الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7531 33
الدرس الرابع

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، مرحبًا بطلاب العلم، نرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم) ، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، وحيا الله الحاضرين والمستمعين والمشاهدين.
{شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند باب العارية، وابتدأنا في أول مسألتين فيهما تقريبًا}.
نعم، استعن بالله، نُكمل إن شاء الله.
{قال -رحمه الله-: (وَالْعَارِيَةُ سُنَّةٌ، وَكُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ نَفْعًا مُبَاحًا تَصِحُّ إِعَارَتُهُ إِلَّا الْبُضْعَ، وَعَبْدًا مُسْلِمًا لِكَافِرٍ، وَصَيْدًا وَنَحْوَهُ لِمُحْرِمٍ، وَأَمَةً، وَأَمْرَدَ لِغَيْرِ مَأْمُونٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد؛ فنسأل الله -جلّ وعلا- أن يُؤمننا في ديارنا، وأن يُؤمن إخواننا المسلمين، وأن يُبلغنا الخير، وأن يدفع الشرور، وأن يمنع البلايا، وأن يحفظنا من الرزايا، وأن يجعلنا وإياكم في أمنٍ وأمانٍ وتوفيقٍ يا رب العالمين.
جرى الحديث في الدرس الماضي فيما يتعلق بأول باب العارية، وذكرنا أنَّ الأصل حِل الإعارة لكل ما يمكن الانتفاع به ورده، ولذلك قال: (وَكُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ) وقد أشار إلى الكليات، ويدخل فيها أشياء كثيرة، ويتبين الشيء بالمستثنيات والمستثنيات قليلة، فتبقى ما سواها أشياء كثيرة داخلةٌ في حِل الإعارة وإباحتها.
قال: (إلا البُضْعَ) وذكرنا ذلك، وهو أنه من جهة الأصل أن البضع إنما أُحِلَّ للزوج مع الزوجة، والسيد مع الأمة، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [المعارج29-30].
ثم ذكرنا أيضًا من جهة المعنى، أنَّ البضع هو تبع لملك الأمة في الانتفاع ببضعها لا في ملكه، لذلك هم يقولون: الله -جلّ وعلا- أحلَّ له الانتفاع ببضعها، ولكنه لا يملكه، ولذلك ليس للزوج أن يتصدق ببُضع زوجته، ولا أن يُؤجرها، ولا أن يَبذلها لأحدٍ بعاريةٍ أو سواها.
وكذلك أيضًا مِلك اليمين، فإنه إنما وهو انتفاعٌ بالبضع، فهو من جهةٍ لا يدخل في الملك، وبناءً على ذلك لو أَعَارَ أَمةً لأن تخدم شخصًا، أو تُعين مريضًا، أو تقوم ببعض طبخٍ جاز، ولكنه ليس للمستعير أن ينتفع بها بالتمتع بجسدها أو جماعها؛ لأنه لا يملك أصلاً المالك ذلك، وإنما له أن ينتفع بها، وهذه من المحرم إعارتها، أو دخولها في الإعارة من حيث الحقيقة والحكم.
قال: (وَعَبْدًا مُسْلِمًا لِكَافِرٍ) لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، وَجَعْلُ عبدٍ مسلم تحت كافر تكون للكافر ولايةٌ عليه وأمرٌ ونهي، فلأجل ذلك لا يصح، لئلا يَدخل في مخالفة هذا الحديث، لكن هذا مخصوصٌ بماذا؟
بأن تكون الإعارة للكافر لخدمته، وأمَّا إذا كان لإيصال طعامٍ مثلًا، أو لشيءٍ لا يتعلق بذات الكافر، فلا يدخل في النهي، ولا يكون محرمًا في مثل هذه الحالة.
قال: (وَصَيْدًا وَنَحْوَهُ لِمُحْرِمٍ) ، المحرم لا يجوز له أن يصطاد، وكذلك لا يجوز له أن يُمسك الصيد بيدهِ الحقيقية، فلو كان بيده لوجب عليه أن يتركه، فلأجل ذلك أيضًا لا يجوز أن يُعار له صيدٌ؛ لأن ذلك يُفضي إلى أن يمسك ما لا يجوز له إمساكه، ويجب عليه إطلاقه.
قال: (وَأَمَةً، وَأَمْرَدَ لِغَيْرِ مَأْمُونٍ) العبد الأمرد أو الأمة من حيث الأصل يجوز إعارتهم، ولكن لو أعرناهم لشخصٍ فيه فسقٌ أو فيه فسادٌ، أو لم يعرف بأمانة، فيخشى أن يتجرأ على الأمة ويستغل ضعفها، وكون مالكها قد أعارها فيتلاعب بها، أو يفعل بها المحرم من فاحشةٍ أو ما يسبق ذلك من مقدماتها.
فلأجل ذلك قالوا: لا يجوز، وبابهُ باب سد الذرائع، وسد الذرائع في الشرع معلومٌ ما جاء فيه من الأدلة، ومقررٌ عند أهل العلم قاطبة، ولا يختلفون في ذلك، وإنما خَلَفَتْ خلوف أرادوا التشهي والوقوع في المحرمات، فدخلوا في مثل هذه المسألة بما لا يفيد، وليس هذا محل بحثه أو استقصاء الكلام عليه، ولكن هذا بابه باب سد الذرائع.
وحتى النهي عن النظر ونحوه، إنما هو لِمَا قد يتمادى على الإنسان من الشر، فلأجل ذلك نُهي عنه، لا لأجل حرمة النظر من حيث الأصل، ولأجل ذلك قالوا: إذا لم يكن مأمونًا فلا يحل إعارتهم، وإن كان من حيث الأصل يجوز.
والتعلق بالمردان يعد بلية الزمان الأول، ولم تزل في الزمان المتأخر، وجعلها الغرب فتنةً، وابتلاءً يبتلون به الناس، وهذا من تصوير الشيطان، ومن تغيرات الزمان، وينبغي الحذر من ذلك، وعدم الدخول في مثل هذه الأبواب، أو مقدماتها، أو التغاضي فيها، فإنه بابٌ تنتكس فيه الفطرة، ويقع فيه الشر، ويحصل منه على البلاد والعباد بلاءٌ وشرٌ كثير.
والله قد منَّ علينا بما يمنعنا من ذلك فطرةً ومروءةً وديانةً، وفَتَحَ لنا من أبواب الحلال والخير ما يدفع هذا الباب ويمنعه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتُضْمَنُ مُطْلَقًا بِمِثْلِ مِثْلِيّ، وَقِيمَةِ غَيْرِهِ يَوْمَ تَلَفٍ، لَا إِنْ تَلِفَتْ بِاسْتِعْمَالٍ بِمَعْرُوفٍ كَخَمْلِ مِنْشَفَةٍ، وَلَا إِنْ كَانَتْ وَقْفًا كَكُتُبِ عِلْمٍ؛ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ، وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهَا)}.
قال: (وَتُضْمَنُ مُطْلَقًا) أي أنَّ العارية تُضمن مُطلقًا، بمعنى: لو أنَّ شخصًا أخذ هذه العارية فسرقت منه، أو أتلفها ولده، أو اعتدى عليها شخصٌ بغصبٍ أو سوى ذلك، فيضمنها لِمَا جاء في الحديث من كونها عاريةٌ مضمونة.
متى لا تُضمن؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لَا إِنْ تَلِفَتْ بِاسْتِعْمَالٍ بِمَعْرُوفٍ) ، يعني: لو أنَّ شخصًا أعطاك هذه السيارة، فسرقت من باب بيتك، فتضمنها حتى ولو لم يكن منك تعدٍ ولا تفريط؛ لأنَّ العارية مضمونة، وهذا حتى يتجاسر الناس على الإعارة وغيرها، وتطمئن على ذلك نفوسهم.
ولكن لو أنَّ شخصًا أخذ هذه السيارة، فمشى بها في عرض الطريق فتلفت، انفجرت محركاتها، لا بسبب من قائدها، فهو قد أباح له أن ينتفع بها، ويترتب على ذلك تلفها، فإذا كان تلفها من سببٍ مباحٍ، فبناءً على ذلك لا ضمان فيه.
ولكن لو أنه قادها بتهور، أو فَعَلَ ما لا يُفعل به هذه السيارة، كذلك لو أن إطاراتها انفجرت وتقطعت، فالأصل أنها لا تُضمن؛ لأنه إنما أذن لك أن تمشي بها، ولكن لو أنه جرى بها على حد أحجارٍ ليست العادة أن تمشي عليها السيارات، فنقول: هذا تعدٍ، وبناءً على ذلك يضمن.
إذًا العارية من حيث الأصل مضمونة، ولكن هو أَذِنَ له في الانتفاع بها، فإذا كان تلفها من جهة ما أُذن فيه من الانتفاع، فإنه ما ترتب على المباح والإذن في إتلافه لا ضمان فيه، وبناءً على ذلك كأنه لم يكن منه سببٌ، وكأن صاحبها أذن، كما لو كان هو قائدها وتلفت بيده فكذلك هنا، فلأجل ذلك قالوا: لا ضمان في مثل هذه الحالة.
طريقة الضمان: المثل بالمثلِ، والمثليات فيما مضى قليلة، وقد تقدم الكلام عليها، وما لا مثل له كالقيميات وهي كثيرة، وهي الآن في الأشياء النادرة، في الأشياء التي ليست مصنعة تصنيعًا آلياً؛ لأنَّ المصنعات آليًا يَكثر مثيلاتها، فبناءً على ذلك يُرجع إلى قيمتها إذا احتاج إلى ذلك.
قال: (وَلَا إِنْ كَانَتْ وَقْفًا كَكُتُبِ عِلْمٍ؛ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ) ، كذلك لو كانت كتب علم، فإنَّ الأصل أنه أُذن له في التصرف فيها، وبناءً على ذلك قالوا: لا ضمان فيها؛ لأنها موقوفةٌ عليهم على العموم، وليست على الخصوص.
طبعًا قال: (إلا بتفريط) إذا فرطت ضمن.
(وَعَلِيهِ مُؤنَة ردهَا) كذلك أي عاريةٍ احتاجت إلى صاحبها، فالإنسان يتحملها، فإذا أوصلها بالبريد، أو نقلها بحاملٍ يحملها، أو أرسل بها سيارة أجرة، أو نحو ذلك؛ كل ذلك يتحمله المستعير.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَرْكَبَ مُنْقَطِعًا لِلَّهِ لَمْ يَضْمَنْ)}.
قال: (وَإِنْ أَرْكَبَ مُنْقَطِعًا لِلَّهِ لَمْ يَضْمَنْ) ، يعني يقول: لو أنه أركب منقطعًا لله فتلفت الدابة في تلك الحال، فنقول في مثل هذه الحال: هل الصورة صورة عارية أو لا؟ فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يقول في مثل هذه الحالة: وإن كان راكبًا عليها، فإنه لم يسلمها له، وبناءً على ذلك هي لم تدخل أصلاً في كونها عاريةً، وبناءً على ذلك لم يضمن.
وبعضهم يقول: لا يُحتاج إلى هذا التخصيص، وهو أن يقال منقطعًا لله، بل كل ما كان فيه انتفاع أحدٍ، لكن لا على سبيل الإعارة، كما لو أركبه بإزائهِ، فيد صاحبها لم تزل موجودةً، وبناءً على ذلك لا يكون لمثل ذلك التلف ضمان من جهة أنها لم تدخل في حكم العارية، ويدخل ذلك في حكم الضمان المطلق.
{ثم قال -رحمه الله-: (فصلٌ في الْغَصْبُ)}.
هذا الفصل الآن لعلكم تلحظون أيها الطلاب أن المؤلفة -رحمه الله تعالى- ذكر المعاوضات، ثم ذكر المسابقات وما فيها من بذل، ومتى يجوز على سبيل الاستثناء، ثم تكلم على النفع المباح وأحكامه.
الآن الحكم فيما إذا كان فيه تسلطٌ على أخذ الأعيان أو الانتفاع بها، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- تدرج في بيان ما يجوز وما لا يجوز، وما يدخل في المباح، وما يدخل في المعاوضة اللازمة، وما يدخل في غيرها، والأحكام المتعلقة في كل حالٍ من تلك الأحوال، إلى أن ذكر الاعتداء والتسلط بوجهٍ من الوجوه.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: حقيقة الغصب استيلاء غير الحربي على حق مسلمٍ، أو على حق غيره ممن هو معصومٌ، وبناءً على ذلك إذا اعتدى عليه بغير حقٍ دخل في باب الغصب، وهو من الكبائر، وهو من الأمور العظائم، ومن المحرمات التي تكاثرت الأدلة بالمنع منها، وتعظيم فاعلها.
والنبي ذكر مثلًا «بما يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟»[1]، وذكر أيضًا «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِن سَبْعِ أرَضِينَ»[2]، إلى أدلة في ذلك كثيرة لا يختلف أهل العلم في أن أموال الناس محفوظةُ معصومة، كما جاء في حديث النبي في خطبة يوم عرفة: «إنَّ دِماءَكم، وأمْوالَكم، وأعْراضَكم عليكم حَرامٌ كحُرْمةِ يَومِكم هذا، في بَلدِكم هذا، في شَهرِكم هذا»[3]، فَعَظَّمَ أمر الأموال وحرمتها، كما عَظَّمَ حرمة الدماء والأعراض وبينّها وحققها، فلا يختلف شيءٍ من ذلك في حفظه.
ولذلك قال: «منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ»[4]، فإذًا لو غاصبه أو مانعه، فإنه لا غضاضة على الإنسان في أن يُدافع عن ماله ولو أودى ذلك بحياته، وإن كان لأهل العلم كلامٌ في أن الأولى إذا كان المدافع لأجل المال أن يُخلي بينه وبينه حفظًا لنفسه؛ لئلا يتلف دون ذلك، فما يترتب عليه من حفظ نفسه أعظم مما يفوت عليه من ماله.
فعلى كل حال: إذًا هو شيءٌ عظيم وأمرٌ كبير، وقد جاءت الأدلة بهذا المعنى، والشرع جاء بحفظ الأموال للمعصومين، وعدم الاعتداء عليها، طبعًا إلا في الحرب والحربي ونحو ذلك، فهذه لها أحكامٌ مرت في باب الجهاد، وجواز أخذها على سبيل الغنيمة، وما يتركونه على سبيل الفيء، ويدخل في أحكام بيت مال المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْغَصْبُ كَبِيرَةٌ، فَمَنْ غَصَبَ كَلْبًا يُقْتَنَى، أَوْ خَمْرَ ذِمِّيٍّ مُحْتَرَمَةً؛ رَدَّهُمَا، لَا جِلْدَ مَيْتَةٍ. وَإِتْلَافُ الثَّلَاثَةِ هَدَرٌ)}.
إذًا لا يخلو الإنسان من أنه إمَّا أن يَغصب مالًا أو غير مال، فغصب المال واضح، وما يترتب عليه من أنه حرام، وأنه يلزمه الرد، وأنه آثمُ في ذلك، ويترتب على ذلك آثارٌ ربما يذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- جملةً منها.
المؤلف -رحمه الله- أراد أن يُبين ما لا يدخل في المال، وهي التي تسمى عند فقهاء الحنابلة بالاختصاصات التي يجوز للإنسان أن ينتفع بها، ولكن ليس له أن يبيعها، وَمِثلُ ذلك الكلب الذي يُقتنى، الكلب المعلم الذي يُتخذ لحراسة مزرعةٍ أو رعي، أو نحوه، فلو أنَّ شخصًا أخذه من صاحبه، فهذا على سبيل الاستيلاء والقوة، طبعًا كل كلامنا في الغصب على سبيل الاستيلاء والقوة؛ لأن ما أخذ خُفيةً فهو سرقة، وما أخذ خلسةً فهو نهبة، والنهبة والخلسة لا تدخل في باب الغصب، وإن كانت محرمة.
ولكن السرقة لها أحكام من جهة القطع، وهذه لها أحكام من جهة الحرمة والمنع، والغصب أعظم من النهبة لِمَا فيه من التسلط، وما فيه من الظلم والعدوان والقهر، فيكون أعظم في ذلك، وإن استوت جميعها في أنها استيلاءٌ على مالٍ بطريقٍ محرمٍ، فيكون صاحبها آثمٌ.
فإذًا خمر الذمي محترمة؛ لأننا نقره عليها، لكننا لا نعاوض عليها، وليس لها قيمةٌ عندنا؛ لأن المال لا تدخل في اسم المال عندنا؛ لأنه ما جاز نفعه بلا حاجة أو بغير ضرورة، وبناءً على ذلك لا تدخل فيه.
فيلزم رده، كل من أخذ من الذمي ذلك رده، ومن أخذ من شخصٍ كلبه رده إليه، ولكنها لو تلفت فلا قيمة لها؛ لأنها ليست بداخلةٍ في الأموال، فلا تُقابل بشيءٍ يُرد عوضه.
طبعًا بعضهم ذكر في ذلك تفاصيل فيما يلزم لمن أخذ خمر ذمي، وما يرد بدله ونحوه، ولكن هذه مسائل ربما لا ندخل في تفاصيلها.
قال: (لَا جِلْدَ مَيْتَةٍ) ، فجلد الميتة هل هو مما ينتفع به؟ هل يدخل في الغصب أو لا؟
طبعًا هم لا يحكمون بطهارته، ولكنهم يجيزون الانتفاع به في اليابسات، فبعضهم قال: إنه لا يدخل في الغصب؛ لأنه ليس بمال ولا يباع، ونحو ذلك، وربما قيل -وجرى على ذلك كثيرٌ من المحققين- إنه لَمَّا كان يُنتفع به في أحوالٍ خاصة، فإنه يدخل في ذلك، فلا يجوز الاعتداء عليه ولا غصبه، ويدخل في الأحكام التي ذكرها الفقهاء في ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وإتلاف الثَّلَاثَة هدر، وإن استولى على حرٍ مُسلم لم يضمنهُ بل ثِيَاب صَغِير وحليه) }
قال: (وَإِتْلَافُ الثَّلَاثَةِ هَدَرٌ) ، كما قلنا: إنها ليست داخلةٌ في اسم الأموال، وذكرنا أن في هذا كلامٌ.
قال: (وَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ مُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْهُ) ، هنا يُبين كما يقول الفقهاء: [وبضدها تتبين الأشياء]، فهنا أشياء قد تكون صورتها صورة الغصب، ولكنها ليست بغصب، فيقول: (وَإِنْ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ مُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْهُ) لماذا؟ لأنَّ الحر المسلم لا يُباع، فما دام أنه لا يباع فمعنى ذلك أنه لا يُملك، وبناءً على ذلك لا يكون فيه غصبٌ، فحتى ولو جاءت عليه يد هذا، فإنها لا تعد يدًا مالكة، وليس مال ذاهب، وبناءً على ذلك لا ضمان فيه، ولهذا قال: (لَمْ يَضْمَنْهُ) باعتبار أنه ليس بداخلٍ في الأموال.
قال: (بَلْ ثِيَابِ صَغِيرٍ وَحُلِيِّهِ) لو أنه أيضًا استولى على صغير، فهذا الصغير عليه ثياب وحُلي، فهذه الثياب والحلي مال، وبناءً على ذلك كما لو كان قد غصبها.
أمَّا الكبير عليه الثياب؟ نقول: الثياب التي على الكبير لم تزل في قبضة الكبير، ولو أنه خلعها منه فنقول في مثل هذه الحال: هذا غصبٌ له، ولكن ما دامت عليه، فهي داخلةٌ في التبع في أنها تحت يدي صاحبها، وبناءً على ذلك لم يتعلق بها، وأمَّا الصغير؛ لأنه لا ولاية له على نفسه، فإذا استولى عليه، فكأنه قد غصب حليه وما عليه من ثياب.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ كُرْهًا أَوْ حَبَسَهُ؛ فَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ كَقِنٍّ) }.
إذا استعمله فهنا انتفع به، وهذا الانتفاع انتفاعٌ محرم، والأصل أنَّ النفع المباح يُباع ويُشترى، فلو أنَّ شخصًا حمل على ظهره متاعًا لآخر وأخذ مقابل ذلك فلا بأس؛ لأنَّ هذا نفعٌ يقابل عليه ويعاوض، وبناءً على ذلك يقول: لو استعمل الغاصب هذا الحر الذي أخذه، فكأنما قد استولى على منفعته وغصبها، وبناءً على ذلك يجب عليه المعاوضة عليها ودفع بدلها.
أو قال: (حَبَسَهُ) ، إذا حبسه فكأنه منع نفعه، فإذا كان مثلًا العادة أن الإنسان ينتفع بنفسه في اليوم مثلاً بمائة ريال، يستطيع أن يعمل ببدنه فَيُحَصِّل مائة ريال، وهذا قد حبسه شهرًا، فكأنه منعه أن ينتفع بهذه الأشياء، فبناءً على ذلك يلزمه أجرة شهرٍ، كما لو كان هذا يُؤاجر نفسه.
قال: (أَوْ حَبَسَهُ؛ فَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ كَقِنٍّ) ، فننظر كم أجرتك في مثل تلك الحال؟
{ثم قال –رحمه الله-: (وَيلْزمهُ رد مَغْصُوب بِزِيَادَتِهِ وإن نقص لغير تغير سعرٍ فَعَلَيهِ أرشه)}.
قال: (وَيلْزمهُ رد مَغْصُوب بِزِيَادَتِهِ) ، فهذا المغصوب وما نمى عنه من نماءٍ منفصل أو متصل، فهو تابعٌ لأصله، فبناءً على ذلك ليس له فيه حقٌ بأي وجهٍ من الوجوه، فلو أن هذه مثلاً الدابة سمنت أو وضعت حملها أو آجرها فكسب بها مالًا، وقال أنا تعبت، نقول: كل ذلك لا يجدي على صاحبه شيئًا، بخلاف ما لو كان قد باعهُ ثم رجع في البيع، فهذه لها أحكامٌ غير هذه، هنا هو ظالمٌ بإمساك يده، فكل ما ترتب على هذه العين فهو تبعٌ للعين، وبناءً على ذلك تُرد مع العين إلى صاحبها.
قال: (وَإِنْ نَقَصَ) نقصت هذه العين لا يخلو أن نقص هذه العين من جهة السوق، فهذا لا نقص فيها؛ لأن هذه رغبات الناس وزيادةٌ، واليوم تنقص وغدا تزيد، ولكن إذا كان من جهة الغاصب كما لو كانت قد قص شعر الجارية، أو غير فيها، أو نحو ذلك.. فنقول في مثل هذه الحالة: هو الذي عليه الأرش؛ لأنه هو الذي تسبب فيها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ؛ لَزِمَهُ قَلْعٌ، وَأَرْشُ نَقْصٍ، وَتَسْوِيَةُ أَرْضٍ، وَالْأُجْرَةُ)}.
(وَإِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ؛ لَزِمَهُ قَلْعٌ) ؛ لأنه هو الذي أحدث، وإحداثه بغير حق، فبناءً على ذلك ما بنى فيزيله، وما كان من غرسٍ فيقلعه، وكذلك هذه الأرض التي صار فيها هذا، فاستعمال هذا ينقص قيمتها، فنقول: يلزمه (أَرْشُ نَقْصٍ، وَتَسْوِيَةُ أَرْضٍ) فلا يكون فيها حفرٌ، ولا يبقى فيها مخلفات بناءٍ، ولا غير ذلك.
والأجرة؛ لأنه أيضُا فوَّت نفعها، فإنها لو كانت بيد صاحبها لربما أجرها هذه الأيام فانتفعت، فنقول بناءً على ذلك: عليه أجرة هذه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَوْ غَصَبَ مَا اتَّجَر، أَوْ صَادَ، أَوْ حَصَدَ بِهِ؛ فَمَهْمَا حَصَلَ بِذَلِكَ فَلِمَالِكِهِ)}.
الحقيقة أنه يقول: (وَلَوْ غَصَبَ مَا اتَّجَر، أَوْ صَادَ، أَوْ حَصَدَ بِهِ؛ فَمَهْمَا حَصَلَ بِذَلِكَ فَلِمَالِكِهِ) ، في مثل هذه الحالة لو أنَّ شخصًا غصب عشرة من البهائم مثلاً فاتجر بها، باع واشترى ونحو ذلك، فهي وما تَحَصَّلَ من ذلك، فهي نماءٌ لهذا المال، وبناءً على ذلك ليس هو أثر فعله، وإنما أثرُ لهذا المال فيكون لصاحبهِ.
كذلك لو صاد به هذه المصيدة، فهي أيضًا أثرُ لهذه المصيدة، فبناءً على ذلك تبعٌ لها.
ولو حصد يعني: كان معه آلةٌ يقطع بها الحشائش وغيرها، فظاهر كلامهِ هنا أنها كذلك، وإن كان هذا له عند الفقهاء خلافٌ، والمذهب عندهم أنه هو أثر فعله، وإنما استعان بهذه الآلة، وبناءً على ذلك قالوا: إنها تكون له، وليس ببعيدٍ ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ خَلَطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مِلْكِيهِمَا وَإِنْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ ضمنَ)}.
لكن عند الفقهاء أيضًا أنه لو حصد بهذه فيرون بالمناسبة، حتى ولو قلنا من أنه له، لكن عليه أجرة الاستعمال لها.
قال: (وَإِنْ خَلَطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مِلْكِيهِمَا) ، وهذا ظاهر، من حيث أنَّ الفقهاء يقولون: إنها أموال تداخلت، فنحن وإن قلنا: إن الغاصب ظالم، والغاصب فاعل الكبيرة، لكن لا يعني ذلك أنه يُستباح ماله، فكما أننا لا نُبيح له مال غيره، فكذلك نحن هنا لا نُذهب عليه ما أنفق من مالهِ في هذه السلعة؛ حتى صارت بهذه الطريقة.
وبناءً على ذلك يقولون: (وَإِنْ خَلَطَهُ بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ أَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ فَهُمَا شَرِيكَانِ) ، فكلٌ بقدره، فلا ظلم على صاحب المال المغصوب منه، ولا ظلم على الغاصب، وإن كان الغاصب ظالِمًا وآثمًا ويستحق التعزير، ولكن الْمِلك كلٌ له حقه.
ولكن إن نقصت القيمة ضمن، يعني لو كان هذا الصبع حتى ولو أنفق فيهما ونقص، كان من أول الناس يمكن أن ينتفعُ به بأكثر من طريقة، ولكن لَمَّا صُبِغَ لا يمكن الانتفاع به إلا على هذا الوجه، أو كان هذا الصبغ فيه قبحٌ أو غير ذلك.
فإذًا نحن نضمن لصاحب المال أن لا ينقص ماله، فلو نقص فهو نقص بسبب الغصب، وبناءً على ذلك عليه الضمان، ويلزمه ما نقص في تلك الحال.
{قال -رحمه الله-: (فصلٌ في تصرفات الغاصب، وَمن اشْترى أرضًا فغرس أوْ بنى ثمَّ اسْتحقَّت وَقلع ذَلِك رَجَعَ على بَائِع بِمَا غرمه)}.
يعني هذا كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر هذا الفصل في الغاصب وما ماثله، يعني ممن استُحِق هذا الشيء الذي دخل عليه، فيقول: من اشترى أرضًا، هنا قال: (وَمن اشْترى أرضًا) هو ما كان منه اعتداء، وما كان منه ظلمٌ.
(فغرس أوْ بنى ثمَّ اسْتحقَّ) وما معنى ذلك؟
يعني أنني لما اشتريت هذه الأرض، البائع كان أصلًا لا يستحقها، كانت هي ملكًا لأبيه فاستأثر بها دون إخوانه، وقالوا هي إرث، ونحن لا نحل لك بيعها. أو كانت أيضًا يظن أنها قد استحقها بالشراء وكان الشراء لم يتم، فبناء على ذلك هي لمالكٍ سابق، ولم تنتقل إلى ملكه، فكونه باعها أو تصرف فيها فتصرفه باطل، وهذا الشراء تبين أنه لا وجه له أو أنه باطل، لكن هذا المشتري الذي عمل واستهدف وبنى وغرس، لم يكن منه تقصير، لم يكن منه ما يوجب تفويت ماله.
فبناءً على ذلك نقول: الأرض ترجع إلى صاحبها، ولكن أنت أيها البائع الذي تسببت على المشتري بهذه الخسائر، وبناءً على ذلك يلزمك الضمان، ولذلك قال: هي استحقت نقلع الشجر، ونهدم البناء، ونعيد الأرض إلى صاحبها، ثم ما حصل على المشتري من نقص؛ فإنه على بائعٍ يغرمه بما نقص تمامًا، ولا يلحق المشتري شيئًا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَطْعَمَهُ لِعَالَمٍ بِغَصْبِهِ؛ ضَمِنَ آكِلٌ)}.
قال: (وَإِنْ أَطْعَمَهُ لِعَالَمٍ بِغَصْبِهِ؛ ضَمِنَ آكِلٌ) ، لو أنَّ شخصًا غصب هذا الطعام ثم أعطاه آخر، وهو يعلم أنه مغصوب، فكأنه وافق على أن يتلف هذا وأن يشارك الغاصب، وبناءً على ذلك يكون الإتلاف على الآكل والضمان عليه؛ لأنه أيضًا مشاركٌ له، بخلاف ما لو لم يعلم، إذا لم يكن عالمٌ فليس عليه شيءٌ.
لكن هنا مسألة: وهو أنَّ هذا الغاصب الذي أخذ هذا المال، ثم أعطاه هذا فأكله، الضمان يكون على الاثنين؛ هذا لأنه غاصبٌ، وهذا لأنه آكل، فكأنه أيضًا وافق الغاصب في غصبه، فلهذا أن يطالب الغاصب، وله أن يطالب الآكل، ولكن يستقر الضمان على الآكل؛ لأنه هو الذي أتلفه وأذهبه.
{يعني على واحدٍ منهما ليس عليهما}.
له أن يطالب أي واحدٍ منهما، ولكن لو طالب الغاصب فللغاصب أن يعود على الآكل، فلو قال لا أنت أعطيتني، يقول: أنت عارف أنه ليس لي، وأنك تسلطت عليه، فكما لو قصدت إتلافه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيُضْمَنُ مِثْلِيٌّ بِمِثْلِهِ، وَغَيْرُهُ بِقِيمَتِهِ)}.
 كما قلنا سابقًا: المثل بمثله، وإن كانت المثليات عند الفقهاء محدودةٌ على ما جاء فيما مضى، لكنها في هذا الوقت كثيرةٌ، فما له مثلٌ وأمكن فالحمد لله، وما ليس له مثلٌ وهذا في هذا الزمان مثل الأشياء النادرة ونحوها فبقيمته، ويقومه أهل الخبرة بما يستحقه يوم غصبه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ تَصَرُّفُ غَاصِبٍ بِمَغْصُوبٍ وَلَا يَصِحُّ عَقْدٌ، وَلَا عِبَادَةٌ)}.
(وَحَرُمَ تَصَرُّفُ غَاصِبٍ بِمَغْصُوبٍ) ، أي تصرف من تصرفات الغاصب لا حُكم له، فإذا تصدق به، أو باعه، أو وهبه، أو أعاره؛ فكلها تصرفاتٌ لا تصح، ولذلك قال: (وَلَا يَصِحُّ عَقْدٌ) ، لكن هنا المؤلف -رحمه الله تعالى- نَبَّهَ على الأمرين جميعًا:
•  على الأحكام التكليفية من حيث الفعل، فالغاصب محرم عليه وهو آثم؛ لأنَّ أثر التحريم هو الإثم واستحقاق العقاب.
•  ومن جهة الأحكام الوضعية وهو ما يترتب على هذا؛ فإنه لا أثر لفعله، وبناءً على ذلك لا يصح العقد، حتى ولو غصب هذا البيت، ثم عمل عقد إجارة، فنقول: لا يصح.
صلى بهذا الثوب الذي غصبه، فالعبادة لا تصح؛ لأنها سترةٌ بثوبٌ مغصوب، فكما لو لم يستتر؛ ولأنَّ الفقهاء -وهذا عند الحنابلة- أنَّ "النهي عن الشيء يقتضي الفساد"، وبناء على ذلك أفسدوا العبادة، وهذا طبعًا خلافُ بين الحنابلة والجمهور الذين يقولون: له جهتان منفصلتان:
-      جهة الغصب فهي محرمة.
-      وجهة الصلاة فهي صحيحة، فتصح الصلاة مع الإثم، وهذا خلاف الحنابلة، ولكن قول الحنابلة فيه تأديب، وفيه إظهار لعدم التجاوزات في مثل هذه الأمور والتغييب منها وتعظيمها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا يَصِحُّ عَقْدٌ، وَلَا عِبَادَةٌ، وَالْقَوْلُ فِي تَالِفٍ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ قَوْلُهُ، وَفِي رَدِّهِ وَعَيْبٍ فِيهِ قَوْلُ رَبِّهِ)}.
(وَالْقَوْلُ فِي تَالِفٍ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ قَوْلُهُ) ؛ لأنه هو المتلف، فبناءً على ذلك إذا كان تم بينة للمغصوب منه فهو على البينة، ولكن ما فيه بينة، قال الغاصب: أنا إنما غصبت آلة مثلًا توليد الكهرباء واحدةً، وقال لا، هو غصب اثنين، نقول: القول قوله في القدر التالف.
(وصِفَتِهِ) ، قال: أنا غصبت الآلة التي فيها عشرة محركات أو نحوها، قال: لا هو غصب التي فيها عشرين، فنقول: القول قول الغاصب وهكذا.
قال: (وَفِي رَدِّهِ وَعَيْبٍ فِيهِ قَوْلُ رَبِّهِ) ، إذًا لو قال: أنا رددته، أنا غصبته لكن رددته، فالأصل أنه لما غصبه الأصل أنه لم يرده، وبناءً على ذلك إن أقام بينةً على الرد فقُبل، إن لم تكن بينة فالقول قول صاحبها؛ لأنها لم تُرد إليه، وبناءً على ذلك يلزمه ردها.
وكذلك لو قال: إنها معيبة، قال صاحب المال المغصوب منه ليست معيبة وهي تعمل وأحسن ما تكون، فالأصل أنها معيبةُ أو صالحة؟ الأصل أنها صالحة، وبناءً على ذلك إما أن يُقيم الغاصب أنها كانت معيبة بذلك بينةً ظاهرة، وإلا فإن القول قول ربها، يحلف على ذلك ويستحقها، كما لو كانت صحيحةً لا عيب بها ولا نقص.
{هنا يا شيخ الآن أيضًا في باب الغصب (فالقول قول رب المال الأصلي) أليس كذلك؟ من الفروقات؛ حتى يتبين لطالب العلم}.
الفروقات بين ماذا وماذا؟
كما ذكرنا قبله في باب الإجارة، الإجارة قول المستأجر.
المنازعات بابها بابٌ كبير، والإشكال فيها كثيرُ، ولأجل ذلك في نهاية كل باب يذكرون محل التنازع مَنْ جانبه الأقوى؛ لأن مَنْ جانبه الأقوى هو الذي تكون اليمين في حقه، فتحقيق من جانبه الأقوى: إما باعتبار الأصل، أو باعتبار الظاهر، أو بما يقارب ذلك من الاعتبارات؛ هذه تحقيقها والتدقيق فيها يصير فيه تفاوتٌ وأخذٌ وردٌ واختلاف نظر.
فلذلك الفقهاء يحرصون على تقرير ذلك لبيان من جانبه الأقوى في كل مسألةٍ بحسبها، فيجعلون القول قوله واليمين إليه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ بِيَدِهِ غَصْبٌ، أَوْ غَيْرُهُ، وَجَهِلَ رَبَّهُ؛ فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهِ عَنْهُ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ، وَيَسْقُطُ إِثْمُ غَصْبٍ)}.
يعني لو أنَّ شخصًا غصب، ثم تاب من غصبه، ولحقه في ذلك الندم والأسف، ولكنه لم يجد صاحب المتاع، فبناءً على هذا يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: يتصدق عنه بنية الضمان.
ما معنى يتصدق بنية الضمان؟ يعني أنه إذا تصدق به عنه ليس تبرأ ذمته من كل وجه، بل لو جاء صاحبه أو تعرف عليه، فالضمان باقٍ في ذمته، فيلزمه أن يدفع، ولو كان قد تصدق.
لو قال تصدقت عنك فقَبل، فهذا إليه وقد أسقط حقه، ولكن من حيث الأصل أنه باق في ذمته، وإنما أن الغاصبَ إذا تصدق عنه تخفف من الإثم، وتقلل من التبعة التي هي جِراء فعله وجريرته وغصبه لمال غيره.
ولذلك قال: (وَيَسْقُطُ إِثْمُ غَصْبٍ) ، لكن لا ينفك من الضمان إذا وُجد صاحب ذلك المال؛ لأنَّ هذا هو المتعلق بحقه أصالةً.
{لكنها تبرأ ذمتهِ إذا أعادها لمالكه الأصلي}.
نعم، هذا بلا شك تبرأ ذمته من حيث التبعة، ولكن لابد من التوبة، وأن يسمح عن صاحب المال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَتْلَفَ -وَلَوْ سَهْوًا- مُحْتَرَمًا؛ ضَمِنَهُ)}.
كما أنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر الغصب والاعتداء بقصدٍ ونحوه، أراد أن يُبين أن الأموال محترمة، وبناءً على ذلك لو طالت يد إنسانٍ ولو سهوًا فعليه الضمان؛ لأن الأموال محترمةٌ في مِلك أصحابها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ رَبَطَ دَابَّةً بِطَرِيقٍ ضَيِّقٍ؛ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَتْهُ مُطْلَقًا)}.
إذا ربط دابةً فهذا عُرضةٌ لأن يمنع المارة من الانتفاع بالطريق، فكأنه فَوَّتَ عليهم منفعة الانتفاع بهذا الطريق، فكما لو تسبب عليهم بهذا الأذى، فيلحقهم الضمان في مثل تلك الحال.
وهذه المسائل التي ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- هي أصلٌ فيما يتعلق بأحكام الطرق، ومرور السيارات وما ماثلها، ولهم في هذا تفصيلاتٌ نفيسةٌ لا يستغني الطالب عن النظر فيها، وهذا أيضًا يتبين بالمسألة التي تليها.
{(وَإِنْ كَانَتْ بِيَدِ رَاكِبٍ، أَوْ قَائِدٍ، أَوْ سَائِقٍ؛ ضَمِنَ جِنَايَةَ مَقْدِمِهَا، وَوَطْئِهَا بِرِجْلِهَا)}.
إذًا هذا في أحكام الدواب إذا كانت بيد أصحابها، وأيدي أصحابها لا تنفك من ثلاث أحوال:
-      إمَّا أن يكون راكبًا عليها.
-      وإمَّا أن يكون صاحب الدابة قائدًا لها بأن يكون أمامها وممسكًا بخطامها وتسير وراءه.
-      وإمَّا أن يكون سائقها، وسائقها يكون خلفها، ويمشيها ببعض ما يُصدر من صوت، وربما ما يكون معه من صوت يحركها ونحو ذلك.
ففي مثل هذه الحال يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لو حصل منها إتلاف لبعض الأشياء (ضَمِنَ جِنَايَةَ مَقْدِمِهَا، وَوَطْئِهَا بِرِجْلِهَا) .
معنى ذلك: أنَّ ما تُتلفه بمؤخرها فلا ضمان عليه، لماذا؟
يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: لأنه يستطيع التحكم في مقدمها، فيستطيع إذا لو أرادت أن تعض أحدًا أن يُمسك بخطامها، وأن يشده إليه فتمتنع، فكما لو كان قد فَرَّطَ أو كما لو كان ذلك بسببٍ منه إذا أخل بينها وبين مثل تلك الجنايات.
وكذلك هو الذي يستطيع إذا أرادت أن تحرك رجلها في جنايةٍ أو لا أن يمنعها، وإذا أرادت أن تطأ شيئَا من الأموال فتتلفه أو تفسده أو نحو ذلك أن يمنعه، فيستطيع أن يلتف بها يمينًا أو شمالًا أو يحرفها عن محل التلف، فبناءً على ذلك يقدر، لكنه لا يستطيع الآن مهما كان له عليها من قوة ما ترفس برجلها.
وبناءً على ذلك هو لا يستطيع أن يتحكم فيها، فلا ضمان عليه في مثل تلك الحال، وبناءً على هذا من كان يراها أمامه عليه أن يحتاط فيبتعد لئلا يكن منها جنايةٌ عليه، ولأجل هذا قال النبي : «العَجْمَاءُ جُبَارٌ»[5]، أو «هدر»، يعني: أنه ليس لصاحبها تصرفٌ فيها، فليس عليه ضمان في ذلك.
ومثل ما قلنا لكم: مثل هذه المسائل الحقيقة لو نَظرتم في المطولات، ولو راجع بعض الطلبة ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- من أمثلة في السفن إذا تقابلتا وأتلفت إحداهما الأخرى، وهذا يحصل كثيرًا في باب السيارات وما يتعلق بها، فقد ذكروا أحكامًا نافعة مفيدة لكل ما يكون من تلفيات، ومن اصطدام، ومن آثار، ومن تراتيب تترتب على هذه الطرق، وما يحصل فيها من أثر.
ولأجل ذلك: لو رأيتم أن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يذكرون كل مسألةٍ بحسبها، وما يناسبها، وقد ذكروا -كما تقدم بنا- في أحكام الصلح من أحكام الجوار، وما يترتب على كل جار، وما يلزمه منع الإيذاء به، وما ليس للجار أن يمنع جاره من فعله مما يحتاج إلى منفعته.
أشياء كثيرة وتفاصيل مفيدة وكثير منها أيضًا مما أُستخلص وجعلت به أنظمة البناء، ورتبت على ذلك، وانتفع به ما قرره الفقهاء.
وكذلك في مثل هذه المسائل بالنسبة لمسائل المرور وما ذكرها، ولا يستغني الطالب أيضاً لمن أراد الاستزادة أن ينظر إلى تلك المسائل بتفاصيلها لينتفع بها ويستفيد.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيبِ وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[1] رواه البخاري (2198) .
[2] أخرجه البخاري (3195)، ومسلم (1612).
[3] أخرجه البخاري (4406)، ومسلم (1679).
[4] سنن الترمذي والنسائي.
[5] أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك