الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7528 33
الدرس الثامن

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المفضال، حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وأسعد الله أيامكم بالخيرات والبركات.
{رضي الله عنك شيخنا، كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (باب الوقف) وتحديدًا عند أحكام النظارة، ثم المسألة التي تليها}.
نبدأ على بركة الله.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ غَيْرِهِ فَهُوَ لِذِكَرٍ وَأُنْثَى بِالسَّوِيَّةِ، ثُمَّ لِوَلَدِ بَنِيهِ، وَعَلَى بَنِيهِ أَوْ بَنِي فُلَانٍ فَلِذُكُورٍ فَقَطْ، وَإِنْ كَانُوا قَبِيلَةً دَخَلَ النِّسَاءُ دُونَ أَوْلَادِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ قَوْمِهِ دَخَلَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَجَدِّ أَبِيهِ لَا مُخَالِفُ دِينِهِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من العالمين العاملين، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وأن يوفقنا للعلم والعمل، وأن يرفع بنا منارة، وأن يبقينا فيه، وأن يجعله عملا صالحًا نلقى به الله -جل وعلا-.
هذه المسائل التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- هي في نهاية هذا الباب، وهي من المسائل التي يكثر فيها الكلام، ويظهر فيها الخلاف والنزاع، ولا تخلو كثير من الأوقاف إذا وجدت هذه الألفاظ من المنازعة والإشكال، ويتبع ذلك أشياء كثيرة، ولكن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يذكرون ذلك باعتبار الأصل، من حيث ما يحتمله اللفظ، فإذا وجد في ذلك تخصيص، أو وجد في ذلك عُرفٌ خاصٌ، فإنه قد يكون مُقدمًا على هذا، وإذا لم يوجد فيرجع إلى الأصل. فما الأصل؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ غَيْرِهِ فَهُوَ لِذِكَرٍ وَأُنْثَى بِالسَّوِيَّةِ)، فإذا قال: أولاد علي، فأولاد عليٍّ إناثهم ورجالهم على حد سواء، والصغير والكبير مثل ذلك، من كان منهم غنيًا، ومن كان منهم فقيرًا، لا يختلف.
قال: (ثُمَّ لِوَلَدِ بَنِيهِ) يعني: أن هذا الانتقال ينتقل إلى البطن الثاني، بمعنى: أنه لا يُنتقل إلى البطن الثاني حتى ينتهي البطن الأول، إلا أن يكون هناك تنصيص منه، فإذا قال: من مات منهم يأخذ ولده ما كان سيأخذه أبوه، فيُنتقل إلى الابن، ولكن من حيث الأصل أنَّ الترتيب يكون على حسب البطون.
إذا قال: ثم لولد بنيه، يعني: أولاد الأبناء، وهذا يعني أنَّ "بنات أولاد الأبناء" لا يدخلن في ذلك أيضًا. لماذا؟ لأنه جَرَت العادة أنهم:

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَباعد

فهذا من حيث المعنى في الأصل كما قلت لكم، كل هذه من جهة دلالة اللفظ؛ لأنه لَمَّا تعذر أن يُوجد تنصيص، وأن يكون له عرف يُرجع إليه، ويعتاد الناس فهمه، فهنا يحصل الخلاف، فالخلاف يقطع بما يحتمله هذا اللفظ، وما يحتمله هذا اللفظ هو ما ذكروه هنا.
ولذلك لو قال: "وعلى بنيه، أو بني فلان فللذكور فقط"، والولد بمعنى المولود، والمولود يطلق على الذكر والأنثى على حد سواء، فإذا قال أولاد، فمعنى ذلك: أنه يشترك في هذا الابن والبنت، وأَمَّا أبناء فيقابلها بنات، ومعنى ذلك: أنه إذا قيل: أبناء فلان، فقد تعلق الحكم بالذكور.
ولَمَّا كان الواقف له أن يخص، وله أن يعم، وله أن يدخل الخمسة، أو العشرة، أو هذه الفئة، أو الفئة الثانية، فله ذلك ما لم يكن مبناه على شيء من الظلم، كما تقدم في المجلس الماضي.
فإذا قال: على (بني فلان) فإنَّ الابن اسم للذكور دون الإناث فلم يدخلوا كما قلنا، وهذا من جهة اعتبار اللفظ فقط، ولأجل ذلك قال المؤلف: (فَلِذُكُورٍ فَقَطْ).
(وَإِنْ كَانُوا قَبِيلَةً) القبيلة اسم يدخل فيها كل من انضوى تحت اسمها، وبناء على ذلك: النساء والرجال يدخلون في هذا، ولكن النساء لو كان لهن أولاد، فأولادهن لا ينسبون إليهن، وبناء على ذلك لا ينسبون إلى هذه القبيلة من جهة الأم، ولأجل ذلك قالوا: إنه لو أوصى لقبيلة آل فلان؛ فإنه يدخل فيها النساء والرجال، وأولاد الرجال دون أولاد النساء.
ولكن لو كانت المرأة متزوجة من قبيلتها، فيستحق الولد ولكن ليس من جهة أمه، وإنما من جهة أبيه؛ لأنَّ الإنسان يُنسب في قبيلته إلى أبيه، ولذلك قال: (وَإِنْ كَانُوا قَبِيلَةً دَخَلَ النِّسَاءُ دُونَ أَوْلَادِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ) يعني: من غير اسم القبيلة، فأما لو كانت النساء متزوجات من القبيلة، فيدخلوا في ذلك باعتبار أنهم ينسبون إلى هذه القبيلة من جهة أبيهم، فأخذوا ذلك وتلقوه عنه.
قال: (وَعَلَى قَرَابَتِهِ أَوْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ قَوْمِهِ دَخَلَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى)، فإذا قال: على قرابتي، على أهل بيتي، على قومي، فالفقهاء نظروا إلى الذكر والأنثى؛ لأنهم كلهم قرابة، وكلهم أهل بيت، وكلهم من قوم الإنسان.
هل القرابة تكون إلى الجد العاشر أو الثاني عشر؟ قال: لا، العرف دال على الرابع، ولذلك قال: (مِنْ أَوْلَادِهِ) أي: الابن، البنت، فلان وهكذا.
قال: (وَأَوْلَادِ أَبِيهِ) الذين هم إخوانه، وأولاد جده، الذين هم أعمامه.
(وَجَدِّ أَبِيهِ) الذين هما أعمام أبيه.
وهذه عادة عند الناس أنهم يكونون أكثر قربى ويتناصرون بهم، ويعتدُّونَ بهم، فهم من أهل البيت، من القرابة، من القوم، فهذا هو العرف، وإلا كما قلت: ربما تمتد، وربما يدخل من حيث المعنى ما هو أكثر من ذلك.
ولكن لَمَّا كان هذا أكثر ما يكون في العرف، فجعلوه مُتعلقًا بذلك لا يُزاد فيه.
قال: بشرط (لَا مُخَالِفُ دِينِهِ) أمَّا لو حصلت المخالفة في الدين؛ فإنه يخرج من الآل، ويخرج من هذا الاعتبار، فلا يدخل في اسم الوقف في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، وَإِلَّا جَازَ التَّفْضِيلُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ)}.
قوله: (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى جَمَاعَةٍ) فالجماعة ربما تكون كثيرة، وربما تكون قليلة، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يخلو في هذه الحال من أن تكون إمَّا محصورة عشرة مثلا، كأن يقول: أولاد محمد بن صالح، وأولاد محمد بن صالح يُعرف فيهم: فلان وفلان وفلان، فيعدون سبعة عشر شخصًا. فيقول المؤلف -رحمه الله-: ما دام أنه (يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ وَجَبَ تَعْمِيمُهُمْ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ)، أو كانوا خمسة وعشرين، أو كانوا ستة وستين، أو قريبا من ذلك مما يمكن حصرهم.
طبعا إذا أمكن حصرهم فالحكم يتعلق به أمران:
التعميم: فلا يخص واحدًا دون آخر، والتسوية: فلا يأخذ أحد أكثر مما يأخذ الآخر، ولا بد أن يكونوا على حد سواء في الاستحقاق، وفي قدره.
أمَّا إذا قال مثلا: على بني هاشم، وبنو هاشم تجدهم في أصقاع المعمورة. أو قال: مِن بني تميم، أو قبيلة عَنَزَة، أو قبيلة كذا، سواء كانوا في تشاد أو كانوا في المغرب أو كانوا في أي بلد، وكل نوع باعتبار قبائلهم وما ينتسبون إليه.
فإذا لم يكن ثَمَّ قُدرة على حصرهم، كقحطان أو غيرها من القبائل، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في مثل هذه الحال: (وَإِلَّا جَازَ التَّفْضِيلُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ)؛ لأنه قطعًا
لا بمكن التسوية ولا التعميم، وبالتالي: (جَازَ التَّفْضِيلُ وَالِاقْتِصَارُ)، فإذا أعطى خمسة، أو إذا أعطى عشرة، فقد حقق ما قصده الواقف، وإذا خَصَّ أناسًا، أو أعطى هذا عشرًا وهذا عشرين، فيقول المؤلف: (جَازَ التَّفْضِيلُ وَالِاقْتِصَارُ) على البعض دون الآخرين.
إذًا إنما يجب الأمران إذا أمكن الحصر، وأمَّا إذا لم يمكن الحصر فقد ذهب اعتبار الأمرين، وبالتالي يجوز الاقتصار ويجوز التفضيل.
{أحسن الله إليكم.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله-: (الْهِبَةُ)}.
لَمَّا أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالوقف، بدأ بالهبة، والهبة إما أن تكون على وجه العطية، أو على وجه الصدقة، أو على وجه الإحسان، أو على وجه التودد، ويمكن أن تكون في حال الحياة أو في حال المرض، والهبة تسمى: العطية، وسيتكلم عليها المؤلف -رحمه الله تعالى-.
وسميت الهبة كذلك من هبوب الريح؛ لأنها تهب فيأتي معها ما يأتي بدون ما عناء ودون ما عوض، وهكذا، ولذلك يقولون: الهبة تمليك بلا عوض، "تمليك جائز التصرف مالاً معلومًا أو مجهولاً بلا عوض"، وسواء كان من الأموال، أو ما في حكمها كالاختصاصات.
{قال -رحمه الله-: (وَالْهِبَةُ مُسْتَحَبَّةٌ)}.
نعم الهبة مستحبة لِمَا فيها من الإحسان، ولِمَا فيها من البر، ولِمَا فيها من الأجر، سواء كانت على وجه الصدقة التي جاءت الأحاديث وتكاثرت بها، أو كانت على وجه الهدية، «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» ، أو كانت على وجه ردم الهوة، ومنع الجفوة، وحصول القربى، والاعتذار عن الخطيئة، يعني: كلها يكون فيها من الخير والأثر ما هو مستحضر فيمن وهب، وأحسن، وتصدق، وبذل، وأهدى، وتكرم.
{قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ هِبَةُ مُصْحَفٍ، وَكُلُّ مَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَتَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عُرْفًا)}.
من حيث الأصل فكل ما يصح بيعه، باعتبار أنه مال، فكما أنَّ الإنسان له أن يُفاوض عليه، فله أن يُعطيه، وله أن يَهبه، فلمَّا كان المصحف مما لا يجوز بيعه؛ أراد المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا أن يُنبه أنه وإن لم يصح بيع المصحف، وهو ليس بداخل في الجملة التي بعدها، لكنه مع ذلك يصح هبته؛ لأنَّ المقصود من عدم البيع لا لكونه فيه مالية، ولكن من جهة منع الامتهان، وهبته وإهداؤه ونحو ذلك لا يكون فيها امتهان، فأمكن هبته وإهداؤه وبذله لمن طلبه.
إذًا كل ما يصح بيعه على حد سواء، ففي أقل الأشياء أو أكثرها، كل ذلك يصح الهبة به والهدية.
{قال: (وَتَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عُرْفًا، وَتَلْزمُ بِقَبْضٍ بِإِذْنِ وَاهِبٍ)}.
كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- جعل باب الهبة أوسع بكثير مما تقدم، فليس لها لفظ يخصها، بل كل ما دلَّ عليها، مثل: "خذ هذه، أو وهبتك، أو أعطيتك، أو تبرعت لك، أو أهديت لك، أو مننت عليك" فما دام أنها تدل على الهبة، فإن الهبة تصح به.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَتَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا عُرْفًا) وتختلف أعراف الناس في طريقة الأداء، فربما أرسلها برسالة، وربما كتب عليها عبارة، وربما جعلها في غلاف معين فيعرف الناس أنها تكون على هذا الوجه إهداء وإعطاء وهبة، وأشياء كثيرة أخرى لا حصر لها، وتختلف باختلاف الناس، وببلدانهم، وعصورهم، فكل ما يدل على الهبة فإنه ينعقد به، ولكن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: (وَتَنْعَقِدُ) فإذا قال: وهبتك فقد استحققت هذه الهبة.
يقول: (وَتَلْزمُ بِقَبْضٍ بِإِذْنِ وَاهِبٍ)، فإذًا هي تنعقد ولكنها غير لازمة، والفرق في ذلك أننا إذا قلنا إنها غير لازمة، يعني: يمكن للواهب أن يرجع فيها، وأصل ذلك لَمَّا وهب أبو بكر عائشة -رضي الله عنها- عشرين وسقًا، فقال: "فَلَوْ كُنْتِ ‌جَذَذْتِيهِ، وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ" ، فدل ذلك على أنَّ الهبة إنما تكون لازمة، وتكون مستقرة، ولا يمكن الرجوع فيها بالقبض، وما سوى ذلك؛ فإنه يجوز للإنسان أن يرجع، ولا غضاضة عليه في أن يعود، وسيأتي بيان ذلك من جهة كراهته وعدم استحبابه، ولكنه لا يترتب عليه منع ولا حرمة.
قال: (وَتَلْزمُ بِقَبْضٍ بِإِذْنِ وَاهِبٍ)، يعني: إذا وهب الشخص شيئًا، فليس للمتهب أن يتسلط عليه وأن يأخذه حتى يستقر. فيقول المؤلف: هي تلزم بالقبض، ولكن لا بد من أن يكون القبض بإذن الواهب.
مثال: لو أنَّ شخصًا وهب آخر جوالاً مثلا، فخطفه من يده، فنقول: ليس لك ذلك، ولكن إذا وهبك فإننا ننتظر إذا أذن لك وقال: خذه، أو سلمه لك، أو قال: خذه الآن فهو لك. فإذا قبضه بيده فقد لزم.
ولكن كل ذلك لا بد وأن يكون بإذن الواهب، فإذا لم يأذن الواهب فأخذه أو تسلط عليه، فهذا قبض لا يحصل به اللزوم ولا استقرار الهبة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَبْرَأَ غَرِيمَهُ بَرِئَ، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ)}.
هذه مسألة مهمة، وهي كثيرة الوقوع، وكثيرًا ما يحصل اللوم فيها، يعني: لو أنَّ شخصًا يريد من آخر مئة ريال، سواء كانت قرضًا، أو دينًا، أو استحقاقًا لأرش عيب، أو لأي سبب من الأسباب، فجاء وأعطاه وقال: خذ المئة، قال: لا، لا أريد منك شيئًا، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا قال: لا أريد منك شيئًا، قال: بل لابد أن تأخذها، فيقول المؤلف: إنَّ قول القائل: لا أريد منك شيئًا يُسقطُ حقه؛ لأنَّ مَنْ أَبرأَ غريمه بَرِئَ ولو لم يقبل.
إذًا عندنا مسألتان، هما:
- مسألة إنشاء العقود.
- مسألة إسقاطها.
فإنشاء العقود يحتاج فيها إلى إيجاب وقبول، ويحتاج فيها إلى صيغة، وهذه الصيغة أحيانا تكون قولية، وأحيانا تكون فعليه، ويحتاج فيها أحيانا إلى التفرق، ويكون فيه الخيار بعدم ذلك، وكل هذا إنما هو في باب الإنشاء.
أما باب الإسقاط فبابه أسهل ما يكون، فهو كحل عقال، لا يحتاج فيه إلى إذن، ولذلك كثير من الناس ربما يتمنع على سبيل المجاملة، ثم يلوم. يقول لماذا لم يعطني حقي؟
فنقول: انتبه، إمَّا أنك مريد لحقك فلا تسقطه، وإذا تكلمت بأي كلمة تدل على الإسقاط سقط، حتى ولو لم يرض، فلا يتوقف على رضا المدين. فهذه من المسائل التي يكثر وقوعها، ويحصل اللوم فيها، كأن يقول أحدهم: إنَّ فلانًا أقرضته ولم يرد إليَّ. نقول: هو جاء ليرد إليك فقلت: لا أريد منك شيئًا، وقولك هذا حكم شرعي يُنهي حقك شرعًا، ولا يجوز لك المطالبة به، حتى ولو كان العرف عند الناس هو الترفع عن ذا أو غيره، فإنَّ هذا العرف لا يُفيد أو أنه لا يمنع حصول ما يترتب عليه الإسقاط، وهو ذهاب حقك من جهة الشرع، ومن جهة المطالبة في الدنيا، وحصول الإثم في الآخرة.
{قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ تَعْدِيلٌ فِي عَطِيَّةِ وَارِثٍ بِأَنْ يُعْطِيَ كَلًّا بِقَدْرِ إِرْثِهِ، فَإِنْ فَضَّلَ سَوَّى بِرُجُوعٍ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ ثَبَتَ تَفْضِيلُهُ)}.
هذه المسألة التي ذكرها الحنابلة فيها إشكال كبير، فإن المؤلف -رحمه الله تعالى- قد عَمَّمَ فقال: (وَيَجِبُ تَعْدِيلٌ فِي عَطِيَّةِ وَارِثٍ)، أي: كل الورثة، يعني: إذا كان منهم: عم، أو أخ، أو ابن أخ أب، فما دام أنهم يدخلون في الإرث؛ فإنه لا بد في حال الحياة من التسوية بينهم، وهذا فيه شيء من الإشكال، ولا شك أنَّ التعديل بين الأولاد كما في حديث النعمان، «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» ، وحديث: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟» قال لا. قال: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ، وفي المشهور من مذهب الحنابلة أن التعديل واجب، فلا إشكال، ولكن هل ينتقل في ذلك إلى سائر القرابات؟ بمعنى أنه لو أعطى ورثته من الأقارب لم يلزم أن يُسوي معهم من يرثه بالنسب -بالنكاح أو بالزواج- أو لا يلزم، يعني: تعطي أولادك ولا تعطي زوجاتك فلا بأس، وإنما يجب التعديل بين الزوجات، فإذا أعطيت واحدة فعليك إعطاء غيرها في النفقة، وعلى قول في عموم ذلك.
إذا محل الكلام هنا إنما هو في القرابة الذين هم الأولاد، فالأولاد في المشهور من المذهب أنه يجب التعديل بينهم، خلافا للجمهور، ومن سوى ذلك فظاهر كلام المؤلف أنه يدخل كل الورثة، فإذا كان من ورثته الأخوات لأب، أو أبناء لأخ، أو الأعمام بحسب من يرثه، فيدخلون فيما يجب أن يُعدل بينهم في العطية في حال الحياة.
قال: (فَإِنْ فَضَّلَ سَوَّى بِرُجُوعٍ) يعني: إذا حصل منه تفضيل، فالأفضل والأتم أن يُسوي بينهم بالرجوع، وإما أن يعطي الآخرين مثل ما أعطى الغير.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ ثَبَتَ تَفْضِيلُهُ)}.
أي: إذا لم يرجع حتى مات فيقولون: إنها ثابتة وانتهت؛ لقول أبي بكر: "فَلَوْ كُنْتِ ‌جَذَذْتِيهِ، وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ"، ولأن النبي قال: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ، فمعنى ذلك أنه تورع -كما فهم الجمهور- قالوا: إنَّ هذا تورع من النبي من هذا، لا أنه ممنوع، فلمَّا كان له وجه قالوا بثبوته بعد وفاته في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ عَلَى وَاهِبٍ أنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ قَبْضٍ، وَكُرِهَ قَبْلَهُ إِلَّا الْأَبَ)}.
قبل أن نأتي على هذه، أريد أن أنبه على مسألة كان الأولى بنا أن نذكرها في أول الباب، وهي أنَّ الهبة إمَّا أن تكون صدقة، وإمَّا أن تكون هبة أو هدية، والصدقة تكون في الغالب على من هو دون الإنسان، والهدية تكون على من هو أعلى منه، وتكون على سبيل التودد والإكرام.
هل الهبة بينهما أو لا؟ محتمل، وأكثر استعمالهم أنهم يستعملونها على أنها بإزاء الصدقة، أو تطلق عليهما، فتكون الهبة إمَّا صدقة، وإمَّا هدية، وإن كان في كلامهم شيء من عدم الوضوح لذلك.
الحقيقة أنه يترتب على هذا، مثل: ما يجعل أحيانا في المسجد من مناديل مثلا، فهو إذا كان على سبيل التودد والإكرام فتكون هدية، ولكن الغالب لا، وإنما على سبيل الإحسان وطلب الأجر، فتكون صدقة، وهذا يُفضي إلى أنَّ الإنسان يعرف هل هو مما يحب أن يتعرض للصدقة، والأصل أنَّ الإنسان يتورع منها تأسيًا بالنبي ، أو أنَّ هذه داخلة فيما يتساهل الناس فيه، أو أنها تكون في حكم إذا قلنا: إنَّ الهبة منزلة بين الصدقة وبين الهدية، فتكون بابها باب الهبة.
والحقيقة أنني عندي شيء من التردد في ذلك، وأقرب ما يكون من حيث الأصل أنَّ بابها باب الصدقة، فالأحسن فيها الورع والتورع.
إذا ننتقل إلى ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا، حيث قال: (وَيَحْرُمُ عَلَى وَاهِبٍ أنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ قَبْضٍ)، فلَمَّا قرر أنَّ الهبة مستحبة، قال: إنه لا يجوز للإنسان أن يرجع في الهبة إذا لزمت، ولزومها بقبضها، وأصل ذلك ما جاء في الحديث أنَّ النبي قال: «العائِدُ في هِبَتِهِ كالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ» ، وهذا مع بيان عدم الجواز، إلا أنه تقبيح لصورة الرجوع في الهبة، كما أنَّ الإنسان يستقذر أن يعود إلى قيئه فيأكله أو يتعاطاه، فقد مُثِّل بما هو أسوأ من ذلك، وهو الكلب الذي عرف من سائر الحيوان أنه يعود في قيئه فيأكله، فكان هذا من التنبيه على التنفير منها، والبعد عن فعلها.
يقول: (وَكُرِهَ قَبْلَهُ) يعني: قبل لزوم الهبة يمكن للإنسان أن يرجع، ومع ذلك قالوا: إنَّ هذا الرجوع على سبيل الكراهة لماذا؟ لأنه لَمَّا وهب تعلقت به نفس المتهب، وتطلع إليها، فكان في ذلك كسر لخاطره، وحصول ضد مقصود الهبة من الإحسان، والتودد، ورأب الصدع، وإصلاح الأمر، وطلب الصلة، ونحوها، فلأجل ذلك كرهوه؛ ولأنه قد جاء في الهبة بعد لزومها ما جاء من التعظيم، فكان ذلك لا أقل من أن تكون بعد انعقادها مكروهة لِمَا ذكرناه.
قال: (إِلَّا الْأَبَ)، فالأب له أن يرجع، وهو مستثنى مما تقدم، للأب أن يرجع في هبته إذا وهب ولده، لماذا؟ لأنه أولا من جهة الأصل أنه جاء به الحديث، «إِلاَّ الوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» . هذا واحد.
الثاني: أنَّ الأب من حيث الأصل يجوز له أن يأخذ من مال ولده؛ لقوله : «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» ، فإن ولدك من كسبك، كما جاء في الأحاديث.
وبناء على ذلك قالوا: إنه لا يحرم عليه الرجوع، ولكن هل هو على سبيل الكراهة أو الإباحة؟ قد يفهم من كلام المؤلف أنه راجع لما تقدم من الكراهة، وقد يقال بإباحة ذلك والتوسع فيه.
{قال: (وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِقَبْضٍ مَعَ قَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ غَيْرِ سُرِّيَّةٍ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَضُرَّهُ، أَوْ لِيُعْطِيَهُ لِوَلَدٍ آخَرَ، أَوْ يَكُنْ بِمَرَضِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، أَوْ يَكُنْ كَافِرًا، وَالابْنُ مُسْلِمًا)}.
قوله: (وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ بِقَبْضٍ مَعَ قَوْلٍ أَوْ نِيَّةٍ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ) إذا الضمير راجع إلى الأب، فله أن يتملك من مال ولده، وهذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، وذلك خلافًا للجمهور بالشروط السبعة التي أشار المؤلف -رحمه الله تعالى- إليها، اعتبارًا بما جاء في الحديث، «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» ، وهنا قصة لطيفة يحسن للطالب أن يرجع إليها، وقد جاءت في بعض روايات الأحاديث، وأنشد في سبب ورود الحديث وذكر فيه أبيات شعر لطيفة، طلبها النبي من ذلك الأب، والتي فيها:

غَذوَتُكَ مولوداً وَعُلتُكَ يافِعاً ... تُعَلُّ بِما أُحنيَ عَلَيكَ وَتَنهلُ
إِذا لَيلَةٌ نابَتكَ بِالشَكو لَم ... أَبِت لِشَكواكَ إِلّا ساهِراً أَتَمَلمَلُ
فَلَيتَكَ إِذ لَم تَرعَ حَقَّ أُبوَتي ... فَعَلتَ كَما الجارُ المُجاورُ يَفعَلُ

أبيات لطيفة، وفيها قصة يحسن بكم الرجوع إليها.
على كل حال نقول: له أن يتملك، وهذا باعتبار ما جاء به النص، وباعتبار أن كسب الولد من كسب أبيه.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بِقَبْضٍ مَعَ قَوْلٍ)، فلا بد أن يقول: تملكت من مالك هذا، (أَوْ نِيَّةٍ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ غَيْرِ سُرِّيَّةٍ)، والسرية اسم للأمة التي وطئها، فإذا لم تكن وطئت فهي قنة، أمة ونحو ذلك، فإذا وطئها فهي سرية، وليس للأب أن يستبيح بضعها بعد أن وطئها ولده، وذلك قياسًا على زوجة الولد.
قال: (مَا شَاءَ) فله ما سوى ذلك أن يتملكه وأن يأخذه لم يضره، فلا يُضِرُّ بولده فيأخذ من ماله مَا لَهُ به ضرورة، كمسكن أو آلة يتكسب بها، وهي التي يتوقف عليها دخله وعيش ولده، ونحو ذلك.
قال: (أَوْ لِيُعْطِيَهُ لِوَلَدٍ آخَرَ) فإنَّ في هذا كسر لقلب الولد، ويكون في ذلك شيء من التفريق، أو توغر به الصدور.
قال: (أَوْ يَكُنْ بِمَرَضِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا)، فإذا كان موت الأب، فكأنه أخذه ليعطيه إخوانه، ودخل فيما تقدم، أو الولد فكأنه أخذ ما تعلق به مال الورثة ونحو ذلك.
قال: (أَوْ يَكُنْ كَافِرًا، وَالابْنُ مُسْلِمًا) كذلك فإنه ليس له أن يأخذ من ماله، فاتفاق الدين هو أصل في الاستحقاق.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَيْسَ لِوَلَدٍ وَلَا لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ أَبِيهِ بِدَيْنٍ وَنَحْوِهِ بَلْ بِنَفَقَةٍ وَاجِبَةٍ)}.
مسألتان ذكرهما الفقهاء وفيها إشكال، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: لو كان لك دين، يعني: استدان منك أبوك عشرين ألفا، فطلبت من الأب أن يعطيك إياها فامتنع أو تأخر أو توانى، فليس لك أن تطالبه عند القاضي؛ لأنَّ هذا نوع من العقوق، ولأنَّ للأب من جهة الأصل أن يتملك من مال الولد، ولكن في المقابل: لو كان للإنسان نفقة واجبة، فله أن يطلبها من أبيه، وإذا امتنع الوالد فله أن يرفعها إلى الحاكم.
ولكن هذا مشكل، يعني مال الإنسان الذي له وأعطاه لوالده على سبيل الإقراض عند الحنابلة لا يجوز له أن يُطالب به، وهو أكثر استحقاقًا له.
وأمَّا النفقة الواجبة، فله أن يطالبه بها، لعل ذلك راجع في الحقيقة إلى أنَّ النفقة يحتاجها الولد، بخلاف القرض أو المطالبة، مع أنها لا تخلو من إشكال من جهة التنظير والتفريق، فلم يتبين لي فرق الآن.
وأذكر أنني كتبت فيها بعض الأشياء، فإن استقر لي شيء فيها ذكرته في درس قادم -بإذن الله- ولكن لا شك أنها مما تستدعي شيئًا من النظر.
وهنا تذكرت مسألة، وهي في الكلام على عطية الأولاد، وأنا إنما أريد أن أنبه على هذه المسألة، لأنَّ كلام الفقهاء في العدل بين الأولاد إنما هو في الإعطاء لا في الإنفاق، بمعنى أنَّه يجب على الأب أن ينفق على كل أحد بما يحتاجه، فإذا كان مثلا الولد ابن عشر سنوات فيشترى له حذاء بمئتي ريال، ولكن حذاء الآخر ابن السنوات الست لا يزيد على مئة وعشرين، فلا يعني ذلك أنه يزيد الآخر ثمانين ريالا، أو العكس.
وكذلك البنت لأن نفقتها في الكسوة أزيد من نفقة الولد، فلا يعني هذا أن يعطيهما سواء، ويجب عليه أن ينفق عليهم بما يحتاجون، وبحسب حاله، وما يتعارف عليه، هذا في النفقة.
وأمَّا الإعطاء فهو شيء زائد على ذلك، فهذا هو الذي يتعلق به حكم العدل وعدم التفضيل.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ مَرَضُهُ غَيْرُ مُخَوِّفٍ تَصَرُّفُهُ كَصَحِيحٍ، أَوْ مُخَوِّفٍ كَبِرْسَامٍ أَوْ إِسْهَالٍ مُتَدَارَكٍ.
وَمَا قَالَ طَبِيبَانِ مُسْلِمَانِ عَدْلَانِ عِنْدَ إِشْكَالِهِ: إِنَّهُ مُخَوِّفٌ لَا يَلْزَمُ تَبَرُّعُهُ لِوَارِثٍ بِشَيْءٍ، وَلَا بِمَا فَوْقَ الثُّلُثِ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ)
}.
قوله: (وَمَنْ مَرَضُهُ غَيْرُ مُخَوِّفٍ) هذا شروعٌ من المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام العطية، والعطية عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى- من جهة المعنى اللغوي رديفة الهبة، ولكنها عند الفقهاء مخصوصة بما يعطى في مرض الموت.
قال: (وَمَنْ مَرَضُهُ غَيْرُ مُخَوِّفٍ) ما المرض المخوف؟ وما المرض غير المخوف؟
هذا في الحقيقة يختلف باختلاف الأزمنة، وهي اليوم أشد اختلافًا، خاصة بما آل إليه الطب، والتطور فيه من العلاج وطرائق الشفاء، وما أقيم من المستشفيات، وما جدَّ من العقاقير، وهي أشياء كثيرة في الحقيقة هي مختلفة عمَّا مضى، ولكن من حيث الأصل متى يكون المرض مخوفا، ومتى لا يكن مخوفا؟
في تحديد ذلك شيء من التفاوت، ولكن الحنابلة وبعض الفقهاء يقولون: ما يكثر به الموت يعد مخوفًا، وما لا يكثر به الموت به لا يعد مخوفا، فإذا أصيب الإنسان بمرض عادة لا يموت الناس به، ولكن مع ذلك لَمَّا أُصيب به هذا الشخص رأيناه في حال نظن أنه سيمت فيه، ولكن من جهة أصل المرض فهذا لا يموت به الناس غالبًا، وبالتالي لا نعتبره مرضًا مخوفًا.
مثال؛ لأنَّ هذه المسألة دقيقة قليلا. عندنا ما يُسمى بالإنفلونزا، أو الحرارة البسيطة، فالحرارة عادة والإنفلونزا لا يموت بها الناس، ولكنها أصابت شخصًا إصابة بالغة، حتى رأيناه على خلاف المعتاد، فخشينا عليه الهلكة، فَلَمَّا كانت العادة الغالبة في هذا المرض أنَّ الناس لا يموتون به، فلا يُعد ذلك مرضا مخوفا.
والعكس بالعكس، فإذا كان بعض أمراض السرطان مثلا وليس كلها، والأطباء يَفرقون، فإذا كانت العادة أن هذه الصورة من صور المرض تؤول إلى الموت، ولكن نرى ذلك الشخص فيه قوة وفيه عافية، وحتى في تطلع الأطباء يتوقعون أنه لا يموت، ولكن هذا المرض عادة يموت أو غالبا يموت به الناس، فنعتبره في مرض الموت، وهذا تحديده فيما مضى.
الآن الحقيقة أنه اختلف، ولذلك قد ينتقل إلى ما قرره المؤلف -رحمه الله تعالى- بأنَّ ما قاله (طَبِيبَانِ مُسْلِمَانِ عَدْلَانِ)، فما يحكم به أهل الطب من أهل العدالة، ومن أهل الإسلام، في أنه مخوف، أو أن صاحبه يغلب عليه الهلكة بذلك، فيكون ذلك أدق وأبعد من التفاوتات وحصول الإشكالات.
قال: (كَبِرْسَامٍ أَوْ إِسْهَالٍ) البرسام ما هو؟ يقولون: هو مثل الأبخرة التي تصل للإنسان وتؤثر عليه، وربما يذهب عقله أو يموت. والفالج هو ما يسمى عند الناس الجلطة؛ لأنها تفلج الجسد، ولذلك يقولون: أول فالج وآخر سل، أول الفالج أي: أول الجلطة، وحتى عند أهل الطب الحديث إذا مضت أربع وعشرون ساعة أو ثمانية وأربعون ساعة؛ فإن مرحلة الخطر قد مرت، ولكن في هذه يمكن أن ترتدَّ عليه الجلطة فيموت بذلك، فجعلوه مخوفًا في أوله لا في آخره، بخلاف مرض السل.
المهم أنهم ذكروا أمثلة بحسب ما وقفوا عليه، وكما قلنا: إن الأمور مختلفة فيكون الاعتبار بما آل إليه حال الطب، وبما توصلت إليه الطرائق الحديثة، من طرائق للعلاج والشفاء، وما يحكمون بتعذر ذلك، أو غلبة حصول الهلكة والموت من سواها.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: مَن كان في مرض مخوف، ووصل إلى هذه الحال، فلا يلزم تبرعه لوارثه بشيء، فإذا أعطى وارثه لا يصح، ولا يملك، فلو قال: هذه السيارة لمحمد وهو في مرض مخوف نقول: لا يصح ما دام أنَّ محمدًا من الورثة.
وأمَّا إذا كان من غير الورثة، فإن كانت من الثلث فإنه يجوز له أن يتبرع، وأن يوصي، وأن يوقف، فكذلك إذا أعطى هذا، فكما لو أعطاه بعد موته وصية، فإنها جائزة.
فلأجل ذلك يقولون: من كان في مرض مخوف يعامل معاملة من كان مع الوصية، بمعنى أنها لا تنفذ إلا في الثلث ولغير الورثة، وأمَّا إذا كانت للورثة، أو كانت بأكثر من الثلث؛ فإنَّ ذلك متوقف على موافقة الورثة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنِ امْتَدَّ مَرَضُهُ بِجُذَامٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَقْطَعْهُ بِفِرَاشٍ فَكَصَحِيحٍ، وَيُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ لَا)}.
هذا ذكر لبعض الأمراض التي هل تدخل أو لا تدخل، فمعنى ذلك: أنهم ينحون منحى التفصيل إذا وصلوا إلى مثل هذه النتائج، ومثل ما قلنا: إن الطب الحديث له الآن أحوال أخرى في تقسيم الأمراض، وفي درجاتها، وفيما يؤول إلى الموت أو لا، فيمكن أن يستعن بهم على ما ذكر الفقهاء، وذلك أقرب إلى المراد، وإلى تحقيق ما ذكره الفقهاء.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيُبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ بِالْعَطِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَيُعْتَبَرُ قُبُولُهَا عِنْدَ وُجُودِهَا، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا مِنْ حِينِهَا، وَالْوَصِيَّةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ)}.
لَمَّا ذكر الفقهاء أنَّ حكم العطية في مرض الموت تكون في حكم الوصية، أراد المؤلف أن يُبين الفروقات الأربعة بين الوصية والعطية.
إذًا هو أخرج العطية من كونها هبة، ثم أراد أن يبين أن العطية ليست مثل الوصية سواء بسواء، وهي في الأصل في مثل حكمها إلا في أربعة أشياء، فقال: (وَيُبْدَأُ بِالْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ بِالْعَطِيَّةِ)، بمعنى أنَّ الوصية لا، فالوصية لو أوصى قبل أن يموت بخمس سنوات لزيد، ثم أوصى لعمرو، فهما سواء، لأنَّ العبرة بوقت الاستحقاق، ولكن إذا أعطى محمدًا ثم أعطى خالدًا، فبناء على ذلك نعتبر بالأول فالأول، فإذا كان خالدا قد زاد على الثلث، فمعنى ذلك أنه قد يحبس ماله باعتبار أنه قد استنفذ الثلث بإعطاء محمد وهكذا.
قال: (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا) إذًا لو أعطى محمدًا عطية، وهو ممن انطبقت عليه الشروط، إمَّا لكونه قد أجازه الورثة، أو لكونه من غير الورثة ولم تزد العطية على الثلث، فبناء على ذلك: لو قبض محمد وأراد أن يرجع، نقول: ليس لك الرجوع.
وأمَّا لو أوصى الموصي بأن لفلان كذا، ولفلان كذا، ولفلان كذا، فالوصية لا تلزم إلا بالموت، وبناء على ذلك: يجوز له الرجوع فيها. هذا الثاني.
الثالث، قال: (وَيُعْتَبَرُ قُبُولُهَا عِنْدَ وُجُودِهَا) يعني هذا بالنسبة للعطية، فإذا قال: أعطيتك هذه السيارة وقبلت، فهذا قبول، ولكن الوصية لو كانت قبل الموت، كحال من قال: تراني موص لك بعد موتي بهذه السيارة، نقول: لا ينفع، وأمَّا إذا مات الموصي فقبل الموصى له فقد استحق، ولذا قال: (وَيُعْتَبَرُ قُبُولُهَا عِنْدَ وُجُودِهَا).
قال: (وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا مِنْ حِينِهَا)، بمعنى أنه لو أعطاه هذه الدار وهي مؤجرة، ثم صار لها غلة لإيجارها، فمعنى ذلك أنه لَمَّا ملكها فستكون الغلة لمالكها الذي هو المعطى، بخلاف الوصية.
فلو افترضنا أنَّ هذا الشخص قد أوصى لفلان بهذه العمارة، ثم بعد ذلك صار لها غلة، ولو قَبِلَ، أي قال: أنا قبلت، فنقول: قبوله وملكه ليس إلا بعد الموت، وبناء على ذلك ما يكون من غلة قبل موته له، بل حتى لو مات ثم لم يقبل بعد، فتكون الغلة لأهلها؛ لأنها لا تنتقل إلا بالقبول، والقبول محله بعد الموت، فيكون ذلك هو وقت استحقاقه، ولذلك قال المؤلف: (وَالْوَصِيَّةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ) يعني: في الفروقات الأربعة التي هي فروقات بين العطية والوصية.
{أحسن الله إليكم.
هذه جملة من الأحكام التي قد تعلقت بباب الهبة، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفتح لكم، وأن ينفع بكم، وأن يزيدكم من فضله}.
اللهم آمين، جزاك الله خيرا، ونكتفي بهذا القدر.
{جزاك الله خيرًا، وأحسن الله إليكم، ونفع بكم، وزادكم من فضله.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك