الدرس الحادي والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7529 33
الدرس الحادي والعشرون

أخصر المختصرات 4

{الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية هداة الخيرية لتعليم العلوم الشرعية، ولا زلنا وإياكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) لابن بلبان الدمشقي -رحمه الله-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
مرحبا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين.
{نستأذنكم شيخنا في إكمال القراءة}.
نعم، استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (بَابُ العِدَدِ، لَا عِدَّةَ فِي فُرْقَةِ حَيٍّ قَبْلَ وَطْءٍ وَخَلْوَةٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يرفعنا بالعلم، وأن يعقبنا العمل، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأن يُبلغنا فيه السلامة من الفتنة، والتوفيق للهداية، والاستقامة على السنة، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في نهاية الدرس الماضي ابتدأنا أول ما يتعلق بباب العدد، وذكرنا معناها، وحقيقتها وهي تربص جاء به الشرع، تمكث به المرأة عقيب الفرقة في عقد النكاح، وذلك آت في كتاب الله -جل وعلا- في غير ما آية من كتابه، والسنة أيضا متوافرة على ذلك، ولا يختلف فيه أهل العلم.
وقد ذكرنا أيضا ما يتعلق بسبب هذه العدة، وأنها تعظيم لعقد النكاح، فإنه معظم في ابتدائه بما اعتُبر فيه من شروطه، ومعظم في انتهائه، بما جُعل له من عدة تكون بين الفرقة بين الزوجين، وبين أن تتزوج المرأة وتعيد نكاحها أو تجدد ارتباطها.
أيضا وهذه هي أكد العلل أو الحكم على اختلاف بين أهل العلم في ذلك، وهو التيقن من براءة الرحم؛ لأن المرأة هي محل لتخلق الولد واجتماع المائيين، فربما تزوجت بعد زوجها، فلا يُدري أعلق الحمل من الزوج الأول أو الثاني، ولكن ذلك ليس في كل حال، ولذا كانت العدة للمتوفى زوجها، وكانت العدة أيضا من زوج صغير لا يولد لمثله، على ما سيأتي بيانه بإذن الله.
{قال -رحمه الله-: (لَا عِدَّةَ فِي فُرْقَةِ حَيٍّ قَبْلَ وَطْءٍ وَخَلْوَةٍ)}.
هذا بيان لشيء خارج من هذه الحدود أو من هذه الاعتبارات أو من العدد المعدودة في هذا الباب، فإذا كان النكاح ولم يكن معه خلوة ولا دخول، فلا عدة فيه إذا كان بطلاق، وسيأتي بيان ذلك، ولهذا قال المؤلف- رحمه الله-: (لَا عِدَّةَ فِي فُرْقَةِ حَيٍّ)، فَيُخْرِج هذا ما لو كانت عدة في فرقة من ميت بموته تكون عليها العدة، وذلك أن الله -جل وعلا- قال في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ وكما قال المؤلف: (قَبْلَ وَطْءٍ وَخَلْوَةٍ) وهذا بإجماع أهل العلم، أنه إذا وجد وطء تعلقت العدة، أو خلوة على ما هو مشهور في مذهب الحنابلة -رحمهم الله تعالى-، وسيأتي بيان ذلك فيما ذكره المؤلف عقب هذه الجملة.
{قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ لِوَطْءٍ كَوْنُهَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، وَكَوْنُهُ يَلْحَقُ بِهِ الوَلَدُ وَلِخَلْوَةٍ مُطَاوَعَتُهُ وَعِلْمُهُ بِهَا وَلَوْ مَعَ مَانِعٍ)}.
إذًا يشترط لوطء (كَوْنُهَا يُوطَأُ مِثْلُهَا)، فلو كان مثلها لا يُوطأ، كما لو كانت صغيرة، ابنة سنتين أو نحوها، فمثلها لا يتصور فيها عدة من وطء.
(وَكَوْنُهُ يَلْحَقُ بِهِ الوَلَدُ)، وهو كما تقدم عند أهل العلم ابن عشر سنين، لأنه وإن لم يكن بالغا من حيث الأصل، ولكن بما أن ابن عشر، العادة ظاهرا يمكن أن يكون منه حمل، ويمكن أن يكون منه بلوغ، فمناط الأمور على ظاهرها، ولأجل ذلك جعلوا ابن عشر سنين ممن يلحق به الولد على ما تقدم، ولو لم يحكم ببلوغه بذلك الحمل.
إذا (وَكَوْنُهُ يَلْحَقُ بِهِ الوَلَدُ)، فلو كان صغيرا مثله لا يطأ، ومثله لا يكون منه إعمار للرحم، وبناء على ذلك لا تكون عدة.
{قال- رحمه الله-: (وَلِخَلْوَةٍ مُطَاوَعَتُهُ وَعِلْمُهُ بِهَا وَلَوْ مَعَ مَانِعٍ)}.
ذكرنا أن الخلوة متعلقة بمشهور المذهب عند الحنابلة، وذلك خلافا للجمهور، أو هي من مفردات الحنابلة -رحمهم الله تعالى-، وذكرنا أصل ذلك بما جاء عن الصحابة فانتهى عند ذلك الأمر، ولكن الحنابلة الذين يحكمون بأن الخلوة مُلحقة بالوطء فيتعلق بها العدة وأحكام الدخول، يقولون: لا بد أن تكون من مطاوعة، فلو كانت مُكرهة فلا تعلق بها، وأن يكون عالما، فلو كان دخلت عليه لكنه لم يعلم، كما لو ظنها أحد إماء أهل البيت الذين يخدمونهم أو نحو ذلك، أو كان أعمى لا ينظر، ولم يشعر بها، فبناء على ذلك قالوا: إنه لا يتعلق بها حكم.
قال: (وَلَوْ مَعَ مَانِعٍ) يعني لو كان فيها ما يمنع من الوطء، كما لو كانت محرمة، أو حائضا أو سواها، فإنَّ الحكم يتعلق بذلك، وكأنه يشير بهذا إلى بعض خلاف عندهم في هذا، إذا وجد المانع هل يرفع الخلوة أو لا؟
{قال -رحمه الله-: (وَتَلْزَمُ لِوَفَاةٍ مُطْلَقًا)}.
هذا على ما تقدم قبل قليل، أنه إذا توفي الرجل عن زوجته، فيجب عليها عدة بأي حال، سواء كانت صغيرة، أو كبيرة، أو يوطأ مثلها، أو لا يوطأ، أو مدخولا بها، أو غير مدخول بها، فإن العدة ثابتة في ذلك كله، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾، وقوله: ﴿وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾، فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ الوفاة تجب بها العدة في كل حال، وهذا محل اتفاق وإجماع.
{قال -رحمه الله-: (وَالْمُعْتَدَّاتُ سِتٌّ)}.
لَمَّا بَيَّنَ المؤلف من تتعلق بها العدة، أراد -رحمه الله تعالى- أن يشرع في أحوال هؤلاء المعتدات، وما تختلف به العدة من حال إلى حال، على ما سيذكره هنا.
{قال -رحمه الله-: (الحَامِلُ وَعِدَّتُهَا مُطْلَقًا إِلَى وَضْعِ كُلِّ حَمْلٍ تَصِيرُ بِهِ أَمَةٌ أُمَّ وَلَدٍ. وَشُرِطَ لُحُوقُهُ لِلزَوْجِ)}.
قوله: (الحَامِلُ وَعِدَّتُهَا مُطْلَقًا إِلَى وَضْعِ كُلِّ حَمْلٍ) أي أن المؤلف -رحمه الله- أراد أن يبين أن الحامل تعتد بوضع حملها، فإذا وضعت حملها انتهت عدتها، وبناء على ذلك لو أنَّ امرأة مات زوجها في الصباح، وولدت في مساء ذلك اليوم، انتهت عدتها.
ولو أن امرأة مات زوجها، فكانت في شهرها الأول، فاستمرت إلى التاسع فهي في عدة حتى تضع حملها.
ولو أن امرأة كانت حاملا بأكثر من حمل واحد، فإذا وضعت الأول لم تنقض العدة، فهي لا تزال يُطلق عليها اسم الحامل، ولا زال في بطنها حمل لزوجها، فإذا وضعت ثانيا أو ثالثا أو رابعا، وفرغ ما في بطنها، فهي يصدق عليها أنها حامل ووضعت، وأنها حامل وانتهى وصف الحمل لها، فتنتهي عدتها بذلك.
وفيما مضى ربما كانت تضع حملا في أول الأمر، ثم يذهب وقت كشهر أو أسبوع أو عشرة أيام ثم تضع الثاني، فاذا متى تنتهي عدتها؟ بوضع الأخير لا بوضع الأول، سواء كان ثانيا أو ثالثا أو رابعا.
الحالة الثالثة: وهو أنه إذا حصل سقط، هي حامل وشرعت في عدتها بالحمل، يعني: تنتظر حتى تضع حملها، ففي أثناء ذلك أسقطت ذلك الحمل، فلا إشكال في أنها تنتهي عدتها إذا كان قد نفخ فيه الروح، أو إذا كان قد بلغ ستة أشهر، ولكن ما الحد الفاصل في ذلك؟
هنا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (تَصِيرُ بِهِ أَمَةٌ أُمَّ وَلَدٍ)، هي خمس أحوال وأنا أذكر أننا ذكرناها مرات، ولكن سنذكر هنا الذي يتعلق به الكلام، أو ما يحتاج إليه.
إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، كيد، أو رجل، أو مقدمات رأس، أو تخطط ما في الوجه، فلا شك أن هذه وضعت حملها فانتهت عدتها.
طيب لو وضعت قطعة لحم، فإذا رأيتها أنت قلت: إنما هي مضغة، وإذا رأيته أنا كذلك، وكذلك إذا رأه ثالث أو رابع، ولكنه إذا جعلت القابل عليه، وهي التي تلي وضع الحمل مع النساء فتساعدهن على ذلك. قالت: هذا قد بان فيه تخلق الإنسان، فهذه عينان، أو هذه مبتدأ يد، فيقولون: إذا كانت قد تخلقت في الخلقة الخفية مما يعرف ذلك من أهل الاختصاص التي هي القابلة، ومن يقوم على الولادة، فتصير بها الأمة أم ولد، ويحصل بها بالنسبة للحامل وضع الحمل، وتنتهي بذلك العدة.
وهذه بعض الأحكام التي تتعلق بذلك.
قال: (وَشُرِطَ لُحُوقُهُ لِلزَوْجِ)، لكن يفهم الحالة الرابعة أنها إذا وضعت مضغة يجمع الجميع على أنها ليس فيها مبدأ خلق إنسان، فلا يعتبر شيئا، بل تعود فتعتد بالحيض على ما سيأتي بيانه بإذن الله -جل وعلا-.
قال: (وَشُرِطَ لُحُوقُهُ لِلزَوْجِ) يعني: لا يكون الزوج صغيرا، فلو كان الزوج صغيرا ومثله لا يجامع، ولا يتصور منه بلوغ، ولا يتوقع منه إنعاظ أو نحوه، فهنا لا يمكن أن ينسب هذا الحمل إليه، وبناء على ذلك لا يمكن أن تنتهي عدتها من هذا الزوج بهذا الحمل الذي يُعلم أنه لا يكون منه.
{قال -رحمه الله-: (وَأَقَلُّ مُدَّتِهِ سِتَةُ أَشْهُرٍ , وَغَالِبُهَا تِسْعَةٌ, وَأَكْثَرُهَا أَرْبَعُ سِنِينَ)}.
أمَّا أقل مدة الحمل فهي ستة أشهر، وهذا مأخوذا عند أهل العلم من كتاب الله -جل وعلا-، ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾، وعند أهل العلم لا يختلفون أن الإرضاع في سنتين، إذًا يبقي ستة أشهر هي موضع الحمل، وهذا معلوم قطعا أنه لا يتصور أن ولدًا وضع لأقل من ستة أشهر يمكنه أن يعيش، وبناء على ذلك قالوا: إن أقل مدة هي ستة أشهر.
ثم قال: (وَغَالِبُهَا تِسْعَةٌ) وهذا ظاهر.
(وَأَكْثَرُهَا أَرْبَعُ سِنِينَ)، هذه مسألة طويلة عند أهل العلم المتقدمين، وربما استشكلها بعض من تقدم، وهي الآن أكثر ما تكون إشكالا، لأنه من حيث الأصل أن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ينظرون في بعض الأحوال إلى الوجود، يعني: نظروا في الحمل فوجدوا أنه ممكن أن يزيد يومًا، يومين، عشرة أيام، شهرا، شهرين، هذا موجود كثير وسائغ، ولكن تأملوا ونظروا في أكثر ما يمكن حتى يجعلوه حدًا، وأكثر ما وجد عندهم أنه يوثق به، ومحل اعتبار أناطوا به هذا الحكم، أربع سنين، لأنَّ جار الإمام مالك بقي حملها أربع سنين، فجعلوا هذا هو الحد، أو أكثر ما سمعوا به.
ابن القيم- رحمه الله تعالى- ربما ذكر أنه يمكن أن يكون أكثر، وبحث في ذلك بحثًا طويلا.
والمعاصرون ومع تطور الطب ووجود الأجهزة المخبرية ونحوها، ربما لم يوافقوا على أنه يمكث هذه المدد، ولهم تفسيرات متعددة، فيقولون: إنها انتفاخ، أو ما يسمونه بالحمل الكاذب أو غيره، وفيما مضي لا يعرفون ذا من ذا، فربما ظنوه حملا وهو ليس بحمل وهكذا.
وعموما هذه من المسائل النادرة، ولكن يحسن بالطالب أن يفهم من أين أخذ الفقهاء التحديد وما وجه ذلك؟
{قال -رحمه الله-: (وَيُبَاحُ إِلْقَاءُ نُطْفَةٍ قَبْلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِدَوَاءٍ مُبَاحٍ)}.
النطفة إذا دخلت الرحم هل يكون لها حرمة أو لا؟
لا يختلف أهل العلم، أنه إذا نفخ فيها الروح، فإنها إنسان، وجاء الشرع بتعظيمه وحرمته، وعدم الجناية عليه، فلأجل ذلك جعلوا فيه دية مقررة، سيأتي بيانها في كتاب الديات بإذن الله -جل وعلا-، وإذا كانت النطفة قبل أربعين يومًا فالخلاف فيها ضعيف يعني: في عدم جواز الإلقاء، ثم ما بين الأربعين إلى نفخ الروح هو محل الكلام، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- على ما هو مشهور مذهب الحنابلة، أن هذه النطفة لا حرمة لها، لماذا؟ قالوا: كما أنه يجوز للإنسان أن يعزل عن زوجه، سواء كان بإلقاء مائه خارج رحمها، أو باستعمال ما يكون من حواجز تحول بين أن ينتقل ماؤه إلى رحمها، كما هو الآن، وهذا لا يُختلف فيه، وجاء عن الصحابة، والسنة مستقرة بذلك.
وبناء على ذلك قالوا: إن تلقى خارج الرحم كما لو أخرجت من داخله، فليس لها حرمة ولا اعتبار، وإنما هو ماء دافق في كلا الحالين، وبناء على ذلك قالوا: إن هذا جائز، ومع قولهم بالجواز قالوا: أن يكون ذلك بدواء مباح لئلا يضر بالمرأة، ويكون ذلك برغبة من له حق فيه، وهو الزوج والزوجة، فإذا وجدت الشروط الثلاثة؛ جاز ذلك في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وفيه ساعة لا إشكال فيها.
ولكن ما قبل نفخ الروح وبعد مضي أربعين، وهي الشروع في بداية التخلقات، وتحول هذه المضغة من حال إلى حال أخرى، اشتد الخلاف بين الفقهاء، ومن قال بالمنع فهذا أقرب، وهو القول الأشهر، وإن احتيج إلى سواه، فيمكن أن يكون له مأخذ صحيح.
ولكن على كل حال ما يهمك أيها الطالب أن تعرف مبدأ المسألة ومبناها.
{قال -رحمه الله-: (الثَّانِيَةُ: المُتَوَفَّى عَنْهَا بِلَا حَمْلٍ فَتَعْتَدُّ حُرَّةٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَ لَيَالٍ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَةٌ نِصْفَهَا، وَمُبَعَّضَةٌ بِالْحِسَابِ)}.
الثانية من المعتدات، بعد أن ذكر الحامل، وهي في كل أحوالها تستوي عدتها بوضع الحمل في أنواع الفرق، سواء كانت الفرقة بالحياة أو الممات، الآن يبدأ في الكلام عن التي لا حمل في بطنها، فقال: (الثَّانِيَةُ: المُتَوَفَّى عَنْهَا بِلَا حَمْلٍ)، فهنا عدتها تختلف بحال المرأة، فإن كانت حرة فعدتها أربعة أشهر وعشرا، وهذا الذي استقرت به دلالة النصوص، ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾.
(وَأَمَةٌ نِصْفَهَا)، فتكون شهران وخمسة أيام، مع استقر عليه قول الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أنَّ الأمة على النصف من الحرة، وعلى ذلك جرى فقهاء الحنابلة وجمع من أهل العلم والتحقيق، وسيأتي الكلام على من لم يقولوا بالتنصيف فيها.
قال: (وَمُبَعَّضَةٌ بِالْحِسَابِ)، المبعضة هي التي بعضها حر وبعض أمة، فيقولون: إنها بالحساب، فإذا كان نصفها حرا، فيقولون: تعتد ثلاثة أشهر وثمانية أيام.
كيف تم الحساب؟
إذا كان نصفها حرًا فهي تعتد شهرين وخمسة أيام.
وإذا كان نصفها الآخر آمة، فهي تعتد على النصف من عدة الأمة، وعدة الأمة شهران ونصف، فيكون عدة نصف الأمة شهر وثلاثة أيام، لأن النصف يجبر.
نضم الشهرين وخمسة أيام مع الشهر وثلاثة أيام، فتكون عدة المبعضة "ثلاثة أشهر وثمانية أيام".
طبعا هذه إذا كانت مبعضة بالنصف، وأما إذا كانت مبعضة بالربع أو مبعضة بثلاثة أرباع فهذا كله بحسابه، فينظر من الشهرين وخمسة أيام هذه الباقية، بحسب ما فيها من الحرية تزيد العدة، وإذا كان فيها رق أكثر نقصت وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (وَتَعْتَدُّ مَنْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ الأَطْوَلَ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ إِنْ وَرِثَتْ، وَإِلَّا عِدَّةَ طَلَاقٍ)}.
الإبانة في مرض الموت عند أهل العلم لها أحكام، من جهة أن من أبان زوجته في مرض موته فهو متهم إذا وجدت القرينة، متهم بقصد الحرمان من الإرث، وليس ذلك في كل الأحوال، فإذا وجدت هذه التُّهَمَة، أو كما هو مُشتهرٌ في ضبطها، التُّهْمَة، وأظن التهمة بالتحريك أصح، فهنا يقول أهل العلم: إنه يعاقب بنقيض قصده، وبناء على ذلك ترث، فلما جعلوا لها حكما بالإرث، فإن حكم الإرث من أحكام النكاح وامتداده، فبناء على ذلك جعلنا عليها أيضا أحكام العدة وألزمناها به، فمن له غنم فعليه غرم.
ولأجل ذلك قالوا: (وَتَعْتَدُّ مَنْ أَبَانَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ الأَطْوَلَ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ)، وأصل ذلك قصة عبد الرحمن بن عوف، لَمَّا أبان زوجه "تُماضرُ"، فظن أنه قصد حرمانها، فحكم الصحابة بتوريثها، وهذا فيه إشارة إلى أنَّ الصحابة يجري منهم الخطأ، وتقع منهم المعصية مع ما لهم من الدرجة والمنزلة، هم وآل رسول الله ﷺ، كل ذلك بما جاءت به الأدلة، وصحت به النصوص، فهم العدول، وهم الأثبات، وهم الثقات، وهم الذين ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، وجاء في فضائل بعضهم درجات يتمايزون فيها، ويتسابقون إلى عاليها -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذًا لو أنها مثلا في عدة وفاة من طلاق، لم يبق عليها إلا ثلاثة أيام، ثم تُوفي زوجها، فعند ذلك تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، فتمتد معها، لأننا سنورثها.
والعكس بالعكس، فلو أنه طلقها وهي ستتربص ثلاث حيض فلو كانت تعتد بالحيض وهي الآن في أول الطلاق، طلقها في صباح ذلك اليوم، فهنا بعض النساء تمتد حيضتها شهرين وثلاثة، يعني يمكن أن تكون مجموع وقوع ثلاث حيض يتجاوز سبعة أشهر، فهذه ستنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، فإذا مضت أربعة أشهر وعشرا، ولم تكن قد حاضت ثلاث حيض نقول: ما انتهت عدتها، بل تمتد وتعتد بالأطول.
فإذا بقي نقول: تمتد، وإذا انتهت عدة الحيض وبقيت عدة الموت تكمل حتى تنتهي من عدة موت زوجها.
قال: (إِنْ وَرِثَتْ) إن كانت ممن يرث، وأما إذا كانت ممن لا يرث، كما لو كانت هي أصلا المخالعة، التي خالعت لزوجها، فهنا التهمة منتفية لأنه لم يرد طلاقها، وإنما هي التي أرادت فسخ النكاح.
لو كانت ذمِّية، فالذمية لا ترث من حيث الأصل، فبناء على ذلك لا يتصور هذا، ولا يحتاج الى ذلك.
قال: (وإلا عدة طلاق) يعني: إن لم يكن متهما في ذلك، أو أن تكون هي غير وارثة، ففي هذين الحالين لا تنتقل وتكمل عدتها التي طلقها فيه.
كل هذا في البائن، وأما الرجعية فهي زوجة بمجرد أنه طلقها طلاقا رجعيا، مثل ما مر بنا، والطلاق الرجعي يعني أنها طلقها طلقة أو طلقتين ولم تنته عدتها، فوقت العدة هو وقت عود لا محالة، وهي زوجة في حكم الزوجات، فلو مات أثناء ذلك تنتقل ولا شك، سواء قصد حرمانها أو لم يقصد حرمانها، كانت ترث أو لا ترث، كل ذلك لا يختلف شيئا.
{قال -رحمه الله-: (الثَّالِثَةُ: ذَاتُ الحَيْضِ المُفَارَقَةُ فِي الحَيَاةِ، فَتَعْتَدُّ حُرَّةٌ وَمُبَعَّضَةٌ بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ، وَأَمَةٌ بِحَيْضَتَيْنِ)}.
ذات الْحِيَضْ، أو ذات الْحَيضْ كلها تصح، والْمُفَارَقة أو الْمُفَارِقَة، يعني: قد يصح وإن كان خلاف الأولى؛ لأنَّ الفرقة تنسب إلى من أوقعها، أو إلى من حصلت منه الفرقة، وربما على من وقعت عليه، كما لو أسند الانكسار إلى الكأس مع أنه هو الذي وقع عليه الانكسار، ومع ذلك صح في بعض الأحوال، وعلى كل حال يمكن هذا.
فذات الحيض، وهي التي تحيض، فهنا إذا فارقت في حال الحياة، فعدتها ثلاث حيض، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾، والقرء في المشهور من المذهب عند الحنابلة، كما هو قول الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-: هو الحيض، تجلس عن الصلاة أيام أقرائها، وإن كان اللفظ من حيث الأصل في العربية، لفظ القرء هو لفظ مشترك، يطلق على الأطهار كما يطلق على الحيض، ولأجل ذلك اشتد الخلاف بين الحنابلة وبين الشافعية والمالكية في ما الذي يُراد به هنا؟ فالحنابلة ذهبوا إلى أنه هو الذي يطلق على الحيض، واستندوا إلى ذلك إلى ما جاء عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، وربما نقل الاتفاق في هذا عنهم، والثاني أن الله -جل وعلا- قال: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾، والطلاق إنما يكون في حال الطهر، فلو كان الطهر هو القرء لأفضى أن تكون عدتها أقل من ثلاثة، وهذا خلاف ما جاءت به النصوص.
قال: (فَتَعْتَدُّ حُرَّةٌ وَمُبَعَّضَةٌ بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ) أمَّا الحرجة فواضح، وأما الأمة فحيضتان لماذا؟ لأنها على النصف، والنصف أن تكون حيضة ونصف، ولكن لَما كانت الحيضة لا تتبعض، فجبر النصف، وصارت حيضتان.
وأمَّا الأمة المبعضة فحيضتان وشيء؛ لأنها أكثر من الأمة، وبالتالي فتجبر وتصير مثل الحرة، ولم تختلف عن الحرة بتمامها وكمالها، ومن هي حرة في أكثرها أو في أقلها.
{قال -رحمه الله-: (الرَّابِعَةُ: المُفَارَقَةُ فِي الحَيَاةِ، وَلَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ، فَتَعْتَدُّ حُرَّةٌ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَأَمَةٌ بِشَهْرَيْنِ، وَمُبَعَّضَةٌ بِالْحِسَابِ)}.
قوله: (المُفَارَقَةُ فِي الحَيَاةِ، وَلَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ أَوْ إِيَاسٍ) الإياس من الحيض، هو سن تبلغه المرأة تنقطع عنها عادتها، وأكثر النساء في بحر الخمسين، وقيل عند أهل العلم: إن هذا يختلف البلدان برودة وحرارة، فعلى كل حال هو وقت متفاوت في ذلك، ولهم كلام في هل يحد بالخمسين؟ أو يحد بالستين؟ أو هو بين ذا وذاك؟ محل كلام لهم فيه.
وعلى كل حال، إذا أيست المرأة من حيضها، فإنها تنتقل في العدة إلى الأشهر، ولا ييأسن ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾، واللائي لم يحضن هن الصغيرات، وبناء على ذلك كانت عدتهن ثلاثة أشهر.
ولذا نقول: إذا طلقت الصغيرة بعد ثلاثة أشهر، "شهران ابتداء وانتهاء بالهلال، والشهر الذي بدأت فيه يكون بالحساب، فيكون ثلاثين يوما.
وإذا كانت أمة، فقد قال المؤلف- رحمه الله-: (وَأَمَةٌ بِشَهْرَيْنِ، وَمُبَعَّضَةٌ بِالْحِسَابِ)، لأنَّ التبعيض ممكن في هذا ولا يكون فيه أي إشكال.
{قال -رحمه الله-: (الخَامِسَةُ: مَنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَعْلَمْ مَا رَفَعَهُ, فَتَعْتَدُّ لِلْحَمْلِ غَالِبَ مُدَّتِهِ ثُمَّ تَعْتَدُّ كَآيِسَةٍ)}.
هذه من المسائل التي ربما يجد فيها إشكالا، فمن ارتفع حيضها ولم تعلم ما رفعه، فالغالب أن النساء إذا ذهبت حيضتها فمعنى ذلك أنها حامل، ولأجل هذا جاء عن عائشة: "إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض"، فبناء على ذلك قالوا: هذه التي ارتفع حيضها يمكن أنها تكون حاملا، فننتظر إلى أن تذهب مدة غالب الحمل، فإذا ذهب مدة غالب الحمل وما هي حامل، قال: (فَتَعْتَدُّ لِلْحَمْلِ غَالِبَ مُدَّتِهِ ثُمَّ تَعْتَدُّ كَآيِسَةٍ) وعدة الآيسة كما قلنا: ثلاثة أشهر، فيكون مجموع ذلك: سنة كاملة.
اعتبار مدة الحمل، هل هو عدة أو هو تربص لبيان ما العدة التي تعتد بها؟
طبعا الذي حكم بذلك هو عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- ومشهور المذهب عند الحنابلة هو المصير إلى ما جرى عن الصحابة، فكيف إذا كان مثل عمر الذي ربما وصل إلى الإجماع السكوتي؛ لأنَّ مثله ينتشر قوله، وهو من سنة الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا باتباعهم والاقتداء بسنتهم.
فإذا قلنا: إن هذه المدة هي تربص للعلم بأي عدة ستعتد، فتسميتها عدة يعد مجازًا، وإدخالها في اسم الاعتداد من جهة أنه وقت للانتظار، ولكن هل يكون وقتا للاحتساب؟ الظاهر لا، لأنها ستعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر تامة، ولو كانت محتسبة، فإذا بلغت تسعة أشهر وما تبين حمل، كأن الشهور الثلاثة الأولى صارت هي عدتها وانتهت، فعلم بهذا أنه مدة انتظار، فإذا كانت مدة انتظار فيترتب على ذلك أن هذه إنما هي سبيل للنظر والبحث عن العدة التي تليق بهذه المرأة، وفيما مضى لم يعرف ذلك إلا من جهة الانتظار والتربص، حتى يتيقنوا أنه لا حمل، وبناء على ذلك إذا أمكن العلم والقطع بعدم الحمل، بما جد من الآلات، وبما وجد من الاختبارات عبر المخابر والأشعة ونحوها، فهل يمكن أن نقول: إنه إذا قُطِعَ بعدم الحمل تعتد بالأشهر؟
هذا لا يكون بعيدا، وهو متفق على قول الفقهاء، وعلى ما جرى عن السلف والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، وبناء على ذلك، إذا كان قد ارتفع حيضها ولم تدر سببه، وقطع الأطباء بأنها ليست بحامل، فننقلها إلى عدة آيسة، فتنتظر ثلاثة أشهر ثم تنتهي عدتها.
{قال- رحمه الله-: (وَإِنْ عَلِمَتْ مَا رَفَعَهُ، فَلَا تَزَالُ حَتَّى يَعُودَ فَتَعْتَدَّ بِهِ، أَوْ تَصِيرَ آيِسَةً فَتَعْتَدَّ عِدَّتَهَا)}.
هذه الحالة الثانية من الخامس من المعتدات، وهي التي ارتفع حيضها وهي تدري سبب رفعه، فكما لو أنها تناولت بعض العقاقير، وتعرف أن مثل هذه العقاقير تؤثر على حيضها، فبناء على ذلك قالوا: إن هذه لا زلنا نقطع أنها من ذات الحيض، وممن يُحكم بأن عدتها بالحيض، فهي تتداوى وتتعالج. قالوا: حتى ولو انتظرت سنوات عديدة وما رجع شيء.
نقول: ظاهر كلامهم أنها تنتظر حتى تعود الحيض، أو تبلغ سن الإياس الذي ينقلها إلى عدة أخرى، لأنها ثبتت فيها العدة بيقين، ولم ندر ما الذي يليق بها في هذه الحال، فلا بد أن تبرأ ذمتها بيقين، وهذا الحقيقة من جهة ترتيب الدليل ظاهر لا إشكال فيه، ولكن من جهة ما يترتب على ذلك فيه إشكال.
مثال: لو كانت المرأة مثلا قد ارتفعت حيضتها بسبب من الأسباب، وهي ابنة خمس وعشرين، فنحملها على أن تنتظر إلى أن تبلغ الخمسين أو ثلاثة وخمسين، فيه إشكال كثير. ولكن على كل حال فهذه المسائل نادرة الوقوع خاصة مع تطور الطب، فالتي ارتفع حيضها إما أن تتداوى فتنتظم، وهذا يسميه الأطباء بالهرمونات المنظمة لأنوثة المرأة، وما يتبع ذلك من حيض وسواه، فهنا الأمر واضح ولا إشكال فيه.
وأما إذا لم يرجع إليها الحيض، فإذا قطع الأطباء بأنه لا يرجع حيضها -وأنا لا أقول ذلك تقريرا؛ لأن المسائل هنا ليست مسائل إفتاء، ولكنها من باب التعليم- ليس بعيد أن يقال: لها أن تنتقل إلى العدة بالأشهر كالآيسة، ويكون حكمها حكمهن.
{قال- رحمه الله-: (وَعِدَّةُ بَالِغَةٍ لَمْ تَحِضْ وَمُسْتَحَاضَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، أَوْ نَاسِيَةٍ كَآيِسَةٍ)}.
إذا بلغت المرأة خمسة عشر سنة ولم تحض، فهي عند أهل العلم بالغ، وهي في مثل هذه الحال لو طلقت تعتد بثلاثة أشهر، ومثل ذلك المستحاضة، والمستحاضة هي التي يستمر دمها ولا ينقطع، فعند ذلك هذا الدم الذي يخرج منها منه حيض يخرج من قعر رحمها، ومنه استحاضة تخرج من أدنى رحمها دم، وهو الذي يسمى عند النساء: النزيف، ففي مثل هذه الحال عادة أن المرأة تحيض كل شهر، فإذا تمَّ لها ثلاثة أشهر، فنقطع في مثل هذه الحال أنها مرت عليها ثلاث حيض، وبهذا جاء ظاهر السنة أنها تتحيض ستة أيام في كل شهر، فكما لو كانت ثلاثة أشهر، وبناء على ذلك تكون هكذا عدتها.
قال: (وَمُسْتَحَاضَةٍ مُبْتَدَأَةٍ) ومر بنا أن (المُبْتَدَأَة) هي التي لأول وهلة لَمَّا نزل دمها لم ينقطع) فهي ليس عندها عدة سابقة منتظمة تعرف من خلالها هل حيضها في نصف الشهر أو في ثلثه الأخير أو في الثلث الأول، وهكذا أو ناسية، يعني: لو كانت هي مستحاضة ولكن كانت لها عدة تأتيها في نصف كل شهر ثم نسيت، ولما جاءتها الاستحاضة ومع ما احتف بها من تعب ومن آلام وكذا نسيت متى كانت تأتيها عادتها! فنقول: تعتد بثلاثة أشهر، فيفهم من ذلك أنها لو كانت مستحاضة معتادة، فبناء على ذلك هل تحكم بعادتها أو بتمييزها؟ على الخلاف الذي تقدم، والحنابلة يعتبرون العادة؛ لأنها مقدمة وهي الأصل، وبناء على ذلك قالوا: يكون حكمها حكم من اعتادت، فاذا مرت بها ثلاث عادات على حسب ما اعتادت تنتهي عدتها.
{قال -رحمه الله-: (السَّادِسَةُ: امْرَأَةُ المَفْقُودِ تَتَرَبَّصُ وَلَوْ أَمَةً أَرْبَعَ سِنِينَ إِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الهَلَاكُ، وَتِسْعِينَ مُنْذُ وُلِدَ إِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا السَّلَامَةَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (امْرَأَةُ المَفْقُودِ)، ولعلك أن تلحظ أن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أتوا على المسائل التي يتصور وقوعها، حتى وإن كانت نادرة أو بعيدة الوقوع، لأنَّ الفقيه إذا نزلت به هذه النوازل لا ينفك إلى أن يعتمد على شيء، فاجتهد الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن يستوعبوا الصور المتوقع حصولها، وهذه قد وقعت في أول الأمر، وفيها حكم لعمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (امْرَأَةُ المَفْقُودِ) والمفقود هو من انقطع خبره، وله حالان:
إمَّا أن يكون حال سلامة، وإمَّا أن يكون حاله حال هلاك، وتختلف الحال بذلك بما ذكروا، فقال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (تَتَرَبَّصُ وَلَوْ أَمَةً أَرْبَعَ سِنِينَ إِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ لِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الهَلَاكُ)، فإذا انقطع خبره في معركة، أو في حدث زلزال، أو في بركان، أو في غرق سفينة وكان معهم في وسط البحر، فهذه غالبها الهلاك، فبناء على ذلك منذ أن انقطع الخبر تنتظر أربع سنوات؛ لأنَّ عمر -رضي الله عنه وأرضاه- حكم بذلك، والغالب أنه إذا كان حيًّا سيأتي خبره، وسيصل أمره، فإذا مضت الأربع سنوات فنحكم بأن هذا المفقود ميت، فتتربص أو تعتد بما يليق بها من عدة، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ).
طيب إذا كان ظاهره السلامة، وهي الحال الأخرى، قال: (وَتِسْعِينَ مُنْذُ وُلِدَ إِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا السَّلَامَةَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ) فإذا كان عمره ستة وسبعون، يقولون: غالب أكثر الناس أنه لا يصل إلى التسعين، فكيف الحال إذا كان مفقودا الآن، وقَلَّ من الناس من يصل إلى التسعين، فقالوا: إذا بلغ فينتظر أربعة عشر سنة، إذا كان قد فُقِدَ من خمسين نقول: ننتظر إلى أن يبلغ التسعين، فهي تنتظر أربعين سنة.
مع ما في هذا من إشكال، لكن هذا ممكن، ولكن لو أنه فُقِدَ قبل التسعين بشهر، هل ذلك أنها ستنتظر شهرا ثم تعتد؟ طيب لو فقد بعد التسعين، هل تنتظر أو لا تنتظر شيئًا؟
على كل حال هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وبعض أهل العلم طَرَدَ قول عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- بأن الحاكم يحكم.
هل يكون الحكم بالأربع سنوات في كل الأحوال؟ أو أن للحاكم أن يزيد وينقص بحسب ما يجتمع له من القرائن؟ وأن ابتداء حكم عمر إنما هو تجويز ذكر مدة يمكن أن يُنظر فيها، وبناء على ذلك يحكم حصول الهلكة.
على كل حال نحن نذكر لكم مبنى هذه المسائل، وهي نادرة أعان الله القضاة.
وسئل شيخنا الشيخ ابن باز- رحمه الله تعالى- في مرة من المرات عن بعض مسائل الحضانة، والحضانة فيها مسائل عويصة جدا، فأجاب وأبان المسألة، ثم قيل: لو حصل كذا ولو حصل كذا، فكأنه لما ذكرت عليه بعض الإرادات وهي محل للاهتمام والاعتبار سكت قليلا ثم قال: أعان الله القضاة، أعان الله القضاة، فهذه نادرة، ولكن مجالس القضاء لا تنفك عن النوادر كثيرا. نسأل الله أن يلهمهم التوفيق والإعانة والصواب فيما وكل إليهم من المسائل والأحكام.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ طَلَّقَ غَائِبٌ أَوْ مَاتَ، فَابْتِدَاءُ العِدَّةِ مِنَ الفُرْقَةِ)}.
قوله: (وَإِنْ طَلَّقَ غَائِبٌ أَوْ مَاتَ)، يعني: تبدأ عدتها من حين طلاقها وإن لم تعلم بالفرقة، يعني لو كان غائبًا مثلا وجاءنا كتابه بذلك، فابتداء العدة من هذه الفرقة، إذا كانت بوقت وبمحددة بحد.
{قال: (وَعِدَّةُ مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنًا كَمُطْلَقَةٍ إِلَّا أَمَةً غَيْرَ مُزَوَّجَةٍ فَتُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ)}.
هنا ذكر من المؤلف- رحمه الله تعالى- ليس للمعتدات، لأنَّ العدة إنما هي للمتزوجات، والعدة لأجل فرقة النكاح، سواء كان بموت أو بطلاق، وهنا ليس فيه نكاح، ولكن كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: إن ثم مَن لها عدة تُلحق بعدة المزوجة، أو من يكون لها اعتبار بأن تدخل في أحكام العدة.
فقال: (وَعِدَّةُ مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) لو أنَّ امرأة، نسأل الله السلامة والعافية، (وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) ما كانت تدري، فهي امرأة مثلا من أعف النساء، ومن أحفظهن لفرجها، وأقومهن بحق ربها، وأخوفهن على فراش زوجها، ولكن كانت نائمة، فدخل عليها رجل يظنها زوجته، لكونها مثلا نامت في بيت أختها أو كذا، فجامعها ولم تصحو، إمَّا لثقل نومها، أو لكونها استدعت علاجًا، أو بأي سبب من الأسباب. فهنا هي (وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) وهذا يدفع عنها عقوبة الزنا وما يتبع ذلك.
ولكن هذا الوطء بناء على ذلك يكون له حرمة، ويكون له عدة، فلو حملت من هذا الوطء، يلحق النسب لهذا الواطئ، ما دام أنه شبهة، فهو لم يدر أنها ليست زوجته، وهي كذلك ما تدري أنه وقع عليها مثل ذلك، أو تظن أنه زوجها.
ويمكن أن يكون ذلك خاصة مثلا فيمن لا تتكلم أو لا تفصح عن نفسها أو نحوه.
فعلى كل حال إذا (وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) فيقولون: لها عدة، وبناء على ذلك إذا كانت تعتد فمعنى ذلك أن زوجها لا يَقربها في وقت تلك العدة، فيُفضي هذا إلى أنها لا بد أن تخبر زوجها بما وقع عليها.
قال: (أَوْ زِنًا) وكذلك إذا كانت قد وُطِئَتْ بزنا، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنها تعتد، وبناء على ذلك لا يجوز لزوجها أن يقربها حتى تنتهي عدتها.
وقد تقدم معنا هل يلزم الطلاق أو لا يلزم؟ وإن كان مشهور المذهب أن الطلاق مستحب، وذكرنا القول الآخر في وجوبه، والقول بأنه ليس بلازم، وأنَّ النظر في ذلك ممكن، وأنه لا يدخل في مسائل الدياثة، خاصة إذا لحق بذلك أسف أو ندامة، فكل تستزل تزل قدمه، وكل ربما دعته شهوته، والناظر ينظر بعين المصلحة الشرعية والأمور المرعية، فربما كان ذلك أصلح له ولها، وربما كان ذلك أقوم لبيته وولده، وأصلح لأبنائه وبناته، فذكرنا ما تقدم فيما يتعلق بذلك.
قال: (كَمُطْلَقَةٍ) لا بد إن تعتد، ثم بعد ذلك لها أن تنكح، وهذا فيه خلاف بين الفقهاء.
قال: (إِلَّا أَمَةً غَيْرَ مُزَوَّجَةٍ فَتُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ)، إذا كانت مزوجة فعدتها عدة التي تقدم على ما مَرَّ من أن الأمة على النصف، ولكن إذا كانت غير مزوجة فتستبرئ بحيضة إذا حصل عليها وطء بشبهة، والمهم أن نتأكد أن رحمها لا شيء متعلق فيه بذلك الوطء، حتى لا تختلط الأنساب ولا تتداخل المياه.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر لكم}.
نستكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم.
{شكر الله لكم ورضي عنكم، وفي ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم في حلقة قادمة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك