الدرس الثاني والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7528 33
الدرس الثاني والعشرون

أخصر المختصرات 4

{الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها المشاهدون الكرام، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) والذي تقدمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، لا نزال وإياكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) لابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله- يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، طلاب العلم والطالبات.
{نستأذنكم شيخنا في إكمال القراءة}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَإِنْ وُطِئَتْ مُعْتَدَّةٌ بِشُبْهَةٍ، أَوْ زِنًا، أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَتَمَّتْ عِدَّةَ الأَوَّلِ، وَلَا يُحْتَسَبُ مِنْهَا مُقَامُهَا عِنْدَ ثَانٍ، ثم اعْتَدَّتْ لِثَانٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلي إله وأصحابه أجمعين، أما بعد فأسأل الله -جل وعلا- أن يحفظنا وأن يحفظ المسلمين، وأن يرفع البلاء والفتنة، وأن يمنع الشر والمحنة، وأن لنا في خير وهدى، وأن يعم رحمته على عباده المسلمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- في باب العدد، انتقال إلى مسائل تتعلق بتداخل العدد، أي: إذا دخلت عدة على عدة، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (وَإِنْ وُطِئَتْ مُعْتَدَّةٌ بِشُبْهَةٍ) أي: لو أن معتدة وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، يعني: هي في عدة، ثم وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ، فالطلاق الذي هي في عدته شيء، وعندها عدة، ووطء الشبهة له عدة، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (أَتَمَّتْ عِدَّةَ الأَوَّلِ، وَلَا يُحْتَسَبُ مِنْهَا مُقَامُهَا عِنْدَ ثَانٍ، اعْتَدَّتْ لِثَانٍ) أي: أتمت عدة الأول ثم تبدأ أو تستأنف العدة للأمر الثاني، سواء كانت (مُعْتَدَّةٌ بِشُبْهَةٍ، أَوْ زِنًا، أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ).
قال: (وَلَا يُحْتَسَبُ مِنْهَا مُقَامُهَا عِنْدَ ثَانٍ) يعني: لو كان نكاحا فاسدًا، ظنت مثلا  أنه لا عدة عليها، وكانت موطوءة بشبهة، ثم تزوجت، ثم بعد ذلك سيكون هذا النكاح نكاحًا فاسدًا لأنه في شبهة، وستحتاج إلى أن تعتد أولا، ولا يمكن أن نقول: إن النكاح باطل؛ لأن بعضهم يقول: وطء الشبهة لا عدة فيه، وبناء على ذلك ستحتاج إلى أن تعتد من العدة الأولى، ثم ما تبع ذلك من نكاح فاسد، إذا كانت طلقت فيه أو نحو من ذلك، فعلى كل حال متى ما تداخلت عدتان الترتيب في الأصل من حيث الاستحقاق الأول ثم الثاني، إلا في حال واحدة، وهي أن يكون من الوطء الثاني حمل، فلو كانت مثلا عدة مطلقة، ثم وطئت بشبهة، فهنا إذا تكمل عدة الطلاق ثم تبدأ في عدة الشبهة، ولكن لو أنها حملت من وطء الشبهة هنا، فستحتاج إلى أن تكمل عدة الوطء للشبهة بوضع الحمل، ثم تعود فتكمل العدة الأولى وهكذا.
قال: (وَلَا يُحْتَسَبُ مِنْهَا مُقَامُهَا عِنْدَ ثَانٍ) يعني: هذا وقت ليس من العدة؛ لأن العدة هي تربص وانتظار، وهذا وقت ليس فيه تربص ولا انتظار.
{قال -رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ إِحْدَادٌ عَلَى مَيِّتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ)}.
هذا انتقال من المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى أحكام الإحداد، والإحداد من حيث الأصل من الحد وهو المنع والبعد والمجانبة ونحو ذلك، وهو اجتناب ما يدعو إلى النكاح من الزينة والطيب واللباس، على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-، وهو شيء مأذون فيه مخصوص، ومأمور به لازم، ومحرم، فهي ثلاث أحوال، وبدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- في المأذون فيه، فقال: (وَيَحْرُمُ إِحْدَادٌ عَلَى مَيِّتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ).
إذا المحرم أن يزاد في الإحداد على الميت (فَوْقَ ثَلَاثٍ)، فلو أنَّ شخصا امتنع من الزينة، أو امتنع من اللباس الجميل ونحوه على موت والدته، لستة أشهر أو لثلاثة أشهر أو لخمسة أيام أو لعشرة، فإن هذا فعل محرم، وما يفعله بعض النساء خاصة من ترك أشياء كثيرة حُزنا على والدتها أو على والدها، يمتد لمثل تلك المدد، فإن هذا مخالف لِما جاء به الشرع.
وأم حبيبة لَمَّا مات أخوها طلبت بعد مضي ثلاثة أيام تقول: والله ما بي شيء، غير أني سمعت النبي قال: «لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ أن تُحِدَّ على ميِّتٍ فَوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلَّا على زَوجٍ أربعةَ أشهُرٍ وعشرًا»[1] فتطيبت لإظهار عدم المخالفة؛ لئلا يكون منها مخالفة ولو في الظاهر، يعني: ما قصدت أن تبقى على إحدادٍ أو حزن، ومع ذلك أظهرت الاقتداء والاستنان بعدم إبقاء شيء من التبذل عليها.
إذا هذا هو الجزء المحرم، وهو أن يكون (فَوْقَ ثَلَاثٍ).
وأمَّا المأذون فيه فثلاث، فلما كانت الطباع والنفوس مجبولة على حب القريب والصاحب والحبيب، من زوج، أو أب، أو أم، أو أخ، أو ولد، فلن يأتي على النفس ما ترغب فيه من شهواتها ورغباتها في لبسها أو تعطرها ونحو ذلك، فقدر الشارع في ذلك قدرا محدودا، وهو ثلاث فأقل، فإذا تبذل الإنسان في لبسه، أو ترك ما يعتاد من حسن طيبة، أو جميل لباسه، فلا غضاضة عليه، وذاك قدر مأذون فيه، لا يحد على (مَيِّتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلا على زوج) فإذا الثلاث مأذون فيها فلا غضاضة على الإنسان.
بقيت الحالة الثالثة، وهي الحالة المخصوصة، والحال الواجبة، وسيأتي ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لها.
{قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ مَيِّتٍ، وَيُبَاحُ لِبَائِنٍ)}.
إذا الإحداد الواجب (يَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ مَيِّتٍ)، أي: على الزوجة إذا مات زوجها، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، وإذا كانت حاملا فحتى تضع حملها على ما مر بنا، ولكن هو إذًا ترك للزينة في هذه المدة على سبيل الوجوب، وأمر من الله -جل وعلا-، وكانت المرأة في الجاهلية تبقى سنة ولا تمس ماء، وفيه من إظهار الحال المكروهة ونحو ذلك، فجاء الشرع بتهذيب هذه الأمور، إبقاء لحق الزوج، وإظهارا أثر هذا العقد، حفاظا على حال العبد، فلم يكن في ذلك تكليف له ما لا يطيق، ولم يكن في ذلك امتهان لهذه العقود.
فإن قال قائل: هذا إذا كان في حق الزوجة لزوجها، فأين حق الزوجة على زوجها إذا ماتت؟
نقول: سمعنا وأطعنا، فوالله لو طُلب منا هذا خمسة أشهر لفعلناه، ولو أُمرنا به سنة لَمَا تعديناه، ولَمَّا كان ذلك على النساء، فهو ابتلاء من الله -جل وعلا- عليهن، ووجوبه من الله -جل وعلا- لهن لزيادة درجاتهن، فلا شك أنهن يثبن على ما يفعلن، ويعطين المثوبة على ما يتركن، ويكون لهن الجزاء على ما يجاهدن، ففيها من المجاهدة في ترك مألوف النفس ومحبوبها، وفيها من الامتثال لسنة النبي المصطفى .
إذًا (يَجِبُ عَلَى زَوْجَةِ مَيِّتٍ)، فلا تجب على الزوج، والزوج له أن يحاد على زوجته على سبيل الإذن ثلاثة أيام لا يزيد، كما جاء في القسم الأول على ما ذكرنا.
قال: (وَيُبَاحُ لِبَائِنٍ) فلو أنَّ شخصا أبان زوجته، فلا شك أنها في زمن العدة يطلب منها أن لا تتجمل لئلا يُظن بها ظن سوء، لأن العادة أن النساء إنما يتزين لأزواجهن، وإنما يطلبن الحسن لبعولتهن، فإذا كانت غير مزوجة ووجد منها شيء من ذلك، فربما اتهمت في نفسها، ولكن لو فعلت ذلك هل هو محرم أو لا؟ الظاهر أنه مباح، وهل المقصود الثلاثة أيام أو أزيد؟
لو كان مقصود الفقهاء ثلاثة أيام لَما احتيج إلى ذكرها هنا؛ لأن هذا أمر متأثم بما سبق، ولكن الذي يظهر أنَّ المقصود هنا المدة التي هي مدة الزوجة، فأبيح للبائن لمحل زوجها منها، أو تعظيمًا لَما كان بينها وبين بعلها.
{قال -رحمه الله-: (وَهُوَ تَرْكُ زِينَةٍ وَطِيبٍ وَكُلِّ مَا يَدْعُو إِلَى جِمَاعِهَا وَيُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا)}.
ما هو الإحداد؟ الإحداد هو ترك المرأة للزينة، فلا تتزين المرأة بلباس ولا جمال ونحو ذلك، فتتركها سواء كانت في ألوان فاقعة، أو في ثياب مزركشة أو نحو ذلك، ولكن لا يشترط لونا معينًا، فلا تلازم الأسود أو نحوه، وما كان حسنه منك أبيض فيه صفاء أو نحوه لا بأس به، وإن كان فيه جمال إلا أنه يعني ليس مصنوعا للجمال ومحسنا لذلك.
(وَطِيبٍ) كذلك لا تتطيب المرأة، ولا تستدعي شيئا من ذلك، فيكون ذلك ترك للباسها وطيبها وحليها.
{قال -رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ -بِلَا حَاجَةٍ- تَحَوُّلُهَا مِنْ مَسْكَنٍ وَجَبَتْ فِيهِ، وَلَهَا الخُرُوجُ لِحَاجَتِهَا نَهَارًا)}.
كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَحْرُمُ بِلَا حَاجَةٍ تَحَوُّلُهَا مِنْ مَسْكَنٍ وَجَبَتْ فِيهِ)؛ لأن النبي أمرها أن تحاد في بيتها الذي جاء خبر زوجها وهي فيه، فإذا أمكن هذا فهو الواجب، وإذا أمكننا ذلك فهو اللازم، إلا أن يتعذر، كما لو كان بيتًا في العراء، وكان مؤنسها زوجها فلا أنيس لها، وربما تلصص عليها اللصوص، وربما دخل عليها شيء من الشرور، فتعذر في مثل هذه الحالة، أو كان بيتا قد انهدم، أو كان مُؤجرا ولم يمكنها تمديد إيجاره أو المكث فيه، أو أخرجها صاحب الدار لحاجة إليه، ففي هذه الأحوال لها أن تنتقل. وما سوى ذلك فكما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- فإنها لا تتحول، هذا هو الأصل فيه.
{قال: (وَلَهَا الخُرُوجُ لِحَاجَتِهَا نَهَارًا)}.
إذا احتاجت إلى خروج كشراء حوائج بيتها، أو مراجعة طبيب، أو حصل عليها شيء من السآمة والملل، فذهبت إلى والدتها تجلي عن نفسها، فيكون ذلك في حال النهار، لأن النبي أذن لنساء الأنصار أن يجتمعن ويتحدثن لما توفي أزواجهن، ثم يَعُدن في المساء.
وأذن لتلك المرأة أن تجد نخلها ونحوه، فإذا خرجت المرأة لنحو طلب معيشة، أو لوظيفة لم يمكنها أن تتجاوز ذلك أو أن تتركه بدون ذهاب، أو أن تأخذ إجازة ونحوها فلا بأس، والأمر في ذلك يسير ما دام في النهار، وأمَّا في الليل فلا تخرج إلا لضرورة، ولذلك قال: (وَلَهَا الخُرُوجُ لِحَاجَتِهَا نَهَارًا)، وأما في الليل فلا.
وكثير من النساء عندهن اعتقادات فيها تشديد على أنفسهم لا حاجة لهن فيه، فما كان من نظافة فلا بأس، ولكنها تجتنب ما فيها تعطير، وما فيها تجميل، ويظن بعضهن أن المرأة لا تبرز لقمر، فلا تخرج في ردهة فناء دارها أو نحوه، وبعضهن ترى أنها لا يمكن أن تكلم رجلا حتى ولو من وراء حجاب! نقول: لا، فإذا احتاجت وتتكلم بحشمتها فلا بأس بذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَمِنْ مَلَكَ أَمَةً يُوطَءُ مِثْلُهَا مِنْ أَيِّ شَخَصٍ كَانَ، حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْءٌ وَمُقَدِّمَاتُهُ قبل اسْتِبْرَاءِ حَامِلٍ بِوَضْعٍ، وَمَنْ تَحِيضُ بِحَيْضَةٍ، وَآيِسَةٍ وَصَغِيرَةٍ بِشَهْرٍ)}.
إذا هذا في استبراء الإيماء، فالعدد للمتزوجات، والاستبراء للإماء، والنبي قال في السبايا: «لَا توطأُ حاملٌ حتَّى تضعَ، ولا غيرُ ذاتِ حملٍ حتَّى تحيضَ حيضةً»[2]، فهذا هو الذي يسمى الاستبراء، والاستبراء هو العلم ببراءة رحمها.
إذًا الفرق بين العدة وبين الاستبراء، أن العدة حق لهذا العقد، ولذلك حتى في الأحوال التي ليس فيها حمل، وأمَّا الاستبراء فهو طلب العلم ببراءة الرحم لئلا تختلط الأنساب، فمن اشترى أمة، حتى ولو كان مَالُكها قبل أن يبيعها قد استبرأها؛ لأنه لا بد أن يفعل ذلك، لأنها يمكن أن تكون أم ولد، فلا يجوز بيعها، فمع ذلك إذا دخلت على شخص، فإنه لا يستمتع بها ولا تكون سرية له، والسرية هي التي يستمتع بها، إلا أن يستبرئها، فإذا حاضت حيضة فالحمد لله، هذا إذا كانت حائضًا، وإذا كانت حاملا فحتى تضع حملها، وأما إذا كانت (آيِسَة وَصَغِيرَة) فشهر مقام الحيضة وهي التي تقابلها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الرَّضَاعُ. وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)}.
هذا فصل في أحكام الأعضاء، بفتح "الراء" وكسرها، فيقال: رَضاع ورِضاع، وقد جاء في السنة أن النبي كما في حديث عائشة في الصحيح: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»[3]، ولا يختلف في ذلك أهل العلم، أن للرضاع محرميه، وأن له انتشارًا، والمؤلف -رحمه الله تعالى- سيذكر ما يتعلق بذلك مما دلت عليه النصوص، وجاء به الحديث، والنبي أذن لعائشة أن تدخل على ذلك الرجل، قال: «إنَّهُ عمُّكِ فليلِجْ علَيكِ»[4]، وهذا ذكر للمسائل المتعلقة بذاك.
{قال -رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ عَلَى رَضِيعٍ وَفَرْعِهِ وَإِنْ نَزَلَ فَقَطْ)}.
 يعني: أن الرضاعة تنتشر في المرتضع وفروعه، لا في أصوله ولا في حواشيه، يعني: إذا رضع شخص من فاطمة فهو ابنها، وابنه يعد ابنًا لها، وبنته تعد بنتا لها، وهكذا تنتشر في فروعه كلها لا في أصوله، فأم هذا المرتضع "صالح" أمه ما لها علاقة، وأبوه لا علاقة له بفاطمة هذه، ولا مدخل له عليها، ويمكن أن يتزوجها، وجده وجدته كذلك لا علاقة لهم بهذه المرأة.
وكذلك ولا حواشيه، وحواشيه هم فروع الأب، فالأخ من الحواشي، وليس له علاقة بهذه المرأة، فيمكن أن يتزوج أمك من الرضاع، لأنها بالنسبة له لم تنتشر فيها محرمية، ولم يفصل بينهما تعلق، ولكن هي أمك أنت من الرضاع، وحرمت عليك، ولم يجز لك أن تتزوجها، وجاز لك أن تدخل عليها، وأن تكشف لك وجهها، وأن تكون محرمًا لها في سفر ونحوه.
وابنك كذلك، وابن ابنك، ولكن من جهة المرضع فأمه من الرضاع، وأبوه من الرضاع، وأخواتها خالات له من الرضاع وهكذا؛ لأنه كان كالابن لها، فصار أبناء فاطمة كلهم إخوانه، وبناتها أخواته وهكذا، ولذلك قال: (عَلَى رَضِيعٍ وَفَرْعِهِ وَإِنْ نَزَلَ فَقَطْ) مثل ما ذكرنا.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا حُرْمَةَ إِلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَتَثْبُتُ بِسَعُوطٍ، وَوَجُورٍ وَلَبَنِ مَيِّتَةٍ وَمَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ، وَمَشُوبٍ)}.
قال: (وَلَا حُرْمَةَ إِلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ)، تعلق الرضاعات إنما هو بخمس، متى يكن هذا الرضاع محرمًا؟ متى يتعلق به حكم؟ متى يكون له أثر؟ إذا وصلت خمس رضعات، والرضعة هي التي يكون فيها اجتذاب اللبن ثم تركه، سواء ترك هو أو تركه من نفسه، فأشبعت أو لم تشبع، فكل واحدة رضعة، فإذا تمت خمس تتعلق به أحكام القضاء، الذي قال فيه النبي : «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»، لم خمس؟
قالوا: لقول عائشة -رضي الله عنها-: «كانَ فِيما أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ وَهُنَّ فِيما يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ»[5] فاستقر على ذلك الحكم، وجاء في الأثر: «لا تحرم المصة ولا المصتان»، كان المشهور عند الحنابلة على ما هو ما جاء في حديث عائشة، أنهن أخماس رضعات يحرمن، ويشترط في ذلك أن تكون في الحولين لأنه «لا رَضاعَ إلَّا ما أَنبَتَ اللَّحمَ، وأنشَز العَظمَ» وإلا فلا حكم له، أي: ما بعد الحولين لا حكم له.
قال: (وَتَثْبُتُ بِسَعُوطٍ)، يعني: كيف ما وجد، والسعوط هو جذب النفس عن طريق الأنف، فلو أنَّ شخصا جُعل له حليب امرأة فاشتمه هكذا حتى صعد إلى جوفه، فيتعلق به حكم إذا مر بحلقه، وأما إذا أدخل بإبر أو بغيرها أو نحوه، فلا حكم له، لأن الرضاع الذي هو امتصاص، وهو الذي فيه التقام، ودخول إلى الجوف عن طريق الحلق، فيتعلق به هذا الحكم في كل الأحوال.
قال: (وَتَثْبُتُ بِسَعُوطٍ، وَوَجُورٍ، وَلَبَنِ مَيِّتَةٍ، وَمَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ، وَمَشُوبٍ) من الأشياء التي ذكرها الحنابلة أنه لا بد أن يكون ثاب عن حمل، وهذا من مفردات الحنابلة خلافا للجمهور، طبعا العادة أنَّ النساء لا يدر صدرهن لبنا حتى تكون حاملا أو مرضعا، ولكن ربما يكون لبعض النساء كما يقولون بالتعبيرات الحديثة: تتغير الهرمونات عندها، أو يتحرك هرمون الدر يثيب في صدرها حليب، فهذا الحليب الذي ملأ صدرها والتقمه هذا الصبي من غير حمل، فعند الحنابلة يقولون هذا رضاع لا يحرم، خلافا للجمهور الذين يقولون: هو لبن لها، وينسب إليها، ويكون زوجها أبوه الذي له ذلك اللبن ونحوه.
قال: (وَوَجُورٍ) الوجور هو أن يصب اللبن دفعة واحدة في فم الطفل صبا من غير الثدي.
قال: (وَلَبَنِ مَيِّتَةٍ) يعني: لو أن امرأة أخذ لبنها ثم ماتت، فشربه هذا الولد، فهذا لبنها وينسب إليها، وبناء على ذلك يكون هذا اللبن يكون محرما بشرطه، وهو أن تتم خمس رضعات، وأن تكون عن حمل على قول الحنابلة ونحوه، ويكون زوجها الذي دَرَّ له هذا اللبن هو أبوه، وهكذا تنشر المحرمية.
(وَمَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ) لو أن امرأة وطئت بشبهة فدرَّ لبنها ونحوه، فتكون كذلك، ولو أنها ولدت من حملها ذاك فإن هذا الولد أخوه، وهو ولد ينسب إلى الواطئ بشبهة.
قال: (وَمَشُوبٍ) يعني لو دخله ماء، ما دام أنه اسم للبن فهو يتعلق به هذا الحكم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنْتُهَا كَأُمِّهِ وَجَدَّتِهِ وَرَبِيبَتِهِ إِذَا أَرْضَعَتْ طِفْلَةً حَرَّمَتْهَا عَلَيْهِ)}.
فلو أن والدتك أرضعت طفلة، فهذه الطفلة صارت بنت أمك، وبنت أمك أختك من الرضاعة، فيكون محرم عليك نكاحها.
ومثل ذلك لو أن جدتك أرضعت امرأة، فهذه المرضعة صارت بنت جدتك، وبنت جدتك إن كانت أختا لأبيك فهي عمتك، وإن كانت أختا لأمك فهي خالتك وهكذا.
(وَرَبِيبَتِهِ) بنتها النسبية وبنتها المرضعة كذلك مثلها يدخلن في أحكام التحريم.
{قال -رحمه الله-: (وَكُلُّ رَجُلٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنْتَهُ كَأَخِيهِ وَأَبِيهِ وَرَبِيبِهِ، إِذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَتُهُ بِلَبَنِهِ طِفْلَةً حُرْمَتُهَا عَلَيْهِ)}.
لو أن زوجة أخيك أرضعت ابنة جارتها، فابنة جارتها بنتا لأخيك، وبنت أخيك حرام عليك؛ لأنك عمها من الرضاع، فتحرم كما تحرم بنت أخيك التي أنت عمها من النسب، وهكذا.
ولكن هنا قال: (إِذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَتُهُ بِلَبَنِهِ)، هذا إشارة إلى ماذا؟ لو أنها امرأته لكنها مطلقة، وحملت من زوج آخر ودرَّ صدرها، فأرضعت امرأة من لبن غير أخيك فلا.
أو كانت موطوءة بشبهة، فحملت من هذا الوطء، فهذا اللبن لمن ينسب؟ للواطئ بشبهة وليس لأخيك، وبناء على ذلك لو أرضعت ابنة جارك، فلا تكون ابنة أخيك من الرضاع، وبناء على ذلك لا تحرم عليك.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ قَالَ: إِنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ بَطَلَ نِكَاحُهُ)}.
هذا إقرار، والإقرار معتبر فكأنما أقر بما يبطل به نكاحه، لذلك تلك المرأة لما جاءت إليهما وقالت: قد أرضعتكما، فذهب إلى النبي فقال: كيف وقد؟ فأخذ بقولها، فإذا كان الإنسان يقر على نفسه فهذا من باب أولى في اعتبار انفساخ نكاحه، وهنا يقولون: انفسخ النكاح لأنه جاء ما يدل على بطلانه وانتهاء العقد فيه.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا مَهْرَ قَبْلَ دُخُولٍ إِنْ صَدَّقَتْهُ)، إن صدقته، كما لو قال: إنني ذهبت إلى عمتي فلانة، وقالت: إنك رضعت معها أو نحو ذلك، وأنا ما كنت أعرف، فصدقته هذه المرأة بناء على ذلك لا مهر لها، لأن الفرقة جاءت من قبلهما جميعا، ولكن لو ما صدقت فهو أن يكون قد اتهم لكونه يريد الفراق منها، ويريد حرمانها من المهر، فبدل من أن يطلقها فتجب عليه نصف المهر قال: أقول إنها أختي من الرضاع حتى تنفصل عني وننتهي.
نقول: حتى ولو قلت، فأنت متهم لأنك أردت فراقها ومنعها من مهرها، ما دامت أنها لم تصدق فالأصل أن لها نصف المهر.
{قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ نِصْفُهُ إِنْ كَذَّبَتْهُ)}.
لأنه متهم، قد يكون قال الحقيقة وقد يكون فعل ما يدفع عنه نصف المهر، فعوقب بعدم ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَكُلُّهُ بَعْدَ دُخُولٍ مُطْلَقًا)}.
أما إذا كان قد دخل بها فالمهر جميعا لها في كل الأحوال، فلها المهر بما استحل من فرجها، حتى ولو صدقته.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ قَالَتْ هِيَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهَا فَهِيَ زَوْجَتُهُ حُكْمًا)}.
(وَإِنْ قَالَتْ هِيَ ذَلِكَ) قالت أنت أخي من الرضاع، قال أهل العلم: إن صدقها فانتهى الأمر، ولكن إن كذبها فيمكن أن يكون قد خاف أنها أرادت الفراق، وبدلا أن تذهب وتخلع وتدفع مهرا وكذا، قالت: أقول إنها أخي من الرضاع وينتهي الحكم.
إذا هي تريد أن تفوت على زوجها شيئا هو حق له، دفع مهره، واستحق الاستمتاع بها، فبناء على إذا لم يصدقها فهي زوجته، ولكن من جهة أخرى يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى: ما دام أنها تعتقد أنه ليس زوجها فليس لها أن تمكنه؛ لأنها إن مكنته فكأنها تمكنه وهي تعلم أنها لا تحل له، ولذلك يقولون: عليه الطلب وعليها الهرب، هو يطلبها لأنه يعتقد أنها زوجته، لكن هي لا تمكنه لأنها تعتقد أنها ليست كذلك.
فإذا كان فعلا قد حصل رضاع، فمن جهة الأحكام الظاهرة هي زوجته، ولكن هي من الباطن ليست زوجته ما دام أن هناك رضاع، ولذلك إذا كانت قد قالت ذلك وهي تعلم ذلك يقينًا، فلا يجوز لها أن تمكن زوجها؛ لئلا تكون قد وافقت على المواقعة مع أخ لها من الرضاع، فتكون فتدخل في الحرام.
{قال -رحمه الله-: (ومن شك في رضاع أو عدد بنى على اليقين)}.
هذه من المسائل الكثير وقوعها، يحصل كثيرا عند الناس خاصة في البيوتات الصغيرة، أو في بعض الأحوال والظروف المختلفة، من أن هذه تضع ولدها عند جارتها، أو عند أختها، وربما طال غيابها، أو انشغلت، أو أدخلت مستشفى وغيرها فيرضع، ثم يحصل بعد ذلك لا يكون شيئا قد ثُبِّتْ، فيحصل شكوك كثيرة، فبعض الناس يقول: هي أرضعت وناس تقول لم ترضع، وزوجها يقول: أنت أرضعتيه خمس مرات وعشر، وهي تقول: لا لم أرضعه إلا مرتين، فالمهم أنه إذا حصل شك فالأصل عدم الرضاع، وإذا تيقن الرضاع حصل أحكام التحريم، وإذا ارتفع اليقين وبقيت هذه الشكوك مهما كثرت فلا اعتبار بها. أو هم يعلمون أنه قد حصل الرضاع، ولكن بعضهم يقول: ثلاثة، وبعضهم يقول: بل مرة واحدة، وواحد يقول: خمس، وواحد يقول: أنا أذكر أنها سويت كذا، نقول ما دام أنك لم تتيقن أن عددها خمس فلا، ولأجل ذلك نقول: ينبغي لكل من احتاج إلى إرضاع ولد غيره أن يثبت ذلك لأول وهلة، لتندفع الشكوك وليعرف الأمر بيقين، وارتفاع الشكوك لئلا يأتي واحد ويقول: حصل كذا أو لم يحصل كذا، ثم تتدافع أمور كثيرة، وأسوأ من ذلك أن يتزوج شخص بامرأة، ثم بعد خمس سنوات أو عشر سنوات يأتي من يقول: أشهد أنها أخته من الرضاع، فيفرق بينهما أو يبقيان مشكوكا في أمرهما، لا يدريان أهو صحيح أم لا، مع أنه إذا قال بيقين كما سيأتي: ينتهي الأمر، فما الذي يقطع ذلك؟
هو تثبيته وضبطه حتى يمنع كل ما يمكن أن يأتي من الشكوك وسواها.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَيَثْبُتُ بِإِخْبَارِ مُرْضِعَةٍ مَرْضِيَّةٍ وَبِشَهَادَةِ عَدْلٍ مُطْلَقًا)}.
نعم (وَيَثْبُتُ بِإِخْبَارِ مُرْضِعَةٍ) ولكن لا بد أن تكون (مَرْضِيَّةٍ) ولابد أن تكون امرأة يعتد بكلامها إذا أخبرت، لكن مثل ما قلنا: إن بعض الأحوال لا يرقى إلى درجة الخبر، إنما تبعث كلاما يورث الشكوك، والله ما أدري وربما، ثم تأتي أختها بكلمة ثانية، وأمها تأتي بكلمة ثالثة فيثور غبار لا يوصل فيه إلى حقيقة، فتبقى مع ذلك شكوك شديدة، وربما يعني سقط عالي الزوجية ولا شيء إلا الكلام، بسبب هذه الشكوك، فلا يقطع ذلك كما قلنا إذا تبث هذا.
وأما إذا أخبرت قالت أنا متأكدة وأرضعته وخمس رضعات وأثبتها، واستفصل منها فقيه فذكرت، فالحمد لله، والمهم متى ما أخبرت ذلك على وجه القطع، وقالت: أنا أرضعته خمس رضاعات ومتيقنة من ذلك انتهينا. بشرط أن تكون مرضية.
(وَبِشَهَادَةِ عَدْلٍ مُطْلَقًا) لأننا إذا قبلنا فيها قول امرأة، فكذلك يقبل قول العدل من باب أولى، أن فلانا رضع مع فلانة، أو أن فلانا أخو فلانة من الرضاع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَاب النَّفَقَاتِ)}.
هذا باب النفقات، والنفقات جمع نفقة، وهي الأموال أو الدراهم ونحوها، أنفق إذا أعطى إذا بذل، ونحوه، والنفقات، باب كبير، يتعلق بالنفقة على الزوجات، يتعلق بالنفقة على الأولاد، يتعلق بالنفقة على الأرقاء والمماليك، يتعلق بالنفقة على البهائم ونحوها.
ولكن لَمَّا كان الكلام متعلق بالزوجات وأحكامهن، ابتدأ الفقهاء بالكلام على نفقة الزوجات، ثم ذكروا ما يتبع ذلك من أحكام النفقات الأخر على الأرقاء أو على الأولاد أو على الأقارب أو على البهائم أو سواها، على ما سيأتي تفصيله -بإذن الله-جل وعلا-.
{قال: (وَعَلَى زَوْجٍ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى بِالْمَعْرُوفِ)}.
كما ذكرنا أن النفقات تكون إما بالزوجية أو بالقرابة أو بالملك، والنفقة على البهائم تكون واجبة، وسيأتي التفصيل، ولكن هذا هو الأصل، والملك يدخل في البهائم كما يدخل فيه الأرقاء.
قال: (وَعَلَى زَوْجٍ) على هنا يعني: وجوب لزوم، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ﴾، فإذًا هي إشارة إلى وجوب النفقة، ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
فإذًا على الزوج نفقة الزوجة، هذه ثابتة في قوله تعالى: ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾ وفي الحديث لَمَّا اشتكت امرأة أبي سفيان إلى النبي قال: «خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ»[6]، ولا يختلف في هذا أحد من أهل العلم، أنَّ على الزوج نفقة زوجته، ولذلك قال: (مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكِسْوَةٍ وَسُكْنَى بِالْمَعْرُوفِ).
إذا هنا عندنا أصل النفقة تتعلق بالمأكول والمشروب وبالكسوة والسكنى، ولا بد أن تحصل للزوج، أيا كان فقيرا أو غنيا، أو ميسور الحال أو متوسط الحال أو سوى ذلك، فهذه أشياء لازمة، وإنما الكلام في قدرها، ولذلك قال بالمعروف.
{قال -رحمه الله-: (فَيُفْرَضُ لِمُوسِرَةٍ مَعَ مُوسِرٍ عِنْدَ تَنَازُعٍ مِنْ أَرْفَعِ خُبْزِ البَلَدِ وَأُدْمِهِ عَادَةَ الْمُوسِرِينَ)}.
قال: (فَيُفْرَضُ لِمُوسِرَةٍ مَعَ مُوسِرٍ)، إذا كأن المشهور عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- خلافا للجمهور أنَّ متعلق قدر النفقة هو حال الزوجين مجتمعين؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾، فأناط ذلك بقدرته وضيق حاله من سعته.
وأيضا قال في الحديث: «خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ»، فأناط الحكم بما يكفيها، فقال أهل العلم من الحنابلة: إنه ليس هذا بأولى ولا ذاك، وإنما هو بحالهما مجتمعين، ولذلك نفقة الموسر مع الموسرة نفقة عالية، ونفقة المعسر مع المعسرة نفقة متدنية، ونفقة الموسر مع المعسرة أو المعسر مع الموسرة نفقة متوسطة، حتى ولو كان محسرًا؟ نقول: حتى ولو كان معسرًا، فأنت ما أخذتها معسرة إلا مع علمك بذلك، فنحن نرى حاليكما جميعا فتجتمع في ذلك.
ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أحوالا لهذه النفقة، أو ما يعتادونه، أو ما يمكن أن يُحكم به، ولكن الحقيقة أن هذا خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة مشكل جدا، من جهة اعتبار العام، ولكن عموما الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على مر العصور لم تتباين حوائجهم فيما يأكلون ويشربون ويقتاتون، ولأجل ذلك كان ذكرهم لها متسقا، ولكن الآن اختلف عمل الناس وأكلهم وما يطعمون في صباح أو في مساء، فلا شك أنه كما في الحديث بالمعروف، فينظر إلى ذلك.
وبدأ المؤلف -رحمه الله- في التعداد قال: (مِنْ أَرْفَعِ خُبْزِ البَلَدِ وَأُدْمِهِ) الإدام هو كل ما يحصل به طيب الأكل، يعني ليس هو الأصل في الأكل، وإنما يستطاب به الأكل، فعلى سبيل المثال عندنا كانوا يسمون اللحم "إيدام"؛ لأنهم يطيبون به الرز، تكون قطعة لحم صغيرة ومعها الأرز ونحوه، أو الإيدام كما هو عند بعض المجتمعات ما يكون من خضار ومرق ونحوه، والخل لأنه يصب على الخبز ويطيب به، الزيت كذلك، هو الذي يسميه الناس اليوم أحيانا وليس كل ذلك، ولكن أحيانا تسمى: الصوصات، أو كلمة معتادة عند المعاصرين مأخوذة من كلمة أجنبية يطعم بها الأكل، فكله داخل في اسم الإيدام.
ولذا تختلف أحوال الناس في إيداماتهم، ولذلك بعض البلدان اللحم هو قوت، هو أصل طعامهم مثل: شمال بلادنا في سوريا وفي تركيا ونحوها وفي بعض أوروبا الشرقية وما سواها، فإذا يختلف الحال، فالمهم أن الطعام الذي هو القوت الأصلي، مثل: قمح، أرز، عدس، سواه، ثم شيء يطاب معه الطعام من مرق ومن زيت وسواه.
ولذلك قال: (عَادَةَ الْمُوسِرِينَ وَمَا يَلْبَسُ مِثْلُهَا)، الآن الألبسة شيء عجيب، يعني كانت من أول الألبسة تصنع في بيوتات الناس، ويجتلب شيء يسير من بعض البلدان، مع حاج أو مع مسافر أو بعض القوافل أو غيرها، ولكن الآن أي شيء يمكن أن تكون؟ وبلغ في الألبسة ما هو شيء يهول النظر والعقل، ولكن كل بحسبه وما اعتاده الناس وألفوه.
قال: (وَيَنَامُ عَلَيْهِ)، من الحفاوة ذكروا لها ومخدة ونحو ذلك، فعلى كل حال هذه أيضًا من الأشياء التي اختلفت، ولكن مرد ذلك إلى العرف.
نحن قلنا ونعيد الحقيقة، كل هذا الكلام الذي يذكره أهل العلم هنا هو حال التنازع، قال: (عند تنازع) وإلا فمبنى الحياة على الإحسان، وعلى المعروف، وعلى طيب العشرة، فإذا زدت امرأتك، وإذا أحسنت لها، وإذا أعطيتها مع النفقة نفقة لأهلها، وإذا زدتها مع اللباس لباسا آخر، وإذا زينتها، هذا كله من بابه باب الإحسان، ولكن ما حد الواجب لو اختلف؟ نقول: هذه النفقة التي تقوم بها حياتها نفقة الموسرة تحت الموسر عالي النفقات، ومن في حكمها وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلِفَقِيرَةٍ مَعَ فَقِيرٍ كِفَايَتُهَا مِنْ أَدْنَى خُبْزِ الْبَلَدِ وَأُدْمِهِ وَمَا يَلْبَسُ مِثْلُهَا وَيَنَامُ وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ)}.
إذا ما كان من لباس، ما كان من نفقة، ما كان من محل للنوم، ما كان من سكنى، كل ذلك بحسبه، فيختلف الفقير مع الفقير، عن الغني مع الغني مثل ما قلنا، اعتبارا بما ذكر وبما تقدم.
{أحسن الله إليكم.
{قال -رحمه الله-: (وَلِمُتَوَسِّطَةٍ مَعَ مُتَوَسِّطٍ، وَمُوسِرَةٍ مَعَ فَقِيرٍ وَعَكْسِهَا مَا بَيْنَ ذَلِكَ)}.
إذا تفاوت فالاعتبار بمجموعهما، فهو موسر وهي معسرة، نقول: تنفق عليها نفقة الموسرين، لكنك لا تنفق عليها نفقة المعسرين، فيكون الوسط بذلك.
والعكس بالعكس، إذا هي موسرة وهو معسر، فلا ينفق عليها نفقة المعسرين، ولكن لا ينفق عليها نفقة الموسرين فيكون متوسطا، لأنه رضي بها موسرة، وهي رضيت به معسرا، فكان الأمر إلى الوسط.
أو هنا نقول مع ذلك: ينبغي لمن عرضت لهم أحوال، ضعفت أمورهم، أو تغيرت أحوالهم، أو ضاق بهم رزقهم أو نحوه، أن تتحمل الزوجة قدر استطاعتها، وأن يحتسب الرجل في نفقته على زوجته، والنبي لَمَّا ذكر إنفاق الرجل دراهم كثيرة، قال: «وخيرها الذي تنفقه على أهلك» فيحتسب الإنسان الأجر، ويطلب بذلك المثوبة، ولا يقصر ما استطاع إلى ذلك، ولكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (لَا القِيمَةُ إِلَّا بِرِضَاهُمَا)}.
(لَا القِيمَةُ)، يعني ما يأتي ويقول: هذه قيمتها واشتر لك أكلك أو طعامك، لا هو المأمور بتوفير ذلك وإحضاره، فإذا اتفقا على غير ذلك فهم على ما اتفقا عليه، لأنه فيما مضى المؤونة لها كلفة، وإحضارها لها كلفة أخرى، فقد تتعنى في إحضار هذا الطعام، قد تتعنى في شراء هذا اللباس، ولكن الآن سهلت الأمور كلها بين عشية وضحاها وبين دقيقة وأخرى عبر هذه المواقع أو عبر هذه التيسيرات التي يسرها الله -جل وعلا- لعباده.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ نَظَافَتِهَا لَا دَوَاءَ، وَأُجْرَةُ طَبِيبٍ، وَثَمَنُ طِيبٍ)}.
قال: (وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ نَظَافَتِهَا) لأن نظافتها مطلوبة، ومكملة ما يلزمها حتى في تهيئها له، وقيامها عليه.
قال: (لَا دَوَاءَ، وَأُجْرَةُ طَبِيبٍ)، لأنَّ هذا مقابل علة فيها، وهو ليس يتعلق به ذلك، وهذا كما قلنا: هو عند التنازع، ولكن كم من الناس الذي أنفق كل ماله رجاء علاج زوجته، حتى ولو كان بينهما بعض نفرة، أو حصول جفوة، لكنه باب الإحسان والوفاء والقيام بحق الزوج، أم أولاده، وحفظته على فراشه، وهذا شيء عظيم، ولكنه لا يلزم بأجرة الطبيب؛ لأنه ليس داخلا في أصل النفقة عند الفقهاء.
ومثل ذلك: (ثَمَنُ طِيبٍ)، لأن هذا من الكمالات والزيادة، فإن أعطاها فقد أحسن، وإن لم يعطها لا شيء يلزمه في ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَتَجِبُ لِرَجْعِيَّةٍ وَبَائِنٍ حَامِلٍ، لَا لِمُتَوَفَّى عَنْهَا)}.
الرجعية زوجة لها ما للزوجات، غير أنه لا يقسم لها، فبناء على ذلك وقت عدتها وهي رجعية ينفق عليها نفقة تامة، ويلزمه في ذلك.
(وَبَائِنٍ حَامِلٍ) إن كانت زوجته بائنا غير حامل فلا شيء له، لأنه انتهت علقة النكاح بينهما فلم يلزمها شيء، ولكن إذا كانت حاملا فيجب عليه النفقة لأجل الحمل وهي له، فلا تكون للمرأة لأجل الحمل، لا هي للحمل، ولذلك يقولون: لو مات في بطنها لم يجب عليه نفقة بعد ذلك.
(لَا لِمُتَوَفَّى عَنْهَا)، أما المتوفى عنها فإنه قد انقطع ما لها من الحق، وبناء على ذلك تنفق على نفسها من مالها، أو مما أبقى زوجها، ويحتسب عليها من ميراثها، حتى ولو كانت حاملا، فالحمل ينفق عليه من ميراثه هو، ويقوم بذلك من يلي أمره.
{أحسن الله إليكم، وشكرا لكم}.
طيب نكتفي بهذا القدر، وبودنا أن نستعجل، ولعلنا نفعل ذلك في المرة القادمة حتى ننهي الكتاب إن شاء الله.
{شكر الله لكم، وأحسن إليكم، وبارك فيكم.
وختاما أيها المشاهدون الكرام نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------------
[1]   أخرجه البخاري (5334)، ومسلم (1486).
[2] أخرجه أبو داود (2157) واللفظ له، وأحمد (11228)
[3] أخرجه مسلم (1445).
[4] أخرجه البخاري (4796) ومسلم (1445).
[5] أخرجه مسلم (1452).
[6] أخرجه البخاري (3825)، ومسلم (1714).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك