الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7534 33
الدرس العاشر

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ المفضال/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، وحياكم الله جميعًا، حيا الله طلاب العلم، حيا الله طالبات العلم، زادكم الله توفيقًا، وهداية، وإعانة على الخير والهدى، اللهم أمين.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (باب الوصايا)، يعني: انتهينا منه، واليوم -بإذن الله- نتجاوز (كِتَابَ الْفَرَائِضَ) ونبدأ بـ (كِتَاب الْعِتْقِ).
قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الْعِتْقِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الموفقين، وأن يحفظنا وأن يحفظ المسلمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
هذا الكتاب كتاب عظيم، وهو إشارة من أهل العلم -رحمهم الله تعالى- إلى أنَّ العتق ومن وقع في الرق فله أحكام تخصه، وله في الشريعة حفظ حقوقه، والقيام عليه، ومنع تجاوز ما يجب له من الإحسان والنفقة وعدم الإتعاب وغير ذلك، وكل ذلك منظوم فيما سطره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في (كِتَاب الْعِتْقِ)، ولعلك أن تلحظ هنا، أنهم وسموا هذا الكتاب بـ (كِتَاب الْعِتْقِ) ولم يسموه بكتاب الرق، وهو أيضًا دالٌ على ما تطلعت إليه الشريعة بأصولها، وما تضمنته كثير من أحكامها من الأمر بالعتق والحث عليه، وما فيه من الأجر، وتيسير طريقه بأنواع كثيرة، سواء كان ذلك في السراية أو في الكتابة أو كان ذلك في الكفارة، أو كان ذلك في الوصية والتدبير، وأبواب كثيرة، بل ما جاء من الشرع في الحث على الإعتاق؛ فانَّ النبي قال: «مَنْ أعتقَ رقبةً مسلِمَةً، أَعْتَقَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ عضْوٍ منها عضْوًا منه مِنَ النارِ حتى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» .
ومن هنا يُعلم أنَّ الشرع جاء في أبواب الرق، وكتاب العتق من حماية ما لهم من الحقوق، والقيام على ما يجب لهم من الأمور، سواء كان ذلك في التزويج، أو كان ذلك في النفقة، أو كان ذلك في عدم الإتعاب، أو ما سوى ذلك من الأحكام.
ثم جاء الشارع بفتح أبواب العتق من كل طريق إليه، ثم جاء الشارع بتقييد أبواب الرق وعدم التجاوز فيه، فإنَّ النبي ذكر أنَّ من أعظم الإثم أن يُباع الحر، وأن يُؤكل ثمنه، فيسترق بذلك، وتتناقله الأيدي، كما يَفعل كثير من أهل الديانات، ففي الشرع ليس إلا باب واحد يمكن أن يدخل الإنسان في اسم الرقيق، وذلك بما يفوته من العبودية، وما يحصل من الأسر، وما يتبع ذلك من حكم ولي الأمر فيه، من قسمه غنيمة، ودخوله رقًا، أو ما يدخل في ذلك، وهذا مبسوط عند أهل العلم في أبواب كثيرة من العلم.
فلعلك أن تلحظ أن باب الاسترقاق هو باب محصور، وموضح معلوم، وله أصل ظاهر في سبب حصول الرق على من مَنَعَ العبودية لله، وحارب ما جاء من الدعوة إلى توحيد الله -جل وعلا-، وهو أيضا ممن يستحق ذلك على تفصيل ما يذكره الفقهاء في أبواب الجهاد وما يتبعها.
إذًا هذا هو (كتاب العتق)، والعتق لغة هو: الخلوص، وحقيقته تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، والرق حقيقته هو عجز حكمي بسبب الكفر بالله -جل وعلا-.
ما معنى عجز حكمي؟ يعني: أنه يُحكم على هذا الشخص بالمنع من التصرفات، وما يلحق به من التقييدات والوصف، وأمَّا من جهة حقيقته فهو قد يكون من أكثر الناس عقلا، وأكملهم خلقة، وأحسنهم نظرًا، ونحو ذلك، ولكنَّ العجز لَمَّا حكم عليه بأنه رقيق فمنع من التملك، ومنع من كذا، وجُعِلَ له من الحقوق كذا وكذا وكذا، فهو إذًا عجز من جهة ما جاء في الشرع لَمَّا وصف بالرق بالسبب المذكور، وبالطريقة المأذون فيها شرعًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (يُسُنُّ عِتْقُ مَنْ لَهُ كَسْبٌ وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَلَا كَسْبٌ)}.
العتق من جهة الأصل هو باب من أعظم أبواب البر وأرفعها عند الله -جل وعلا-، ولأجل ذلك قال الشارع: (يُسَنُّ) مثل ما ذكرنا لكم من أنَّ النبي قال: «مَنْ أعتقَ رقبةً مسلِمَةً، أَعْتَقَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ عضْوٍ منها عضْوًا منه مِنَ النارِ» فذاك باب كبير، وطريق عظيم، ينبغي للإنسان أن يُسارع إلى ذلك، متى ما كان عنده رقيق وطلب الأجر والمثوبة من الله -جل وعلا.
ويقول المؤلف -رحمه الله-: (مَنْ لَهُ كَسْبٌ) يعني: هو قادر على التكسب؛ لأنه إذا كان رقيقًا فنفقة لازمة على سيده، فلا يضيع، فإذا افترضنا أنَّ شخصًا لا يستطيع على الكسب، فإنه ما دام في رق وملك لسيده؛ فإنَّ السيد سيقوم عليه، ويُلزم بالنفقة عليه حتى قبل النفقة على ولده، كما سيأتي ذلك في (كِتَابِ الْنَّفَقَاتِ).
وأمَّا لو أعتقه وهو غير قادر على التكسب فسيضيع؛ لأنه ليس له قدرة على التكسب فيكسب فيأكل، ويستغني بنفسه، ولا له سيد يُلزم بالقيام عليه، ويُؤمر بالنفقة عليه، وإعطائه ما يلزمه من كسوة ونفقة وسواها.
ولأجل ذلك خصَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- استحباب العتق لـ (مَنْ لَهُ كَسْبٌ)؛ لأنه هو الذي يحصل له الخير، فيتخلص من العبودية، ومن الرق، ومن هذا الوصف، ويستطيع التكسب، ويستغني عن الناس بخلاف الآخر، فلا أقل من أن يبقى عبدًا؛ لأنه سيكون له نفقة، وللسيد مسئولية في التزويج، وخلاف ذلك مما يلزم من كسوة، وسكن، وسواها.
قال: (وَيُكْرَهُ لِمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَلَا كَسْبٌ)، فإذا كان شخص لا قوة له ولا كسب، كما لو كان به إعاقة، أو كان ضعيف الخلقة -هرم-، أو كان لا عقل له، كما لو كان معتوها أو نحوه، فمثل هؤلاء عادة لا يستطيعون على الكسب والتكسب، أو كان كبيرًا لا قوة له، فهو يحتاج إلى من يخدمه ويُعينه، فأنَّ له أن يستطيع أن يذهب وأن يعمل في السوق بحمل أو بيع أو شراء أو حياكة أو حرفة أو سواها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، بَلْ تَعْلِيقُهُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ)}.
تعليق العتق بالموت هذا هو التدبير، فكأنه يقول: أنت حر دُبر حياتي، ولكن يقول المؤلف هنا: (وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ)، وهذا القول فيه إشكال، فإنَّ الوصية بالعتق هي من أظهر ما يكون عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، ولذلك ربما كان سهو من المؤلف -رحمه الله تعالى- في صياغة هذه العبارة؛ لأنَّ مثلها لا يخفى، ومثله أكبر من أن يُنسب إليه السهو أو الغفلة في مثل هذه المسألة.
ولكن على كل لو كان ذلك، فإنه لم يزل أهل العلم الكبار يغفلون عن المسائل الواضحة، وتذهب عليهم الأحكام البينة، وتلك من الله -جل وعلا- سُنة ماضية؛ لإظهار ضعف الإنسان مهما عظم، ومهما كمل، ومهما اجتمع له من الصفات، فلا يزال الإنسان يتبرأ من حوله، ويتعلق بالله -جل وعلا-، ويطلب منه الإعانة والتوفيق، حذرًا من حصول الخلل والوقوع في العثرة والثغرة، سواء كانت في مسألة، أو كانت في فتوى، أو كتابة، أو سواها.
ولأجل ذلك فالوصية بالعتق صحيحة، والتدبير نوع منها، فكل ذلك جائز، وكله صحيح، ويُحكم به، ويكون عتيقًا إذا مات بشرطه، وهو أن يخرج من الثلث.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ)}.
كما قلنا: إنه يعتبر من الثلث؛ لأنه داخل في الوصية، وداخل في التبرع، فلا بد من أن يكون داخلا في الثلث على ما ذكرنا فيما تقدم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتَسُنُّ كِتَابَةُ مَنْ عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَهُوَ الْكَسْبُ وَالْأَمَانَةُ، وَتُكْرَهُ لِمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ)}.
الكتابة حقيقتها مكاتبة العبد، وهو كأنه يشتري نفسه من سيده، وذلك بأن يتعاقد على أن يدفع له أنجمًا أو أقساطا مقسطة، يعمل من خلالها ويدفع له.
وبناء على ذلك تستحب الكتابة، والله -جل وعلا- قد أمر بذلك في كتابه: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور:33]، قال أهل العلم: إنه يستحب، بل قال بعضهم بالوجوب، أنه إذا كاتب السيد عبده، فإنه ينبغي له إمَّا على الاستحباب أو الوجوب أن يطرح بعض ما وجب على العبد، فهذا العبد بعد أن يُكاتبه ينطلق ولا يزال يتجر ويعمل ويتكسب، وكلما مرت مدة اتفق عليها دفع ما عليه، حتى ينتهي ما كتب عليه في عقد الكتابة، حتى تكمل حريته، وينتهي رقه، ولذلك قال النبي : «المُكاتَبُ عبدٌ ما بَقيَ علَيهِ من مُكاتبتِهِ درهمٌ» ، فإذا أنهى ما عليه؛ خرج من العبودية، فلا يخرج إلا بتمام ذلك.
قال: (وَتَسُنُّ كِتَابَةُ مَنْ عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا، وَهُوَ الْكَسْبُ وَالْأَمَانَةُ)؛ لأنه إذا لم يكن يتكسب فلا فائدة من مكاتبة، فإنه يعود عليه كما كان بعد مدة، فيكون عبدًا لا يستطيع الكسب، ولا يقدر على الحركة والعمل والأمانة؛ لأنه أيضا إذا كاتبه وهو غير أمين، فيمكن أن يذهب أو يهرب فيكون آبقًا، ولكن إذا كان أمينًا ذا كسب، وعلم بكسبه أنه يستطع الوفاء، وعلم بأمانته أنه يحفظ العقد، ويؤدي إلى سيده، ويؤمن منه الخيانة والهرب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتُكْرَهُ لِمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ)}.
قوله: (وَتُكْرَهُ لِمَنْ لَا كَسْبَ لَهُ)؛ لأنه سيفضي به ذلك إلى أن يتكفف الناس، فيتعرض للمسألة، والمسألة مكروهة، ولأجل ذلك كان متعلق الحكم في الاستحباب لمن عُلم منه الكسب والأمانة، وهذا داخل في تفسير الآية ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:33].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ، وَمُشْتَرِيه يَقُومُ مَقَامَ مُكَاتِبِهِ، فَإِنْ أَدَّى عُتِقَ وَوَلَاؤُهُ لِمُنْتَقِلٍ إِلَيْهِ)}.
قوله: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ) فلو أنَّ شخصًا كاتبَ عبدًا على أن يعطيه عشرة آلاف كل شهر لمدة سنة، فقيمته مئة وعشرون ألفًا، واضح؟
وبناء على ذلك، فهذا العبد يؤدي، وما دام أنا قلنا: إنه عبد ما بقي عليه درهم، والعبد يجوز بيعه، فيجوز أن يُباع، ولكن ما دام أنه كوتب، فإذا بيع فمن اشتراه فهو على ما هو عليه الكتابة، فإنَّ ذلك العقد لا ينقض، ولأنَّ الشرع يتطلع إلى حصول الإعتاق وانتهاء الاسترقاق، ويتشوف إلى ذلك.
وبناء على هذا نقول: أيها المشتري هذا عبد مكاتب، فيوفيَ لك، ما الفائدة إذا للمشتري؟
إمَّا أنه يريد أن يشتريه بمال قليل، وهذا يُوفي له مالا قليلا، وإمَّا أنه لا يريد ذلك كله، وإنما يريد أن يكون له الولاء، كما كان من عائشة -رضي الله تعالى عنها- لَمَّا اشترته واشترطت لهم الولاء، فقال النبي : «إنَّما الوَلَاءُ لِمَن أَعْتَقَ» ، وفي هذا قصة مشهورة.
إذا يجوز، وينتقل على ما كان عليه من كتابة.
قال: (فَإِنْ أَدَّى) يعني: للمشتري الجديد عتق، فإذا كان أدى للسيد الأول شهرين، فيؤدي لهذا عشرة أشهر، فإذا أدى العشرة أشهر انتهى، فلو أنَّ المشتري قال: لا بقي وأنا كذا. نقول: لا، هذا ما اتفق عليه، وتعاقد عليه السيد الأول، وأنت حللت ما كان عليه سيده، فلا يجوز لك أن تُلغي حقه، أو أن تسترقه، وقد أعتقه الله -جل وعلا-.
قال: (وَوَلَاؤُهُ لِمُنْتَقِلٍ إِلَيْهِ) مثل ما قلنا لِمَا في حديث عائشة -رضي الله عنها وأرضاها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا مِنْ كُلِّ مَالِهِ، وَهِيَ مَنْ وَلَدْتَ مَا فِيهِ صُورَةٌ وَلَوْ خُفْيَةً مِنْ مَالِكٍ، وَلَوْ بَعْضَهَا أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ أَبِيهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا الِابْنُ)}.
قوله: (وَأُمُّ الْوَلَدِ تعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا مِنْ كُلِّ مَالِهِ) أم الولد هي التي أنجبت ولدًا من سيدها إذا تسرى بها، فإنها تكون أم ولد، بمعنى أنها أمة، ويتعلق بها أحكام الإماء من كل وجه، غير أنها لا تُباع.
والثاني: إذا مات سيدها، تَعتق من كل ماله، يعني: حتى ليس من الثلث.
وبناء على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: أي سيد تَسَرَّىَ بأمة فولدت له؛ فإنها تكون أم ولد، وأي أمة كانت أم ولد، فإنها لا تباع، وأنها تَعتق إذا مات سيدها.
(وَأُمُّ الْوَلَدِ تعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا مِنْ كُلِّ مَالِهِ) من هي؟
هي من ولدت ما فيه صورة ولو خفية، يعني سواء كان الولد حيًا أو ميتًا، بل حتى ولو كان سِقطًا، والسِّقط إمَّا أن تضع ما هو مُضغة لا خلقة فيها، هذا لا شيء، وإمَّا أن تضع ولدًا مكتملا، وإمَّا أن تضع فيه صفة وجه أو رجل، فإذا وضعت من هو مكتمل الخلقة أو من فيه يد أو رجل أو كذا، فلا إشكال في أنها أم ولد.
قال: (صُورَةٌ وَلَوْ خُفْيَةً). ما معنى الصورة الخفية؟ يعني هي لو وضعت الآن قطعة لحم. لو رأيتها أنت لقلت: هذه قطعة لحم ليس فيها شيء، ولو رأيتها أنا لقلت مثلا ذلك، ولكن القابلة ومن يلون هذه الأمور غالبًا يعرفون، ويقولون: لا. إذا نظرت إلى هذه القطعة فسترى أن فيها مبدأ رسم اليد، أو مبدأ رسم الوجه، ففيها صورة خفية لا يعرفها إلا من له معرفة خاصة كالقابلة ومن في حكمها، ممن يلون الولادة ونحوها، فيقول: إذا حكم حكمت القابلة بذلك ومن في حكمها، حكمنا بأنها أم ولد، وبناء على ذلك يتعلق بها تلك الأحكام.
قال: (مِنْ مَالِكٍ، وَلَوْ بَعْضَهَا) يعني: لو كان يملكها أكثر من واحد، فبناء على ذلك لو تسرى بها، مع أنه لا يجوز له أن يتسرى بها، فتكون هي أم ولد أو محرمة عليه، يقولون: أو محرمة عليه، كما لو كانت ابنته من الرضاع، فإنها تكون أم ولد.
(أَوْ مِنْ أَبِيهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا الِابْنُ)، لو كانت هذه الأمة ملك الابن، ولم يتسرَّ بها الابن، ثم تسرى بها والده، فإنَّ الوالد من حيث الأصل لا يجوز له أن يتسرى بها حتى يتملكها، ولكن لَمَّا كان الولد وما ملك لأبيه، فإنَّ للأب هنا شبهة ملك، وبناء على ذلك: إذا تسرى بها ولدك، فإنها تدخل في أحكام أمهات الأولاد.
ويتحصل من ذلك أنَّ الحكم لمصلحتها، وإن كان الأب لا يتسرى بأمة ولده حتى يتملكها، وحتى تدخل في ملكه، حتى لا يسترى الأب بأمة ابنه إلا أن يتملكها فتدخل في ملكه، فيجوز له بعد ذلك وطئها، وهذا كله بشرط ألا يكون وطئها الابن.
وأمَّا إذا الابن؛ فإن الأب لا يجوز له أن يطأها كما في أحكام الزوجات.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَأَحْكَامُهَا كَأَمَةٍ إِلَّا فِيمَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ فِي رَقَبَتِهَا، أَوْ يُرَادُ لَهُ)}.
إذًا أحكامها أحكام الأمة في حال الحياة في الخدمة، أي أنها لا تُساوى بالزوجات حتى ولو كان لها ولد، فلا يجب لها قسم، وليس لها نفقة الزوجات، ولا سكن مثل سكنهم، وما يعتبر لذلك، بل هي أمة يجب لها ما يجب للأمة من النفقة ومن الإحسان، ومن الاستخدام ونحو ذلك، ولكن لا يجوز بيعها، ولا ما يُراد له البيع، كأن ترهن مثلا، فإنها إذا رهنت فالرهن يُراد منه الاستيفاء عند تعذر المدين، وبناء على ذلك لو لم يفِ المدين فيباع الرهن، ولكن أم الولد لا تباع، فكأننا عرضناها للبيع.
فلما كان ذلك يُراد له البيع ونقل الملك، فإنه لا يجوز؛ لأنَّ أم الولد حرم بيعها ولم يجز نقل ملكها.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً، أَوْ عتِقَتْ عَلَيْهِ فَلَهُ عَلَيْهَا الْوَلَاءُ، وَهُوَ أنه يصير عصبَةً لَهَا مُطلقًا عِنْد عدمِ عصبَةِ النّسَب)}.
قوله: (وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً) أي إذا أعتق الإنسان رقبة، فإن ولاءها يكون له، سواء أعتقها بكفارة، أو أعتقها تبرعًا، أو نذرًا، أو سوى ذلك، وما دام أنه مُعتق لها فهو صاحب فضل عليها، كيفما كان سبب العتق.
وبناء على ذلك له الولاء، والولاء حقيقته أنه سبب من أسباب الإرث، والنبي قال: «الولاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النسبِ» ، وهو عصبة بالسبب، وبناء على ذلك يكون هذا المعتق من جملة الورثة، فيدخل في الورثة ولكن ليس هو الأحق من الورثة، وإنما يدخل في ترتيب العصبة، وإذا لم يوجد عصبة نسبية فينتقل الولاء إليه، فيرثه هو وورثته المتعصبون بأنفسهم، كابنه، وابن ابنه، وأخيه، وأبيه، وجده، ونحو ذلك، وهذا عند عدم وجود العصبة النسبية.
قال: ومثل ذلك لو (عتِقَتْ عَلَيْهِ)، وهو أن يشتري الإنسان من تحرم عليه، كأن يشتري أمه، أو أن يشتري خالته، أو أن يشتري أخته، أو أن يشتري عمته.
وبناء على ذلك: لا يجوز له أن يستبقي ملكه، فإنَّ ما في هؤلاء من الصلة يُنافي ما في الملك من: الأمر والنهي ونحوه، فتعتق بمجرد ذلك. وحتى لو اشتراه وما درى أنها عمته أو خالته أو نحو ذلك، وكذلك لو كان ذكرًا يعني: لو اشترى شخصًا ذكرًا، ولكن لو كان أنثى لم يجز له أن يتزوجه، فكذلك هذا الذكر كما لو كان عمًا له، أو ابن أخيه، أو ابن أخته، أو جده لامه، أو جد أمه، أو نحو ذلك، فهؤلاء كلهم لو كانوا إناثًا لم يجز له أن يتزوجهم، وبناء على ذلك يعتقون عليه بمجرد الملك حتى ولو لم يعلم، ويكون له الولاء عليهم في مثل تلك الأحوال.
قال: (وَهُوَ أنه يصير عصبَةً لَهَا مُطلقًا عِنْد عدمِ عصبَةِ النّسَب) كما قلنا: إنَّ العصبة عصبة نسب وعصبة سبب، وعصبة السبب عند عدم عصبة النسب؛ لأنَّه جاء في حديث ابن عباس أنَّ النبي قال: «فَما بَقِيَ فَهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» ، فجعل الإرث بعد قسمة الفروض وأدائها لأولى رجل ذكر.
{أحسن الله إليكم.
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى الكتاب الذي يليه، وقال: (كِتَابُ النِّكَاحِ)}.
انتقل المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى كتاب آخر وهو في أحكام الأسرة وما يتعلق بها من الأنكحة، وما يتبعها من فرق النكاح ونحوها، وذلك كما يقول أهل العلم: إنَّ الإنسان يتعلم ما يتعلق بعبادته، ثم يحتاج ما تقوم به دنياه، ثم يتبرع لنفسه ويحسن إليها، ثم يتمتع بما يكتب الله له، فهذا إذا (كتاب النكاح).
والنكاح من الضم والاجتماع، فتناكحت الأشجار إذا اجتمعت أغصانها، وحقيقته هو عقد النكاح بلفظ إنكاح أو تزويج، والنكاح من حيث الأصل هو مما جاء الشرع بالترغيب فيه، والحث عليه، سواء كان لرجل أو امرأة، وفي حديث ابن مسعود أن النبي قال: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ منكُم الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» ، وما فسدت المجتمعات، وما حصل البلاء، ولا ضاعت كثير من معالم الشرع إلا بالإغراق في الشهوات المحرمة وتتبعها، وما يتبع ذلك من البلاء، وذهاب البركة، وحصول الشرور، وقرب الشيطان، وذلك معلوم في كثيرٍ من المجتمعات إلا من رحم الله -جل وعلا-.
إذًا هذا الكتاب، كتاب لا تنفك النفس من الحاجة إليه في أصل التكوين البشري، ومما جاء الشرع بتنظيمه، ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء:3]، والأحاديث في ذلك كثيرة، والإجماع منعقدٌ على مشروعيته، لا يختلف أحد في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (يَسُنُّ مَعَ شَهْوَةٍ لِمَنْ لَمْ يَخَفِ الزِّنَا)}.
إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- بدأ في الأحكام التكليفية بالنسبة للنكاح، فقد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، وقد يكون مباحًا، وقد يكون مكروهًا، فـ(يَسُنُّ مَعَ شَهْوَةٍ)، أي من له رغبة، ومن له ميل إلى النساء، وتتوق نفسه إليهن، ولكنه قادر على حجبها، عالم بحفظها، لا يخاف الزنا، فبناء على ذلك نقول: يستحب له النكاح، تحصينا لفرجه، وإحصانًا لنفسه، ومنعًا مما تتوق إليه نفسه، ودخولاً في الأحاديث، وَلِمَا يتعلق بالنكاح من منافع، ويعود عليه من الآثار، من الولادة، وحصول الخير، والأنس والسعادة، والإعانة على الطاعة وخلافها.
ثم قال: (وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَخَافَه)، إذًا من له شهوة ويخاف الزنا، فهذه حال أقوى من الحال الأولى، فبناء على ذلك لَمَّا كان لا يتأتى له السلامة من المحرم إلا بفعل النكاح؛ كان واجبًا عليه؛ لأنَّ فعل الزنا من المنكرات، ومن الموبقات، ومن الكبائر العظام، فـ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ» ؛ فلأجل ذلك كان واجبًا على من يخاف الزنا على نفسه، ولأجل ذلك ينبغي للإنسان خاصة في هذا الوقت، الذي سهلت فيه الشهوات، وقربت من الناس، وقام سوق الفساد والشر، وسُهلت أسبابها عبر هذه المواقع والمنصات، وربما قلَّت الديانة في أناس كثيرين، وخلوا بين أنفسهم وبين مراقبة الله -جل وعلا- وخشيته، فانزلقت نفوسهم إلى الحرام، واستذلهم الشيطان، فلمَّا كان الأمر بمثل ذلك كان ذلك أدعى أيضًا للتأكيد على إيجاب النكاح؛ ليحفظ الإنسان نفسه، وليمنع وقوع الشر عليه، وليحفظ دينه أن يقع في هذه الكبيرة، وتكتب عليه هذه الموبقة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيَسُنُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ حَسِيبَةٍ دَيِّنَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ بَكْرٍ وَلُودٍ)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا من يسن ويجب، وترك ما سواه، وبعضهم يقول: إنه يباح لمن لا شهوة له؛ لأنه من حيث الأصل مشروع، ولِمَا يتحصل به من مصالح أخرى، مثل: حصول السكن والأنس ونحو ذلك.
ويكره أو يحرم إذا كان الإنسان في دار حرب، ولا حاجة له تضطره إلى داره، فيوشك أن يُعرض زوجته للاسترقاق، فلأجل ذلك قالوا: إنه يحرم في تلك الحال.
قال: (نِكَاحُ وَاحِدَةٍ) هذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، أي: الاقتصار على الواحدة؛ لأنَّ التعدد لا ينفك الإنسان فيه من الوقوع في الزلل وعدم العدل؛ لأنَّ متعلقات العدل كثيرة متنوعة، والنكاح تطول حاله، ولا يأمن الإنسان على نفسه من حصول النقص، أو عدم العدل، وتفويت الحقوق، والوقوع في الحيف والميل.
ولكن هنا قيد جمعٌ من الفقهاء استحباب الاقتصار على واحدة إذا كان يحصل بها العفاف وإلا زاد؛ لأنَّ المقصود من النكاح هو الإعفاف، وما دام أنه لا يتأتى بواحدة؛ شُرِعَ ما يتأتى به العفاف، سواء كان يتأتى باثنتين أو ثلاث أو بأربع إذا احتاج إلى ذلك.
وهنا قال: (حَسِيبَةٍ) يعني: ذات الشرف والنسب، ومن ارتفع مقامها في مجتمعها،
«تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ» كما في حديث أبي هريرة «لِمالِها، ولِحَسَبِها، وجَمالِها، ولِدِينِها» ثم يقول النبي : «فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ» .
إذًا (الحسيبة) ذات الشرف، وذات النسب أيضا يكون حسبًا أيضًا، وإذا قوبل الحسب مع النسب كان هذا للشرف في أشياء متنوعة، وَخُصَّ النسب بما تنتمي إليه من أب وسواه.
قال: (دَيّنَةٍ) والدين هو أصل قوام الحياة الزوجية، والخوف من الله، وإعطاء الحقوق، وبذل كل واحد ما عليه، ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة:228]، ولا يحفظ ذلك إلا امرأة دينة، ولا يقوم بذلك إلا من تخاف الله، ولا ترعى حق الزوج إلا من تطلب الأجر والمثوبة من الله -سبحانه وتعالى-.
ولأجل ذلك لَمَّا خفت الله في قلوب أناس، لَمَّا تزوجوا قارنت نفسها بالزوج، وجعلت رأسها برأسه، وعاملته الند بالند، فلم تعرف الحقوق، ولم تصان البيوت، وحصل بذلك المنازعة، وآلت الأمور إلى الفراق، أو الى حصول بلاء وشر كثير.
ولم تزل بيوت لم يرعَّ فيها حق الزوجية، وما للزوج من الفضل، وما حباه الله -جل وعلا- من الخصوصية، حتى وقعت تلك البيوتات في نار لا تنتهي، وفي بلاء لا حَدَّ له، والغرب شاهد على ذلك والشرق. فلما لم ترع عندهم الأصول الشرعية لم يبق للزوجية عندهم مجال، فإمَّا قائمة في شكل، وإمَّا منتفية من الأصل، فلا تبقى إلا العلاقات المحرمة، والعلاقات العارضة، ولا يعرف أحد إلا ما أمامه من شهوة، أو أنس وسعادة في آن، فلا يخشى الله فيها، ولا يطلب الخير لها، ولا يرعى حقها في حال ضعفها، وهي كذلك أيضا إنما هي حال متعة ما دامت قائمة.
ولذلك لم يزل كبار السن في تلك البلدان قد تشردوا وتشتتوا، والغالب أنهم في طلاق وفراق؛ لأنه لا تربطهم إلا الشهوة العاجلة، والرغبة العارضة.
{ثم قال -رحمه الله-: (أَجْنَبِيَّةٍ بَكْرٍ وَلُودٍ)}.
طبعا هذا من حيث الأصل، ولكن ليس بالضرورة، فهم قالوا: إن الإغراب هو أنجب للولد، جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه-، وجاء عن غير واحد، وهو أيضًا عند أهل التجربة أنَّ ذلك أنجب للولد؛ لأن فيه اختلاط الأنساب، وتقاربها، فيتأتى في هذا من أصول عظيمة، وما عند هذه كذلك، فينجب الولد على حال أتم.
قوله: (بكر)، «فَهَلَّا بكْرًا تُلَاعِبُهَا وتُلَاعِبُكَ» ، وأيضًا هذا إنما من حيث الأصل، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هو الحال في تمامها، بل ربما توجد من الأمور ما تكون الثيب أتم من البكر، فلو كانت على دين أكمل، أو في جمال يحصل به من العفة وأنس النفس، أو نحو ذلك.
وأيضا كونها بكرًا أو ثيبًا، فهذه أحوال من مرغبات النكاح، ولكن ما يقوم عليه النكاح، ويستقر به أمر البيت، ربما تكون بعض الثيبات أتم من أحوال كثير من الأبكار، ولكن من حيث الأصل يمكن أن تكون بكرًا؛ لأنها ترضى بالقليل، ولم تكن لها تجربة سابقة فتتشوف نفسها، وتستقل ما يكون من زوجها من نفقة أو عشرة أو سواها. ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك عند الناس يعني: أنَّ ما سواه يعتبر حال ناقصة، أو معيبة، وهذه هي التي أريد أن أبينها أيضا، وهو أنه كونها تفضل البكر؛ فإنه لا يعني أن يكون نكاح الثيب عيبًا، ولَمَّا أُذِيعَ هذا في حال كثير من المجتمعات، كان ذلك سببًا لحصول بلاء كثير، والله -جل وعلا- في كتابه بدأ بالثيبات قبل الأبكار، فقال: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ والنبي وهو خير هذه الأمة، كل نسائه كن ثَيِّبَاتٍ إلا عائشة -رضي الله تعالى عنها-، فلا ينبغي أن يَزهد الناس في نكاح الثيب.
وكم من النساء اللاتي تعثرت لأول نكاح لها، وفيها من تمام الخلق، وحصول الأنس، وتمام في القيام بحق الزوجية ما لا تجده في عشرات الأبكار.
فلأجل ذلك ينبغي أن تعاد وأن يجعل كل شيء في محله، فصحيح أنها من جهة قد تكون البكر مقدمة، ولكن قد تكون الثيب في أحوال كثيرة أتم، فضلا عن أن تكون معيب نكاحها أو يُستعاب البداءة بها، فلا يتزوجها إلا ثيب مثلها، أو من عرف بعيب، أو ظهرت فيه عاهة أو نحو ذلك، وهذا كله خلاف ما جاءت به النصوص، ودل عليه الشرع.
قال: (ولودا) والولود إما أن تعرف -هذا هو الأصل- بأهلها، كأن تكون أمها ولودًا وأخواتها كذلك، وربما أيضا كانت ثيبًا ولها نكاح سابق، ولكن الأكثر هو قياس الولود بأهلها ومن حولها، والنبي قال: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلودَ، فإني مُكَاثِرٌ بكم الأنبياءَ يومَ القيامةِ» .
{قال -رحمه الله-: (وَلِمُرِيدِ خِطْبَةِ امْرَأَةٍ -مَعَ ظَنِّ إِجَابَةٍ- نَظَرٌ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا بِلَا خُلْوَةٍ إِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ)}.
إذا قال: (وَلِمُرِيدِ خِطْبَةِ امْرَأَةٍ)، طبعًا الخِطبة بكسر الخاء، وهي خطبة النكاح، وإذا ضمت فهي خطبة الجمعة، وهنا (مريد) يعني: إرادة عزم وقصد وتحقق، وليس رغبة مجردة، فإذا أراد الإنسان خطبة امرأة، (مَعَ ظَنِّ إِجَابَةٍ) أي: ظن إجابتها، وظن الإجابة بأن يعلم أن مثلهم يزوجوا مثله، ونحو ذلك، وأنَّ مثله لا يُرِد عادة عندهم، يعني: يجيبونه ويستقبلونه ويزوجونه، فله أن ينظر، والنظر إلى المخطوبة مما جاءت به الشريعة، وذلك أنَّ النظر إلى المخطوبة يحصل به منع ما قد يُكره من الطلاق وعدم الارتياح والفراق، أو حصول التنغيص بينهما، والنكد في عيشهما، ولذلك النبي قال: «إذا أراد أحدُكم أن يتزوَّجَ المرأةَ، فإن استطاع أن ينظُرَ منها إلى ما يدعوه إلى نِكاحِها فليفعَلْ، فإن ذلكم أرجى أن يؤدم بينكما» ، وفي رواية أخرى: «فإن استطاع أن ينظر إليها فليفعل»، ولأجل ذلك كان هذا مستحبًا، ولأنه من جهة الأصل أنَّ النظر محرم لِمَا يُفضي إليه من الفتنة.
قال أهل العلم: وما كان تحريمه تحريم وسيلة؛ فإنه يُباح عند الحاجة، والحاجة المتعلقة بالنكاح أتم بكثير مما يتعلق بالنظر من الحرمة.
وهنا أيضا قيده الفقهاء -رحمهم الله تعالى- بقيود يحصل بها الخير، ويمنع بها ما سواه، ولذلك قال: (إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا)، قالوا: كوجهها، وكفيها، وقدميها، ونحو ذلك.
وعند الحنابلة أنَّ شعرها لا يرى في حالة تزويج، وهذا محل خلاف، وذكر بعض أهل العلم أنَّ هذا مما يظهر منها غالبًا، وهو مما يتوقف عليه حسن النظر، وكمال تهيؤ الصورة، والرضا بها، وعلى ذلك الفتوى أنه يُنظر إليه، ويدخل في المأذون فيه.
قال: (إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا بِلَا خُلْوَةٍ) فلا بد أن يكون بلا خلوة، فيكون معها ولي كأب، أو أخ، أو نحو ذلك، وأن تؤمن الشهوة. فإذا لم تؤمن الشهوة كأن يخاف منه أن يحصل منه شر، أو أن لا يملك نفسه فتحمله بعد ذلك على فعل الزنا معها أو مع غيرها، يعني: حتى ولو خرج من ذلك المكان ففعل المحرم.
فإذًا إذا تحققت هذه القيود، فإنَّ النظر إلى ذلك جاء الإذن فيه.
هل هذا الإذن على سبيل الإباحة أو على سبيل الاستحباب؟
الحنابلة على أنه مأذون فيه، يعني: مباحا؛ لأنه جاء بعد المنع، وهو النظر إلى المرأة، ومن أهل العلم وليس ببعيد، وقال به بعض الحنابلة على الاستحباب؛ لقول النبي : «فلينظر إليها فإن ذلك أحق أن يؤدم بينهما» ولِمَا يتعلق به من المصالح، وتدرأ به من مفاسد الطلاق والفراق وعدم الأنس بالزوجة ونحوها.
{قال -رحمه الله-: (وَلَهُ نَظَرُ ذَلِكَ وَرَأْسٍ وَسَاقٍ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَمِنْ أَمَةٍ)}.
هذا استطراد من المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام النظر، والفقهاء يذكرون أحكام النظر في هذا الموضع، وهنا أشار إلى بعضه ولم يكمل، وإلا فإنَّ الفقهاء يذكرون في هذا ثمانية أحكام للنظر، ولكنه اقتصر هنا لأنه ليس مختصرًا فحسب، بل هو (أخصر المختصرات)، ولذلك قال: (وَلَهُ نَظَرُ ذَلِكَ) يعني: ما تقدم مما يظهر منها غالبًا، وزاد: الرأس، والساق من ذوات محارمه، فإذا رأى الإنسان من محارمه شعرها، أو وجهها، أو كفيها، أو قدميها وساقها فلا غضاضة في ذلك، كما جاء في الآية، واستقرَّ ذلك عند أهل العلم، ولكن أيضا مع أمن الفتنة، فلو كان يُخاف منه، كأن تكون به ثورة شهوة حتى لا تمنعه المحرمية من التطلع إلى هذه القريبة، فإذا خيف منه؛ فإنه يُمنع من النظر، ويُحال بينه وبين ذلك، ولكن الغالب أن ذوي العقل، وأن عامة الناس لا تنبعث نفوسهم شهوة ورغبة إلى محارمهم، ولا تتطلع إلى أقاربهم.
قال: (مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَمِنْ أَمَةٍ) فإنَّ الأمة تخفيفًا عليها، وتحقيقًا لما يترتب عليها من استخدام، فإنها لا يجب عليها الحجاب، وهذا مفهوم آية سورة الأحزاب ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ [الأحزاب:59]. كيف إذا أدنت الحجاب تُعرف؟
يقول أهل العلم: تعرف الحرة من الرقيقة، فكان السفهاء ربما تنبعث نفوسهم إلى إيذاء الرقائق، فإذا عُرِفَت بأنها حرة؛ فإنهم ينكفئون، والإماء لهم أسياد يحفظونهم ويقومون عليهن، فخفف على الأمة في هذا، ولذلك جاء عن علي -رضي الله عنه- قال: "تُصلي الأمة فيما تخرج فيه غالبًا"، يعني: مما يخرج منها من وجه ونحوه، فهذا مُستقر عند أهل العلم أنَّ الأمة أقل مما يجب في الستر والحجاب من الحرة.
{لكن يا شيخ الآن لو أن رجلاً مثلا رأى المرأة التي أراد أن يخطبها مرة، ثم أراد أن يكرر النظر، هل له ذلك أم لا؟}.
نعم، هو ينظر إليها بالقدر الذي يحمله إلى نكاحها، فإن احتاج إلى نظرة أخرى نظر ولو كان ذلك بغير إذنها، ولذلك جاء عن بعض الصحابة بالقيد المتقدم أن يظن إجابة، وأن يعزم نكاحًا، يعني: ما يتطلع إلى المرأة رغبة أو ما شابه، دون أن يكون له رغبة في النكاح، فما دام أن العزيمة حاصلة، وأنَّ ظن الإجابة متوقعٌ، فله أن ينظر إليها ولو بترصد، ولو بغير إذن، ولو لم يكن ذلك بتوافق منها ومنه، أو من أهلها معه، ونحو ذلك.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ورضي الله عنكم، وزادكم من فضله}.
هل انتهى الوقت؟
{نعم}
أسأل الله أن يتم علينا وعليكم توفيقه، وأن يزوج الشباب والشابات، وأن يبلغهم الخير في دينهم، والأنس في نكاحهم، والصلاح في أيامهم، وأن يجعل ذلك هناءً لهم، وصفاءً وتوفيقًا وسدادًا، وأن يجعله بلغة لهم في الدنيا، وصلاحًا لهم في الدين، وزيادة لهم في الأجر والمثوبة عند الله -جل وعلا-، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك