الدرس الثامن والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7528 33
الدرس الثامن والعشرون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالخيرات والبركات، نرحب بكم في حلقة جديدة من (جادة المتعلم) والذين نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى-، يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، وطلاب العلم والطالبات.
{رضي الله عنكم، كنا -يا شيخنا- توقفنا في اللقاء الماضي عند (كتاب الحدود) في فصل: (حد المسكر)، فهل تأذن لنا أن نكمل القراءة؟}.
نعم، استعن بالله.
{قال -رحمه الله- (فصل في أَحْكَامِ السُّكْرِ.
وَكُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ يَحْرُمُ مُطْلَقًا، إِلَّا لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غُصَّ بِهَا مَعَ خَوْفِ تَلَفٍ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ بَوْلٌ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم الراسخين، العاملين المعلمين، الموفقين المسددين يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحدود، وهو في حد من هذه الحدود، وهو حد السكري، ولذلك قال: (وَكُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ)، والإسكار من السكر، وهو التغطية؛ لأنَّ الخمر يُغطي العقل ويذهبه، ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَكُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ يَحْرُمُ مُطْلَقًا)، وهذا معلوم قطعا، ومجمع عليه عند أهل العلم، لا اختلاف فيه، كما توافقت بذلك دلائل النصوص، وتكاثرت بذلك الأحاديث عن النبي في تحريمه، «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ» ، وكذلك في جلد شاربه والتنكيل به، ولا يختلف في ذلك أحد البتة.
ولَمَّا قال المؤلف -رحمه الله-: (وَكُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ يَحْرُمُ مُطْلَقًا) يعني: سواء كان من العنب، أو كان من التمر، أو كان من سائر الفواكه، أو من سواها، وهذا فيه إشارة إلى أنه لا يختلف أن يكون من العنب أو أن يكون من سواه، وذلك خلافا لبعض الفقهاء الذين قالوا: ما كان من غير العنب فهو ملحق به، فلا يحرم إلا حال الإسكار. فنقول: إن الكل يشمله اسم المسكر، كما جاءت بذلك الأحاديث، ولا يختلف الحال بين أن يكون الخمر من عنب، أو أن يكون من تمر، أو أن يكون من سائر الفواكه كالتفاح أو سواه.
قول المؤلف: (يَحْرُمُ مُطْلَقًا) يعني: كثيره وقليله، ما حصل به الإسكار وما لم يحصل به الإسكار، وقال النبي : «وَمَا أَسْكَرَ منه الفَرَقُ فمِلْءُ الكفِّ منه حرامٌ» ، وقليلة حرام كما جاءت بذلك النصوص.
وهذه يلحق بها مسائل مُهمة وهي مما دخلت الآن في عالم الصناعة، مما يكون به الإسكار من غير التخمير، كما يكون مما يصنعه الكفار مما يسمى: "الويسكي" أو سواها من مركبات كيميائية ونحوها، أو كان ذلك مما يحصل به من النباتات ونحوها، وهي التي اشتهرت عند الفقهاء الأولين وعند المتأخرين بالحشيش، أو القنب الهندي، أو الهيروين، أو الأفيون، وكل هذه أشياء مستخلص غالبها من نباتات، وعند أهل العلم أنها حرام، وحرمتها كحرمة الخمر، وحدها كحد شاربه، سواء بسواء.
بل لا شك أنها من جهة ما يترتب عليها وما يؤول إليه أمرها، أشد بلاء وحرمة من هؤلاء الخمور، فإن هذه المخدرات أو السموم التي يستخدمها المتأخرون ليست فقط تدعو إلى الإدمان، بل إنها سُرعان ما تجلب الخرف، والآثار التي تفسد العقل، وتورث الشكوك، وتحمل على العدوان، وتُذهب استقامة عقل الإنسان في كل حال.
ولأجل ذلك وجد في هذا الوقت من آل أمرهم إلى الجنون بعد أن كانوا من أعقل الناس لَمَّا دخلوا في هذه المسارات، وتعاطوا هذه السموم والمخدرات.
وهنا يحسن الإشارة إلى ما ذكره الفقهاء أولا، وأشرنا إليه ونحن نؤكد عليه هنا، وهو أن هذه المخدرات، وهذه السموم إذا آلت إلى الجنون ونحوه، فمعنى ذلك أن هذا المجنون قد جُنَّ بفعل نفسه، فيعامل بكل ما كان منه من إساءة، أو ظلم، أو ضرب، أو اعتداء، أو سواه، كما أنه يُعاقب على ما يفوته من صلاة، وما يخل به من عبادة، لأن إخلاله بالعبادات ليس من جهة ذهاب عقله، ولكن من جهة ما تسبب به على نفسه، فأذهب عقله، فترتب على ذلك أنه هو الذي قصد ذلك، خاصة أن الناس يعلمون أن الدخول في مثل هذه السموم يُفضي إلى مثل هذه الآثار، ولكنها نزغة الشيطان، وقرناء السوء، والشهوات التي تتبع بعضها بعضا، ويروج لها الغرب أو الشرق، ويتداعى إليها أبناؤنا تبعًا لهؤلاء، مع قلة في الديانة، وثورة في الشهوة، وحصول من عنفوان الشباب، وتغرير أهل الضلال، والمكاسب المادية وسواها.
قال: (إِلَّا لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غُصَّ بِهَا) وهي إشارة إلى أنَّ هذه الحرمة لا ترتفع إلا في حال الاضطرار، ولذلك قال: (إِلَّا لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غُصَّ بِهَا مَعَ خَوْفِ تَلَفٍ)، ولذلك لو كانت هذه الغصة لا تحمل على التلف، فبناء على ذلك لا يجوز له.
ولكن قد يقول قائل: كيف أصلا وهو عنده خمر؟ قد يكون معتديا بجلوسه عند الخمر فيكون آثما «مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يَقعُدَنَّ على مائِدةٍ يُدارُ عليها الخَمرُ» ، ولكنه لا يدخل في اسم السكر، كما لو فعل ذلك لأجل الاضطرار، كما أنه يمكن أن يكون ذلك في حال مأذون فيها، كما لو كان الإنسان مثلا خلالا، يعني: يعمل على الخل، وكان عنده خل تحول إلى خمر، فغص وهي بحضرته وليس شيء سواها، أو كان ممن يتعاطى مثلا تعقب هؤلاء والإمساك بهم، فأمسكها فلما غُصَّ ما وجد بجانبه شيئًا يُنقذه أقرب إليه من مثل هذه الخمر التي بجواره.
إذا يمكن أن يكون في أحوال مأذون له، ويمكن أن يكون في أحوال غير مأذون له فيها.
قال: (وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ بَوْلٌ)؛ لأنَّ البول لا يحصل به خمر، فكلاهما نجس، وكلاهما محرم تعاطيه، ولكن الخمر يزيد على ذلك أنه من الكبائر، ويلحق بصاحبه المحددة شرعا، ولذلك كان تعاطي أو أخذ البول هو الأولى؛ لأنه ليس فيه ما في الخمر من العقوبة والحد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِذَا شَرِبَهُ أو احْتَقَنَ بِهِ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ مُخْتَارًا عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ حُدَّ حُرٌّ ثَمَانِينَ وَقِنٌّ نِصْفَهَا)}.
إذا الحد إنما هو بالشرب وما في معناه. ولذلك قال: (أَوْ احْتَقَنَ)، فالاحتقان بأن يُدخل إلى جوفه يأخذ حكم الشرب سواء بسواء، لأنَّ النتيجة واحدة، وهي تعاطي هذا المسكر، ولا يختلف الحكم بين أن يكون قد أخذ ما يسكر به أو دون ذلك، فما دام أنه تعاطاه، فإنه يتعلق به حكم الحد بذلك.
قال: (مُسْلِمٌ) فيخرج ما لو كان غير مسلم، كأن يكون من أهل الكتاب؛ فإنه مأذون لهم في تعاطيهم، وبناء على ذلك لا يُحدون، وإنما لو أشهر وأظهر ذلك وجاهر به فإنه يؤخذ من أجل المجاهرة، ويعاقب من أجل الإظهار والمشاهرة.
قال: (مُكَلَّفٌ) فيخرج ما لو كان غير مكلف كالصغير والمجنون ومن في حكمهم، فإنهم لا يُحدون، والصغير يُؤدَّب، والمجنون يحفظ من مثل هذه الأمور، ويمنع من قربانها، لأنه لا يمكن تأديبه، ولأنه لا ينتفع بالتأديب، ولا يؤثر فيه الضرب أو الزجر أو سواه.
قال: (مُخْتَارًا) فيخرج ما لو كان مكرهًا، فلو أُكره إنسان على ذلك -وقد تقدم ما يكون به الإكراه- وهو القتل أو ما يكون فيه إيذاء في بدن الإنسان من قادرٍ على ذلك قاصدًا لإيقاع العقوبة.
قال: (عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ).
إذا كان هذا النوع يسكر، أما إذا كان لا يُسكر فالأصل أن هذه أطعمة أو أشربة يجوز تناولها فلا يحرم تعاطيها.
وهذا يجر إلى ما يتعلق ببعض المشروبات المصنوعة الآن، يذكر أن من الأنواع يكون فيها إما شيء من التخدير أو نحوه مثل ما يقولون كافيين أو أيضا فيها نسبة كحول أو نحوه، والعبرة في هذا لا وجود النسبة في التحليلات المخبرية والكيميائية، إنما العبرة بما جاء به النص، قال النبي : «ما أكثر كثيرة فقليلة حرام»، فإذا كان مثلا شراب الشعير هذا لو شربت منه كأسين لم تسكر، ولو شربت ثلاثة لم تسكر ولو شربت أربعة لم تسكر؛ لكن إذا شرب الخامس صارت فيه نشوة الإسكار؛ فنقول: هذا محرم، أما إذا شرب ستة أو سبعة لا يسكر فمعنى ذلك أن هذه النسبة الموجودة أو هذه التحليلات المخبرية لا اعتبار بها.
وعلى سبيل المثال مثلا: بعض المشروبات الغازية فيها نسبة معينة لو شرب منها كأسين أو ثلاثة لا يُسكر، وهذا معلوم، إذًا العبرة بما يحصل به الإسكار، وأن يكون ذلك ظاهرا -يعني معلوما- ولذلك قال: (عَالِمًا أَنَّ كَثِيرَهُ يُسْكِرُ حُدَّ)، لكن ينبغي للإنسان أن يبعد عن مواطن الشبهة، وأن يترفع عن أسباب الوقوع في الحرمة، وألا يستدعي على نفسه أبواب الشر، فإن الإنسان يوشك أن يقع في بعضه فلا يزال يتقحَّم فيه حتى يرتكس في البلاء والسوء كله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (حُدَّ حُرٌّ ثَمَانِينَ وَقِنٌّ نِصْفَهَا)}.
ما مقدار حد الخمر؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة كما هو قول لبعض الفقهاء أنه ثمانين، لأنه جاء في الحديث: أن النبي حدَّ أربعين، وأبا بكر حدَّ أربعين، بينما حَدَّ عمر ثمانين. وقال عليٌّ أميل إلى هذا، أو كلمة نحوها، واستقر قول الصحابة على ذلك، فمن أهل العلم من قال: إن هذا كان كالإجماع أو الاتفاق منهم على ذاك؛ فأخذوا به، وهذا ظاهرُ ما سلكه فقهاء الحنابلة- رحمهم الله تعالى.
ومنهم من قال: إن الحد أربعين وأن الزيادة على ذلك إذا احتيج إليها لنحو انتشار شربه، وتسارع الناس إليه، وعدم ارتداعهم ونحوه.
قال: (وقِنٌّ نِصْفُهَا). القن: هو العبد، وهو على النصف من عقوبة الحر فكان عليه نصف ذلك، وهو أربعون.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً كَقَذْفٍ أو شَهَادَةِ عِدْلَيْنِ)}.
الإقرار هو أصل في ثبوت العقوبة ولزومها، مع أننا قلنا: إن الإنسان الذي وقع في ذلك وندم على هذا فإنه لا يحتاج إلى أن يظهر نفسه ولا أن يشهرها ولا أن يكشف سره ولا أن يظهر عورته؛ بل عليه أن إلى الله -جل وعلا- ويستغفره، وأن يطلب ما سَبِل الستر والإعراض عن انكشاف ذلك وإظهاره.
قال: (بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً كَقَذْفٍ)، يعني في حد القذف إذا أقرَّ على نفسه أنه قذف ونحوه كفى.
قال: (أَوْ شَهَادَةِ عِدْلَيْنِ)؛ لأن شهادة العدلين بهما تثبت الأمور، ومن ذلك حد الخمر وحد السرقة، وأكثر الشهادات يطلب فيها عدلان، إلا حد الزنا أربعة، ومن إصابته بعد غنى فثلاثة، وسائر المعاملات وما سواها من الحدود فيطلب في ذلك اثنان.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ عَصِيرٌ وَنَحْوُهُ إِذَا غَلَا أو أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ)}.
العصير إذا ترك في إنائه ونحو ذلك، فبعض الأواني أكثر من بعض في سرعة تخمره كالدباء ونحوها، فإذا ترك فغلى -يعني صارت له رغوة وزبد وارتفع- فهذا يسمى "غلى" يعني لا يحتاج إلى أن يغلى في النار لا، وإنما المقصود به إذا قذف بالزبد، وهو إذا قذف بالزبد في مثل هذه الحال تشتد أو تنعقد مرورته، وفي هذه الحال ينتقل هذا العصير إلى التَّخمر الذي يفسد العقل ويحصل به الإسكار، وكلما انعقد بطول مدة أو بإضافة بعض الأشياء اشتدَّ الإسكار به.
إذًا أول ما يكون منه قذف الزبد فهو انتقال إلى التخمير الإسكار لكن قد لا يكون ذلك من شربة قليلة أو نحوها، لكن بناء على ذلك لما كان هذا حدٌّ ظاهر في الإسكار فينبغي للإنسان إذا رأى ذلك أن يمتنع وألا يتعاطاه. لأنه وصل إلى حد الغليان الذي يكون به الإسكار.
قال: (أَوْ أَتَى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) وهذا قد جاء في الحديث أن النبي أمر إذا أتى عليه ثلاثة أيام أن يلقى أو تطعم دابة ونحوها، فمنع منه بعد ثلاثة أيام.
والمشهور من المذهب عند الحنابلة -كما هو قول بعض الفقهاء- إنها لما كانت قرينة غالبة كانت كالحد الفاصل، فمن أجل ذلك منعوا منه.
ومن أهل العلم من قال: لا، وإن الثلاثة أيام إنما هي مدعاة إلى الاتقاء، وإنما العلامة التي يكون بها الإسكار من عدمه هي الغليان.
وهذا ليس بعيدًا الحقيقة! خاصة إذا كان في بعض البلاد الباردة أو وُضع الآن في آلات التبريد ونحوها، فإنه ربما طالت مدته ولم يقذف بزبد ولم يحصل فيه تغير ولا مرورة ولا نحوها، ولكن لا شك أنه يُتقى على كل حال.
إذًا الحال الأولى: إذا غلا ليوم أو يومين أو أكثر من ثلاثة أيام فلا شك في أنه يمنع منه.
الحال الثانية: إذا كان أقل من ثلاثة أيام ولم يحصل به قذْف بالزبد أو غليان فلا شك في حِله وإمكان تعاطيه.
والحالة الثالثة: إذا زاد على ثلاثة أيام ولم يكن منه قذف بالزبد، فهذا محل الإشكال. فاتقاؤه هذا مطلوب، لكن هل يحرم تعاطيه؟ هذا هو مشهور المذهب، وإن كان هذا هو قول لبعض أهل العلم المحققين إلى أن هذه قرينة وأن المقصود من ذلك الاتقاء والتوقي على سبيل البعد عن الشبهات والوقوع والانزلاق في الحرام، لكن لو تعاطاه فإنما تعاطَى مكروهًا ما دام أنه لم يقذف بزبده، ولم يصل إلى النشوة والإسكار.
هذا ما يمكن أن يقال في هذه المسألة.
ومن المسائل المشكلة الحقيقة: أن النبي نهى عن الخليطين، يعني من تمر وعنب ونحو ذلك، وهذا موجود كثيرا في العصريات الآن التي تباع خاصة في الأسواق سواء كانت التي تحضر في آنية تُشرَب، أو التي تبقى.
وسبب النهي عن الخليطين: لأنهما إذا اختلطا في الغالب أنها أسرع إلى أن تنعقد وتتخمر، فلأجل ذلك نهي عنها، لكن القول فيها مثل القول في الثلاثة أيام.
بعض أهل العلم من قال -كما هو مشهور المذهب- بالمنع من الخليطين على الإطلاق، لأنها طريق التخمير بسرعة.
ومنهم من قال: إن ذاك إنما هو على سبيل الكراهة، ولا يحصل التحريم إلا إذا حصل الإسكار.
على كل حال: إذا عولجت بالقطع بمنع حصول انعقادها، كما تضاف إليها الآن بعض هذه المواد ونحوها لتمنع هذا الغليان، ويُقطع بعدم حصول ذلك، ولذلك بعض هذه العصائر تبقى إلى خمسة أشهر وإلى سنة ونحوها ويشربها الناس ولو شربوا منها مائة لتر لم يكن في ذلك إسكار؛ فلا يبعد أن يقال: إنها لا تحرم.
لكن هل ترتفع الكراهة أو لا؟
هي داخلة في ظاهر الحديث، لكنها خارجة من حقيقته، لأن الشرع ما نهى عن ذلك نهيا عن أن يتنعم الإنسان أو يتلذَّذ بهذه المطاعم، وإنما نهى لما تسرع إليه من الحرمة، فإذا قُطع أنها لا تسكر فلا يبعد أن لا يكون في ذلك حرج أو تضييق على الناس، لكن أيضا ما جاء في الحديث محل توقٍّ وتعظيم.
{أحسن الله إليكم، شيخنا! هل التحريم خاص بجميع العصيرات أم العصيرات التي تكون مكونة من الأشياء التي تتخمر؟}
لا، الخليطين بعضها أسرع من بعض ولكن كلها داخلة فيه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل في حد السَّرِقَةُ
وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِثَمَانِيَةِ شُرُوطٍ)
}.
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله- تعالى من كتاب الحدود في حد السارق، أو في حصول القطع في السرقة.
والأصل أن السرقة: هي أخذ مال معصوم على وجه الخفية، وإذا بلغ نصابًا ففيه حد السرقة، وهو قطع يده.
إذًا؛ حد السرقة هو لمن أخذ مالَ معصومٍ على وجه الخفية وقد بلغ النصاب.
وعلي كل حال يمكن أن يكون أخذ المال على وجهٍ محرَّم لكنه لا يكون سرقة، كما لو كان مثلا غصبًا.
لماذا جاء الشارع بالقطع في السرقة ولم يأتِ القطع في الغصب أو القطع في النهبة؟
والنهبة: أن يأتي فيأخذها ويُسرع كحال النشالين ونحوهم.
يقول أهل العلم: إن أخذ المال على وجه الخفية مما لا يكاد الناس يتوقونه لكثرة تلصُّص اللصوص وتخفيهم ونحو ذلك؛ فاحتيج إلى الحد للتنكيل والتخويف والزجر من تعاطي ذلك.
أما النشل أو النهبة أو غصب المال: فهذا لا يحصل إلا على وجه قليل، فلأجل ذلك كان الأمر فيه محرمًا ومعظَّمًا ويُعاقب على وجه التعزير، لكن لا يحتاج إلى الحد، لأنه ليس حصول الكثرة فيه والحاجة إلى الزجر فيه كالحاجة إلى الزجر في السرقة.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِثَمَانِيَةِ شُرُوطٍ).
هذا من الفقهاء جمع لما جاء في معاني النصوص، يعني اجتهدوا في هذه الشروط التي اعتبروها.
{قال -رحمه الله-: (السَّرِقَةُ، وَهِيَ أَخْذُ مَالِ مَعْصُومٍ خُفْيَةً، وَكَوْنُ سَارِقٍ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا عَالِمًا بِمَسْرُوقٍ وَتَحْرِيمِهِ)}.
إذًا السرقة: هي أخذ مال معصوم، فلو أُخِذَ مال غير المعصوم كالحربي ونحوه فلا تكون سرقة، بل مأذونٌ فيها، ولكن إذا كان معصومًا كما لو كان مسلمًا، أو أخذ مالَ ذمي، أو أخذ مال مستأمن أو معاهد، فكل ذلك مال معصوم، ويتحقق فيه ما ذكره المؤلف- رحمه الله تعالى.
وقوله: (خُفْيَةً) يُخرج ما ذكرناه من الغَصب والنَّهب ونحو ذلك.
قال: (وَكَوْنُ سَارِقٍ مُكَلَّفًا) لأن الحدود لا تكون إلا على مُكلَّف، وأما المجنون فلا ينزجر بالحدود؛ لأنه لا يعي، ولا يحصل فيه ارتداع، والصغير مثل ذلك، ولكن على وليهم أن يحجبهم، وأن يؤدِّب الصغير، وأن يحول بين المجنون والسرقة؛ لأنه كما قلنا: لا يمكن تأديبه.
قال: (مُخْتَارًا) فيخرج ما لو كان غيرَ مختارٍ، كما لو كان قد صُوِّب إليه بسلاح إن لم يخرج هذا الشيء من حِرزه فإنه سيقتل، فاستنقاذ نفسه ولو كان ذلك أخذًا لمال غيره لا منع فيه، لأن حرمة النفس أعظم.
قال: (عَالِمًا بِمَسْرُوقٍ وَتَحْرِيمِهِ) كما لو قال له: اذهب على وجه الخفية لئلا تُؤذي أهل البيت، ظانًّا أن هذا بيته، فأمره أن يأتي بما فيه من ذَهبٍ، وهو ظانٌّ أن هذا بيتَ الآمرِ، ولم يعلم أنه اعتداءٌ منه وظلم؛ فبناء على ذلك لا يكون على هذا الآخذ حد؛ لأنه غير عالم بالسرقة، بل ظانٌّ أن ذلك إنما هو إيصال المال إلى طالبه وخدمةُ الآمر به وبذله له.
قال: (وَتَحْرِيمِهِ) كما لو كان غير عالمٍ بالتحريم، وهذا لا يُتصور في كل المسائل، بل في مسألة محدودة، كما لو كان أسلم للتوِّ، أو نشأ في مكانٍ لا تُعرف فيه أحكام الإسلام، ولا يعرف أن مثل هذا ممنوعٌ أو محرَّم، فيكون ذلك مما يرتفع عنه الحد وتندفع شبهة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَكَوْنُ مَسْرُوقٍ مَالًا مُحْتَرَمًا)}.
المال سبق تعريفه في شروط البيع: وهو ما كان فيه منفعة من غير حاجة، فما دام أنه مال وهذا المال محترم -أي فيه منفعة- ليس من الأشياء التي فيها منفعة في وجه الحاجة أو الاضطرار فهي لا تدخل في المال.
وقوله: (مُحْتَرمًا) لو كان غير محترم مثل خمر الذمي، فهو مال لكنه غير محترم، فلا يكون في مثل هذه الحال حدٌّ.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَكَوْنُهُ نِصَابًا وَهُوَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةً أَوْ رُبْعِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ أَحَدُهُمَا)}.
جاء الحديث عن النبي : «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا». وجاء عنه أنه «قَطَعَ في مَجِنٍّ ثمنُه ثلاثةُ دراهمَ» كما في الحديث.
فقال أهل العلم: إن النصاب أحد هذين، أو ما يقابل قيمة أحدهما، فثلاثة دراهم طبعا تختلف قيمتها عن الربع المثقال، لأن الدرهم أقل من ثلاث جرامات من الفضة، فمعنى ذلك ما يقارب ثمان جرامات أو كذا. فهذه في الغالب أنها سعرها بخس نزول أسعار الفضة في هذه الأوقات.
أما ربع المثقال هو ما يقارب أربع جرامات من الذهب وشيئا، بعضهم يقول: خمسة وعشرين أو أقل؛ فعلى ذلك يكون ربع المثقال: جراما وشيء. وجرام الذهب يساوي مبلغًا.
وعلى كل حال: مَن سرق ربع دينار -جرام ذهب- أو سرق ثلاثة دراهم، أو سرق قيمة الأقل منهما، فإنه يقطع في السرقة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِخْرَاجُهُ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ)}.
لا بد أن يكون المال محرزًا. والحرز: هو المكان الذي يحفظ فيه المال، وحرز كل شيء بحسبه، فحرز مثلا الذهب والفضة ليس مثل حرز السيارة، أو حرز الثياب، أو حرز أعلاف، أو حرز الغنم؛ فجعل الغنم في حظيرتها وإغلاق أبوابها هذا حرز لها، وكونها في الرعي مع الراعي هو حرز لها، لكن لا يمكن أن يكون حرز الذهب والفضة إلا بأن يغلق عليه في البيت أو يدفن في محل أو نحوه.
ويقول أهل العلم: ويختلف حرز هذه الأشياء باختلاف أحوال الناس مكانًا وزمانًا، وقوة السلطان وضعفه، فإذا كانت قوة السلطان قوية وسطوته ظاهرة فالناس لا يتجرؤون على السرقة، فيتهاون أو يتساهل الناس في حفظ أموالهم، لأنهم يعلمون أنه لا يعتدى عليها، والعكس بالعكس، فإذًا قالوا: إن حرز إن حرز كل شيء بحسبه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَحِرْزُ كُلِّ مَالٍ مَا حُفِظَ بِهِ عَادَةً)}.
مثل ما قلنا، إنه ما يحفظ فيه عادة، فإذا كان الإنسان لم يحفظ المال على وجهه وأُخذ؛ فهنا لا يكون فيه حد للسرقة، فلو أن شخصًا مثلا ترك سيارته مشغلة؛ فهذا لم يحرزها! لكن هل إذا أغلق أبوابها وأقفلها وجعلها في فناء الدار -وهو المكان الذي خارج البيت وليس منه- هل يكون ذلك حرزا أو لا؟
لأهل العلم فيه كلام:
بعضهم يقول: لا، حتى تدخل في البيت.
بعضهم يقول: إغلاقها ونحو ذلك حرز.
وهو محل للخلاف، وكما قلنا: أعان الله القضاة! نحن نُبين في هذه المسائل على أصل ما ذكره الفقهاء، ولما كانت مثل هذه المسائل إنما يعني بها من يُبتلى بمعالجتها كالقضاة ومعاوني القضاة من المحققين ونحوهم، فإنه يتعين عليهم معرفة ذلك على وجه التحديد والتفصيل، ولكن مثل ما قلنا: إن ذلك أيضا يختلف باختلاف بعض البلدان وبعض الأحوال.
{قال -رحمه الله-: (وَانْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ)}.
يعني لا بد أن تكون هذه السرقة سرقة للمال متحققة، فلا شبهة له في المِلك أو في حق، فلأجل ذلك قالوا: لو أخذ الشريك من شريكه -حتى ولو كان ليس له حق فيه- فله شبهة، لو أخذ الإنسان من عمود نسبه، من أبيه، من أمه، من جده، من جدته؛ فهو مما عليهم نفقته في بعض أحواله، فقد يكون محتاجا ونحو ذلك.
فعلى كل حال: متى ما وجدت الشبهة فإنها تدرأ الحدود، لأنه جاء في الحديث مرفوعا إلى النبي «إن الحدود تدرأ بالشبهات»، وجاء ذلك عن علي وعن غير واحد من الصحابة، ولا يختلفون في ذلك البتة.
{ثم قال- رحمه الله: (وثبوتها بشهادة معدلين يصفانها)}.
إذا جاء العدلان ووصفا السرقة، أنه سرق وأنه أخرجها من الحرز، وأن قدره كذا وكذا -الذي هو النصاب ونحوه- فلا بد أن يصفان ما تكون به السرقة، لأنهما ربما يظنان أخذ المال على غير وجه الحق بأي وجه كان سرقة، وربما لا يكون كذلك، فقلنا إنه يمكن أن يكون نهبة ويمكن أن يكون اغتصابًا، يمكن أن يكون وقع بيده فظنَّ أن له حق لأنه يطالبه بشيء آخر ونحو ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (أَوْ إِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ مَعَ وَصْفٍ وَدَوَامٍ عَلَيْهِ)}.
لا بد أن يقر وأن يبين كيف حصل منه ذلك، ومثل ذلك أيضًا لأنه لا بد أن يصفَ ما كان منه من عمل، لأنه -كما قلنا- إنه قد يظن أن هذه سرقة لكنها داخلة في أخذ المال بغير حق، ولا ينطبق عليها اسم "السرقة"، فإذا وصف ذلك وعلم القاضي أو من آل إليه الأمر من أهل الإفتاء أو نحوهم في تكييف ذلك أنه سرقة فإنه يعلم ذلك من جهة ما يجتمع من الشروط بما قد لا يظن السارق أو الآخذ للمال أن ذلك سرقة أو أن فعله تنطبق عليه السرقة من عدمه، لأنه لا يعرف الحدود الفقهية وما يترتب على كل حال من أحوالها.
قال: (وَدَوَامٍ عَلَيْهِ). يعني أنه كان قد أقرَّ -وهذا قلنا حتى في حد الزنا- وأردنا إقامة حد السرقة عليه فرجع عن إقراره قبل أن يقام عليه الحد؛ فإنه يُرجع عن إيقاع العقوبة عليه، لأن الحد ينتفي بالشبهة، والآن عندنا إقرار وعندنا ضده، فلما كان ليس أحدهما بأولى من الآخر كانت شبهةً كافيةً في دفع الحد ودرئِه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمُطَالَبَةُ مَسْرُوقٍ مِنْهُ، أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ وَلِيِّهِ)}.
مطالبة المسروق منه لأن الحق له، يمكن أنه عفا عنه، أو يمكن أنه تنازل، أو يمكن أنه أباحه له؛ فلذلك لا بد من مطالبة المسروق منه أو وكيله الذي ينوب عنه، أو وليه إذا كان قاصرا كمجنون وصغير، أو كان أيضا ناظرَ وقف ونحوه، مع أنه في الوقف قد يكون له حق بوجه خاص إذا كان على الفقراء وهو فقيه؛ فعلى كل حال هو إنما يكون في الغالب إذا كان وليًّا على صغير ومجنون.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَإِذَا وَجَبَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلِ كَفِّهِ وَحُسِمَتْ)}.
حد السرقة: هو قطع اليد اليمنى من المفصل، قال الله -جل وعلا-: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ﴾ [المائدة:38]. واليد: اسم للأصابع وباطن الكف إلى المفصل من الذراع، والذراع ليس بداخل في اسم الكف، ولأجل ذلك قال أهل العلم: إن القطع يكون من الكف -وهو المفصل.
قال: (وحُسِمَتْ) يعني لئلا ينزف الدم فتسري عليه فيموت، وكانوا فيما مضى يحسمونها بوضعها في الزيت، لأنها وان كانت مؤلمة له، إلا أنها قاطعة للدم، أما الآن بأشياء كثيرة يمكن دفع ذلك، وما وصل إليه الطب الحديث يمكن أن يكون بأيسر من ذلك بكثير وبغير ما إيلام ولا نحوه.
{قال: (فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مَفْصِلِ كَعْبِهِ وَحُسِمَتْ)}.
إذا عاد إلى السرقة مرة ثانية فإن عليه أن تُقطع رجله اليسرى، يعني: يخالَف، لأن المخالفة تكونُ أبعدَ مِن ذهاب منافعه أو تمام عجزه وكماله، بخلاف ما إذا كان المقطوع كل جهته اليمنى أو كل جهته اليسرى.
ولذلك قال الفقهاء: إنه لو كانت رجله اليمنى مقطوعة ما تقطع رجله اليسرى، لئلا تذهب عليه منفعة المشي ونحوها، كذلك لا تقطع اليد اليسرى.
والقطع والحسم جاء في حديث وإن كان فيه ما فيه من المقال، لكن على هذا جرى جمهور الفقهاء.
{قال -رحمه الله: (فَإِنْ عَادَ حُبِسَ حَتَّى يَتُوبَ)}.
هذه الحالة الثالثة: لو عاد إلى السرقة مرة ثالثة هل يعاد إلى القطع أو لا؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة أنه لا يُزاد على ذلك، وإن كان في قولٍ آخر وهو قول لجمع من الفقهاء أيضًا، أن القطع يعاد، فتقطع يده اليسرى، ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى، ثم إن عاد خامسة:
منهم من قال: إنه يكتفى بذلك.
ومنهم من قال: إنه يقتل ويحد.
وعلى كل حال هذا من الأمور النادرة جدا، لكننا نشير إليها حتى يكون الطالب على علم بمدار هذا الباب وما يبحث فيه من المسائل وإن لم يحتج إلى التقرير أو التحقيق فيها، لأن الحاجة إليها ربما لا تكون كثيرة، أو ربما لا يحتاجها كثير منَّا لأنهم لا يلون مثل هذه الأمور ولا تناط بهم.
{أحسن الله إليكم.
{أحسن الله إليكم. ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ سَرَقَ تَمْرًا أَوْ مَاشِيَةً مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ غُرِّمَ قِيمَتَهُ مَرَّتَيْنِ وَلَا قَطْعَ)}.
المؤلف-رحمه الله تعالى- كأنه ذكر حالًا مستثناة، وهي حال يكون فيها سرقة ولا يكون فيها قطع، وذلك لما جاء فيها من الحديث بخصوصها، وهو مَن سرق ثمر على رؤوس الشجر، سواء كان نخلًا أو كان فاكهة أو نحوها، ولا يختلف الحال بين أن تكون المزرعة أو البستان محوطة أو كانت مخلَّاة، ففي كل هذه الأحوال يقول المؤلف- رحمه الله تعالى- أنه لا قطع في ذلك، وأن فيها التغريم، فيغرم بالضعف لما جاء في الحديث.
واجتهد أهل العلم في ذكر سبب ذلك، لكن -الله أعلم- أن هذا مما تثور النفس بدون ما نظرٍ أو بدون ما شيء من الانتباه؛ فخُفف الأمر فيه، والناس عادتهم أن يتساهلوا فيمن جازَ من محالِّهم أو بساتينهم أنهم يعطون أو يأذنون لمن قطع أخذ أو نحوه، فكان ذلك كالتسهيل، فلما كانت هذه عادة فمَن أخذها ظانًّا أو أخذها على العادة؛ فإن الأمر فيه لا يصل إلى التَّعظيم والتَّنكيل والقطع في السرقة، ولذلك قال: (غُرِّمَ قِيمَتَهُ مَرَّتَيْنِ).
ومثل ذلك الماشية إذا سرقت من المرعى، حال كونها ليست محرزة، وفي هذا إشارة إلى أن الثَّمر والنخل والماشية إذا سُرقت بعد أن جُعلت في المستودع أو في الحظيرة ونحوها فمثلها مثل سائر الأموال؛ فيها قطع بشرطها، إذا اكتملت الشروط الثمانية التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى.
{ثم قال -رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْتَرِيهِ أَوْ يُشْتَرَى بِهِ زَمَنَ مَجَاعَةٍ غَلَاءٍ لَمْ يُقْطَعْ بِسَرِقَةٍ)}.
هذه مسألة مهمة، وهي حال قد يعذر فيها من القطع، وهو حال الاضطرار، وهو خوف الإنسان من الهلكة إن لم يأخذ هذا المال الذي ليس له، فيستنقذ نفسه بذلك، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه لا يقطع، وهذا جاء عن أحمد -رحمه الله تعالى- صريحا في غير ما قول أخذًا بما جاء عن عمر.
وأصل ذلك أنه ليس إيقاف من عمر للحد؛ بل هو قيام المانع من إقامة الحد، وذلك أن من شروط الحد: انتفاء الشبهة، ومن المعلوم أن المضطر يجب إنقاذه على كل مَن علم بحاله، فإذا لم ينقذه وأمكنه استنقاذ نفسه بأخذِ مال غيره كان له ذلك بالقدر الذي يرفع اضطراره ويمنع هلكته، ولأجل ذلك قالوا: إن عموم الولاية بين أهل الإيمان كما في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ ونحو ذلك أن بعضهم يقوم على بعض في مثل تلك الأحوال، فيعود عليه بما زاد من ماله، ويستنقذه مما يكون فيه هلكته، ويحفظه مما يكون به حصول البلاء عليه، فلأجل ذلك قالوا: إنه يكون كما لو كان له حق في ذلك وهذا قدر كافٍ في انتفاء الشبهة، ووجوب النصرة والإعانة وقضاء الحاجة.
{أحسن الله إليكم. انتهى المصنف من هذا الفصل}.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم بعون الله -تبارك وتعالى- في اللقاء القادم. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك