الدرس السابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7529 33
الدرس السابع عشر

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، نصطحبكم فيها في شرح كتاب (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي واسمكم جميعا نحيي فضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلاً وسهلاً، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{نستأذنكم في البدء بالقراءة}.
استعن بالله.
{قال- رحمه الله-: (وَتَرْكِهَا صَلَاةً وَعِفَّةً وَنَحْوِهِمَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فيا أيها الطلاب والطالبات، أسأل الله -جل وعلا- أن يُفيض علينا وعليكم من رضوانه، وأن يَصب علينا شآبيب رحماته، وأن يبلغنا الخير والهدى، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي ابتدأنا ما يتعلق بالكلام على كتاب الطلاق، وذكرنا جملة من الأحكام المتعلقة به، متى يكن مباحا؟ ومتى يكن مكروها؟ ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الأحوال التي يُسن فيها الطلاق، وذكرنا المسألة الأولى، وهي: العفة، وبقيت إحدى الأمثلة التي ذكرها المؤلف لِمَا يُسن فيه الطلاق، وهي ترك الصلاة.
ويقصد الفقهاء -رحمهم الله تعالى- بترك الصلاة، أي: تضييعها لحقوق الله الواجبة والمفروضة، والصلاة هي عمود الإسلام، ولا شك أن تضييعها للصلاة من أعظم الموبقات، ومن المعلوم أنَّ الفقهاء لا يختلفون في أنه من أعظم الأعمال، ولذلك قالوا بقتل تارك الصلاة، وزاد الحنابلة في ذلك أن قتله على سبيل الكفر لا على سبيل الحد.
ولا شك أن هذا من أعظم ما يكون قادحًا في المرأة وفي استقامتها، فإذا كانت مُضيعة للصلاة، تؤخرها، أو تُفَوِّتُ أوقاتا ونحو ذلك، فعلى كل حال ينبغي للزوج أن يبتدرها أمرًا ونهيًا حثًا وزجرًا، أن يحملها على فعل الواجب، فإن كانت لا تستقيم على ذلك، فلا شك أن ترك هذه الصلاة أعظم مما يكون من ممارستها لبعض الأعمال المحرمة وإن كبرت، فإن امرأة تشرب مثلا الدخان، أو تتعاطى المسكر، أو نحو ذلك، وإن كانت هذه أمور عظام، ولكنها ليست بأعظم من الصلاة، فلأجل ذلك إذا لم تستقم على هذا، فإن هذا سبب لعدم استقامة البيوت، ولا شك أنه في أقل الأحوال إن يقال: إن طلاقها مُستحب إن لم يكن واجبًا، كما هي الرواية الثانية عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى-.
ومثل ذلك في الحقيقة الذنوب العظام مثل: شرب الخمر ونحوها، لا شك أنها إذا كانت ممن يتعاطى هذه الأمور، فهي مما لا تستقيم معها البيوتات، ولكن نحن ذكرنا في العفة على سبيل المثال لخصوصها؛ لأن الناس يسرعون إلى الطلاق لأول وهلة وُجِدَ فيها بعض ممارسة لدى النساء في الخطأ، أو الخلل، أو زلة القدم، أو نحوها، ولكن كلها سواء في أنها عظيمة، ومما لا تستقيم معها الحياة، ولكن مع ذلك كان أمر الصلاة أعظم، وما دون فإنه يقارن بينما يكون من استقامة حياته وصلاحها، وما يفقد بطلاقها.
فإذا كانت حاله أسوأ، وسبيله أشد، فلا شك أن بقاءه مع وجود شيء من المنكر، أو تضيع شيئا من حدود الله وفرائضه، فقد يكون بقاؤها أحسن له وأتم لدينه.
فعلي سبيل المثال، إذا طلقها فيمكن ألا تستقيم حياتها، وتزداد سوءا، ولو بقيت معه لتابت، وهو إذا طلقها لم يكن ليستطيع زواجا آخر لأول وهلة، وربما وقع في الحرام، فأن يحفظ نفسه، ويستجمع من أسباب حفظها والحفاظ عليها ما هو أتمُّ له في حياته، وأصلح له في أموره.
وعلى كل حال هذا على سبيل تقرير المسألة الشرعية، وأما المسائل الواقعية في خصوصها فقد يحتاج أيضا من نزلت به -نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية- أن يستشير ويستفتي لِمَا يحتف بكل مسألة من محفزات أو من عوائق أو سواها، تحمل المفتي على أمر أو آخر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجٍ وَلَوْ مُمَيِّزًا يَعْقِلُهُ)}.
إذًا المؤلف ذكر الحال التي يكره، والحال التي يباح، والحال التي يُسَنُّ فيها، يجب للمولي وسيأتي في باب الإيلاء، إذا لم يرجع بعد حَلِفِه ألا يجامع زوجته، ويحرم في حال الحيض، أو في حال الطهر الذي جامعها فيه، فيكون الطلاق قد مَرَّ عليه أحكام التكليف الخمسة.
قال: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ زَوْجٍ) لأن النبي قال: «إنما الطلاقُ لمَن أخَذ بالساقِ»[1]، والله -جل وعلا- قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ [الأحزاب:49]، فالطلاق متعلق بالنكاح، وفي غير ما آية أسند الطلاق إلى الأزواج، وهذا لا يختلف فيه أهل العلم، فلا يملكه إلا زوج ابتداءً، وقد يملكه أحد وكالة، أو قد يملكه القاضي في حل نزاع أو نحو ذلك، فهذه أحكام مختصة، ولكن من حيث الأصل لا يملكه إلا الزوج.
قال: (وَلَوْ مُمَيِّزًا) يعني: ولو لم يبلغ، وأمَّا البالغ العاقل فهو مالك للنكاح ومالك للطلاق بلا إشكال، ومن دون البلوغ فقد اختلف في تزويجه، واختلف أيضا في طلاقه، والحنابلة يرون أنه يزوج، وبناء على ذلك هو يملك الطلاق، ولذا قال: (وَلَوْ مُمَيِّزًا) بشرط أن يكون مميزا، يعقل الأمر، ويعرف حدوده، وما يترتب عليه.
فإذا عرف أن هذه المرأة تمتنع عليه، وأنه يفوت ما أعطاها من مهر، وأنه سيفوت ما ترعاه في بيته ويستقر به حاله، فإذا كان كذلك فإنَّ الطلاق يقع كما قال المؤلف -رحمه الله-، وهو مشهور المذهب عند الحنابلة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ عُذِرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ، أَوْ أُكْرِهَ أَوْ هُدِّدَ مِنْ قَادِرٍ فَطَلَّقَ لِذَلِكَ: لَمْ يَقَعْ)}.
قوله: (وَمَنْ عُذِرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ) يعني: من زال عقله فلا يخلو إمَّا أن يكون زوال عقله على وجه يُعذر به، بأن يكون لا مدخل له فيه، كما لو كان بجنون، أو إغماء، أو نحو ذلك، مع أن الإغماء في الغالب لا يتم فيه شيء من ذلك، ولكن نقول مثلا، وقد نقول يمكن أن يكون في بعض أحوال الصرع أو نحوه، أو كان في سكر دون اختياره، كما لو أُكره عليه، أو شربه من حيث لا يشعر، أو شربه لدفع غصة، ففي كل هذه الأحوال التي هو معذور في زوال عقله، فإنَّ طلاقه لا يقع، لأن الله -جل وعلا- رفع الحرج عن الأمة، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، والحالة التي لا يكون الإنسان عاقلا فيها لا تناط به التكاليف، ولا تعلق عليه الأحكام.
ولكن لو في حال لا يعذر فيها، كما لو كان في سكر وذهب عقله، ولكنه هو الذي ابتدأه، وهو الذي فعله، وهو الذي أقبل على هذه المعصية بإرادته، فنقول: هو الذي تسبب في المعصية، وما تسبب من ذلك فكأنما هو الذي قصده وأراده، وبناء على ذلك يكون مُؤاخذًا به، ولأنه كما يقول أهل العلم: لو رُفِعَ التكليف في وقوع الطلاق أو في جنايته عن السكران لكان ذلك كالتأييد له فيما فعل، وكالتخفيف عنه فيما أذنب واقترف، ولأجل ذلك في المشهور من المذهب عند الحنابلة، كما هو قول أهل التحقيق: أنَّ السكران مؤاخذ بذلك ومحاسب على كل أفعاله، كما لو كان صاحيًا، إذا كان معتديًا بسكره، أو غير معذور بسكره، وعلى اللفظين تصح هذه العبارة. إذا هذه الحال الأولى، وهي: (وَمَنْ عُذِرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ).
قال: (أَوْ أُكْرِهَ)، طبعا عندنا مسألة الجنون، قد يفهمها الناس على الإطلاق، ولكن عندنا مسألة -كما ذكرنا كثيرا، وفي غير ما مناسبة- وهي: الجنون غير المطبق، ونص عليه الفقهاء، فإذا وقع في حال جنون غير مطبق، يعني: أحيانا ينتابه الجنون، وأحيانا أخرى ينتابه عقل، فما وقع في حال جنونه لا يقع طلاقه، وهذا الذي نسميه -كما قلنا- الانفصام في الشخصية، ولكن الانفصام في الشخصية درجات، كما يعبر عنه الأطباء، فالدرجة التي يحكمون فيها بزوال العقل هي التي تعتبر جنونا غير مُطبق، فلا يقع فيها الطلاق، هذا واحد.
الثانية: إذا كان هذا الجنون الذي ليس بمطبق بسبب منه فهو يُؤاخذ أيضًا؛ لأن الجنون غير المطبق عبارة عن أحوال تعتري النفس، كما يوجد أناس مجانين في كل وقت، وأناس أصحاء في كل وقت، كذلك يوجد من ينتابه الحالين، ففي بعض الأحوال يكون مجنونا، وفي بعضها يكون عاقلا.
ويوجد الآن وهو كثير جدا، من كان مصابًا بانفصام الشخصية من أثر تعاطي المخدرات، وهي التي تسمى عند أهل الطب: الآثار الانسحابية، وتصل بهم في بعض الأحوال إلى أن يفقدوا توازنهم، أو يحكم بجنون يَلحق بهم، فهذا الجنون الذي لحق بهم، وإن كان الجنون عذرًا، ولكن لَمَّا كان سببه محرمًا، فيعامل كما لو كان سكرانًا أو متعاطيًا للمخدرات، فهؤلاء يقع طلاقهم ويحسب عليهم، وإلا لأفضى ذلك إلى أنَّ كثيرا من هؤلاء يعتدون على الناس، ويظلمون ويطلقون، ويضربون، ويفعلون أشياءً.
وأنا أنبه أيضا إلى أنه ينبغي عند النظر في القضايا، سواء لأهل الاستشارات أو القضاء أو نحوهم، إلى أن يلتفتوا إلى السبب؛ لأنَّ كثيرًا من أسباب هذه، كانت بسببٍ محرم بخلاف الوقت الماضي.
تبقى مسألة وهي مهمة، وإن كنا أطلنا في هذه العبارة، وهي طلاق الغضبان، فالمؤلف يقول: (وَمَنْ عُذِرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ) فالغضبان لا يزول عقله، وبناء على ذلك طلاقه واقع، ولا يلتفت إلى من يقولون: هو غضبان، أو مستفز، أو خرج عن طوره، ما في أحد يطلق وهو في حال انبساط أو سكون، أو في حال رضا وارتياح إلا قليلا.
وبناء على ذلك كان طلاق الغضبان واقع؛ لأنه عاقل، يعقل ويفهم، ولكن لو وصل إلى حال ذهاب تمييزه وانحجب عقله، وهذا نادرا جدا، يعني: أندر من النادر، فيمكن أن يقال، ولكن هذه أيضا لا بد فيها من اعتبارات، ولا بد فيها من تقارير، ولا بد فيها من فتيا فيها بخصوصها؛ لأن الأصل أنَّ الغضبان عاقل، والعاقل يقع طلاقه.
قال: (أَوْ أُكْرِهَ)، فحصول الإكراه مانع؛ لأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286]، والنبي قال: «رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليهِ»[2].
ولكن ما هو الإكراه؟ قالوا: أن يكون إكراه حقيقة من قادر في تلف في نفس، أو في أهل، كزوج أو ولد، أو أخ في نفس، فيكون إذا لا بد بإضرار كبير في نفسه، أو أهله، أو ماله، وأن يكون شديدا من قادر على فعله. لو قال رجل لآخر: إن لم تطلق وإلا قتلتك، وهو لا يستطيع قتله، فلا، ولذا لابد أن يُعرف منه إمكان تحصيل فعله.
أيضا بعضهم قادر لكن يقول: والله لأقتلنك إن لم تطلق، أو أبوه يقول له ذلك، ولكن يعلم أن أباه لا يفعل ذلك، وأنه إنما يقول ذلك على سبيل التهديد والتعظيم، فنقول: إذًا لا بد أن يكون الإكراه على وجهه.
وألا يكون الإكراه بحق، فلو كان إكراها بحق، كحمل القاضي الشخص على الطلاق لاقتضائه، أو الحاكم أو نحو ذلك، في أحوال يُستحق فيها، فلا يمنع صحة الطلاق وإن كان فيه إكراه.
قال: (أَوْ أُكْرِهَ أَوْ هُدِّدَ مِنْ قَادِرٍ فَطَلَّقَ)، هذه الأحوال التي يكون فيها عدم حصول الطلاق، وهو أن يكون من قادر، وأن يحصل منه الطلاق، على الوجه الذي طلب، مثلا لو قيل له: طَلِّق واحدة وإلا قتلناك، وطلق هو ثلاثا، فهذا دال على أنه لا لم يوقع لقصد الإكراه، وإنما منبعث ذلك من نفسه، لأنهم طلبوا طلقة، ولكنه زاد! فما الذي حمله على الزيادة، إلا أنه مريد لذلك.
{قال- رحمه الله-: (وَمَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ وَتَوَكُّلُهُ، وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ امْرَأَةٍ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا وَغَيْرِهَا)}.
قال: (وَمَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ تَوْكِيلُهُ فِيهِ)، فمن كان يصح أن يطلق كالمميز العاقل، وكالرجل البالغ الرشيد، أو نحوهم، فإذا كان يتولى ذلك في نفسه، فإنه إذا يكون وكيلا فيه، فلذلك قال: (صَحَّ تَوْكِيلُهُ) فإذا وُكِّلَ صَحَّ، فلو وكل شخصًا فإنه يقع؛ لأنه إذا وقع منه أصالة وقع منه التوكيل فيه؛ لأنه فرع عن صحته في أصله.
قال: (وَتَوَكُّلُهُ) كذلك أن يقبل أن يكون وكيلا في إيقاع طلاق زوجة جاره، أو زوجة أخيه، أو نحو ذلك، فإن ذلك صحيح، وأذكر هنا وهذه من الطرائف أنَّ شخصا كان عنده أربع زوجات، وأراد أن يطلق واحدة فاختار كثيرًا، فقام ووكل أخاه في التطليق، فطلق الأربعة كلهن، فكان ذلك كالفرج له، وفرح بذلك فرحًا كبير، وإن كنا لا نؤيده على مثل هذا، ولكن هو إشارة إلى بعض الوقائع الغريبة، أو الأحداث العجيبة، يقول: لَمَّا جاء في الليل، فإذا هو قد كتب الورق وأحضرها من المختص، وإذا هو قد طَلَّقَ نساءه الأربع كلهن؛ لأنه كان يريد أن يتزوج واحدة يعشقها ويحبها.
قال: (وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ امْرَأَةٍ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا وَغَيْرِهَا) المرأة من حيث الأصل لا تكون مالكة للطلاق، وباب الوكالة قيد أنه ما يوكل شخص إلا فيما يملكه أصالة، ولكنهم قالوا: إن المرأة تكون وكيلا في الطلاق وإن لم تكن أصيلة مالكة له، وذلك لأنَّ النبي خَيَّرَ أزواجه، فلمَّا خيرهن دلَّ على أنهن إذا اخترن وقع الطلاق، فأمكن ذلك حصول التوكيل للمرأة فيه.
وبناء على ذلك قال الفقهاء: (وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ امْرَأَةٍ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا وَغَيْرِهَا)، يعني: وإن كانت لا تملك إيجاب النكاح، ولا القبول فيه، ولا تملك أيضا الطلاق أصالة، ولكنه يصح التوكيل لِمَا ذكرناه، على ما جاء في السنة، سواء وُكِّلَتْ في تطليق نفسها، أو في تطليق غيرها؛ لأنها إذا جاز لها أن تتوكل في نفسها، جاز أن تتوكل في تطليق غيرها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالسُّنَّةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ، وَإِنْ طَلَّقَ مَدْخُولًا بِهَا فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ فَبِدْعَةٌ مُحَرَّمٌ وَيَقَعُ لَكِنْ تُسَنُّ رَجْعَتُهَا)}.
قال: (وَالسُّنَّةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً) فهنا في هذه المسألة بخصوصها عَبَّرَ الفقهاء بالسُّنة والبدعة، وهي في الحقيقة مثل تخصيصهم باب الوضوء بفروض الوضوء، مع أنهم في كل الفقه يعبرون بأركان، فهناك المقصود بالفروض الأركان، وهنا أيضا المقصود بالسنة أن يُطلقها واحدة يعني: أنَّ الواجب، فالمراد السنة المسلوكة أو السنة التي يجب فعلها، يعني: طريقة النبي هي المقصودة بالسنة هنا، لا السنة التي هي عند أهل الأصول، وهي: "ما يثاب فاعلها، ولا يعاقب تاركها".
قوله: (وَالسُّنَّةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ) يعني: أنَّ هذا هو الواجب، ولذلك ما يقابله محرم، ويسمى عندهم: بدعة، فكون التطليقة واحدة، فلا يجوز إيقاع ثلاث، وأمَّا لو أوقع اثنتين فعند الحنابلة أن ذلك مكروه، والسنة على كل حال أنه لا يزيد عن واحدة، وهذا هو الواجب، وقد يقال إن الزيادة على ذلك ممنوعة، ولكن مما قال الفقهاء: إن الاثنتين مكروهة، والثلاث محرمة، وأول شيء لأن الاثنتين لا يتغير بها ما يحصل بالواحدة؛ لأنه إذا طلقها واحدة أو اثنتين ملك إرجاعها في عدتها.
وأما إذا طلقها ثلاثا فلا يملك إرجاعها في عدتها ولا بعدها، حتى تنكح زوجا غيره، وهذه مسألة مهمة، وهي أن يفهم الناس ما الفرق بين التطليقة الواحدة والثلاث؟ لا فرق بينهما من جهة حصول الفرقة بين الزوجين، فإذا طلق شخص امرأته واحدة، وآخر طلق امرأته ثلاثا، فبعد العدة كلتا المرأتين قد خرجت عن ربطة الزواج وتبعته، وجاز لها أن تتزوج، ولم يبق شيء.
طيب ما الفرق بينهما؟
نقول: هذا فَعَلَ محرمًا بالتطليقات الثلاث، وهذا فَعَلَ ما يجب، وهذا في فسحة من أمره فيمكنه أن يراجعها في أثناء العدة دون رضاها، بينما هذا ليس له أن يراجعها أثناء العدة.
هذا بعد انتهاء العدة له أن يتقدم إلى أبيها فيخطبها ويتزوجها بعقد جديد، بينما هذا ليس له أن يتزوجها إلا أن تتزوج شخصا آخر في نكاح رغبة، ويكون فيه جماع على ما سيأتينا في الرجعة، ثم يطلقها، ثم له بعد ذلك أن يخطبها ويتزوجها.
إذا ما فائدة الإنسان أن يطلق ثلاثا؟
ولأجل ذلك ما يجري على ألسنة كثير من الناس من التطليقات الثلاث إنما هو متلقي عبر هذه المسلسلات والمنقولات لمن لا خلاق لهم، فينبغي الانتباه لذلك، فالتطليق واحدة لا غير، وإن زاد اثنتين فهو محل كراهة عند الحنابلة والجمهور، وإن كان القول بالمنع ليس ببعيد؛ لأنه لا فائدة فيه، ويضيق على الإنسان ما يضيق، دون فائدة، والذي يحصل بالثلاث يحصل بالواحدة بعد العدة، فالمرأة تخرج من ربقة الزواج وقيده وعقده، ويحل لها الأزواج، وتكون في سعة من أمرها.
قال: (وَالسُّنَّةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ) فلا يكون في حال حيض، فلا يجوز للإنسان أن يطلق امرأته في حال الحيض، ولا أن يطلقها في طهر جامعها فيه، وهذا من الشارع في أعظم ما جاءت به الشريعة في حفظ البيوتات ومنع تفرقها، وحصول الطلاق فيها، لأن الأزواج لا يختلف أنه إمَّا في حيض وأول طهرها من الحيض فالعادة الغالبة أن الزوج لا يصبر عن زوجته أكثر من مدة حيضها، فالغالب أنه يحصل بينهما معاشرة وجماع، ولَمَّا كان الطلاق لا يُراد لإيقاع فكرة، أو إفراغ غضب أو نحو ذلك، وإنما يراد ألا يقع حتى يكون القلب مطمئنًا، وتكون النفس منشرحة بإيقاع هذا الطلاق، وتعثر هذا الزواج، وأن الحال بعده أتم من الحالة فيه، وأنه لا طريق لهما يخلصهما من التبعات والعقبات التي أفسدت عليهما صفو حياتهما، وكانت أقل من حال الكدر والضيق، فإذا اطمئن إلى ذلك فيطلق.
وإذا كان الإنسان لأول وهلة يغضب، أو لأول وهلة يخاصم زوجته، أو تستفزه بكلمة، أو تطلب الطلاق لخفة عقلها، فيجيبها إلى ذلك فيقع، لأفضى ذلك إلى وقوع طلاق من لا يريد، ولكن الشارع جاء إلى الأزواج فمنع منهم الطلاق لأول فكرة، وإنما يُؤخر ذلك حتى تطهر من حيضها، وتكون في حال طهر، وألا يكون قد جامعها فيه.
فالغالب إمَّا أن تكون في حيض، فسيحتاج إلى خمسة أيام أو ستة أيام، وهي كافية في أن يُعيد النظر وأن يُقلب الرأي، وأن يستشير، وأن يذهب عنه ما يمكن أن يستعجله، وألا يستجيب إلى غضب نفسه، أو ما تمليه عليه شياطينه، أو نحو ذلك، أو أن يكون في طهر جامعها فيه، فيكون الأمر أيضا محتاجا إلى وقت أطول، وهو أن ينتظر حتى تحيض، ثم تطهر، ثم يوقع الطلاق.
ثم إنها أيضا إذا طهرت من حيضها فغالب النساء والأزواج يكون من كل واحد منهما ميل إلى الآخر، فتلك هي الحال التي يستقر فيها حسن النظر في إيقاع الطلاق من عدمه.
فإذا كان تنشرح نفسه مع ما جبلت عليه النفوس من الميل، ومن الرغبة، ومن الشوق، ومن الشهوة ونحو ذلك، فإذا كانت تميل نفسه إلى الطلاق فمعنى ذلك أنه ليس بينهما شيء يمكن أن يجمعهما، أو أن يأتلفا عليه، ولأجل ذلك كان هذا هو الحال التي أمر الشارع أن يكون الطلاق فيها، وهو سبب لاستقامة البيوتات، ورض النظر، وعدم الاستعجال، وهو كما قلنا من أهم ما يجب أن يُعلم وأن ينشر، ليتأمل الناس، ولئلا يفعلوا ما يُنْدَمُ عليه. فكم من الندامات عند كثير من الناس! وكم من الاستفتاءات التي يطلب فيها أي فرجة أو فسحة في أن يكون له طريق إلى عود زوجته وإرجاعها، ثم يكون هو الذي أغلق على نفسه الأبواب وقيدها، وحال بينه وبين رجوع زوجته وائتلاف أسرته.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ طَلَّقَ مَدْخُولًا بِهَا) يعني لَمَّا بَيَّنَ الواجب، وهو أن يكون الطلاق (فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ)، وأن تكون طلقة واحدة لا ثلاثا، قال: (وَإِنْ طَلَّقَ مَدْخُولًا بِهَا) أي لو حصل غير ذلك، فطلق مدخولا بها، وأما غير المدخول بها فهي تبين أصلا بالواحدة؛ لأنه لا عدة عليها، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب:49]، فإذا كانت غير مدخول بها، فهذا واضح وسيأتي إن شاء الله.
قال: (وَإِنْ طَلَّقَ مَدْخُولًا بِهَا فِي حَيْضٍ أَوْ طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ فَبِدْعَةٌ مُحَرَّمٌ، وَيَقَعُ لَكِنْ تُسَنُّ رَجْعَتُهَا)، ويسميه الفقهاء ببدعة، لأنه لم يوافق الشرع، وهذه اصطلاحية، يعني: ليس المقصود منها البدعة التي هي إحداث في دين الله -جل وعلا-، وهي إحداث ولكن ليست من عادة الفقهاء أن يُطلقوا على هذا الحكم بدعة إلا في مسألة الطلاق إلا في حال الحيض، أو الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، فالمهم أنه محرم، ويلقبه الفقهاء بأنه بدعة، والنبي لَمَّا ذُكِرَ له أن ابن عمر طلق زوجته وهي في حال طهر جامعها فيه، قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعَهَا»، فنهاه النبي ذلك.
قال: «مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حتَّى تَطْهُرَ مِن حَيْضَتِهَا، ثم ليُطلِّقها طاهرًا أو حاملًا»[3] لأن الحامل كما سيأتي تطلق في كل حال. إذًا لماذا انتظر إلى أن تحيض ثم تطهر ثم تحيض؟
قالوا: لَمَّا أوقع الطلاق في هذا الطهر الذي جامع فيه كان ذلك تابعا له، فلا بد من طهر جديد وحيض جديد ثم يطلقها بعد ذلك.
إذا هذان الحالان اللذان يحرم فيهما الطلاق، في حال الحيض، وفي حال الطهر الذي جامعها فيه، ويتعلق هنا بذلك مسائل:
أولا: إذا طلقها في طهر جامعها فيه، أو في حال الحيض، فالمشهور عند الأئمة الأربعة أن هذا التطليقة واقعة، وأنها تحسب، والنبي قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعَهَا»، ولكن جاء عن ابن تيمية وهو أول من شهر هذا القول، أنه قال: إنها لا تحتسب؛ لأنها وقعت على غير وجهها، «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[4]، وعلى تلك الفتيا عند مشايخنا، فمن جهة الإفتاء فهذا فيه مسار، ولكن من جهة تقرير الفقهاء، بل ربما نُقِلَ فيه الاتفاق، أنَّ الطلاق إذا وقع فهو محسوب، ولكن صاحبه فاعل للمحرم، ويؤمر بالمراجعة، ثم التطليق في حال موافقة للسنة، وصحيحة شرعًا، كما ذكرنا في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
كذلك لو طلقها ثلاثا، فإننا نقول: إن ذلك تطليق محرم، ولكن هل تحسب أو لا تحسب؟ عند جمهور أهل العلم أنها محسوبة عليه، وسواء قلنا: إن التطليقات الثلاث محرمة كما هو قول الجمهور، أو قلنا: غير محرمة كما هو قول الشافعية. وعلى كل حال جميعهم يقول: إنها تحسب عليه ثلاث تطليقات، سواء كان قد طلقها بألفاظ متباينة، أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو أنت طالق، وطالق، وطالق، أو أنت طالق ثلاثة، أو أنت طالق بالثلاث، فإنها تقع، وهو آثم في ذلك، ولذلك لَمَّا سُئِلَ ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وقيل له: إنَّ شخصًا طلق امرأته عدد نجوم السماء، فقال: بانت منك بالثلاث، والباقي إثم عليك، يعني: ما زدتها شيئا، وإنما تعرضت لأن تفعل شيئا لا يحل لك فعله.
إذًا الفتوى تبعا لابن تيمية -رحمه الله تعالى- في أنَّ الثلاثة تعتبر واحدة، وإن كان أيضا الفتوى فيها شيئا من التفصيل، والاختيار بين قول ابن تيمية وقول الجمهور الذي هو قول شيخنا الشيخ بن باز -رحمه الله تعالى-.
إذا هذه أحوال الطلاق المشروع والطلاق المحرم، فالطلاق المشروع أن تكون طلقة واحدة، وأن تكون في طهر لم يجامعها فيه.
والطلاق المحرم، هو أن يطلق في طهر جامعها فيه، أو في حال حيضها، أو أن تكون ثلاثا مجموعة، فلا يحل شيء من ذلك ولا يجوز.
والتفصيل في وقوع الطلاق وفيما يلزم، قد بيناه ووضحناه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (لَكِنْ تُسَنُّ رَجْعَتُهَا، وَلَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ لِمُسْتَبِينٍ حَمْلُهَا، أَوْ صَغِيرَةٍ، وَآيِسَةٍ وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا)}.
قال: (لَكِنْ تُسَنُّ رَجْعَتُهَا)، فيستحب لِمَا جاء عن النبي لَمَّا قال: «مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثم ليُطلِّقها طاهرًا أو حاملًا»، فقالوا: إن ذلك على الاستحباب، ولكنه ليس بواجب.
ثم قال: (وَلَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ)، يعني: هذه أحوال سيذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- يطلق الرجل امرأته بدون قيد. قال: (لِمُسْتَبِينٍ حَمْلُهَا)، فالحامل تطلق في كل أحوالها، فكما جاء في أثر ابن عمر، فليطلقها طاهرا، أو حائلا، أي: حاملا، كما جاء في بعض الألفاظ.
وبناء على ذلك يجوز تطليقها في كل أحوالها؛ لأن الحامل لا تحيض، فلو قيل بعدم التطليق حتى تحيض ثم تطهر؛ لأفضى ذلك إلى أن تبقى سنة أو ما قاربها حتى يوقع الطلاق عليها، ويكون في ذلك عسر على الناس، وتطويل على البيوتات.
قال: (أَوْ صَغِيرَةٍ) الصغيرة هي التي لم تبلغ، وبالتالي لم يكن منها حيض، فهذه قد جاء أنَّ عدة ثلاثة أشهر، وبناء على ذلك تطلق في كل أحوالها، وقد تكون صغيرة يعني: غير بالغة لا تحيض، ولكن يمكنها أن تقبل الرجل وتقدر عليه وتستحمله، وبناء على ذلك يمكن أن يكون قد جامعها، وأمَّا بالنسبة لتطليقها فيجوز.
قال: (وَآيِسَةٍ) الآيسة هي التي ارتفع حيضها بعد بلوغ سن اليأس، والغالب أنَّ النساء بعد الخمسين تنقطع عادتها، أو تذهب حيضتها وترتفع، فإذا كانت (آيِسَةً) فعدتها بالأشهر، وبناء على ذلك حتى ولو كان زوجها قد جامعها؛ فإنه يقع عليها الطلاق في كل حال.
قال: (وَغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا) كما قلنا: إن غير المدخول لا عدة عليها متى ما طلقها، ولكن ظاهر كلام الفقهاء هنا لما قال: (وَلَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ) طبعا يعني أنه لو أوقعها في كل حال سواء جامعها أو لم يجامعها، هذا لا إشكال فيه، هذا ظاهر كما قلنا، ولكن أيضا ظاهر كلامهم أنه لو أوقع واحدة أو ثلاثا، هذا ظاهر كلامهم وإطلاقهم، مع أنه في الحقيقة أن ذهاب طلاق السنة أو التحديد بالطهر الذي لم يجامعها فيه هذا ممكن فيما تقدم، ولكن ليس ممكنا في هؤلاء، ولكن ممكنا في هؤلاء أن يبقي عليها ثلاثا أو أن يوقع واحدة.
فلمَ أخرجت الثلاث هنا من كونها طلاقا محرما مع عدم المانع من بقائه؟ ذلك أيضا تضيق عليهم، ولا يلحقها في ذلك فائدة، فعلى كل حال هذا محل نظر، وإن كان الفقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- قد جروا على إلحاقه بالتوسيع أو عدم دخوله في المحرم، فلو طلق ثلاثا لمثل هؤلاء كان ذلك جائزا عندهم، وإن كان النظر يقتضي أن يقال: جمع الثلاث التطليقات محرم على كل حال لعدم الحاجة إليه، وإن جاز تطليقها كحامل تم جماعها أو أيضا صغيرة تمت معاشرتها، أو آيسة كذلك؛ لأنه لا يتأتى إلا أن يقال بتطليقها على كل حال، ولكن لا شيء يمنع من الإبقاء على تقييد إيقاع الثلاث جملة واحدة عليها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَقَعُ بِصَرِيْحِهِ مُطْلَقًا، وَبِكِنَايَتِهِ مَعَ اَلنِّيَّةِ)}.
قال: (وَيَقَعُ بِصَرِيْحِهِ مُطْلَقًا)، الطلاق إما أن يكون لفظًا صريحًا، أو أن يكون كناية، والصحيح هو الذي لا يحتمل غيره، وهو لفظ الطلاق، فإذا قال: طلقتك، أو أنت مطلقة، أو قال لها: أنت طالق، فهذه وما في معناها من هذه الألفاظ يقع بها الطلاق، سواء كان جادًا أو كان هازلا، فيقع في كل هذه الأحوال.
وأما إذا كان كناية مع النية، فالكناية هو اللفظ الذي يحتمل الطلاق ويحتمل غيره، وذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن الكناية منها كناية خفية، ومنها ظاهرة، فجعلوا الظاهرة يقع بها ثلاثا، والخفية لا تقع بها إلا واحدة، وهذا فيه شيء من الإشكال.
على كل حال، هم يقولون الكناية التي تحتمل الطلاق وتحتمل غيره، فإذا قال: اخرجي فهذه يحتمل أنه يقصد اخرجي من داري، يعني: أنت لست لي بزوجة، ويحتمل أنه أراد أن تبعد عنه لئلا يزداد النزاع بينهما، ولأجل ذلك قالوا: النية هي التي تحدد ذلك إذا وجدت، وكذلك إذا كان بينهما ما يدل على أنه أراد الطلاق.
على كل حال هذا هو مفهوم كلامهم بالكناية، أنه لا بد أن يوجد ما يسندها لأنها لا تتمحض في الطلاق خاصة، فلو قال: لست لي بزوجة، فهذه تحتمل أنه أراد التطليق، ويحتمل أنه يقول لست لي الزوجة التي أتوق إليها، أو التي كنت أحلم بها، أو التي أحب أن تكون زوجتي على ذلك! فإذا هي محتملة وبناء على ذلك قالوا: لا يقع بها الطلاق إلا أن يكون ناويا.
على كل حال في هذه المسائل أيضا تفاصيل في النية وما يتعلق بها، ولكن نترك كثيرا من هذا الكلام لضيق الوقت، والحاجة إلى الإسراع فيما ذكره المؤلف من مسائل.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَصَرِيْحُهُ لَفْظُ طَلَاقٍ وَمَا تَصْرَّفَ مِنْهُ غَيْرَ أَمْرٍ وَمُضَارِعٍ، وَ"مُطَلِّقَةٍ" بِكَسْرِ اَللَّامِ. وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ كَظَهْرِ أُمِّي، وَمَا أَحَلَّ اَللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهُوَ ظِهَارٌ وَلَو نَوَى طَلَاقًا، وَإِنْ قَالَ كَالمَيَّتَةِ أَوْ اَلدَّمِ، وَقَعَ مَا نَوَاهُ وَمَعَ عَدَمِ نِيَّةٍ ظِهَارٌ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَصَرِيْحُهُ لَفْظُ طَلَاقٍ وَمَا تَصْرَّفَ مِنْهُ)، فظاهر هذا أن الطلاق الصريح هو هذا اللفظ المختصر، والتسريح أو الفراق مع أنها ألفاظ جاء بها لفظ القرآن، ولكن لم يجعل المؤلف -رحمه الله تعالى- كما هو مذهب الحنابلة أن تلك داخلة في الألفاظ الصحيحة فيه، وقد يحتمل القول بإلحاق هذين اللفظين بصريح الطلاق، وهذا هو مشهور المذهبي عند الحنابلة.
قال: (وَمَا تَصْرَّفَ مِنْهُ) كما قلنا هذا بيان الألفاظ التي تتصرف من لفظ الطلاق ويقع بها الطلاق، إذا قال بالمصدر: "أنت الطلاق"، أو قال: باسم الفاعل "أنت طالق"، أو "أنت مطلقة" اسم مفعول، أو "طلقتك" فكلها يقع بها الطلاق.
ولكن لو قال: "اُطلقي" فهو أمر بالطلاق وليس إيقاع له، وبناء على ذلك لا يقع به الطلاق، ولو قال: "أنت مُطَلِّقَة" فهي ليست مطلقة، وإنما يقع عليها، إذًا هذا لا يتوافق مع إيقاع الطلاق عليها، ولذلك قالوا: إنه لا يحصل به طلاق في تلك الأحوال.
والكنايات ذكروا تعدادها والظاهر منها والخفي وتفاصيل ذلك، والحقيقة أن فيها إشكالات كثيرة جدا، ولكن مثل ما قلنا: منها ما هو إمكان إلحاقه بالطلاق مع النية ظاهر، ومنه ما هو مشكل على ما ذكروه، كما لو قال لها مثلا: "كُلِي" أو "اشربي"، فهل يقع بذلك طلاق؟
لو قال لها: "تقنعي"، يعني: احتجبي، فهذا ظاهر في أنه قصد أنها ليست حلا له، أو أنها ليست له زوجة، فعلى كل حال كما كان من النبي في تطليق أهله، وفي بعض زوجاته لَمَّا قالت: أعوذ بالله منك، قال: «لقد عُذْتِ بعظيمٍ، الحقي بأهلِك»[5]، فكان هذا عند أهل العلم تطليقًا، أو من كنايات الطلاق، ولهذا كان هذا أصل في اعتبار كناية الطلاق، أنها إذا وجدت معها نية فيقع بها الطلاق.
وكما قلنا: إنه في مثل هذه المسائل تفاصيل ربما لا نحتاج إلى بحثها.
بعد ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) لاحظوا هنا أنه ذكر أولا الألفاظ الصريحة، ثم ذكر ما يتعلق بأحكام الكناية، ثم ذكر الألفاظ التي تحتمل أن تكون من كناية الطلاق، وتحتمل أن يكون لها حكم آخر كيمين أو كظهار أو نحو ذلك.
فيقول -رحمه الله-: (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ كَظَهْرِ أُمِّي، وَمَا أَحَلَّ اَللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَهُوَ ظِهَارٌ وَلَو نَوَى طَلَاقًا)، هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، والظهار سيأتي الكلام عليه وعلى ألفاظه، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، فهذا ظاهر أنه ظهار، فيقول المؤلف -رحمه الله-: حتى الألفاظ التي فيها مجرد تحريم، وهي على نحو لفظ الظهار، مثل: "أنت على حرام"، قالوا: إن ألفاظها كألفاظ الظهار، ولأجل جعلوها في كل الأحوال ظهارا، يعني: حتى ولو كانت نيته إيقاع طلاق، وكأنه يشير بذلك إلى خلاف بين الفقهاء، فمنهم من يقول: يقع ما نواه، ومنهم من له تفصيل فيها كل بحسبه، فـ "أنت عليَّ كظهر أمي" واضح أنه لفظ من ألفاظ الظهار المخصوصة، ولكن "أنت على حرام" فهذا مجرد تحريم، فهل يدخل أنه يمين كيمين حلف فيلحقها كفارة يمين، أو أنها يمكن أن تكون طلاقًا إن نواه، أو تكون ظهارا، فالفقهاء لهم كلام، والفتيا أيضا فيها تفصيلات كثيرة.
ولكن مشهور المذهب عند الحنابلة أنهم ألحقوا هذين اللفظين، بلفظ: أنت علي كظهر أمي فجعلوها ظهارا في كل الأحوال، ولذلك قال: (وَلَو نَوَى طَلَاقًا).
أما من جهة الفتيا فلأهل العلم في ذلك تفاصيل، يمكن أن تجدوها في فتاويهم، وهي منثورة مبثوثة في كثير من المواقع، لا ندخل في تفاصيلها.
قال: (وَإِنْ قَالَ كَالمَيَّتَةِ أَوْ اَلدَّمِ)، يعني: إن قال لزوجته أنت كالميتة أو الدم، فهنا تشبيه لها بالمحرم، فالأصل أن هذا أقرب ما يكون له أن يكون ظهارا، ولكن لم يجعله ظهارا؟
قالوا: هذا من جهة أنها أخف في التحريم، لأن الميتة ليست مثل المرأة التي يُستمتع بها، فتأخذ جانب إطلاق التحريم أو الظهار، ولأجل ذلك قال: (وَقَعَ مَا نَوَاهُ) يعني من ظهار أو وقع ما نوى من ظهار أو طلاق، ومع عدم نية فهو ظهار، وهو أقرب إلى الظهار من جهة أنه مشتمل على تحريمها.
وقول أكثر أهل العلم في هذه المسألة: "أنت عليَّ كالميتة" أنها لا تكون ظهارًا؛ لأنها ليست بلفظ الظهار ولا في معناه، لأنَّ المعنى هو تحريمها بمن يكون بها استمتاع، وأما هنا فتشبيهها بمن لا يكون بها استمتاع، وبالتالي لا يدخل في اسم الظهار.
وأصل الظهار سيأتينا ما يتعلق بأنه طلاق أهل الجاهلية، وما فيه من معان سيئة، ولأجل ذلك حرمه الشارع وعظمه.
{أحسن الله إليكم شيخنا، نكتفي بهذا القدر}.
طيب موقف جيد، ولعلنا أن نكمل إن شاء الله في الدرس القادم.
{جزاك الله خيرا يا شيخنا، وكتب الله أجركم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونلقاكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] أخرجه ابن ماجه (2081).
[2] أخرجه ابن ماجه (2045)،
[3] أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
[4] رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
[5] أخرجه البخاري (5254).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك