الدرس الرابع والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7544 33
الدرس الرابع والعشرون

أخصر المختصرات 4

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أعزاءنا المشاهدين الكرام، في حلقة جديدة من برنامجكم (جادة المتعلم) الذي تقدمه جمعية (هداة الخيرية) لتعليم العلوم الشرعية.
لا زلنا وإياكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الدمشقي -رحمه الله تعالى-، يشرحه فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{الله يحفظكم شيخنا، نستأذنكم في إكمال القراءة}.
نعم استعن بالله تعالى.
{قال -رحمه الله-: فصل. (وَتَجِبُ الْحَضَانَةُ لِحِفْظِ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَمَعْتُوهٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، وأوليائه الصالحين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا نسوا تذكروا، وإذا عصوا استغفروا، وأن يغفر لنا أجمعين، وأن يتولانا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي أنهينا ما يتعلق بالكلام على (باب النفقات) وذلك على ما جرى عليه هذا الكتاب، وهو أخصر المختصرات، حيث فيه من الاختصار، وفيه من الإجمال، وفيه من الإتيان على أمهات المسائل في كل باب، وهذا نوع من التأليف مفيد للغاية، إذ أن طالبه لا يستغني عن مجامع المسائل في كل باب، فيما يكون من المهم له أن يستذكرها، وأن تكون حاضرة في ذهنه، والأمر كذلك في هذا الفصل، وهو فصل في (الْحَضَانَة)، ولما كانت الحضانة من توابع مسائل النكاح، وربما أكثر ما يحتاج إليها عقيب الطلاق أو الفراق، سواء كان ذلك بموت ونحوه، فكان ذِكْرُ المؤلف -رحمه الله تعالى- لها هنا مناسبا.
ولما ذكروا ما يتعلق بالنفقة فإن أيضا مما يلتصق بذلك الحضانة، فكان ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- والفقهاء لها في هذا المكان.
والحضانة من الحضن؛ لأن الصغير يُضم إلى حضن أمه، رعاية لشؤونه، وقياما على مصالحه، ولذلك كان حقيقتها في الاصطلاح عند الفقهاء (لِحِفْظِ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَمَعْتُوهٍ) ومن في حكم المجانين، والقيام على مصالحهم، وفعل ما يكون به تربيتهم وإصلاح أمرهم، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يذكر إذًا في هذا الباب ما يتعلق بهذه المسألة من أحكام وتفصيلات، وقد جاء ذلك في كتاب الله -جلَّ وعلا-: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:233]، فيدخل في ذلك القيام عليه، وما يتعلق بالإحسان إلى الصغير، ويدل لذلك أيضا عمومات الأدلة.
ولا يختلف أهل العلم في أنه لا يجوز تضييع الصغار، ويجب القيام بهم، ويتعلق ذلك بالأولى فالأولى، ولذلك سيذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- جملة من هذه المسائل، منها: من الأحق بالحضانة؟ ومن الذي يتولى شأنه؟ ومن الذي يقوم عليه؟
قال: (وَتَجِبُ الْحَضَانَةُ لِحِفْظِ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَمَعْتُوهٍ) يعني: أن الحضانة واجبة، لا يجوز تضيع طفل، ولا إهمال صبي، ولا تسييب معتوه ولا مجنون، مهما لحق الإنسان من العناء، ومهما اشتد عليه من المعالجة، فلا بد من القيام عليهم، ولا بد من تحمل تبعاتهم، والسعي في كل ما يمكن أن يكون به تحصيل مصالحهم.
ومن ابتلي من هؤلاء المجانين والمعاتيه بشيء، فليحمد الله على ما نزل من المصاب، وما يدري ما تدخل به هذه المصابات عليه من البركة، والرحمة، وتكفير السيئات، وحصول الخير في الرزق، وما يدفع الله به على أهل هذا البيت من النقمة، ويذهب عليهم من أنواع السوء والبلاء والمحنة، وما يُعد الله -جلَّ وعلا- لهم في الآخرة إن أحسنوا القصد، وطلبوا الأجر من الثواب والرفعة، والله -جلَّ وعلا- والله لا يضيع عملا المحسنين.
إذًا الحضانة واجبة، ولا يتصور في بلاد أهل الإسلام أن يبقى أحد بدون قيام على شأنه، إن كان من قريب أو كان من صديق، أو كان من متبرع، أو وجب على القاضي أن يولي عليه حتى ولو احتاج ذلك إلى أن يكون بأجرة، مع أنه من فروض الكفايات أن يقوم المؤمنون بعضهم ببعض، وهي من حقيقة الولاية التي قال الله -جلَّ وعلا- فيها: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، إذا هي واجبة، ولا يتصور ضياع لصغير، من حيث الأصل في دين أهل الإسلام، وما جاءت به شريعة النبي .
من الذي تتعلق به الحضانة؟
قال: (لِحِفْظِ صَغِيرٍ)، إذًا ليس كل أحد يُحضن، وليس كل أحد يُقام عليه، فمن كان يستطيع السعي على مصالح نفسه، وجلب الرزق له، ويعرف الخير من الشر، ويعان على العمل الصالح وما يرضي الله -جل وعلا-؛ فإنه يقوم بنفسه، ولذلك قال الفقهاء: (لِحِفْظِ صَغِيرٍ)، وهذا الصغير يكون دون سبع سنين في باب الحضانة، وبعد سبع سنين تكون له أيضا إلى أن يبلغ، ثم بعد ذلك يتعلق به أحكام أخر، يذكر الفقهاء بيانها في المطولات، وفي نهاية الباب ستكون هناك إشارة لهذا.
وهم يقصدون بالصغير من هو دون سبع؛ لأن بعد السبع يكون له حكم آخر.
قال: (وَمَجْنُونٍ وَمَعْتُوهٍ) المجنون أيضًا، حتى وإن كان ابن عشرين سنة، أو ابن ثلاثين، حتى وإن زاد في ذلك ما زاد.
ما الفرق بين المجنون المعتوه؟
الجنون هو ذهاب العقل وإطباق ذلك، وأما المعتوه فهو الذي لا يسعى على مصالحه، ولا يحسن القيام على نفسه، وإن كان عنده بعض إدراك أو تلقي للأوامر، أو يمكن أن يكون أهدأ من الجنون أو أسهل منه في بعض الأحوال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْأَحَقُّ بِهَا أُمٌ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى)}.
إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر ما يقابل الوجوب، فالحضانة واجبة بالنسبة للصغير، ولكن بالنسبة للاستحقاق فلو حصل تنازع أو حصل تسابق، فهذا يقول: أنا أحفظه، وهذا يقول: أنا أقوم عليه، وهذا يقول: أنا أولى به، فمن الأولى بذلك عند حصول مثل هذا التسابق والتنافس على هذا المحضون، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَالْأَحَقُّ بِهَا أُمٌ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى) مثل: أم الأم، وأم أم الأم وهكذا؛ لأن جهتها جهة الأمومة، فَيَكُنَّ أولى بذلك ممن سواهم، ويشترطون طبعا أن تكون عاقلة، وإن تكون رشيدة، وأن تكون عدلا، وأن تقوم على هذا الطفل، وأن تحسن القيام عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ أَبٌ، ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذَلِكَ)}.
إذا بعد الأم وأمهاتها يأتي الأب، فإذا لم يوجد أم وأمهاتها فأبوه يقوم عليه، والأم مقدمة على الأب لِمَا قُلنا، ولأن الأب دائما خارج البيت لجلب الرزق والقيام على مصالح البيت في ذلك، والأم تُعنى بالتربية، وإصلاح الولد، وتهيئته وتأديبه وتهذيبه ونحوه، فلذلك كانت أولى، فيكون الأب ثم أمهاته، لأنهن وإن كنَّ أمهات، إلا أنهن لَمَّا كنَّ من جهة الأب كانت أمهات الأم أولى من أمهات الأب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ جَدٌّ ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذَلِكَ)}.
كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى- الجد ثم أمهاته، فالفقهاء يلحظون في ذلك أولا: القرابة ويلحظون من جهة مطلوب الحضانة، وهي: الإحسان والتربية، وهي في الإناث وفي الأمهات أقرب منها في غيرهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ، ثُمَّ لِأُمٍّ ثُمَّ لِأَبٍ)}.
(أُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ) واضحة؛ لأنها أدلت بقرابتين، ولكن لأم لأن جهة الأم أكثر شفقة من جهة الأب، ولذلك قدمت الخالة على من سواها كما في الحديث الذي في الصحيح، ولأجل ذلك قدمت الأخت الأم هنا على الأخت لأب لِمَا ذكرنا من أن جهات الأمومة أقوى في جهة الحضانة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ خَالَةٌ، ثُمَّ عَمَّةٌ)}.
لأن الخالة أدلت بقرابة الأم، وأمَّا العمة فأدلت بقرابة الأب، وقلنا: إن هذه تقدم فيها جهات الأمهات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ بِنْتُ أَخٍ وَأُخْتٍ، ثُمَّ بِنْتُ عَمٍّ وَعَمَّةٍ، ثُمَّ بِنْتُ عَمِّ أَبٍ وَعَمَّتِهِ عَلَى مَا فُصِّلَ، ثُمَّ لِبَاقِي الْعَصَبَةِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ)}.
كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- من هذه الترتيبات، وهذا اجتهاد من الفقهاء، نظروا إلى القرابة، ونظروا إلى معنى الشفقة وتحصيل المصلحة، فاعتبروه، وإلا فليس ثم كثير من الأدلة التي تدل على التنصيص في الترتيب، وإنما هي استدلالات من العموم ومما جاء في الحديث «الخَالَةُ بمنزِلَةِ الأُمِّ» ، ولذلك لن تخلو هذه المسائل من إشكالات كثيرة، ويتفاوت فيها كلام أهل العلم فيما يتعلق بالأولى، خاصة إذا خرجنا من عمودي النسب، أو من الأبوين وأمهاتهم، فيكثر ذلك الخلاف.
وابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد لَمَّا عرض لهذه المسألة، ذكر فيها ضابطًا، وهذا الضابط وإن كان في الحقيقة لم يوافق ما بالتدقيق الذي ذكره الفقه عندنا -رحمهم الله تعالى- إلا أنه له ملحظ لطيف من جهة التوفيق بين ما جاء في القرابات، وما جاء في اعتبار الشفقة في الإناث، فقال: الأقرب فالأقرب، والأنثى مقدمة على الرجل، فالأصل في القرابة بعمودي النسب ثم من بعدهم، ولكن لو افترضنا وجود أخ وأخت، فالأخت مقدمة على الأخ، لماذا؟ لأنها من جهة الأم وجهة الإناث، والإناث أكثر شفقة، فتكون مقدمة
لا يخلو الإشكال من بعض الإيرادات ونحوها، ولكنه ذكر في ذلك تفصيلا، ولكن الحديث هنا على سبيل الإجمال ونحوه، ومن أراد الاستزادة فإنه يرجع إليه في زاد المعاد، فقد ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- فصلا لطيفا متعلقا بأحكام الحضانة، وذكر فيه تحريرا ربما لا يُقاربه غيره، أو تميز عن كثير ممن عرض لهذه المسألة، على ما عرض فيه الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ لِبَاقِي الْعَصَبَةِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ)}.
لأن الأقرب أولى، وأيضا الغنم بالغرم، ولِمَا جاء في الشرع من اعتبار القرابات واعتبار الصلة، وهذه من الصلة، والقيام على المحضون مما يتأتى به الوصل لأبيه أو لأمه، والقيام عليه وهو تربطك به رابطة نسب وعصبة وقرابة، وأيضا هو الأولى فالأولى، وما جاء في الشرع من اعتبار الأولى، وتعلق المسؤولية عليه والواجب به، ظاهر في عمومات الأدلة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ كَوْنُهُ مَحْرَمًا لِأُنْثَى)}.
هذه مسألة مهمة، وهي لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- القرابات من العصبة، فإن بعض العصبة قد لا يكون محرما، وربما تحصل من المفسدة ضد ما يراد لها من القيام والشفقة، فلو كان المحضون "بنتا"، والحاضن "ابن عم"، ففي مثل هذه الحالة ربما لا يُؤمن عليها، ربما يحصل منه تعدٍ، فمن حيث الأصل يعتبر أن يكون محرما، فلو كانت بنت أخته من الرضاع أو نحو ذلك، أو بنت أخيه من الرضاع، مع كونه ابن عم لها أو نحوه، فيكون الأمر في ذلك حسن.
ويتأتى بذلك أن الحضانة المقصود بها تحصيل مصلحة المحضون، ومثل هذا قد لا يكون فيه مصلحة، فيتنبه لذلك.
ولذا إذا انتقل إلى من هو أبعد لأجل أن يكون محرما أو نحوه، مع وجود الأقرب لكونه غير محرم، فيكون ذلك صحيحا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ثُمَّ لِذِي رَحِمٍ ثُمَّ لِحَاكِمٍ)}.
لو لم يوجد أحد من العصابات، ووجد رحم كخال أو خال أب أو نحوه، فلا بأس؛ لأن الخال والأرحام هم من لهم قرابة ولكن من جهة النساء لا من جهة الرجال، ولذلك هم لا يدخلون في المواريث إلا على قول عند عدم العصابات، هل هم الأولى من بيت المال أو لا، وفي هذا خلاف، والحنابلة يقدمونهم ويعتبرونهم أولى لعمومات الأدلة، ولِمَا جاء عن بعض الصحابة، فلأجل ذلك أدخلوهم أيضا في هذا عند الحاجة إليه، في القيام بالحضانة للمحضون والصغير.
قال: (ثُمَّ لِحَاكِمٍ) فالحاكم يقوم بذلك، وليس المقصود بهذا أن يتولى الحاكم ذلك بنفسه، بل إما أن يكون عنده من يلي ذلك على وجه الوكالة، أو ينظر الحاكم من هو الأولى به، سواء من جار أو من قريب أو ممن يؤتمن عليه في دينه، فينظر في ذلك وإذا جعل بيت المال بيوتا مخصوصة للقيام على هؤلاء الصغار، كان ذلك أيضا مما يحصل به المقصود، وتبرأ به الذمة وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا تَثْبُتُ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ)}.
لأنها ولاية، ومن فيه رِقٌ فإنه مُولى عليه من جهة سيده، وبناء على ذلك لا يصلح أن يكون حاضنا بأي حال من الأحوال، حتى ولو كان أبًا، حتى ولو كانت أمًّا؛ لأنهم في كل هذه الأحوال تناط المسؤولية بمن يقوم عليهم، وهم لا يستطيعون أن يتصرفوا في أنفسهم لكونهم مماليك.
والرق سواء كان رقا كاملا أو فيه بعض الرق، ولذلك عبر المؤلف بقوله: (لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ) يعني: لو كان مبعضًا فمن باب أولى إذا كان رقه كاملا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ)}.
الكافر لا يكون واليا على المسلم، لما يخاف من شره، ولأن النبي قال: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عليه» ومقتضى أن يكون وليا، فمعنى ذلك أن يكون له علو، وأمر، ونهي، وتربية وتأديب، وهو لا يُؤتمَنُ في ذلك كله أن يكون منه البلاء، وأن يحمله على السوء، وأن يُعلمه الشرك بالله جل وعلا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا لِفَاسِقٍ)}.
الفاسق كذلك؛ لأن المقصود منه تأديبه، وهو أعظم ما يكون به التأديب تعليمه على الشرائع، وقيامه بالمفروضات، وحفظه ومحافظته على الصلوات، وتعليمه على ما يقوم به دينه، من صيام وسواه، والفاسق لا يُؤمن على ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا لِمُزَوَّجَةٍ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ مِنْ حِينِ عَقْدٍ)}.
لأنَّ المرأة أولى بولدها، ولكنها إذا تزوجت فإنما منافعها محبوسة على زوجها، وربما كان انشغالها بمحضونها يُفوت حق زوجها، فلأجل ذلك من هذا الباب جاء في الحديث أنَّ النبي قال فيهما لما اختصما: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لم تَنْكِحِي» ، فدل ذلك على أنها إذا تزوجت فلا، إلا أن يكون هذا الزوج من أقارب المحضون، ولذلك قال: (وَلَا لِمُزَوَّجَةٍ بِأَجْنَبِيٍّ)، أمَّا إذا كان من أقاربه المحضون ونحوهم، فبناء على ذلك يقولون: إنه لا يَذهب حقها في الحضانة، ولا تُرفع يدها من هذا الملحظ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَقْلَهُ إِلَى بَلَدٍ آمَنٍ، وَطُرُقُهُ مَسَافَةُ قَصْرٍ فَأَكْثِرْ لِيَسْكُنَهُ فَأَبٌ أَحَقٌّ، أَوْ إِلَى قَرِيبٍ لِلسُّكْنَى فَأُمٌّ)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَقْلَهُ إِلَى بَلَدٍ آمَنٍ) فيما مضى كان الانتقال من بلد إلى بلد يعتريه ما يعتريه من أشياء كثيرة، والتعرض للسفر هو تعرض للهلكة من حيث الأصل، ولذلك قال: (إِلَى بَلَدٍ آمَنٍ، وَطُرُقُهُ مَسَافَةُ قَصْرٍ فَأَكْثِرْ) لماذا؟ سواء كان الأب هو المنتقل أو كان الأب هو الباقي في البلد، فإن كان الأب هو الباقي في البلد هذا ظاهر، ولكن إذا كان الأب منتقلا فيقولون: إن الأب هو الذي يحصل به زجر الولد عن المكاره، ومنعه عن الأشياء، فإننا لو أقررنا الأمة على الحضانة، فإن ذلك لا يمنع من أنه إذا كانا في بلد واحد أن أباه يؤدبه، ويحمله على ما يُطلب من محاسن الأمور ومكارم الأخلاق ونحوه.
فإذا تردد الأمر بين أن يكون عند أم أو عند أب، فكونه عند أبيه الذي يعلمه على هذه عادة، والذي يستمع الولد منه، ويستجيب له أكثر، فإنه يكون معه في ذلك كله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (أَوْ إِلَى قَرِيبٍ لِلسُّكْنَى فَأُمٌّ)}.
قال: (أَوْ إِلَى قَرِيبٍ لِلسُّكْنَى فَأُمٌّ) أمَّا إذا كان السفر قصيرا، فانتقال الأب إلى قرية قريبة لا يمنعه من اعتياد ولده، والقيام عليه والنظر في بعض شؤونه، وإصلاح أمره، وتعليمه ما يحتاج إليه من تعليم كتاب ربه وصلاة وغيرها، فلمَّا كان الأمر كذلك، فلا شك أن عدم تعريضه للسفر أولى، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (أَوْ إِلَى قَرِيبٍ لِلسُّكْنَى فَأُمٌّ)؛ لأن السفر القريب لا يضر، وحاجته إلى الأم أقرب، فسواء كانت الأم انتقلت فالأمر قريب، ولا يكون فيه عرضة للهلكة، وإن بقيت أيضا كذلك فللأب أن يأتي إليه ويعوده، ويراجعه ويصلحه، فيكون بقاؤه عند أمِّه أصلح في هذه الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلِحَاجَةٍ مَعَ بُعْدٍ أَوْ لَا فَمُقِيمٌ)}.
يعني: إذا كان السفر لحاجة، فالمقيم أولى؛ لأن السفر فيه بلاء، وفيه فتنة، وفيه هلكة، وفيه أشياء كثيرة، والأمر لا يطول لأنه سيعود، فإذا بقاؤه مع من هو في البلد أنفع له وأسلم له من هذه الأسفار.
وإذا كان الأب هو المسافر فيمكنه أن يرجع، وأن يلحق بولده، ويراعي ما فات عليه من بعض شؤونه، ويستدرك ما قد يحتاج إليه من تربية وغيرها.
طبعا هذه المسائل كانت فيما مضى محال للإشكال، والآن ليس فيها محل الإشكال، لإمكان الصلة بأقرب ما يكون مع هذه الوسائل ونحوها، ولذلك في مسائل الحضانة من جهة اعتبارات الوقائع، وجمع ما يتعلق بها في النصوص، الحقيقة أنها فيها ما فيها من الوعورة والصعوبة، ولذلك قلت لكم مقالة شيخنا لَمَّا سُئِلَ عن بعض هذه المسائل، فأحال ذلك على القضاة وقال: أعان الله القضاة، أعان الله القضاة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ سَبْعَ سِنِينَ عَاقِلًا خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ)}.
إذا بلغ الطفل سبع سنين، فلا يخلو إما أن تكون جارية أو يكون صبيا، فإذا كان صبيا فالتخيير، فإذا خُيِّرَ هل تذهب إلى أبيك أو إلى أمك؟ فإذا أمسك بيد أبيه ذهب معه، وإذا أمسك بيد أمه ذهب معها، وكان الأمر هو ما اختاره؛ لأن ميله إلى أحد أبويه أرجى لحصول تمام تربيته، وانتفاعه، وحصول السكن له والاستقرار.
ولكن إذا كانت المرأة، تكون عند الأب على ما سيذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- في المسألة التي بعدها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يُقَرُّ مَحْضُونٌ بِيَدِ مَنْ لَا يَصُونُهُ وَيُصْلِحُهُ)}.
إذا استحق واحد ممن تقدم الحضانة، ثم رأينا أنه يُفلته، أو يتركه، أو يهمله، فوجد على هذا الولد من أمارات السوء، أو من صحبة أهل الشر، أو قُيِّدَ عليه شيء من ذلك من جهة الاختصاص، سواء كان ذلك في سموم أو مخدرات، أو ما يسبق ذلك من تعاطٍ للمحرمات التي تفتح أبواب الشر، أو كان ذلك أيضا في تهوين بأبواب الشهوات وفتح أبوابها ونحو ذلك.
المهم، ما دام أنه لا يقوم عليه بما يصلحه صلاحا في دينه، وصلاحا في بدنه ودنياه، وتهذيبا لخلقه، وتعليمًا إذا احتاج إلى تعليم، ونحو ذلك، فإنه لا يُقر على ذلك.
وبناء على هذا قد ينقل من المتقدم إلى المتأخر؛ لكون المتقدم غير مستحق لذلك، لتفويته أو لإهماله؛ لأنَّ استحقاقه أولا مع قيامه عليه حقيقة، فإذا لم يقم عليه، فإن ولايته تذهب، واستحقاقه يزول، وينتقل إلى أبعد منه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَكُونُ بِنْتُ سَبْعٍ عِنْدَ أَبٍ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ إِلَى زِفَافٍ)}.
يقولون: إذا بلغت البنت سبع سنين تكون عند أبيها، لأنه هو الذي يصلحها، وهو الذي يحفظها، وهو الذي يمنع عنها السوء، ويبعدها عن مواطنه، ويكون ذلك إلى زفافها ودخولها بيت زوجها، وهو إشارة إلى أنها إذا بلغت لا تنفرد ببيت، حتى ولو كانت بنت عشرين أو بنت خمس وعشرين، أو نحو ذلك، فمن حيث الأصل لازم أن تكون عند أبويها، ولا تخلى بينها وبين انفرادها، وكأنه يشير إلى رد قول من قال: لها أن تنفرد.
أما الصبي فإنه إذا بلغ وكان يقوم على شؤون نفسه ويحسنها، فإن له أن ينفرد في بيته، ويستقل بنفسه، ويقوم على مصالحه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الْجِنَايَاتِ)}.
إذًا نحن بانتهاء فصل في أحكام الحضانة انتهينا من كتاب النكاح وفرقه، وما يتعلق بذلك وتوابعه، والآن نبدأ في آخر الكتب التي يذكرها أهل العلم في تقسيمات الفيء، وهي كتب الجنايات، وما يتبع ذلك من الحدود والقضاء ونحوها.
وقد تقدم بنا أنَّ أول ما ينبغي أن يتعلمه الإنسان عبادته، ثم بعد ذلك ما يَصلح به أمر دنياه من بيع وشراء، ثم إذا اشترى الإنسان وباع، احتاج إلى تلبية شهوته وقضاء وطره، ولأجل ذلك كان النكاح، ثم ما يتبع ذلك مما يحصل عند خلافهما أو نزاعهما، ثم إذا اكتملت للإنسان، ربما طغى، وربما زاغت نفسه، واستذلت يده، واستطال على غيره، فكان الكلام على أحكام الجنايات وما يتبع ذلك من مسائل وتفصيلات، فذكروا إذًا في هذا الكتاب تلك المسائل والمتعلقات.
والجناية يراد بها الاعتداء، ومعناه في الاصطلاح هو معناه في اللغة، سواء كان اعتداء على نفس أو مال بما يوجب قصاصا أو مالا، يعني: يخرج إذا كان ذلك بحق، كما لو كان يؤدب الرجل ابنه أو المعلم الذي أُذن له في تربية تلميذه، أو كان فيما يأخذ به الحاكم مَن يُعَذَّرُون ومن يؤدبون على فعل بعض المعاصي ونحوها.
إذًا كل ما كان منه تعدٍ على نفسٍ أو مالٍ فهو جناية، وهو داخل معنا في هذا الكتاب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الْقَتْلُ: عَمْدٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ)}.
بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- بأعظم الجنايات وأشدها، وهو: القتل، والقتل حقيقته إزهاق الروح وانقطاع حياة الإنسان، ولا شك أنه من أعظم الذنوب وأشدها، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه﴾ [النساء:93]، وحتى لو لم يكن مسلما، ممن عُصِمَ دمه بعهد أو بذمة أو نحوها، «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ» ، وهكذا.
فجاء في الشرع تعظيم التسلط على النفوس وإزهاقها، «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ» ، إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة، ففيه تحريم الاعتداء على الأنفس، وأن المستثنى من ذلك ما أُبيح، وهم أهل الحرب الذين ناصبونا العداوة، ولم يكن بيننا وبينهم عهد ولا أمان ولا هدنة ولا نحوها. فهذا ما يتعلق بالقتل.
لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ذلك بين أنواعه، فهو إمَّا أن يكون عمدًا، وإمَّا أن يكون خطأ، وإمَّا أن يكون شبه عمد، وهذا تقسيم عند جمهور أهل العلم بما بين العمد والخطأ، وهو شبه العمد.
ما حقيقة العمد؟ سيبين المؤلف -رحمه الله تعالى- ذلك في المسألة التي بعدها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَالْعَمْدُ يَخْتَصُّ الْقَوَدُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا، فَيَقْتُلُهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ كَجُرْحِهِ بِمَا لَهُ نُفُوذٌ فِي الْبَدَنِ وَضَرْبِهِ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ)}.
قوله: (فَالْعَمْدُ يَخْتَصُّ الْقَوَدُ بِهِ)، ما الذي يترتب عليه العمد؟ قال: يكون به القود، يعني: أنَّ القاتل يقاد ويقتل إذا كان قتله قتل عمد، وهو الذي قال الله -جلَّ وعلا- فيه: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:179]، أيضا عليه القود، وعليه الدية إذا عفي عنه عن القتل للوقوع في الإثم الكبير؛ لأنها من كبائر الذنوب وعظائمها، كما جاء في الآية السابقة، وأيضًا الحرمان من الإرث.
متى نحكم على هذا بأنه عمد؟
بين مؤلف -رحمه الله تعالى- ذلك فقال: (أَنْ يَقْصِدَ) يعني: يكون العمد عمدًا؟
يكون العمد عمدًا، أولاً: إذا كان بقصد الجناية، وثانيًا: أن يكون بآلة يحصل بها القصد، أي: القتل غالبا.
ولأجل ذلك بدأ بالشرط الأول، فقال: (أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا)، فإذا كان غير معصوم، كمن أبيح دمه، لكونه مثلا قاتل أبيه، فإنَّ له أن يقتص منه إذا ثبت ذلك عليه، واكتملت الشروط، وسيأتي بيان ذلك -بإذن الله جلَّ وعلا-. وكذلك لو كان حربيا كما ذكرنا.
فإذا كان قد أُبيح دمه بوجه من الوجوه، فإنه لا يعتبر قتل عمد، ويترتب عليه ما سيذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من المترتبات التي أشرنا إليها.
قال: (فَيَقْتُلُهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ) وهذا هو الشرط الثاني، وهو أن يكون بآلة كأن تكون محددة أو مثقلة وهي الكبيرة، كصخرة كبيرة ونحوها، ولذلك قال: (كَجُرْحِهِ بِمَا لَهُ نُفُوذٌ فِي الْبَدَنِ وَضَرْبِهِ بِحَجَرٍ كَبِيرٍ) يعني: سواء كان محددا، أو كان مثقلا، كالإشارة إلى بعض الذين يقولون: لا يكون عمدًا إلا بآلة حادة تدخل في البدن وتنفذ فيه، وذكروا أشياء كثيرة، كأن يلقيه على أسد، أو أن يجعله في نار، أو نحو ذلك.
ولكن المؤلف -رحمه الله- اختصر على أشهر ما يحصل به القتل العمد، وإلا فمنهم من حصرها في سبعة، ومنهم من حصرها في تسعة أشياء، ويختلف الفقهاء بحسب ما يدخل عندهم في اسم العمد مما لا يدخل، بحسب ما اجتمع لهم من الأدلة، ونظروا فيه من المعنى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشِبْهُ الْعَمْدِ أَنْ يَقْصِدَ جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِبًا، وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِهَا كَضَرْبٍ بِسَوْطٍ أَوْ عَصَا)}.
إذا شبه العمد (أَنْ يَقْصِدَ جِنَايَةً)، أي: قصد الاعتداء والإيذاء والضرب، ولم يستعمل شيئا يحصل به القتل، فلو أنَّ شخصا مثلا ضربه بعصا، لو ضرب بها مئة رجل أو مئتين أو ألف لا لا يموت بها، ولكن هذا لوهن جسمه، أو لكونه قد وجد فيه جرح مثلا، أو وقعت عليه الضربة فساح دمه، أو كان فيه مرض السكري فسبب نزفًا، ولم يمكن استمساك الدم.
المهم أنه لم يكن بآلة تقتل غالبا، فهذا ليس من الخطأ الذي لم يقصد الجناية، ولم يستعمل الآلة، ولا هو أيضا في العمد، الذي قصد الجناية واستعمل آلة يقتل بها غالبا، فلأجل ذلك قالوا: هذا شبه عمد، وهذا يلحقه إثم، ويحرم من الميراث، وتكون عليه الدية المغلظة، ولكن لا يكون عليه قصاص أو قود.
ولذلك قال: (أَنْ يَقْصِدَ جِنَايَةً لَا تَقْتُلُ غَالِبًا، وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِهَا)؛ لأن الجرح عندهم أنه يقتل غالبا.
وهنا يختلفون في صورة، وهي إذا كانت إبرة صغيرة، والإبرة الصغير عندهم لها نفوذ في البدن، وبعضهم يحكم بها على أنها من القسم الأول، فيدخلونها في أحكام القتل العمد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْخَطَأُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ كَرَمْي صَيْدٍ وَنَحْوِهِ فَيُصِيبُ آدَمِيًّا)}.
هذا حقيقة القتل الخطأ، وهو أن يفعل حقيقة ما له فعله، فهو صوَّب إلى سبع مثلا أراد أن يقتله، فلمَّا أجرى الإطلاق أو القطع مَرَّ شخص فأصابه، فيقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى- هذا قتل خطأ، ولذلك قال: (وَالْخَطَأُ أَنْ يَفْعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ كَرَمْي صَيْدٍ وَنَحْوِهِ فَيُصِيبُ آدَمِيًّا)، إذًا هو لم يتقصد إثما، ولا تقحم شرا، وإنما ابتلي بأن ما عمله أصاب به هذا الشخص فمات به. فعندهم هنا أن هذا قتل خطأ يوجب الدية، ويحصل به حرمان من الإرث، وإن كانوا لا يُلحقون به الإثم والتبعة سواء في الدنيا أو في الآخرة.
قوله: (فَيُصِيبُ آدَمِيًّا) أي: معصومًا؛ لأن غير المعصوم لا حرمة لدمه.
طبعا عليه الكفارة أيضا مع الدية والحرمان من الإرث، فعليه الكفارة في قتل الخطأ، وكذلك أيضا في شبه العمد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: {(وَعَمْدُ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ خَطَأٌ)}.
الصغير لا قصد له من حيث الأصل، ولذلك لم تصح عبادته، ولم يتعلق به تكليف، ولأجل ذلك حتى ولو أخذ المسدس وقتل به، فنعتبر ذلك قتل خطأ، ولا يقاد بهذا، ولا يقتص منه.
ومثل ذلك: المجنون؛ لأن المجنون لا يميز بين الأشياء، ولا يحسن المعرفة، أن هذا يقتل، أو أن هذا لا يقتل أو نحوه، فكان كما لو حصل ذلك منه بغير ما قصد، أو كما لو حصل من المكلف بغير قصد فيستويان في ذلك؛ لأنه لا قصود لهما صحيحة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُقْتَلُ عَدَدٌ بِوَاحِدٍ، وَمَعَ عَفْوٍ يَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ)}.
قوله: (وَيُقْتَلُ عَدَدٌ بِوَاحِدٍ) يعني: لو اجتمع خمسة على قتل واحد، فإنهم يقتلون جميعًا، لأننا لو قلنا: إن الخمسة لا يقتلون بالواحد؛ لأفضى ذلك إلى أن الناس يجتمعون لقتل آخر حتى يحصل من التشفي والإيذاء والاعتداء على ذلك، ويسلمون من القصاص والقود، ولأجل ذلك إذا حصل منهم قتل قُتلوا، ولكن بشرط، كما يقول أهل العلم: أن يكون فعل كل واحد منهم صالح للقتل، فهذا مثلا غرس السكين في بطنه، وهذا جعلها في عينه، وهذا جذبه مع خصيتيه، وهكذا، فكل فعل يحصل به.
ولكن لو كان أحدهم قد فعل ما حصل به القتل، كأن فتق أمعاءه، ثم هذا جاء وخنقه بعد فتق الأمعاء وتقطعها، كان هذا الخنق لا أثر له، وهو سيموت دون ذلك، فإذا كان الفعل الآخر تحصيل حاصل، أو قد حصل ما يؤول إلى الموت قبل ذلك، فلا يعتبر، والقتل على من حصل به القتل، الذي زهقت به النفس وصارت سببا لذلك، وهذا فيه أثر عمر: "لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ".
وإذا كانوا أيضا يتمالئون على ذلك ويجتمعون عليه، ويقصدون مثل هذا، فيقتلون أيضا بكل حال؛ لئلا يكون من ذلك منهم تعد وظلم.
قال: (وَمَعَ عَفْوٍ يَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) لا شك أنَّ العفو عن القاتل مما جاء الشرع بالترغيب فيه، ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرو:178]، وجاء في آيات كثيرة في الأمر بالعفو والحث عليه، ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [البقرة:237] وآيات دالة على عمومات هذا، والشريعة دالة عليه.
من هذا أخذ أهل العلم أن العفو أقرب وأحسن، ويكون للإنسان به أجر.
إذا عفا الإنسان فهل تجب الدية؟ أو يشترط أن يكون قد عفا إلى الدية؟
هذه مسألة راجعة إلى مسألة، وهي: هل الواجب أحد أمرين؟ أو الواجب هو القتل؟ فإذا عُفِيَ عنه انتقِلَ إلى الآخر، وعلى كل حال بعض الفقهاء يقولون: سواء قلنا إن الواجب أحد أمرين كما سيأتي معنا، أو قلنا: الواجب القتل فإذا تعذر ينتقل إلى الدية، لأننا إذا قلنا إما القتل، وإذا عفا مطلقا تذهب عليه الدية، قد يمنعه ذلك من العفو فترغيبًا له يعطى الدية، ويكون ذلك دافعا له.
وابن تيمية -رحمه الله تعالى- يقول: ليس العفو في كل الأحوال هو الأولى، بل إذا كان ذلك ممن عرف بشره، واستطال أمره على المسلمين، فإن تأديبه وقطع دابره، وأن يعلم أهل الفسق والظلم أنه لا يُعفى عنهم، وأنه لا يترك لهؤلاء اللعب بالناس وبدمائهم، فإن هذا أولى وأوجب، فقد لا يكون العفو في كل حال هو الأصلح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفًا عَلَى قَتْلِ مُعَيَّنٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يُكْرِهَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ، فَعَلَى كُلٍّ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ)}.
(وَمَنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفًا عَلَى قَتْلِ مُعَيَّنٍ) يعني: حصل من هذا المباشر للقتل إكراه، قيل له: إمَّا أن تقتله وإلا قتلتك، أو قتلتك وقتلت ابنك، فيقتل هذا المجني عليه لاستبقاء نفسه، أو على أن يُكره عليه ففعل، يعني: يقول له: إما أن تذهب وتجعل ابنك يقتل فلانًا وإلا قتلتك، فهنا هو أمره بإكراه شخص على ذلك، وهذا الإكراه ممن يُمضي ما أكره عليه ففعل، فيقول المؤلف: القتل عليهم جميعا، لماذا؟ لأنه لا يمكن للإنسان أن يستبقي نفسه بقتل غيره، فلست أولى من غيرك، ولأجل ذلك قال: حتى ولو كان مكرهًا، تدفع عن نفسك ولكن لا يمكن أن تدفع عن نفسك بأن تقتل غيرك.
ولأجل ذلك قتلوا هذا الْمُكْرَه؛ لأجل أنه استنقذ نفسه بقتل غيره، وقتلوا الْمُكْرِه لأجل إكراهه، وهو الذي تسبب في حصول القتل على هذا وإزهاق روحه، ولأجل ذلك قال المؤلف: (فَعَلَى كُلٍّ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ)، فإذا سُمح لهم أو عُفي عنهم، فتكون عليهم دية واحدة يشتركان فيها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَمَرَ بِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ مَنْ يَجْهَلْ تَحْرِيمَهُ، أَوْ سُلْطَانٍ ظُلْمًا مَنْ جَهِلَ ظُلْمَهُ فِيهِ لَزِمَ الْآمِرُ)}.
قوله: (وَإِنْ أَمَرَ بِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ)، إذا حصل الإكراه أو حصل الأمر حتى بدون إكراه، كأن يقول لصبي: اذهب واقتل فلانا، فذهب الصبي وقتل فلانا، فهنا لا قتل على الصبي؛ لأنَّ الصبي لا يُحسن ولا يعرف عواقب الأمور، ولا يتعلق به حكم، وهو مرفوع عنه القلم لأجل عدم تكليفه كما جاء في الحديث.
وبناء على ذلك المؤلف يقول المؤلف -رحمه الله-: الآمر هو الذي يتعلق به حكم القصاص، وهو الذي يجب عليه الأمر.
(أَوْ مَنْ يَجْهَلْ تَحْرِيمَهُ) كما لو كان إنسان أسلم لأول وهلة، أو نشأ ببادية بعيدة، أو لغير ذلك من العوارض، فالمهم أنه جهل تحريمه على وجه يُعذر فيه، فبناء على ذلك يكون القتل على الآمِر لا على المباشر أو الفاعل.
قال: (أَوْ سُلْطَانٍ ظُلْمًا) السلطان أمره أن يقتل شخصا ظلما، ولكنه لم يدر أنه سيقتل ظلمًا، كأن يقول له السلطان: اذهب واقتل فلانا، فإذا قتله وهو يجهل، فعند ذلك نقول: لا غضاضة عليه، ويتعلق الحكم بالسلطان لا بك، وأنت معفو عنك من جهة أن السلطان يجب طاعته.
وأما إذا علم منه الظلم، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وَأُمِرنَا بالسمع والطاعة في المنشط والمكره في غير ما معصية، ولأجل ذلك إذا عُلِمَ أنه ظلم فلا يجوز للإنسان أن يستجيب حتى ولو أودى ذلك إلى أن يُقتل أو تُزهق روحه ولا يعتدي على غيره بالقتل وإزهاق نفسه.
{أحسن الله إليكم شيخنا، وشكر لكم لعلنا نقف هنا}.
نعم لعل هذا فيه الخير والبركة، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
{في ختام هذه الحلقة نشكركم أيها المشاهدون على طيب المتابعة، ونلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك