الدرس التاسع والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7527 33
الدرس التاسع والعشرون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة، من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين جميعًا.
{نستأذنكم أن نبدأ على بركة الله}.
نعم، استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَنْوَاعٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يجعلنا من أهل رضوانه، وأن يُبلغنا الخير والهدى، والبر والتقوى، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- من (كتاب الحدود) في حد من هذه الحدود، وهو حد (قُطَّاعُ الطَّرِيقِ)، ويَذكر الفقهاء تبعًا لذلك بعض المسائل المتعلقة بالبُغاة، وربما ذكروا أحكام الخوارج فيه.
وقد ابتدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- في أصل هذا الباب وهو حد (قُطَّاعُ الطَّرِيقِ)، وقطاع الطريق قد جاءوا في كتاب الله وفي سنة نبيه ، ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة:33]، وقطاع الطريق لا شك أن ذلك من أعظم ما يكون به تخويف الناس، وعدم الأمن على أنفسهم، أو أعراضهم، أو أموالهم، ولا يرتدع السفهاء والفساق والفجار وأهل الضلال، إلا إذا كانت العقوبة شديدة، والحد في ذلك رادع، ولذلك كانت من أعظم الحدود وأفتكها، وأشد هذه الحدود هو حد قطاع الطريق.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَنْوَاعٌ)، والمقصود قطاع الطريق المكلفون الملتزمون الذين يعرضون للناس بالسلاح، سواء كانوا في الصحراء، أو في البنيان، على أحد الأقوال، يأخذ أموال الناس مجاهرة، ويقتلونهم ويعتدون عليهم.
إذًا هي مكلفون ملتزمون، يعرضون للناس بالسلاح. هل يختص ذلك بالصحراء؟ أو يدخل فيه حتى الذين في البنيان؟ على قولين:
والقول بدخول البنيان مثل الصحراء له اعتبار، أو هو ظاهر، كما هو مشهور عند الحنابلة. لماذا فرقوا بينهما؟ لأن في الصحراء لا يمكن دفعهم، فيكثر بلاؤهم، وأما في المدن والبلدان، فحتى ولو عرضوا بأسلحتهم، فإنه من السهل أن يجتمع الناس، أن يسمع الجيران، أن يعرض الناس في الطريق، فيحول بينهم وبين بلائهم.
وأما في الصحراء فالغالب أن الناس يذهبون في انفراد، أو في قوافل صغيرة، أحوال متفرقة، لا يسمعهم أحد لو استغاثوا، ولا يمكنهم أحد لو طلبوا النجدة، ويتربص السراق بهم في كل حال، ولأجل ذلك قيل: هي خاصة بالصحراء.
ولكن متى ما كانوا يعرضون للناس في البنيان، لضعف الأمن، وقلة قبضة السلطان ونحوه، فيمكن أن يكون لهم دفع، وأن يكون لهم منع، وأن في ذلك الحد، ولذا ذكر المؤلف أحوالهم، فقال: (وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَنْوَاعٌ).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَمَنْ مِنْهُمْ قَتَلَ مُكَافِئًا أَوْ غَيْرَهُ كَوَلَدٍ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ مُكَافِئٌ حَتَّى يَشْتَهِرَ)}.
قوله: (فَمَنْ مِنْهُمْ قَتَلَ مُكَافِئًا) هذا أول هؤلاء القطاع، وهو أشدهم، أن يكون منه قتل، وأن يكون منه أخذ للأموال وسلب للممتلكات، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: من كانت هذه حاله، فإنه يُقتل ويصلب.
أمَّا القتل فجزاء فعلته الشنيعة، وأمَّا الصلب فتشهيرا به، حتى يرتدع الناس ويمتنع عن مثل هذه الأفعال، ولأجل ذلك قال: (فَمَنْ مِنْهُمْ قَتَلَ مُكَافِئًا أَوْ غَيْرَهُ كَوَلَدٍ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ ثُمَّ صُلِبَ)، فيفهم من ذلك أنه لا بد من شروط القصاص في القتل، وأما لو قتل من لا يُقتل به، كما لو قتل والدٌ ولده، فلا يحصل في مثل هذه الحال قَتلٌ.
ولا بد كذلك أن يكون المال الذي أخذه يبلغ حد السرقة، وهو الذي تُقطع به يد السارق، فلو كان دون ذلك لم يكن سببا لهذه العقوبة.
فإذا اجتمعت هذه الشروط، أن يكون آخذًا للمال، وقاتلا، وكان مكلفًا ومكافئًا له، حصلت هذه العقوبة، وهو القتل ثم الصلب.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ قَتَلَ فَقَطْ قُتِلَ حَتْمًا وَلَا صَلْبَ)}.
هذه هي الحالة الثانية، حصل منه قتل، واعتداء على الأرواح، ولكن لم يكن منه سلب للأموال، ولا أخذ للممتلكات، فهنا يُقتل بقتله، ويُؤخذ بجريرته، ولكنه لا يصلب، لأنه دون المرة الأولى، وإذا قيل بالصلب، فالصلب المشهور عندهم أنه يكون بعد قتله.
والمدة التي في ذلك بعضهم قال: حتى يشتهر أمره، ويرتدع الناس والسفهاء ومن في حكمهم، وأكثر أو أحسن ما قيل في هذا: ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك يُنزل، وَيُفعل به ما يفعل بالمسلم من تغسيل وتكفين وصلاة عليه؛ لأنه وإن كان منه هذه الجناية، وإن حصلت منه هذه الفعلة الشنيعة، إلا أنها لا تنفي عنه أحكام الإسلام، وما له من حق إخوة، ولو كان مُعتديًا أو ظالِمًا، ولو كان منه ما كان من الأفعال المشينة.
{قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ فَقَطْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ رِجْلُهُ الْيُسْرَى فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، وَحُسِمَتَا وَخُلِّيَ)}.
هذه هي الحالة الثالثة من أحوال قطاع الطريق، وهم الذين يُخيفون الناس، ويعرضون عليهم بالسلاح، ولكنهم لا يَقتلون، فإذا ترك هؤلاء أموالهم، وخلوا بينها وبين هؤلاء المجرمين، فتكون عقوبتهم في الحالة الثالثة قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في أن واحد، يعني: لا يُنتظر حتى تبرأ اليد ثم تقطع الرجل، لا، لأنها عقوبة واحدة، فبناء على ذلك يكون إيقاعها في حال واحدة، وكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: لو حصلت سراية؛ فإنها سراية من عمل مشروع، وبناء على ذلك لا يكون فيه شيء، فلا يؤخر قطع رجله عن قطع يده، بل تُجعل في آنٍ واحدة، ولذلك قال: (وَحُسِمَتَا وَخُلِّيَ)، أي: خلي سبيله، ولا يختلف الحال -كما ذكرنا- في أنه لا بد أن يكون قد أخذ مالا يُقطع في حد السرقة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ فَقَطْ نُفِيَ وَشُرِّدَ)}.
بعض السفهاء من الناس ينقم على غيره، أو يكون بينه وبين غيره شيء من العداوة، فيترصد له إذا خرج من بلدهم، ويخيفهم ويلقي فيهم الذعر، ويقطعهم عن الأعمال، ولا يفعل بهم أكثر من ذلك، وكأنه يريد يعني النكاية بهم ونحو ذلك، فيقول المؤلف: هذه الحالة الرابعة من أحوال قطاع الطريق، فهذا لا شك أن فيه حبس للناس عن حاجاتهم، ومنع لهم من قضاء أمورهم، فالناس يسافرون للبيع أو الشراء أو لصلة الأرحام، أو لتطبب وعلاج، أو لغير ذلك من الأسباب، فهذا الذي يُخيف السبيل يحول بينهم وبين حوائجهم، يمنعهم عن أمورهم، وكم يكون بسبب ذلك من انكفاء الناس، وتقلص أعمالهم، وحصول الشر فيهم، فالمريض يزداد مرضه، والفقير يشتد فقره، والمحتاج لا يستطيع قضاء حاجته وهكذا، ولأجل ذلك كان مخيف السبيل نوعًا من قطع للطريق، فيتعلق به عقوبة، ولذا قال: (وَإِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ فَقَطْ نُفِيَ وَشُرِّدَ) يعني: يُحمل فيجعل في بلاد بعيدة، ويمنع من الرجوع، ويراقب في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ، وَحِرْزٍ وَنِصَابٍ)}.
هذا فيه عقوبة شديدة؛ لأنه يبعد عن محاله التي يألفها، وأيضا قالوا: إنه لا يزال أن يُطرد ويمنع من أن يأوي إلى مكان، أو أن يسكن بلدا، فيكون في ذلك فيهم له من المعاناة ما له.
قال: (وَشُرِطَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ)، هذه حدود، والحدود لا بد في إقامتها من شيء يعتمد عليه، فلا تكون بدعوى، ولا تكون أيضا بظن، حتى ولو غلب، يعني: لو أننا كلما ذهب شخص من هذه المدينة في ليل أوقف وسلب ماله، فجئنا ففتشنا فوجدنا اثنين في رأس جبل، وعندهم بعض الأغراض، فهذه قرينة، ولكن هل نجزم بأن هؤلاء هم الذين يأخذون الناس ويعرضون لهم؟ نقول: لا، حتى وإن كانت حوائج الناس هذه هي التي بأيديهم، يمكن أنهم اشتروها، كأن وجدوها مع هؤلاء السراق، فظنوها من متاع يباع، فاشتروها منهم. ولذا كان ولابد من بينة أو إقرار، فإذا أقرا أنهما فعلا ذلك، فإنهما يؤخذان بما اقرأ به ويحاسبان.
قال: (وَحِرْزٍ وَنِصَابٍ)، والحرز هنا مختلف عن الحرز هناك، فيقولون: الحرز هنا هو ملازمة القافلة، فلا ينفرد عنها، فلو انفرد عنها فإنه لا يكون في مثل هذه الحال مأخوذا من حرزه، وهذا بالإضافة إلى بلوغ النصاب كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، سَقَطَ عَنْهُ حَقٌّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأُخِذَ بِحَقِّ آدَمِيٍّ)}.
هذه قاعدة، وهي أنه إذا تاب هذا القاطع للطريق قبل القدرة عليه، فإن لم يكن عليه إلا حقوق الله -جل وعلا- فإن التوبة تجب ما قبلها، وإنَّ حصول ذلك منه عقبها توبة، والتوبة تذهب ذنبه، وتزيل ما كان من سالف سيء عمله، فبناء على ذلك لا يؤاخذ بشيء من ذلك، كان منه زنا، أو كان منه إيذاء للناس، أو كان منه شرب للخمور، أو أي شيء من الحدود، سواء من قطع الطريق أو غيره.
ولكن يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: الذي يسقط عنه هو حق الله تعالى، وأما ما كان منه من سرقة، فصحيح أنه إذا تاب قبل القدرة عليه لا يُقطع، ولكن المال الذي أخذه يرد.
وصحيح أنه إذا حصل منه زنا لا يُحد، ولكن ما كان منه من اعتداء على شخص في قطع أصبعه، أو فقع عينه، أو نحو ذلك، فإنه يُؤخذ به، وأنه إذا قتل شخصًا فمن باب أولى أنه يُقتل به، ولكن على وجه القصاص لا على وجه الحد.
الفرق في قطاع الطريق في الحالة الأولى والثانية أنه يُقتل حدًا، وأما هنا إذا تاب قبل القدرة عليه وهو قاتل، إنما يقتل قصاصًا، إذا طالب أولياء الدم قُتِل، ولكن في الحالة الأولى حتى وإن عفا كل أولياء الدم فإنه لا يُفعل؛ لأن قتله في ذلك حد، والحد لحق الله -جل وعلا-، فلا يكون فيه مدخل للآدمي في عفو ولا سواه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال- رحمه الله-: (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لِلَّهِ فَتَابَ قَبْلَ ثُبُوتِهِ سَقَطَ)}.
هذا مثل ما ذكر المؤلف، أن من تاب من قطع الطريق قبل القدرة عليه، فإنه يسقط عنه حد حق الله -جل وعلا-، وكذلك سائر الحدود مثل ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حُرْمَتُهُ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ الْمُرِيدُ إِلَّا بِالْقَتْلِ أُبِيحَ، وَلَا ضَمَانَ)}.
قوله: (وَمَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حُرْمَتُهُ)، هذه حال الدفع، ويسميها أهل العلم أحوال دفع الصائل، والصائل هو الذي يعتدي على الإنسان، ويريد إيذاءه، والتسلط عليه، فيقول أهل العلم: القاعدة في ذلك أنَّ الدفع مأذون فيه، ولكن المأذون فيه بقدر ما يُحتاج إليه، وبناء على ذلك يُدفع بالأيسر فالأيسر، فإذا كان يندفع بكلمة لم يجز أن يُضرب، وإذا اندفع بضرب لم يجز أن يُقتل، أو أن تقطع يده أو نحوه. إذًا هذا هو الحال.
ومن أقبل عليك تعلقت به هذه الأحكام في الدفع ونحوه، فإذا أَعرضَ أو وَلَّى هاربًا لم يلحق بإيذاء، يعني بأن يقتل، ولك أن تلحق به لتمسكه ليحاسب، ولكن ليس لك أن تستبيح دمه أو نحوه، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (وَلَمْ يَنْدَفِعْ الْمُرِيدُ إِلَّا بِالْقَتْلِ أُبِيحَ).
إذًا كأنه يقول: يُدفع بالأسهل فالأسهل، ويُنظر في ذلك بحسب الحال، ومن جهة الأصل نقول: من أُريد ماله أو نفسه أو عرضه، فإنه يدفع عنه، «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ، فإذًا ليس على الإنسان غضاضة في أن يدفع عن نفسه، ولا أن يدفع من صال عليه، ولكن هل يلزمه هذا أو لا يلزمه؟
يقول أهل العلم: يختلف ذلك بحسب حاله، فأمَّا دفعه عن عرضه فلا يُختلف أنه يُدفع ولا شك، ولا يجوز له أن يُخلي بين عرضه وبين هذا المعتدي، حتى ولو آل ذلك إلى قتله، فإذا قتله فدمه هدر، وإذا قُتِلَ الدافع فهو شهيد.
وإذا كان الدفع عن المال، فلا يختلف أهل العلم أن له أن يدفع، ولكن لا يجب ذلك عليه، ولذلك لَمَّا سأل ذلك الرجل النبي قال: إن طلبني مالي قال: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ» ، فهذا دَلَّ على أنه يُباح الدفع، ولكن لا يجب، فلو أنَّ شخصًا أعطاه المال فَخَلَّى سبيله فهو جائز، ولكن لو كان يريد قتل نفسه! المقاتلة دون العرض واجبة، والمقاتلة دون المال مباحة، والمقاتلة دون النفس قال أهل العلم أيضا إنها واجبة؛ لأن نفسك ليست ملكا لك، ولا يجوز لك أن تستبيحها، فكما أنَّ الإنسان ليس له أن يقتل نفسه، فكذلك ليس له أن يخلي بين من يريد إزهاق روحه وإهلاك نفسه، فيلزمه الدفع عنه.
ويستثني من ذلك أهل العلم حالاً واحدة، وهي حال الفتنة، فإذا كان حال الفتن فإنه ينكفئ، ولذلك جاء في الحديث أن النبي قال: «فَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْمَقْتُولَ، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللهِ الْقَاتِلَ» ، ولأنَّ الفتن تختلط فيها أمور كثيرة، لا يسلم الإنسان من أن يكون مندفعا إلى ما لا يجوز الاندفاع إليه، وحاملا لشيء لا يجوز له أن يتبعه، أو يعمل فيه، فلذلك كان الانكفاء هو المطلوب، وكما كان من سعد بن أبي وقاص، قال: إنِّي سمعتُ رسولَ اللَّهِ يقولُ: «إنَّ اللَّهَ يحبُّ العبدَ التَّقيَّ الغنيَّ الخفيَّ» ، ثم لام ولده أن يطلب منه أن يخرج في الفتنة أو أن يدخل فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْبُغَاةُ ذُو شَوْكَةٍ يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ فَيَلْزَمُهُ مُرَاسَلَتُهُمْ)}.
هذه المسائل مما يبتلى بها الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، جاءت الشريعة وأُمر الناس بالاستقامة على إمامهم، ولا خير في الخروج عليه، ولا الانبعاث إلى التداعي إلى حصول الفتن، وأن تنبت نابتتها، وتكاثرت النصوص عن النبي في منع هذه الفتنة، ولذلك جاء في حديث العرباض بن سارية، وهو من أعظم الأحاديث، لَمَّا قال الصحابة: "كأنها موعظةُ مُودِّعٍ فأوصِنا، فقال : «أُوصيكم بتقوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، والسمعِ والطاعةِ، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي مأن رأسه زبيبة» ، والنبي لَمَّا قال ذلك، لم يُرد الإزراء بمثل هذا العبد، وحاشا رسول الله أن يكون منه ذلك، وهو الذي دفع ومنع كل هذه الأبواب، ولكنه إشارة إلى أنه لَمَّا كانت قريش، ومن في حكمهم، الذين يفتخرون بعروبتهم، ولا يرون أحدا أفضل منهم، وأنهم يزدرون ذلك، فيقول: لو جاءكم أقل الناس شأنا فيما ترونه كذلك، يعني: كالتنبيه عندهم بما يعتقدون، لا بما هو في حقيقة الحال، فمنع من ذلك.
فاسمعوا له وأطيعوا، يعني: هو قطع دابر الخروج على الإمام، مهما كانت عليك من الاستخفاف به، أو من بغيضته، أو انتقاصه، أو تراه ليس أهلا، سواء كان ذلك بعرقه، أو بجنسه، أو كان بقبيلته، أو كان بحاله، أو بوصفه، أو بغير ذلك، فهو قطع لدابره، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن النبي ، «مَن أتاكُمْ وأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ علَى رَجُلٍ واحِدٍ، يُرِيدُ أنْ يَشُقَّ عَصاكُمْ، أوْ يُفَرِّقَ جَماعَتَكُمْ، فاقْتُلُوهُ» ، كائنا من كان، كان عالما، كان ذو شأن، كان من آل النبي ، كان من الصحابة، وحاشا رسول الله وصحابته الكرام، ولكن مهما ارتفع حال المرء، فإنه طُلِبَ أن يُقطع دابر الفتنة، وأن تمنع حصولها.
إذًا هذا من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فيما على الإمام أن يعاملهم، وليس فيه الإذن لهم في ذلك، ولذلك سموا: بُغاة، ويعاملون بما يعامل به الصائل، من الدفع بالأيسر فالأيسر، ولكن فعلهم محرم، وعملهم إثم، وهم لا شك أنهم يتسببون على الناس بشر كبير؛ لأنه لا يُؤمن أنه إذا دخل الناس في الاقتتال أن تعود الأمور كما كانت، وأن يستقر حالهم، وأن تستقيم البلدان، وأن يعود إليها أمنها، وأن يستتب عليها ويحفظ عليها ما عهد فيها.
ولكن مع ذلك، لَمَّا كان هؤلاء البغاة ذو شوكة، وهم يقولون: ذو الشوكة يعني لا يندفعون إلا أن يُجمع لهم جيش، فالأمر فيه خطورة، فلأجل ذلك قال: (يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ)، هؤلاء يكونوا من البغاة، إذا لهم تأويل سائغ، وقالوا: التأويل السائغ كأن يكونوا ادَّعوا تعطيل الحدود، أو حصول الظلم والعدوان، ونحو ذلك، لا أن يطلبوا لأنفسهم شيئا، كالولاية أو نحوها، فإنَّ ذلك لا يكون.
ولكن إذا كان الأمر كذلك فهم يعتبرون بغاة، فإذا كانوا بغاة، فإنه (يَلْزَمُهُ مُرَاسَلَتُهُمْ)، وينظر في الشبهة التي علقت بأذهانهم، ويبين لهم كما كان من عليٍّ لَمَّا أرسل ابن عباس للخوارج، فبين لهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكانوا ستة آلاف، فرجع الثلثان.
إذًا لا بد من التوضيح والتبيين، وإقامة الحجة، وتسهيل الأمور، لعلهم أن يرجعوا ويتراجعوا، ويتذكرون ما أمر الله -جل وعلا- به من الطاعة، وما له من الحق، وما استحفظ من الولاية وما جعل الله -جل وعلا- عليه من اجتماع الناس، والائتلاف عليه.
ومن أعجب ما يقال في هذا، أن بعض السلف قالوا: الحكام لهم ذنوب كالجبال، ولهم حسنات كالليل، فإذا جاء الليل غطى الجبال، فما يكون من حفظ الأمن، وإقامة الشعائر، وصلاح أمر الناس، وحفظ أعراضهم، وإمكان أرزاقهم، ونحو ذلك، فإذا انضمَّ إلى ذلك استقامة دراساتهم وتعلمهم، وانتظام حياتهم وتطببهم ونحوها، كانت تلك خيرات عظيمة.
ولذلك رُؤى في البلدان التي قامت فيها بعض هذه الثورات، وأُظهرت فيها هذه المخالفات، مع ما كانوا فيه من سالف أمر من حال عصيبة، وربما كانت شديدة، وربما ظنوا أنه ليس شيء أسوأ من ذلك، حتى إذا وقعت الفتنة، رأوا أنهم كانوا في جنة، فأصبحوا في نار، وكانوا في أمان فصاروا في عذاب، وكانوا في خير فأمسوا في شر، فقد تغيرت أحوالهم، فلا بلادهم بالبلاد التي يعرفون، ولا من يلي أمرهم بالأمر الذي يحفظون، وربما جَرَّتْ عليهم من الويلات ما الله به عليم، والأمور شاهدة، ولا يمكن أن نقول هنا أو هناك، ولكن كل يعرف ذاك، وهذه من محاسن أهل السنة، ولم يكن من ذلك تأجيج إلا من أهل الأهواء، الذين لم يعرفوا مسلك أهل السنة، ولم يعرفوا عظم ما جاء في كتاب الله -جل وعلا-، وسنة رسوله ، حتى وُسِمَ من تكلم بذلك بأنهم علماء السلطان، أو غير ذلك من الأوصاف.
فنقول: وهل هذا مما قال به هؤلاء العلماء؟ انظر إلى ما قاله ابن قدامة في كتابه: فهل هو من علماء السلطان؟ أو ما قاله الإمام النووي! أو ما قاله الأئمة في عهد السلف الصالح، من التابعين وتابعيهم، وما جاء عن الإمام أحمد والشافعي وغيرهم على مر العصور، واختلاف المذاهب، وتباين البلدان، لم يختلفوا في ذلك.
ولكن أهل الأهواء يزينون لأهوائهم، ويشوهون طريقة علماء أهل الإسلام، ويريدون حصول النكاية بهم، وما ذاك إلا توظيف من جهات ظالمة، وأخرى مغرضة، ودول كافرة تريد الإغراء بهذه البلدان، وإخلاف حالها، وحصول البلاء فيها، وليس شيء أعظم من أن ينصدع البلد من أهله، وأن يتفكك في نفسه، وأن يكون بلاؤه منه، فليس شيء أعظم من ذلك، فأعظم ما يكون البلاء من الفرقة والاختلاف لأهل الإسلام، وإلا فما سوى ذلك مدفوع، ومهما اشتد من العدو فهو مدحور، والله يتولى عباده من حال إلى حال أخرى.
إذًا قال: (فَيَلْزَمُهُ مُرَاسَلَتُهُمْ).
{أحسن الله إليكم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِزَالَةُ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ شُبْهَةٍ وَمَظْلَمَةٍ، فَإِنْ فَاءُوا وَإِلَّا قَاتَلَهُمْ قَادِرٌ)}.
قوله: (وَإِزَالَةُ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ شُبْهَةٍ وَمَظْلَمَةٍ) فإذا كان لهم شبهة، كم من الأمور التي يظنون أنه أخطأ فيها وهو له من الأمور ما له، وإما ما اعتمد عليه من قول، أو ما ظهر له من حقيقة، أو ما لم يتبين لهم من حال، وظنوا أنه إنما ولى هذا لكونه قريبًا، ولكنه ولاه لكونه صالحًا، أو لكون كذا وكذا، إلى غير ذلك من أمور خفية فيها أشياء ليست ظاهرة، وليس في كل الأحوال أن هذا يُظهر، أو أن هذا يبان أو أن هذا يعلم، فليس هذا مما تساس به الأمور وتصلح.
ولكن إذا احتيج إلى ذلك كشفت الأمور، وبُيِّنَ لمن جاؤوا من عقلاء هؤلاء البغاة بالنظر والتحقق، فيبين لهم، فتُكشف هذه الشبهات، وتزال هذه المظالم إن كانت، وتصلح الأمور ليعودوا إلى ما كانوا.
وإذا لم يكن منهم عود ورجوع، فلا يكون إلا القتال، وهذا موجود في كتاب الله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات:٩]. إذًا لا يكون منهم بغي وظلم وبقاء على ذلك، وعدم الرجوع إلا أُبيح قتالهم، وجاز دفع شرهم، إبقاءً لبيضة الإسلام، وشوكة المسلمين، والاجتماع على إمامهم، ومنع لكل ما يكون به سبب بلائهم.
لكن لا بد أن يكون ذلك من قادر، وأما إذا كان ليس بقادر عليهم، فإنما دخوله معهم في اقتتال، إنما هو زيادة فساد، وتعريض للشر، واستباحة للدماء. فإذا لم ير من نفسه قدرة عليهم، فإنه يستصلح الأمر بما يراه، ويرجع بما يكون فيه صلاح الأمر، واستصلاحه بالوجه الذي تندفع به الشرور، وتحفظ به الدماء، وتحمى به بيضة الإسلام وبلاد المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل في أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ.
وَالْمُرْتَدُّ: مَنْ كَفَرَ طَوْعًا وَلَوْ مُمَيِّزًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ)
}.
قبل أن نأتي إلى المرتد نقول: الخوارج أشد من البغاة، فهم الذين يكفرون أهل الإسلام، ويشيعون البلاء، يستبيحون الدماء، وقد تكاثرت النصوص كما عند مسلم في صحيحه، وغيرها من الأحاديث الكثيرة في بلائهم وظلمهم، ومروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم من أكثر الناس جهلاً، وإن كثرت عبادتهم، أو قراءتهم للقرآن، لكنهم على غير علم، وعلى غير سنة، وعلى غير بصيرة، فهم شر قتلى تحت أديم الأرض، وخير قتيل من قتلهم، أو من قتلوه.
إذًا لا بد أن يعلم أن ما ابتلي الناس به في هذا الزمان من الخروج والعدوان، هو من أشر ما يكون من البلاء، وأشد ما يكون من الفتنة، وقد تكاثرت النصوص أن هؤلاء واقعون في الإثم، ومعرضون للوعيد الذي جاء عن النبي ، فلا ينبغي أن يُنصت إليهم منصت، ولا أن يَقْرُب منهم إنسان، ولا أن يسمع إلى شبههم، ولا أن يُروج لهم، فإنهم إنما رفعوا "ما أردنا إلا كتاب الله -جل وعلا-، فقال ابن عباس: كلمة حق أريد بها باطل، فهم قالوا: نريد التحاكم إلى كتاب الله -جل وعلا-، ثُمَّ أبان لهم ودفع عنهم الشبه، حتى استبان لأهل الحق منهم فرجعوا، وبقي من بقي على ضلاله، وحصلت الفتنة العظيمة، والبلاء الكبير، فلا ينبغي أن تتكرر هذه في مثل هذه الأوقات، وقد رأينا في أيام قليلة ماضية، وسنوات دامية، حصل فيها من البلاء، واستبيح فيها من الدماء، كلها من أهل الجهالات، ومن أهل الخروج والضلالات، من الفئات الضالة، التي زينت لأنفسها ما اجتمعت عليه من البغي والعدوان، وما وقع في نفوسها من الأهواء والضلال، فحصل بسبب ذلك البلاء العظيم، حتى استبيحت بيضة الإسلام، وحتى تدخل فيها من ليس منها من الكفار، وحصلت فتن بعد فتن عظمت، إنما سببها كان ضعف إيمانهم، وقلة علمهم، وكثرة أهوائهم، وتسلطهم على أهل الإسلام، وعدم رعايتهم لمنهاج أهل السنة والقرآن، أهل السنة والجماعة، طريق السلف الصالح.
قوله: (أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ) هذا الفصل في أحكام المرتد، والمرتد هو من كفر بعد إيمانه طوعا، سواء كان جادا أو هازلا، ويكون ذلك بفعلٍ أو بقولٍ أو باعتقادٍ أو بشكٍ، والمكفرات التي ذكرها الفقهاء كثيرة جدا، لم يذكرها الحنابلة ولا علماء هذه البلاد فحسب، بل هي مبثوثة، ستجدها في كتب الحنفية، في فصل أحكام المرتد، كما تجدها عند المالكية، كما تجدها عند الشافعية والحنابلة، يتفاوتون في مسألة أو مسألتين، ولكنهم يجتمعون في جُلِّ هذه المسائل، وستجدها في شراح الأحاديث وأهل التفسير، فالأمر في ذلك معلوم، ولكن ليس القول في أن هذا مرتد يعني: أن ذلك تكفير، أو تضليل، أو حمل راية لا وجه لها.
ولكن علماء الإسلام من أهل المذاهب دونما حصر، على اختلاف مذاهبهم، قرروا هذه الأحكام وجعلوا معها الوسائل التي يحكم بها بالكفر من عدمه، ومتى يتعلق به الحكم من سواه، فليس القول بأن هذا العمل كفر يعني: أن كل عامل به قد لحق به هذا الوصف، فيمكن أن ينتفي ذلك بشبهة، ويمكن أن يمتنع ذلك مانع جهالة، ويمكن أن يكون في ذلك له تأويل سائغ، فلا بد من وجود الشروط، وانتفاء الموانع.
وابن تيمية -رحمه الله- قرر ذلك في كتبه خير تقرير، وعلماء هذه البلاد المتقدم منهم والمتأخر، فصلوا أيضًا في ذلك، وهم حينما تكلموا على هذه المسائل لم يتكلموا عليها ببدع ولا بزيادة، وإنما تبعوا فيها ما كان من سالف أهل العلم المتقدمين، وقيدوا ذلك بقيوده، وجعلوه بشروطه، فمتى ما وصف شخص أو وصفت مسألة بأنها كفر فانتقالها إلى أن تتعلق بشخص ما، يحتاج إلى أمور كثيرة.
ثم إنَّ مسائل التكفير ليست من المسائل التي تشاع، فإنها مسائل عويصة، وأحكام صعبة، وفيها تقريرات مهمة، وإنما تُناط بأهلها، كأهل الإفتاء الذين هم أعرف الناس بالشريعة، وأعلمهم بالقرآن، وأعرفهم بالحدود، وبما ذكر أهل العلم في الأصول، وفي الفقه، وفي الفروع، وفي اجتماع الشروط، وانتفاء الموانع وسواها، فلا بد من العلم بذلك.
وأهل القضاء الذين لا يقومون بالأمر حتى تندفع كل شبهة، ويتحقق من كل أمر ويرى ذلك، ثم سيأتينا ما فيها من طلب التوبة، والرجوع والأوبة والتوبة إلى الله -جل وعلا-.
إذًا هذه أحكام لا شك أنها مُقررة عند أهل العلم، ولكنها مضبوطة بضوابطها، مقيدة بقيودها، منوطة بأهلها، وإلا فإنه جاء في الحديث الذي في الصحيح أنَّ النبي قال: «مَن بدَّل دينَه فاقتُلوه» ، وهو قول الله -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة:217].
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْمُرْتَدُّ: مَنْ كَفَرَ طَوْعًا وَلَوْ مُمَيِّزًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ)}.
إذًا (الْمُرْتَدُّ) هو (مَنْ كَفَرَ طَوْعًا)، فيخرج من أُكْرِهَ على ذلك؛ لقول الله -جل وعلا-: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل:106].
(وَلَوْ مُمَيِّزًا)؛ لأن المميز كما أنه يصح منه الإسلام ويُقبل منه، فإنه يعرف أيضا ما يكون من كفره فيبين، ولكن سيأتي في ذلك المميز حكمه إذا ارتد.
قال: (وَلَوْ مُمَيِّزًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ) فإنه يتصور منه الإسلام، ويتصور منه ضده.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَمَتَى ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَوْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ أَوْ جَحَدَهُ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ كِتَابًا أَوْ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا، أَوْ إِحْدَى الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ حُكْمًا ظَاهِرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَفَرَ، فَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ)}.
قوله: (فَمَتَى ادَّعَى النُّبُوَّةَ) من المعلوم عند أهل الإسلام قاطبة، يعرف ذلك الجاهل كما يعرف ذلك العالم، أن النبوة قد انقطعت، وأن النبي خاتم النبيين، فمن ادعى أن النبوة باقية، أو أنه يوحى إلى فلان، أو أنه نبي بعد نبينا محمد ، فقد كَذَّبَ القرآن، وقد كَذَّبَ النبي ، وبناء على ذلك يكون جاحدًا بالكتاب والسنة، ومخالفًا لظاهرها، فيكون ذلك كفرا. ولكن لو جاءنا شخص ننظر، هل في عقله شيء؟ هل عنده شبهة؟ من أين أتاه ذلك؟
وكما قلنا: كون هذا مما يعد كفرًا، لا يعني أن كل من تلبس به يصح عليه ذلك الوصف، بل لا بد في إنزالها على أحوال المكلفين من أشياء كثيرة، وأنها تناط بأهلها من أهل الإفتاء والقضاء، ويتحررون بجلب الشخص وإحضاره، ومن ثم النظر في حاله.
قال: (أَوْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ)، لا شك أن من سبَّ الله -جل وعلا- ورسوله، فإنه ليس في قلبه إيمان، ولم يقر في نفسه إسلام، وإلا فإنه لا يجرؤ على مثل ذلك، ولذلك أجمع أهل العلم على أن هذا مما يكون به الكفر بالله -جل وعلا-.
ولكن إذا تاب ساب الله -جل وعلا- ورسوله، فهل تقبل توبته أو لا؟
هذه المسألة عند أهل العلم فيها خلاف، فبعضهم يقول: لا تقبل توبته، وليس المقصود من قولهم: "لا تقبل توبته" أنها لا تكون صحيحة، بل ربما كانت صحيحة، وربما يكون قد رجع فعلا، ولكنها لا تنفي عنه حكم القتل، فالقتل لعظم جرمه حدًا، فيُقتل وأمره إلى الله، فإن كان قد تاب، فإن الله يتوب على من تاب، «والتوبةُ تَجبُّ ما كان قبلَها»، ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان:70] إلى غير ذلك.
ولكن بعض أهل العلم يقول: تُجرى عليه أحكام القتل هنا لما ذكرناه.
قال: (أَوْ جَحَدَهُ) أي: جحد الله أو رسوله، ولا شك -كما قلنا- أن هذا تكذيب للكتاب والسنة، فيكون كفرا بالله -جل وعلا-.
(أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ) جحد الصفة المستقرة الظاهرة في الكتاب والسنة، تكذيب لها، ولكن لأهل العلم تفاصيل في ذلك من جهة التأويل، كتأويل الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، ولهم في ذلك تفاصيل كثيرة، وأهل العلم مع ما حصل في مثل هذه المسائل من إشكالات كثيرة، فإنهم لم يُكفروا بالتأويل، ووقع اعتبار ما لحق بهم من الشبهة، ولم يزل علماء أهل السنة والجماعة يدفعون تلك الشبه، ويبينون النصوص، ويردون إلى ما جاء عن سلف هذه الأمة وصالحيها المتقدمين من الصحابة والتابعين، تبينًا للحق وردًّا للفتنة، ولكن من جهة التأويل، فإنه لا شك أنه ضلال، والحكم بالتكفير مسألة أخرى، إنما هو في الجحد الذي هو تكذيب للكتاب والسنة.
وأعظم من ذلك: الجهمية الذين جحدوا، كَفَّرَ أهل السنة الجهمية من حيث هم جهمية، ولكن إلحاق ذلك بهم كأشخاص لم يُعرف، حتى أحمد بن أبي دُؤَاد الذي حمل الفتنة على أشدها، يعني: اختلفت الرواية عن أحمد فيه، وبناء على ذلك يُعلم أنَّ مسائل التكفير من جهة إنزالها على الأشخاص ليست بالأمر اليسير، ولا ينبغي التساهل في ذلك، وفي تقرير ذلك ينبغي أن تُناط بأهلها، وأن يتعلق الحكم بوقائع بخصوصها، تدار في مجامع أهل العلم، وفي مواضعها التي أُنيطت بهم هذه الولاية، وجعلت لهم هذه المسؤولية.
قال: (أَوْ رَسُولًا أَوْ مَلَكًا) أي لو كذب أحد بنوح، أو بإبراهيم، أو بعيسى، فهذا مكذب بالمرسلين، ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء:105]، ونوح كان أول الرسل، ومع ذلك جعل الله -جل وعلا- المكذب بنوح مكذبا بسائر الرسل، ولذا كان لا بد من الإيمان بالرسل، سواء من عرفناه باسمه، أو من جاء خبره عن نبينا .
قال: (أَوْ مَلَكًا) أي الملائكة في كتاب الله -جل وعلا-.
قال: (أَوْ إِحْدَى الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ) لمن ليس بجاهل، كحديث عهد بإسلام، أو ناشئ في بادية، فمثل هذا ظاهر.
قال: (أَوْ حُكْمًا ظَاهِرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ) واحد أنكر تحريم الزنا، أو تحريم الربا، أو شرب الخمر، ونقول: تحريم الربا لا الاختلاف في بعض مسائله، أو التأول فيه، ولكن نتكلم عن الجحد من حيث أصل الحكم.
إذًا هذه مسائل يقولون: مما تعلم من الإسلام بالاضطرار، فالإنكار فيها رَدٌّ للكتاب والسنة، فيكون كفرا، ولكن الكفر من حيث هو، لا يعني تكفير القائل كما قلنا، حتى تحصل اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، وكونها من أهل الإفتاء أو القضاء، ومن في حكمهم.
{ثم قال: (أَوْ إِحْدَى الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ حُكْمًا ظَاهِرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ)}.
نعم، هذه تكلمنا عنها، وإحدى العبادات الخمس مثل: الصلاة، الزكاة، الحج، الصيام، فكلها معلومة، ومثل ذلك أيضا الأحكام الظاهرة، حكم الربا مثلا، أو الزنا، أو السرقة، أو طاعة الوالدين كلها ظاهرة.
{ثم قال -رحمه الله-: (كَفَرَ، فَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ)}.
إذا هذا هو الحكم، أنه يستتاب ثلاثة أيام، ويستتاب يعني: تطلب توبته، فيحبس ويُعَلَّم، وتُنفى شُبهته، ويترك وحده لعله أن يرجع وأن يراجع نفسه، فإذا رجع فالحمد لله، وإن أصر على ما هو عليه فإنه يقتل؛ لأنَّ النبي قال: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ» . فإذا أَصَرَّ على ذلك فهذا حاله، وهذا حكم الله -جل وعلا- فيه، ولكن لا يكون أحد سوي، يعرف الإسلام ويشرب قلبه به، ثم يعود بعد ذلك ناكصا، نسأل الله الثبات والاستقامة، ونعوذ بالله من الضلال والخذلان.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا تُقْبَلُ ظَاهِرًا مِمَّنْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ، أَوْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، وَلَا مِنْ مُنَافِقٍ وَسَاحِرٍ)}.
كما قلنا: (لَا تُقْبَلُ ظَاهِرًا مِمَّنْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ) لِمَا ذكرناه قبل قليل.
قال: (أَوْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ)، أي: كلما أسلم عاد وارتد، فإن مثل هذا لا يُوثق به، ويكون حاله كحال المنافق، وبناء على ذلك قال بعضهم: "ثلاث مرات" فإذا كان قد ارتد للمرة الثالثة، فهنا لو عاد فإنه لا يقبل منه؛ لأنه لا يُؤمن أن يكون كاذبا أو أن يعود كما كان. وكل ما قلناه إنما هو في الظاهر، يعني في إجراء الأحكام عليه؛ لأنه مستحق للقتل، ولكن قد تكون توبته صحيحة، فيعفى عنه عند الله -جل وعلا-؛ لأنَّ التوبة تَجُبُّ ما قبلها.
ومثل ذلك المنافق؛ لأنَّ حقيقة النفاق أن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فكونه يظهر الإسلام بعد أن عرفنا نفاقه، ثم بعد ذلك قال: أنا تبت، فما يوجد شيء يمكن أن يعلم به صدقه، ويتيقن به حصول المقصود، ولأجل ذلك قالوا: إنه يقتل في مثل تلك الحال.
قال: (وَسَاحِرٍ) والساحر حَدُّه ضربة بالسيف، والساحر المقصود به هو من يستعمل التعويذات الشركية، ويستعين بالجن، ولا يتأتى ذلك إلا بأحوال مشينة من الكفريات، مثل: البول على القرآن، أو جعل القذرات ونحوها فيها، إلى أشياء كثيرة، ومنها الاستعانة بالجن، وربما دعاؤهم من دون الله -جل وعلا- وأشياء كثيرة معروفة.
وللسحر مسالك، وله مراتب، وربما وجدت بعض ما كُتب فيه شيء يطيش العقل إذا قرأ مثل ذلك ممن حفظه الله -جل وعلا- مما فيه من البلاء، وما يظهر فيه من النكارة، ولكنها نفوس مظلمة، استولت عليها الشياطين، فحملتها على ما حملتها عليه، فلا شك أن حده ضربة بالسيف.
وقالوا: إنه لا يمكن توبته؛ لأنَّ الجن لا يتركونه، ولهم في ذلك تفاصيل، وعلى كل حال: لا نقف مع هذه المسألة، فهي موكلة إلى أهل القضاء.
{أحسن الله إليكم شيخنا، المسألة التي بعدها من المسائل المهمة، ولكننا نرجئها -إن شاء الله- للحلقة القادمة}.
هذه وإن كانت آخر مسألة في هذا الباب، ولكنها من الأهمية بمكان، وتحتاج إلى الوقوف، فلعلنا أن نرجئها، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك