الدرس السادس والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7533 33
الدرس السادس والعشرون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{بارك الله فيكم، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (فصل في مقادير ديات النفس)، فهل تأذن لنا أن نستكمل ما وقفنا عنده؟}.
نعم. استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (فصل في مقادير ديات النفس.
وَدِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةُ بَعِيرٍ، أَوْ أَلْفُ مِثْقَالٍ ذَهَبًا، أَوْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً، أَوْ مِائَتَا بَقَرَةٍ، أَوْ أَلْفا شَاةٍ، فَيُخَيَّرُ مَنْ عَلَيْهِ دِيَةٌ بَيْنَهَا)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وأن يغفر لنا حوبنا أجمعين، ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الطلاب، كنا في الدرس الماضي ابتدأنا الكلام فيما يتعلق بكتاب الديات، بعد أن ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالجنايات وشروطها، وشروط الاستيفاء فيها، وما يتعلق بأحكام القصاص التي مرة، ثم بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفاصيل أحكام الديات وما يترتب عليها، وهذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في مقدار الديات، وسيبدأ بديات النفس، ثم ديات الأعضاء والمنافع وما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- من أحكام في ذلك مفصلة، سيأتي بيانها والإشارة إليها.
فقال: (ودية الحر المسلم) قد ذكرنا أن الدية حقيقتها المال الذي يُدفع للمجني عليه أو لأوليائه بسبب الجناية.
ثم قال: (وَدِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةُ بَعِيرٍ، أَوْ أَلْفُ مِثْقَالٍ ذَهَبًا، أَوْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً، أَوْ مِائَتَا بَقَرَةٍ، أَوْ أَلْفا شَاةٍ، فَيُخَيَّرُ مَنْ عَلَيْهِ دِيَةٌ بَيْنَهَا)، يقول أهل العلم: أصول الديات خمسة، ولا يختلف أهل العلم أن الإبل أصل في الديات، ولكن هل هذه الأربعة مضمومة إلى الإبل فتكون خمسة على حد سواء، أم أن الإبل أصلٌ، وهذه بدل عنها؟
وظاهر كلام المؤلف هنا أن هذه الديات على حدٍّ سواء، بمعنى أنَّ الجاني إذا بذل للمجني عليه أو إلى أوليائه واحدًا من هذه الخمسة فقد أدى الذي عليه من الدية، ووجب القبول.
وعلى كل حال، جاءت بها بعض الأحاديث، وفيها أثر عمر -رضي الله تعالى عنه- وأهل العلم ينطلقون من هذه الخمسة في أصول الديات.
قال: (وَدِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةُ بَعِيرٍ) والـ (مِائَةُ بَعِيرٍ) معلوم قدرها عند العرب وأثرها ونحو ذلك، وما يترتب على ذلك.
وألف مثقال أيضا من الذهب، ليست بالأمر اليسير، واثنا عشر ألف درهم، كذلك من الفضة، أو مئة بقرة، أو ألفا شاة.
ولكن ربما الآن مع اتساع الدنيا، وتغير الأحوال، وما أفاض الله على الناس، أن تكون هذه لا يُرى أنها توازي نفس الإنسان، ولكن نقول: هذه مبناها على ما جاءت به النصوص، وما دل عليه الحديث، وحسب المرء أن يكون متبعًا، وحسب الإنسان أن يكون مُسَلِّمًا ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور:51]، وليس بلازم ذلك أن تكون مئة البعير مثل ألفي شاة، أو مثل ألف مثقال، أو مثل اثنا عشر ألف درهم، بل حتى ولو جرى بينهما تفاوت، إذا بُذِلَ واحد منها؛ حصل به المقصود، وأدى الذي عليه من الدية، وبرئت بذلك الذمة.
والعمل عندنا في السعودية بعد ما شاع استعمال الأوراق النقدية ونحوها، أنها قوبلت هذه الإبل، فكانت فيما مضى مئة وعشرين ألف، باعتبار أنها كانت بألف ومئتين الواحدة من الإبل، والآن زيدت حتى وصلت ثلاثمئة ألف، يعني: كأن كل بعير بثلاثة آلاف أو متوسطها، ولكن يمكن يكون الحقيقة مع ارتفاع أثمان الإبل أكثر من ذلك، ولكن على كل حال هذا هو ما جرى عليه عمل الناس في المحاكم في المملكة العربية السعودية.
قال: (فَيُخَيَّرُ مَنْ عَلَيْهِ دِيَةٌ بَيْنَهَا) بناء على ما ذكرنا من أنها أصول على حد سواء، وما دفع منها الإنسان فقد أدى الذي عليه.
{أحسن الله إليكم.
طيب شيخنا لو أراد أولياء الدم أن يختاروا صنفا معينا أو أن ينوعوا بين الأصناف، فهل يجوز لهم ذلك؟}.
لا، طبعا عندنا مسألتان، إذا كان الخطأ أو شبه العمد فهذا ليس فيه إلا الدية، وهو مخير فيما يبذلونه، وأما إذا كان عمدًا فلهم القصاص، فلو اصطلحوا على شيء مخصوص، أو على أكثر من ذلك، فهذا إليهم، فهذا صلح عن الدم، وليس هو انتقال إلى البدل أو إلى الدية، التي هي أحد ما يجب في الجناية، ولذلك كثير من الناس الآن في الدماء إذا تعلق بهم القصاص، يبذلون أموالا طائلة، وهذا ليس دية، بل هذا إنما يسمى عند أهل العلم صلح يقابل الدم، فاذا أدوه على الوجه الذي طلبه أولياء الدم، استحق هؤلاء العفو، وأخذ هؤلاء المال، وكان قسمته بينهم على الميراث.
{أحسن الله إليكم.
قال: (وَيَجِبُ فِي عَمْدٍ وَشِبْهِهِ مِنْ إِبِلٍ رُبْعٌ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَرُبْعٌ بِنْتُ لَبُونٍ، وَرُبْعٌ حِقَّةٌ، وَرُبْعٌ جَذَعَةٌ)}.
هنا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَجِبُ فِي عَمْدٍ وَشِبْهِهِ مِنْ إِبِلٍ)، إذا كان سيدفع من الإبل فالعمد وشبهه له حكم يخصه، ويسمى عند أهل العلم: تغليظ الدية، وتغليظ الدية مخصوص بما إذا كان بذلها من الإبل.
وأما إذا كان من غير الإبل، فتستوي الدية في العمد وفي شبهه وفي الخطأ.
إذًا، إذا كان عمدًا أو شبه العمد على ما ذكرنا في توضيحه وبيانه، تكون أرباعًا، ربعٌ بنت مخاض، وربع بنت لبون، وربع حقة، وهي الذي استحقت طروق الفحل، وربعٌ جذع، وهي التي لَمَّا تبلغ أن تكون ثنية. فهنا تكون أرباعًا، فهذا يُسمى تغليظ في الدية، وسيقابله ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من في غير التغليط، إذا كان خطأ وهو الذي جعلها بعد هذه الجملة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَفِي خَطَأٍ أَخْمَاسًا: ثَمَانُونَ مِنَ الْمَذْكُورَةِ، وَعِشْرُونَ ابْنُ مَخَاضٍ)}.
قال: (وَفِي خَطَأٍ أَخْمَاسًا)، تكون عشرون بنت مخاص، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابن مخاض، فإذا كانت على هذا النحو أخماسا، فهذه في دية الخطأ، وهذه تسمى لا تغليظ فيها، وأما إذا كانت أرباعا، فهي تكون مقسمة على بنت لبون، وعلى الجذعة، وعلى الحقة، وعلى بنت المخاض، وتكون خمسا وعشرين في كل واحدة منهن، فهذا هو الفرق بين التغليظ وبين عدمه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمِنْ بَقَرٍ نِصْفٌ مُسِنَّاتٌ وَنِصْفٌ أَتْبِعَةٌ، وَمِنْ غَنْمٍ نِصْفٌ ثَنَايَا، وَنِصْفٌ أَجْذِعَةٌ)}.
قال: (وَمِنْ بَقَرٍ نِصْفٌ مُسِنَّاتٌ) وهي التي تم لها سنتان، (وَنِصْفٌ أَتْبِعَةٌ) وهي التي تم لها سنة، وسميت بهذا لأنها تتبع أمها.
فتكون إذًا مائتي بقرة، منها: نصف تم لها سنتان، وهي مئة، ومنها: نصف تم لها سنة وهي الأتبعة.
ومن الغنم نصف ثنايا، أي التي برزت ثناياها، ويعرف ذلك أهل الغنم، وهي التي تم لها سنة، فتكون منها ألف. وألف أخرى من الجذع، والجذع هو الذي تم له ستة أشهر.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَتُعْتَبَرُ السَّلَامَةُ لَا الْقِيمَةُ)}.
قال: (وَتُعْتَبَرُ السَّلَامَةُ لَا الْقِيمَةُ)، يعني: أنه في كل واحدة من هذه تكون سليمة من العيوب، فلا تكون مريضة، ولا تكون هزيلة ونحو ذلك، سواء كانت بنت مخاض، أو كانت بنت لبون، أو جذعة، أو حقة، أو دخل عليها ابن مخاض إذا خمسناها، أو كانت من المسنات في البقر، أو من الأتبعة، أو من الثنايا، أو من الأجدعة، كلها تكون كذلك إذا كانت سليمة، ولو تفاوتت في أسعارها، يعني: بين لو دفع مائتين من البقر، أو دفع ألفين من الغنم، فهذه قيمتها مثلا عند الناس تساوي مثلا ألفين من الغنم، دعنا نقول تقريبا عند الناس اليوم ممكن تصل الى مليونين وخمسمئة ألف ريال سعودي، بينما لو كانت من البقر فلن تتجاوز بحال من الأحوال ثمانمائة ألف، فسواء دفع من هذا أو من هذا.

الإبل في الغالب أنها تصل أقل بقليل، ويمكن أكثر بحسب ارتفاع أسعار الإبل مع وجود رغبة من الناس في هذه الأزمنة في التسابق إلى شرائها واقتنائها والتفاخر بذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَدِيَةُ أُنْثَى نِصْفُ دِيَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ دِيَتِهَا)}.
دية الأنثى على النصف من دية الرجل، وهذا حكم الله -جل وعلا-، ولا يختلف في ذلك أهل العلم، فإذا كان الرجل المسلم الحر ديته مئة من الإبل فدية المرأة خمسون منها، وإذا كان دية الرجل الحر مئتان من البقر، فهي مئة منها، وإذا كانت الدية ألفين من الغنم، فألف منها، وهكذا.
ولو كانت كتابية، فالكتابي على النصف من المسلم، فمعنى ذلك أن ديته خمسون، والكتابية على النصف من الكتابي، فمعنى ذلك أن ديتها ستكون خمسة وعشرين.
وهكذا إذا كانوا مجوسا أو أهل أوثان فثمانمائة، فمعنى ذلك أنه سيكون أربعمائة درهم على ما سيأتي.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَجِرَاحُهَا تُسَاوِي جِرَاحَهُ فِيمَا دُونَ ثُلُثِ دِيَتِهِ)}.
(وَجِرَاحُهَا تُسَاوِي جِرَاحَهُ)، يعني: أن الديات في الجراح تستوي، فلو أصيب بها رجل أو أصيبت بها امرأة، فالمرأة على حد سواء فيما دون ثلث الدية، وسيأتينا مثلا الموضحة فيها خمس من الإبل، سواء أصيب بها رجل أو أصيبت بها امرأة كذلك.
على سبيل المثال: الأصابع في كل واحدة عشر من الإبل، وهذا من أشهر ما يقال هنا، فمعنى ذلك: أنه إذا قطع ثلاثا من أصابع رجل، فسيكون فيها ثلاثون من الإبل، والمرأة سيكون كذلك ثلاثون.
ولكن المؤلف يقول: (فِيمَا دُونَ ثُلُثِ دِيَتِهِ) يعني: إذا زادت عن الثلث فسترجع إلى النصف، فمعنى ذلك لو أنه قُطِعَ من الرجل أربعة أصابع لكانت أربعون من الإبل دية ذلك، ولو قُطعت من المرأة أربعة أصابع فستكون ديتها عشرون، يعني: أقل مما لو كانت ثلاثون؛ لأنها إذا تجاوزت ثلث الدية فهي النصف من الرجل في ذلك.
وهذا مثل ما قلنا: هذا ما جاءت به النصوص، وما استقر به الشرع، فلا اعتراض، ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65]، وهذا من الله -جل وعلا- ابتلاء للعباد، لينظر إيمانهم، ولينظر تسليمهم، لأن المرأة إذا رأت ذلك فربما لحقها شيء من الغيظ، ومن الترفع عن ذلك، ولكن إذا علمت أن هذا قول الله، وأن هذا قول رسوله، وأنه يجب عليها التسليم والإيمان فسلمت، فكان هذا مما يزيد به أجرها، وتطمئن به نفسها، ويعظم به إيمانها عند ربها.
وهذا حقيقة الابتلاء والامتحان في الإيمان، في الأشياء التي توزن فيها النفوس، فيعظم فيها الابتلاء والامتحان.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَدِيَةُ كِتَابِيٍّ حُرٍّ نِصْفُ دِيَةِ مُسْلِمٍ)}.
كما ذكرنا قبل قليل، هو على النصف من ذلك.
{قال: (وَمَجُوسِيٍّ وَوَثَنِيٍّ ثَمَانمِائَةُ دِرْهَمٍ)}.
(وَمَجُوسِيٍّ وَوَثَنِيٍّ ثَمَانمِائَةُ دِرْهَمٍ)، أي: هم أقل في الدية، وهذا على ما جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَدِيَةُ رَقِيقٍ قِيمَتُهُ)}.
قال: (وَدِيَةُ رَقِيقٍ قِيمَتُهُ)، فلو أنَّ شخصا مثلا اعتدى على عبد جاره فقتله، فنقول: ديته قيمته، فلو افترضنا أنه إذا كان حيًا فثمنه في السوق يساوي خمسين ألفًا، فيعطيه خمسين ألفا، وإذا كان يساوي ثلاثمئة ألف فيعطيه ثلاثمئة ألف، حتى ولو بلغت قيمته أضعاف الدية. لماذا لأن حقيقة العبد أنه مال، فيقابل المال بما فوت على صاحبه من المال، فهو فوت هذه القيمة عليه، فيردها ويدفعها لصاحبه سواء كانت في ذلك عمدا، أو شبهه، أو خطأ، فهو قيمته في كل هذه الأحوال، باعتبار أننا قلنا: إن التكافؤ شرط للقصاص، فإذا قتل حر عبدا فلا قصاص، ولا يتعين إلا الدية، والدية قيمته.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَجُرْحُهُ إِنْ كَانَ مُقَدَّرًا مِنَ الْحَرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْهُ مَنْسُوبًا إِلَى قِيمَتِهِ، وَإِلَّا فَمَا نَقْصُهُ بَعْدَ بُرْءٍ)}.
قوله: (وَجُرْحُهُ إِنْ كَانَ مُقَدَّرًا مِنَ الْحَرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْهُ مَنْسُوبًا إِلَى قِيمَتِهِ) على سبيل المثال لو قطع شخص أصبع العبد، ونعلم أن الأصبع من الحر فيه عشر من الإبل، فمعنى ذلك كم يكون في العبد؟ نقول: هو يساوي عُشْرَ قيمته، فإذا كانت مثلا قيمته خمسون ألفا، فهو خمسة آلاف، وإذا كانت قيمة العبد والأعَبُد يختلفون اختلافا كثيرا، ولا يتباين الأمر بين أن تكون جارية أو رجلا، فهو بقيمته على حد سواء، فلو كانت قيمته مائة وخمسين ألف، فمعنى ذلك أن عُشْرَ قيمته خمسة عشر ألفا وهكذا.
قال: (وَإِلَّا فَمَا نَقْصُهُ بَعْدَ بُرْءٍ)، إذا لم تكن له قيمة في الحر وهذا سيأتينا في أحوال تكون فيها الجناية على الحر لا دية فيها مقررة، وإنما فيها حكومة يحكم بها أهل المعرفة والاختصاص، فلو حكموا مثلا فيه باثنين من الإبل أو بأقل أو بأكثر، هذا في الحر، وأما في العبد فما ينقص من قيمته بعد برء، يعني: ضربه في يده فجرحه فيها، ثم بَرِء. فنقول: كم قيمة هذا العبد قبل الجناية؟ فيقولون مثلا: اثنا عشر ألف. نقول: وكم قيمته بعد أن أصيب وَبَرِءَ؟ قالوا: أحد عشر ألف وخمسمئة، فمعنى ذلك أنه يعطيه خمسمئة وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَدِيَةُ جَنِينٍ حُرٍّ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ قِيمَتُهَا عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ، وَقِنٍّ عُشْرُ قِيمَتِهَا، وَتُقَدِّرُ حُرَّةٌ أَمَةً)}.
قال: (وَدِيَةُ جَنِينٍ حُرٍّ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ)، ما معنى هذا؟ الغرة هي العبد أو الأمة، (وَدِيَةُ جَنِينٍ حُرٍّ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ قِيمَتُهَا عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ) فلو افترضنا أنَّ شخصًا اعتدى على امرأة حامل، فسقط حملها، وبشرط أن يكون هذا الحمل قد تبين فيه خلق الإنسان ولو خفيا، مثل ما تقدم ذكره، فهنا إذا سقط الحمل فيه حياة، ففيه هدية كاملة.
إذًا، إذا سقط حملا، يعني: لم يخرج فيه حياة حتى ولو غير مستقرة، فهنا فيه غرة عبد، منسوبة إلى (قِيمَتُهَا عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ)، دية الأم كم؟ خمسون من الإبل. فمعنى ذلك: أنه تجب لهذا الجنين عشر الدية، أي: خمس من الإبل؛ لأن عُشر الخمسين يساوي خمس من الإبل، فينظرون إلى عبدٍ أو أمةٍ قيمتها قيمة خمس من الإبل فتعطى إياها.
لكن الآن لا يوجد إيماء ولا نحوه، وجرت العادة أنها تقدر بعشر الدية، التي هي خمس من الإبل، بالغة ما بلغت.
قال: (وَقِنٍّ عُشْرُ قِيمَتِهَا)، لو كان الذي سقط "قن" في بطن امرأة، فنقول: هذه الجارية التي هي أمه، كم قيمتها؟، قالوا: قيمتها سبعون ألفا مثلا، ومعنى ذلك أنَّ قيمة هذا الجنين عُشر قيمة أمه، يعني: سبعة آلاف وهكذا.
قال: (وَتُقَدِّرُ حُرَّةٌ أَمَةً) كيف؟ لو افترضنا أن هذه المرأة حرة، ولكن الذي في بطنها عبد، وهذا له صورة، بأن يكون مثلا أعتقها السيد واشترط ما في بطنها، فتكون هي حرة، ويكون ما في بطنها عبد، ففي مثل هذه كيف نقدرها؟
نفترض أن هذه الحرة لو كانت أمة كم كانت ستساوي؟
فاذا قالوا مثلا: لو كانت أمة فهي تساوي مائة وعشرين. ومعنى ذلك أنَّ عشر قيمتها اثنا عشر ألف، وبناء على ذلك تكون قيمتها ذلك.
قالوا: والله هذه ما تساوي إلا ثلاثون ألفا، لو كانت أمة، فنقول: إذًا عُشر الثلاثين يساوي ثلاثة آلاف، فتكون قيمة، فتقدر إذا الحرة أمة، إذا كان ما في بطنها عبد.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ جَنَى رَقِيقٌ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، وَاخْتِيرَ الْمَالُ، أَوْ أَتْلَفَ مَالًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ فِدَائِهِ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ تَسْلِيمِهِ لِوَلِيِّهِ)}.
هذه جنايات الرقيق، والرقيق لا مال له، فلا يخلو الحال إمَّا أن نكلف السيد به، والسيد لا جرم عليه ولا جناية منه، وإما أن تذهب الجناية هدرًا، وهذا فيه تفويت على المجني عليه، فلأجل ذلك لما كانت هذه الجناية من العبد، وحفظا لحق المجني عليه، ولأمه لا يجب على السيد شيء لم يكن منه، فإنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يقولون: إن الجناية تكون في رقبته، ما معنى تكون في رقبته؟ أي أنها تُستوفى منه، فهو الجاني وهو المتسلط، فتكون الجناية في رقبته.
وبناء على ذلك، إذا جنى هذا العبد فقطع يد شخص، واليد فيها نصف دية. أو قتل شخصا، والقتل فيه دية كاملة، فهنا نقول: هذا ليس له مال، وسيده لا يدفع شيئا، فنأتي بهذا العبد ونقول: خذوا هذا العبد واستوفوا منه، أي: بيعوه، فيبيعونه، فاذا كان يساوي أكثر من نصف الدية، يأخذون هم نصف الدية، وما زاد يعطونه لسيده.
وإذا كانت قيمته أقل من الدية، فيأخذون فقط القيمة، وإذا أراد سيده أن يستبقيه، لكونه مثلا ينتفع به، فهنا يُفاديه، ما معنى يفاديه؟ يعني: ينظر كمْ قيمته؟ فإذا كانت قيمته سبعين ألف، وكانت الدية مثلا مائة ألف، فيدفع السبعون ألفا؛ لأنَّه لا يدفع أكثر مما يجب؛ لأنهم لو استوفوا من العبد نفسه، الذي هو الأصل، لم يزد على السبعين ألف.
إذًا الأصل أن الاستيفاء من رقبته، فإن كان فيها توفية فالحمد لله، وإن كان فيها توفية وزيادة فلهم حقهم، وما بقي فلسيده؛ لأنَّه مال السيد، وإن كانت أنقص فليس لهم إلا ذاك، ولا يطالب السيد بما زاد، وللسيد فداؤه إذا رَغِبَ في الأحوال كلها، فيدفع ما يوازي قيمته فقط، ولا يزيد على ذلك، وإن كانت ديتهم أكثر أعطاهم القيمة، وإن كانت أقل أعطاهم الدية واستبقى ذلك العبد له.
ولذلك قال: (وَإِنْ جَنَى رَقِيقٌ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، وَاخْتِيرَ الْمَالُ) يعني في العمد لم يختر القصاص، فاذا أَلَ الأمر إلى المال، فهنا على ما ذكرنا قبل قليل.
(أَوْ أَتْلَفَ مَالًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ) وأما لو كان بإذن سيده، فكما لو أن سيده هو المتلف فيكون عليه جزاؤه، ويكون الغرم على سيده.
قال: (خُيِّرَ بَيْنَ فِدَائِهِ) وهذا مثل ما قلنا، (بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ تَسْلِيمِهِ لِوَلِيِّهِ) ليستوفي من عينها لا العبد.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصل. وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ وَاحِدٌ كَأَنْفٍ، فَفِيهِ دِيَةُ نَفْسِهِ)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في ديات الأعضاء، المنافع، الشجاج التي في الرأس، الجراح التي في البدن، وما يلزم في كل واحدة منها.
إذًا بعدما بين المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالديات في النفس، أراد أن يبين ما دونها، وهذا جاء في حديث عمرو بن حزم، وجاء فيه أيضا آثار عن عمر وعن الصحابة كثير.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ وَاحِدٌ كَأَنْفٍ) أو مثل: الذكر، فليس للإنسان منه إلا واحد، فيه دية كاملة، فلو أن شخصًا مثلا أتلف أنف شخص، وذكره فعليه ديتان، أي: أكثر من دية الإنسان لو قتله وهكذا.
إذًا هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في ديات الأعضاء وبيان كيفية حسابها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ وَاحِدٌ كَأَنْفٍ, فَفِيهِ دِيَةُ نَفْسِهِ, أَوْ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرَ فَكَذَلِكَ)}.
إذا كان فيه اثنان مثل: اليدين، الرجلين فأتلف واحدة ففيه النصف، مثل: العينين والأذنين ففيه النصف، وإذا أتلف عينا فعليه نصف الدية، وإذا أتلفهما جميعا ففيه دية كاملة.
وكذلك إذا أتلف الرجلين ففيهما دية، وإذا أتلف رجلا واحدة ففيها النصف.
{ثم قال: (وَفِي أَحَدِ ذَلِكَ نِسْبَتُهُ مِنْهَا)}.
يعني: إذا أتلف ما فيه واحد ففيه الدية كاملة، وما فيه اثنان إذا أتلف منها واحدة ففيه نصف الدية، وإذا كان ثلاثة، وهنا يمثلون بالمنخرين مع المارن، فلو أنه أتلف جزءا منها كأحد منخريه، فهنا يقولون: فيه ثلث الدية، وإذا كان فيه أربعة مثل: أهداب العينين، فهنا في كل واحد من الهدب ربع الدية، وهكذا.
{ثم قال: (وَفِي الظُّفُرِ بَعِيرَانِ)}.
فاذا قطع ظفر شخص ففيه بعيران بشرط أن لا يعود، وأما إذا عاد فلا.
{ثم قال: (وَتَجِبُ كَامِلَةً فِي كُلِّ حَاسَّةٍ وَكَذَا كَلَامٌ وَعَقْلٌ وَمَنْفَعَةُ أَكْلٍ وَمَشْيٌ وَنِكَاحٌ)}.
الحواس مثل الأعضاء، وهي التي عبر عنها بالمنافع، فاذا مثلا أعدم عليه سمعه، فكما لو كان قتله؛ لأن السمع فيه دية كاملة، وكذلك لو أعدم عليه بصره، مثل: قطع العينين أو اجتثاثهما شيء، وإذهاب البصر مع بقاء العينين، كما لو عرضه مثلا لبعض الأشعة فذهب معها بصره وإن بقيت حدقة عينيه، فهنا أذهب بصره، فتجب فيها دية كاملة.
ومثل ذلك: الشم والذوق، ولكن الحاسة الخامسة يقولون: اللمس لا تذهب إلا بالشلل، فهذه تكون في مثل ما إذا كان فيه شلل كامل، وإلا فالأصل أن شلل اليد أو كذا مثل تلفها، وسيأتي بيان ذلك.
ثم قال: (وَكَذَا كَلَامٌ) يعني: لو ضربه حتى ما عاد يستطيع أن يتكلم، وحكم بأنه لا يعود عليه الكلام، فهنا عليه دية كاملة.
وكذلك (عقله)، فو جُنَّ الشخص، روعه وأذهب عقله، (وَمَنْفَعَةُ أَكْلٍ)، ما عاد استطاع أن يأكل، أو مشي؟ فذهبت عليه قدرة المشي، أو نكاح، وهو الإنعاض والجماع ونحوه، ذهبت عليه هذه المنفعة، فكذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمِنْ وَطْءِ زَوْجَة يُوطَأُ مِثْلُهَا لِمِثْلِهِ فَخَرَقَ مَا بَيْنَ مَخْرَجِ بَوْلٍ وَمَنِيٍّ، أَوْ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ، فَهَدَرٌ، وَإِلَّا فَجَائِفَةٌ إِنِ اسْتَمْسَكَ بَوْلٍ، وَإِلَّا فَالدِّيَةُ)}.
قال: (وَمِنْ وَطْءِ زَوْجَة يُوطَأُ مِثْلُهَا لِمِثْلِهِ)، يعني: هو ممن يطأ مثله، وهي ممن يوطأ، وليست هي بضعيفة بالنسبة إليه، فخرق ما بين مخرج بول ومني، يعني: خرق ما بين سبيليها، أو ما بين السبيلين، سواء مخرج البول ومدخل الذكر الذي هو في القبل، أو بين مدخل الذكر ومخرج الغائط، فهنا يقول أهل العلم: إنه فعل ما له فعله، وهي عادة مما يحتمل ذلك، فإذا لم تكن منه جناية، ولم يكن منه اعتداء، فلأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن ذلك هدر شيء فيه.
وأمَّا إذا كان فيه اعتداء كان يكون مثلها لا يحتمل ذلك، فيقولون: فجائفة، والجائفة هي الجراح التي تصل إلى الجوف، إن استمسك البول، يعني صار البول يتحكم فيه، وأما إذا ذهبت حاسة استمساك البول فاستطلق، فهنا كما لو ذهبت منفعة البول، فبناء على ذلك تجب عليه دية كاملة، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِلَّا فَالدِّيَةُ).
إذا وطئ الرجل زوجته التي يوطأ مثلها، فصار بولها لا يستمسك بسبب هذا الوطء فعد هذا هدر؛ لأنها قد أذنت، ومثلها يوطأ.
صواب


{أحسن الله إليك، ممكن استمساك البول يدخل في الحواس؟}.
أي نعم، ممكن يستمسك، فلا يكون فيه شيء، ويمكن أن تذهب عليه الاستمساك، فهنا يكون كما لو ذهبت عليه هذه الحاسة، وذكروا أشياء أخرى مثل: لو ذهب عليه الصوت، أي: ما يخرج صوته، يعني: الكلام ونحوه. ومثل لو اسود وجهه، ولا يعود، كل هذا إذا لم يعد، وأما إذا كان شيئا مؤقتا فلا، بل هذا يعتبر فيه تعذير وعقوبة بقدر ذلك، ولكن إذا كان شيئا لا يعود فهناك كما لو وجبت دية كاملة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَفِي كُلٍّ مِنْ شَعْرِ رَأْسٍ وَحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ عَيْنَيْنِ وَلِحْيَةٍ الدِّيَةُ)}.
(وَفِي كُلٍّ مِنْ شَعْرِ رَأْسٍ) الدية، فالحاجبان فيهما الدية، وهما اللذان في أعلى العينين، فإذا اعتدى عليهما فلم يَعُد الشعر، وأما إذا حلق فعاد فهذا أكثر ما فيه أنه يعذر، وتوجب عليه عقوبة في ذلك، ولكن إذا ذهب الحاجبان أو ذهب واحد منهما ففيه دية.
(وَأَهْدَابِ عَيْنَيْنِ) كما قلنا: أربعة، إذا ذهب اثنان ففيه نصف الدية، وإذا ذهب واحد فيه ربعها، وإذا ذهبت جميعها ففيه الدية كاملة.
(وَلِحْيَةٍ) كذلك فيها الدية، والشارب لم يذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا؛ لأن الشارب ليس في الأصل مما يطلب بقاء الشعر فيه، ولأجل ذلك قالوا: إنه يعزر وتكون فيه حكومة وسيأتي ذكره.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَحَاجِبٍ نِصْفُهَا وَهُدْبٍ رُبْعُهَا، وَشَارِبٍ حُكُومَةٌ)}.
(وَشَارِبٍ حُكُومَةٌ) الشارب ليس فيه دية كما ذكرنا.
قال: {(وَمَا عَادَ سَقَطَ مَا فِيهِ)}.
كما قلنا: يشترط أن لا يعود، وأما إذا عاد فلا يكون فيها شيء من هذه الديات المذكورة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنَّ قَلْعَهَا صَحِيحٌ أُقِيدَ بِشَرْطِهِ، وَعَلَيْهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ)}.
قال: (وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ) لو تسلط على أعور ففقأ عينه ففيها دية كاملة!
الأصل أن العين فيها نصف الدية، فكيف أوجب الفقهاء في هذه دية كاملة؟ قالوا: لأنَّه ذهب عليه منفعة البصر، فتداخلت العين مع البصر فوجبت الدية كاملة.
ثم قال: (وَإِنَّ قَلْعَهَا صَحِيحٌ أُقِيدَ بِشَرْطِهِ وَعَلَيْهِ أَيْضًا نِصْفُ الدِّيَةِ)، فلو أن صحيحا اعتدى على أعور ففقأ عينه، فالمفقوءة عينه -الأعور- ذهبت عينه وذهب بصره، فإذا أراد المجني عليه أن يقتص فقأ عينه، فقد استوفى من فقع عينه، ولكنه بقي عليه، هو ذهب بصره، وهذا ما ذهب بصره، لأنه قد بقيت له عين، ولأجل ذلك قالوا: لا يمكن أن نقول: يفقأ كلا غينيه؛ لأنَّه يكون قد زاد وتعدى على القصاص، والقصاص أن يفعل به مثلما فعل، ولا يمكن أن نقول: إنه يذهب هدر؛ لأن هذا ذهب بصره كله.
ولأجل ذلك قالوا: وعليه نصف الدية في مثل تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ قَلَعَ مَا يُمَاثِلُ صَحِيحَتَهُ مِنْ صَحِيحٍ عَمْدًا فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ، وَالأقَطْعٌ كَغَيْرِهِ)}.
(وَإِنْ قَلَعَ مَا يُمَاثِلُ صَحِيحَتَهُ مِنْ صَحِيحٍ عَمْدًا فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ) إذا قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه التي يبصر بها، فهنا يقولون: لا قصاص عليه. لو كان الأعور هو من اعتدى فضرب الصحيح في عينه اليمنى، والأعور هذا ينظر بعينه اليمنى، فلا يمكن أن نقتص، لأنها تعود عليه بالسراية كما يقولون والزيادة؛ لأن هذا الصحيح سيقتص منه في عينه، وسيذهب معه جميع بصره، وهي التي قلنا إنه يكون الاستيفاء بمثل ما ذهب على المجني عليه، فهنا لَمَّا لم يتمكن من الاستيفاء على وجه تكون به المساواة والمماثلة التي هي حقيقة القصاص، فلأجل ذلك قال: (فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ)، يعني: إن قلع الأعور ما يماثل عينه الصحيحة من صحيح، أي: من إنسان صحيح له عينان، فإنه ليس فيه قصاص، وليس فيه إلا الدية الكاملة.
قال: (وَالأقَطْعٌ كَغَيْرِهِ)، ما معنى ولا أقطع كغيره؟ يقول لو أن شخصا أقطع قطعت رجله، الثانية، فيقولون: إنه ليست الأرجل مثل الأعين بعضها ينوب عن بعض، وبناء على ذلك ما نقول: يقطع رجله ويأخذ نصف الدية، لا، فهي تقطع الرجل إذا قطعها من صحيح تقطع رجله، وإذا قطع الصحيح رجل الأقطع فتقطع رجله إذا اتفقت الشروط، تساوتا وتماثلتا في الاسم والموضع وما تقدم بيانه.
{قال -رحمه الله-: (وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَالْمُنَقِّلَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْمَأْمُومَةُ ثُلُثُ الدِّيَةِ كَالْجَائِفَةِ وَالدَّامِغَةِ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَفِي الْمُوضِحَةِ) هو الآن بعد أن ذكر ديات المنافع وديات الأعضاء، أراد أن يتكلم على الشجاج، والشجاج من حيث الأصل هي التي في الوجه والرأس، فالموضحة: هي الجرح الذي يصيب الإنسان حتى يتضح عظمه، فأحيانا إذا ضُرِب ترى بياض العظم، فهذه عند الفقهاء تسمى موضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.
الهاشمة: أزيد من الموضحة، لأنها وصلت إلى العظم وهشمته، فهنا فيها عشر من الإبل.
المنقلة: أشد من الهاشمة، فهي موضحة وهاشمة وناقلة للعظم من محله، فتكون فيها خمسة عشر.
المأمومة: هي التي وصلت إلى جلدة الدماغ، فهنا قالوا: فيها ثلث مثل الجائفة التي وصلت إلى الجوف، والجائفة هنا لا تكون في الوجه غالبا، بل هي في بطنه، أو في فخذيه ونحوها، ويقولون: إذا كانت جائفة ففيها ثلث الدية.
الدامغة: هي التي وصلت إلى الدماغ، وهنا لعلك أن تلحظ أن هذه ليس من السهولة معرفتها، ولكن أهل الخبرة اعتادوا ذلك، ولذلك في المحاكم من تحال إليه مثل هذه الأمور لتقدير قدرها، فيقول: هذه الضربة صارت موضحة، أو هذه الضربة صارت منقلة، أو هذه الضربة صارت دامغة وهكذا.
وأظن أيضا أن الطب خاصة مع وجود التصوير ونحوه، مما يكون معه دقة في ذلك، ولكن الطب لا يكتفى به وحده؛ لأن هذه مصطلحات شرعية، فلا بد من شخص يعرف ذلك ويحسن ما جاء عند أهل العلم من الأوصاف التي تتعلق بها قدر الديات.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَفِي الْحارِصَةِ وَالْبَازِلَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلَاحِمَةِ والسِّمْحَاقِ حُكُومَةٌ)}.
(الْحارِصَةِ) أخف، قلنا: الشجاج عشر، ذكر الخمسة الأولى وهي التي توجب ديات، ثم الخمس الأخف وهي التي تجب فيها الحكومة، وستأتي معنا الحكومة.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: أولها (الْحارِصَةِ) وهي التي تذهب الجلد، هي التي تشق الجلد ولا يسيل دم.
(وَالْبَازِلَةِ) فيها شق للجلد مع الدم كالدمع الذي يسيل قليلا أو كذا.
(وَالْبَاضِعَةِ) من البضع وهو الشق، أي: هي التي تشق اللحم.
(وَالْمُتَلَاحِمَةِ) هي التي تشق اللحم وتغوص.
(والسِّمْحَاقِ) قالوا: هي التي لا يكون بينها وبين العظم إلا شيء بسيط، جلدة خفيفة، فهذه خمس، وهي: خمس حارِصَةٌ فبَازِلَةٌ فبَاضِعَةٌ فمُتَلَاحِمَةٌ فسِّمْحَاقٌ، وكلها فيها حكومة، ما معنى الحكومة؟ يقولون: أن ْيُقَوَّم المجني عليه كأنه عبد، قبل الجناية وبعد البرء، فما نقص من قيمته بالجناية فللمجني عليه نسبتها من الدية، فإذا كان نسبتها خمسة في المئة، أو ثلاثة في المئة، أو واحد في المئة وهكذا فيعطى، ولأهل المحاكم في ذلك طريقة معروفة.
ذكر الشيخ أحمد الجعيمي في مختصره مثالا فقال: لو كان مثلا قيمته عشرون ألفا صحيحا، وقيمته بعد ذلك تسعة عشر ألف، فهنا عندنا ألف، كيف تعرف القيمة؟ الألف نقسمها على عشرين ألف، فتكون نصف واحد، ثم بعد ذلك تضرب في الدية، نصف في مائة فيه خمس من الإبل وهكذا؛ لأنها نصف من عشرين، فتكون خمس من مائة، يعني: كل عشرين فيها واحد.
{فقال -رحمه الله-: (فصل وَعَاقِلَةُ جَانٍ ذُكُورُ عُصْبَتِهِ نَسَبًا وَوَلَاءً)}.
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في العاقلة، وذكروا فيه أحكام القسامة.
العاقلة ما علاقتها هنا؟ لأنَّ الدية في الأصل إذا وجبت على الإنسان في شبه العمد، فيما فوق ثلث الدية تجب على عاقلته، وأما إذا كان عمدًا فتجب عليه، أو كانت دون ثلث الدية.
وبناء على ذلك لما كانت العاقلة تتعلق بها الدية في حال من الأحوال بين المؤلف -رحمه الله تعالى- من يدخل في اسم هذه العاقلة، والعاقلة من العقل؛ لأنهم يعقلون مجنونهم، لأنهم يعقلون سفيههم؛ لأنهم يمنعونه من التجاوز أو الظلم أو سواه.
وقالوا: إنها من العقل لأنها تعقل الإبل بمحل المجني عليه، وعلى كل حال قال: وَعَاقِلَةُ جَانٍ ذُكُورُ عُصْبَتِهِ) العصبة سواء كانوا أبناء أو آباء أو إخوة أو أعماما أو أبناء عم أو أبناء إخوة، أو حتى من السبب والولاء، فهم المعتق ابن المعتق ابن ابنه وهكذا.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا عَقْلَ عَلَى فَقِيرٍ وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ وَمُخَالِفٍ دِينَ جَانٍ)}.
إذا هؤلاء هم العصبة، فهم الذين تجب عليهم الدية، ولا يجب على الجاني شيئًا، وما يجب على الجاني أن يدفع شيئًا، لا قليلا ولا كثيرا، ولكن العاقلة إنما تجب أيضا حال قُدرتها، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولذلك لو كان أخوه فقير فَيُنتقل إلى عمه، ينتقل إلى ابن أخيه، ينتقل إلى أخيه الآخر، سواء شقيقا أو من أبيه؛ لأنهم داخلون في العصبة، لا الأخ من الأم لأنَّه من ذوي الأرحام.
(وَغَيْرِ مُكَلَّفٍ) فلو كان صغيرا، فلا تكليف عليه، وبناء على ذلك لا يدخل في العقل، ولا يقسم له شيء من الدية، بل تنتقل إلى غيره.
(وَمُخَالِفٍ دِينَ) حتى لو كان أبوه غير مسلم فلا تجب عليه، حتى ولو كان أبا، لأن مبناها على النصرة، ومن كان مخالفا في الدين فلا نصرة بينهم، ولا ولاية تربطهم، وبناء على ذلك لا يكون في مثل هذه الحال عقل.
إذًا هذا هو ما يتعلق بالعاقلة، ولا يشترط في ذلك أن يكونوا جميعا ورثة في الحال، بل حتى ولو كانوا ذلك.
كيف التقسيم بينهم؟ يقولون: يجتهد فيه الحاكم بحسبه، سواء قسمها على أبنائه، أو على أبنائه مع آبائهم، أو أدخل معهم إخوة، بحسب ما ينظر من أحوالهم، وبحسب ما يكون من قدرتهم وعدمها، وكونها فيها مشقة عليهم من سواه أو نحو ذلك، إما لزيادة الدية كما لو أن شخصا اعتدى على خمسة فقتلهم، فهنا سيجب عليه خمسمئة من الإبل، أو سيجب عليه عشرة آلاف من الغنم، أليس كذلك؟ أو سيجب عليه ألف من البقر. فإذًا كل واحدة من هذه بحسبها، إذًا الحاكم يجتهد في ذلك بحسبه.
{أحسن الله إليكم، شيخنا، ورضي الله عنكم وزادكم.
نكتفي بهذا القدر ونكمل -إن شاء الله تعالى- تتمة المسائل في اللقاء القادم.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك