ويتوب فيما بينه وبين ربه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (واليمين المشروعة بالله وحده أو صفته)}.
واليمين المشروعة هي اليمين بالله، فلا حلف بالشرف ولا بالأمانة ولا بغير ذلك مما قد تنعقد عليه بعض المحاكم، أو بعض الجهات، وهذا فيه إشارة أيضا إلى مسألة ينبغي التنبيه عليها لأهميتها، وهو أنه ينبغي ألا يكون ترافع إلا إلى الحكم بالله، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة:45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة:47]، وإن كانت هذه كما قال ابن عباس: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، ولكن لا ينبغي لإنسان أن يتعرض لحكم غير حكم الله -جل وعلا-.
ويلحظ هنا أنَّ بعض الجهات مثلا أو الشركات أو غيرها، تضع في بعض العقود نصًا على أنها إذا وقعت خصومة فلم يستطع حلها وديا، فإنه يترافع إلى المحكمة في البلد الفلاني، أو البلد الفلاني، وهي بلدان لا تُعنى بالأمور الشرعية، ولا تقوم على سنة مرضية، فلا يكون ذلك صحيحا.
إذا هنا اليمين المشروعة هي يمين بالله وحده، فلا حلف بغير الله، فـ «مَنْ حَلَفَ بِغَيرِ الله فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ».
قال: (أو صفة من صفاته)، بسم الرحمن، أو بعزة الله، أو بغير ذلك من صفاته- سبحانه وتعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ويُحكم بالبينة بعد التحليف، وشرط في بينة عدالة ظاهرة، وفي غير نكاح باطنا أيضا)}.
قال: (ويحكم بالبينة بعد التحليف)، يعني: لو أنه حلف، ثم بعد ذلك جاء هذا بالبينة، فحلف هذا لا يُنْكِرُ ما يَثبت للمدعي بالبينة، فإذا كانت بينة غائبة فحضرت، أو كانت منسية فذكرت، فعرضها للقاضي، فلقاضي أن يسترجع الأمر، ويحكم له.
لكن ما البينة؟ قال: (وَشُرط في بينة عدالة ظاهرة) يعني أنها شهادة الشهود، وهل هي مقتصرة على ذلك أو تعم؟
هذه مسألة عند الفقهاء، وظاهر كلام الحنابلة أنها مقصورة في الشهادة، وأن ما سوى ذلك من عقود موثقة ونحوها، أو دلائل أخرى بينة، فعندهم أنها قرائن، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن البينة كل ما أبان الحق، ووصل به إليه، فيدخل في ذلك أشياء كثيرة، وهذا لا شك أنه يحتاج إليه خاصة في هذا الوقت الذي تعددت فيه ما يوصل به إلى الحق.
(البينة على المدعي) قالوا: كل ما أوصل إلى الحق وبرهن عليه فهو كافٍ في الحكم به.
قال: (وأن تكون العدالة ظاهرة) لابد أن يكون عدلا في الظاهر.
قال: (وفي غير نكاح باطنا أيضا)، فإذا عندنا إما أن يكون عقد نكاح فيكتفى فيه بالعدالة الظاهرة في الشهود، وإذا كانت في أمور أخرى، فلابد أن يكون عدلا ظاهرا وباطنا.
كيف تعرف؟ سيأتي ذكر ذلك بأن يكون ممن يخبر في الأمور الخاصة كسفر وتعامل وغيرها، فيعرف معرفة حقيقية بأنه من أهل العدالة وليس من أهل الفسق والسفاهة.
{أحسن الله إليكم. لعلنا نكتفي بهذا في هذه الحلقة}.
على خير إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم، وجزاكم الله خيرا شيخنا، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن متابعتكم، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقات قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك