الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7527 33
الدرس الخامس

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقةٍ جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلًا وسهلًا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات.
{شيخنا كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند باب الشُفعة}.
ربما شرحنا مسألة أو مسألتين، ولكن نبدأ من الأول.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال -رحمه الله-: (فصلٌ: وَتُثْبِتُ اَلشَّفْعَةُ فَوْرًا لِمُسْلِمٍ تَامٍّ اَلْمَلِكِ فِي حِصَّةِ شَرِيكَهُ اَلْمُنْتَقِلَةِ لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ بِمَا اِسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اَلْعِقْدَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين، أما بعده؛ فأسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم الراسخين، ومن العالمين العاملين، وأن لا يجعلنا من الضالين المضلين، وأن يحفظنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا -أيها الطلاب- شرعنا في فصل الشُفعة، وذكرنا أنَّ الشفعة من محاسن هذه الشريعة، أنه لما كانت الشراكة مبناها على الاتفاق والائتلاف، ثم إذا عَنَّ لأحد الشريكين البيع:
• فإما أن يقال: إنه لا يمكنه بيع شقصهِ ونصيبه فيكون ذلك فيه إضرارٌ به، وإلزامٌ له بما قد يُلحق به الضرر.
• وإمَّا أن يقال بالبيع، ويأتي شريكٌ قد لا يرتضيه الشريك الأول، كما يرتضي ذلك الذي باع.
فتحصيلًا لمصلحة البائعِ، وتحصيلًا لمصلحة الشريك الأول؛ فإنه يباح له أن يبيع، فيتصرف في ماله ويقضي حاجته، وتندفع عن الشريك الأول ما يحصل من أذى الشراكة التي لا تُرتضى، فله أن ينتزع ما وصل إلى الشريك الجديد، فَيَسْلَم له المال وتذهب عنه الشراكة، وتحصل له السلامة.
فكانت هذه من مزايا الشريعة، والنبي كما في حديث جابر: «قضى بالشُّفعةِ فيما لم يُقسَمُ» ، وهو قول عامة أهل العلم من الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
قال: (وَتُثْبِتُ اَلشَّفْعَةُ فَوْرًا)، يعني أن محلها رفعٌ للضرر، وبناءً على ذلك لابد أن تكون على الفور لا على التراخي، ولذلك قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-: "الشفعة كحل عِقال"، فإذا قيل للشريك: باع شريكك نصيبه، فيقول: شفعت، فإذا تأخر وتوانى وتراخى تخلف بما لا حاجة فيه، كواحد أراد أن يُصلي، كسعلة أو غصةٍ في فمه ونحو ذلك، فهذا لا طاقة له بذلك، لكن لا يجوز له أن يتأخر، فيتراخى عن طلبها، وإلا فات محلها.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَتُثْبِتُ اَلشَّفْعَةُ فَوْرًا لِمُسْلِمٍ)، فهي أيضًا تثبت للمسلم، وأمَّا الكافر على المسلم فلا؛ لئلا يكون للكافر على المسلم سلطان.
قال: (تَامِّ اَلْمَلِكِ)، فإذا لم يكن ملكه تام بأي وجهٍ من الوجوه، فإنه لا حق له في ذلك، فإذًا لابد أن يكون له تمام الملك، وتمام الملك بأن يكون له سائر التصرفات.
على سبيل المثال: لو كان ملكه مُرَاعًى كالشريك المضارب لم يستقر حقهُ في هذا الملك إلا أن يقسموا، مع أنَّ الشريك المضارب ربما لا يصح مثلاً؛ لأنه ما انتقلت إليه ببيع، لكن أيًا كان يعني فيه بعض الأمثلة قد يكون ملكه غير تام، يعني: لم يستقر ملكه على هذه الحصة.
قال: (فِي حِصَّةِ شَرِيكَهُ اَلْمُنْتَقِلَةِ لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ)، يعني: أنه ليس له أن يشفع على شريكه الذي اشترى الأرض أولاً، أو أدخله معه ثانيًا، ثم استمر مدةً، فإنه ليس له، أو أكثر من شريك، لكن الذي اشترى للتو، الذي دخل عليهم جديدًا، الذي انتقلت فيه الحصة في الزمن المتأخر.
قال: (لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ)، فقوله: (بِعِوَضٍ مَالِيٍّ) يُخرج ما لو كانت بهبة، لو كانت بعوضٍ غير مالي، كما لو شخص له شراكة في هذه الأرض، فقال: حصتي هي صداق زوجتي التي عقدت عليها، فهنا لا يعتبر عوضٌ مالي، فيها نوع معاوضة، لكنها ليست معاوضةٌ عند الفقهاء محضة، فبناءً على ذلك لا يتحقق فيها الشفعة.
قال: (بِمَا اِسْتَقَرَّ عَلَيْهِ اَلْعِقْدَ)، هذه مسألةٌ مهمة، وهي أن الشريك ينتزع بما حصل به البيع، فإذا قال: شفعت، فنقول: بكم اشتراها؟ قالوا: بمائة وثلاثة وعشرين ألفًا، نقول: ادفع مئة وثلاثة وعشرين ألفًا، لا يجوز أن تُزاد ولا أن تنقص.
فلو قال: لا، أنت بعت بثمن غالٍ، فهي لا تساوي هذا، نقول: إذا أردت أن تدفع ضرر الشريك الجديد فعليك أن تأخذها بما اشتراها، وإلا دعه لك شريكًا.
فإذًا لابد أن تكون بما استقر به العقد.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَشَرْطُ تَقَدَّمَ مَلَكٍ شَفِيعٍ وَكَوْنِ شِقْصٍ مُشَاعًا مِنْ اَلْأَرْضِ تَجِبُ قَسَمْتُهَا)}.
(وَشَرْطُ تَقَدَّمَ مَلَكٍ شَفِيعٍ)، بناءً على ذلك لو أنَّ شخصين اشتريا أرضًا في آنٍ واحد، كأن يكونا مثلًا في مزايدة أو نحو ذلك، فلمَّا اشتريا الأرض ورست عليهما، قال: شفعت عليه، نقول: لا، وقت دخولكما واحدٌ، فليس لكل واحدٍ مزية على الآخر، فكما أنه ليس له مزيةٌ أن يشفع عليك، فليس لك مزيةٌ أن تشفع عليه.
فإذًا إمَّا أن ترضى بالشراكة معه فتدخلا جميعًا، وإمَّا أن تتركه فيشتريها، وأمَّا إذا اشتريتها وإياه ثم طلبت الشفعة عليه، فهذا نوع ظلم؛ لأن له حقٌ أيضًا أن يشفع عليك، ولو فُعل ذلك لكان فيه نوع تضادٌ وتضارب، إذْ لو أن كل واحدٍ منهما طلب الشفعة، فلمن ستكون الأرض؟
إذًا هي لمن دخل متأخرًا على مِلك شريكٍ مُتقدم، فإن هذا المتقدم له حقٌ في هذه الأرض، فأراد أن يدفع ضرر الشريك المتأخر، فتكون له الشفعة.
قال: (وَكَوْنِ شِقْصٍ مُشَاعًا مِنْ اَلْأَرْضِ)، إذًا لو لم يكن مشاعاً فلا شفعة، يعني: أن يكونا قد اشتريا قطعة أرض، كل واحد منهما له قطعة، والقطعتان متجاورتان، فنقول: لا، ولذلك قال النبي : «فَإِذَا وقَعَتِ الحُدُودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعَةَ» ؛ لأنه لا ضرر على واحدٍ للآخر، كل واحد له أن يتصرف في مِلكهِ كيفما يشاء، فلم يحتج إلى الشفعة فيها.
فلأجل ذلك قالوا: (شِقْصٍ مُشَاعًا مِنْ اَلْأَرْضِ)، فإذًا تعلق الشفعة إنما هي في الأرض، وبناءً على ذلك لا تتعلق بالمنقولات، ولا بالسيارات، ولا بالآلات، ولا بسواها.
وما يكون على الأرض من بناء أو غراس أو نحوه، فتدخل فيه الشفعة تبعًا، يعني: لو كان على أرض عليها غراس صحيح، سيأتينا هذا، لكن ما يمكن لشخصٍ أن يشتري "غِراسًا" أو "نخلا" فقط، أو آلة تصنع بها الأشياء فيشفع على صاحبه لو كانا شريكين.
قال: (تَجِبُ قَسَمْتُهَا)؛ لأنَّ الأرض على قسمين:
منها ما تجب قسمته وهو الذي لا ضرر فيه، ولا رد عوض.
وأمَّا التي لا تجب ولا تكون إلا برضا واحدٍ من الشريكين، فهي التي يكون فيها رد عوض، هذه فيها بناء، هذه فيها بئر، فلا تساوي إلا بأن يزيد هذا في القطعة، أو يزيد هذا في الثمن أو نحو ذلك، إذًا محلها ما تجب فيه القسمة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيَدْخُلُ غِرَاس وَبِنَاء تِبَاعًا، لَا ثَمَرَةٌ وَزَرْعٍ، وَأَخَذَ جَمِيعِ مَبِيعٍ)}.
قال: (وَيَدْخُلُ غِرَاس وَبِنَاء تِبَاعًا)، إذًا لما قرر المؤلف -رحمه الله تعالى- أن متعلق الشفعة هي في الأراضي، قال: كأنه انبعث سؤالٌ في ذهن المتعلم أو الطالب، لو كانت الأرض فيه زراعة؟ لو كانت الأرض فيها بناءٌ؟ لو كانت الأرضٌ فيها آلة مسمرة؟ لو كانت الأرض قد أقيم عليها مصنعٌ؟ فتدخل هذه الأشياء تبعًا.
لذلك قال: (وَيَدْخُلُ غِرَاسٌ وَبِنَاءٌ) وآلة صناعة ثابتة فيها تبعًا.
قال: (لَا ثَمَرَةٌ وَزَرْعٍ)، لماذا؟ لأن الثمر والزرع الأصل أنها للبائع، «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ» على ما مر بنا، ومثل ذلك الزرع إذا نضج.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَأَخَذَ جَمِيعِ مَبِيعٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَخْذِ اَلْبَعْضِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ اَلثَّمَنِ بَعْدَ إِنْذَارِهِ ثَلَاثًا، أَوْ قَالَ لِمُشْتَرٍ: بِعْنِي أَوْ صَالِحْنِي، أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فَكَذَّبَهُ وَنَحْوِهِ: سَقَطَتْ)}.
إذًا هذا شرط من شروط الشفعة، وهو أخذ جميع المبيع، لو أنَّ شخصًا الآن له شراكة هذه الأرض بينهما، قِسمٌ له يعادل الثلث، وقسمٌ لشريكه يعادل الثلثين، فهنا لَمَّا باع شريكه النصيب وهو الأكثر، قال: أنا أشفع فقط في الثلث، نقول: لا، إمَّا أن تأخذها كلها أو تتركها كلها، لماذا؟ لأننا إنما أبحنا لك الشفعة لتدفع الضرر بالشراكة الجديدة، والشراكة لا تندفع إذا أخذت البعض.
ثم أيضًا نحن سندفع عنك الضرر ونَضُرُّ بالشريك الجديد! قد يقول: لا، إما أنا أملك هذا القسط كاملًا وإلا فاترك، فلأجل ذلك نحن دفعنا عنك الضرر بما لا يتأتى عليه الضرر للغير، وذلك لا يكون إلا بأن تأخذ الجميع أو تترك الجميع.
ولذلك قال: (فَإِنْ أَرَادَ أَخْذِ اَلْبَعْضِ) فلا، إي إذا أراد أخذ البعض فلا، يعني كما قلنا إنه يأخذ السدس، أو مثل ذلك لو كانت لثلاثة شركاء، وكل واحد له الثلث، فباع أحدهما نصيبه، فسيكون لكل واحد من الشركين الشفعة، هذا له الشفعة فيما يوازي نصيبه وهو نصف الثلث الذي هو السدس، وهذا له نصف الثلث وهو السدس.
فلو قال: أنا أخذ نصيبي، هذا قال لا أنا لن أشفع، نقول: لا، إما أن يشفعا جميعًا، وإما أن يأخذ أحدهما جميع الباقي، وبناءً على ذلك تصح الشفعة؛ لأننا كما نرفع الضرر عنكم لا نضر بالشريك الجديد.
وبناءً على ذلك: فهي إمَّا أخذٌ للجميع أو تركٌ للجميع.
لو أنهم أربعة شركاء، ثم لما باع أحدهما نصيبه، اثنان من الشركاء قالوا: ما عندنا فلوس نأخذ، فالثالث قال: أنا أريد الشفعة، نقول: ما لك الشفعة فقط فيما يقابل نصيبك، إمَّا أن تأخذ الشفعة في الجميع وإلا تترك؛ لئلا نضر بالشريك الجديد.
{لكن شيخ في المثال السابق إذا كانوا ثلاثة ثم اتفق اثنان من الشركاء على أخذ حصة شريكهم، فهل يجوز لهما أن يتفقا على أن يأخذا حصة الشريك؟}.
شرعًا لهما أن يأخذا حصة الشريك كلٌ بقدر نصيبه، فإمَّا أن يأخذا جميعًا، وليس لأحد ما مزية على الآخر، يعني: إذا أرادا الشفعة جميعًا فلهما ذلك، وإذا لم يردا الشفعة فيكون معهما شريكٌ جديد، وإن كان أحدهما يريد الشفعة والآخر لا يريد الشفعة، نقول: تأخذ الجميع أو تترك الجميع؛ لئلا نضر بالشريك الجديد.
قال: (أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ اَلثَّمَنِ بَعْدَ إِنْذَارِهِ ثَلَاثًا)، كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا أراد أن يُبين الأحوال التي تسقط فيها الشفعة:
الأول: إذا أراد أخذ البعض وترك البعض، فنقول هنا: لا تصح الشفعة لئلا يُضر بالمشتري الجديد.
الثاني: إذا عجز عن بعض الثمن، أو عن جميع الثمن، قال: والله ما عندي الثمن فأنظروني، نقول: ثلاثة أيام هذه أيام قليلة جرت العادة في أن الإنسان يحتاج إلى أن يجمع ماله ويرتب أموره فلا غضاضة فيها ولا ضرر غالبا على المشتري في ذلك.
وبناءً على هذا: إذا أتمها في ثلاثة أيام فلا بأس، لكن إن طلب الإنظار بعد ذلك نقول: لا. إما الآن وإلا فهو شريكٌ لك في مِلكك، أو في هذه الأرض بقدر ما اشترى من الشريك الأول.
ثم ألحظ هنا: أن طلب الشفعة على الفور، ولكن بالنسبة لإجراءاتها يمكن أن يكون فيها تأخيرُ لمدة ثلاثة أيام، وليس هذا بمخالفٍ لِمَا ذكره أولًا -في أول الباب- من أنَّ الشفعة على الفور.
{ثم قال -رحمه الله-: (أَوْ قَالَ لِمُشْتَرٍ: بِعْنِي أَوْ صَالِحْنِي، أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فَكَذَّبَهُ وَنَحْوِهِ: سَقَطَتْ)}.
(أَوْ قَالَ لِمُشْتَرٍ: بِعْنِي)، يعني: إذا قال للمشتري بعني: فهذا طلب عقد جديد، وكأنه أسقط حقه من الشفعة، سواء طلبه بثمنٍ أقل أو بثمن أكثر.
(أَوْ صَالِحْنِي)، أي أنه لو قال: أنا آخذ منك هذا الجزء وأعطيك بديلا عنه، أو يقول مثلا: عندي مزرعة مستقلة وتكون هذه لي مستقلة! نقول: هذه معاوضة جديدة لا علاقة لها.
إذًا ما دام أنه قد شرع في إنشاء عقدٍ جديد فكأنه أبطل حقه في الشفعة.
قال: (أَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فَكَذَّبَهُ) كما لو كان لنا أرض أنا وأنت، ثم بعت أنت نصيبك، فجاءني شخصٌ عدلٌ ثقةٌ لا يُشك في كلامه، وقال: إنك بِعت نصيبك، فهل تشفع؟ فقلت له: إنه ما يبيع نصيبه، كأنني كذبته وهو ثقة.
فبناءً على ذلك نقول: لقد فات حقك من الشفعة؛ لأن الثقة لو أخبرك لوجب أن تصدقه لأن خبره صادقًا ومصدقًا، وبناءً على ذلك فمن كذب الثقة هنا كأنه علم بحقه في الشفعة فأبطله؛ ولئلا تكون حيلة فيكذب حتى يأخذ وقتًا أطول في تأخير طلب الشفعة، وتوفير المال، وإكمال ما يتبع ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَإِنْ عَفَا بَعْضُهُمْ أَخَذَ باقيهم اَلْكُلَّ أَوْ تَرَكَهُ)}.
كما قلنا قبل قليل: إذا كانوا أكثر من شريك، ثلاثة أو أربعة، فإذا باع أحدهم فكلٌ له نصيب بقدر ما له من الشركة الأولى، فإذا كان مثلًا أحدهم له النصف، والثاني له الثلث، والثالث له السدس، فباع صاحب السدس نصيبه، فنقول: يكون لصاحب النصف بقدر ملكه، وصاحب الثلث بقدر ملكه. وطبعًا هذه المسألة إذا ما كانوا أربعة فباع أحدهم وبقي ثلاثة، فإذا ترك اثنان نقول: إما أن تأخذ أنت أو تترك، أو طلبها اثنان والثالث نقول: تأخذها الجميع ويُقسم عليكم بالمحاصة على قدر نصيبكما.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ مَاتَ شَفِيعٌ قَبْلَ طَلَبِ بَطَلَتْ)}.
لو أن هذا الشفيع مات قبل أن يطلبها، فهل ورثتهُ يستحقون المطالبة أو لا؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- والفقهاء: إن الشفعة حقٌ للمشتري ولم يثبت، فلما مات ما كان حقًا ثابتًا حتى ينتقل إلى الورثة، إنما تثبت الشفعة بالطلب، وهو لم يطلب، وبناءً على ذلك إذا مات هو حقٌ لم يثبت، وإذا كان حقًا لم يثبت لم يكن لينتقل إلى ورثته، ولكن لو طلب ذلك لَصَحَّ.
لو طلب وقال: أنا أشفع، ثم مات ولم ينته منها، فنقول في مثل هذه الحالة: الحق ثابتٌ بطلبه، وبناءً على ذلك ينتقل إلى ورثته.
{نفس الحالة إذا كان مثلًا في مرض موت وخوف مثلًا}.
ما دام أنه طلب الحق فقد ثبت، وإذا ثبت انتقل إلى الورثة، وأما إذا لم يطلب فسقط.
{سواء له أو للورثة}.
نعم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ كَانَ اَلثَّمَنُ مُؤَجِّلاً أَخْذَ مَلِيءٌ بِهِ وَغَيْرُهُ بِكَفِيلٍ مَلِيءٍ)}.
إذا كان الثمن مؤجلًا، وإذا كان البيع مؤجلا، فأنا بعت هذا الشريك بمائة ألف على أن يسددها بعد شهرين أو بعد ثلاثة أشهر، فإذا شفع الشريك الأول، فالآن هو سيدفع الثمن بعد شهرين، ولكن قد لا يكون مثل الذي بعناه، فالذي بعناه ثقة، ونعرف أنه سيؤدي، أو لا قدرة له.
ولو طالبناه أن تكون حالة لكان فيه ظلم، إذْ أن ثمن الشيء مُعجلاً ليس كثمنه مؤجلًا؛ لأنه يفترق ويزيد، فبناءً على ذلك يقول الفقهاء: حُكمًا بالعدل نأتي إليه، ونقول له: إن كان مليئًا، والمليء هو الواجد للمال غير المماطل، كما مر في الحوالة، فبناءً على ذلك خلاص هو يحل محله، وكما وثقنا بذاك نثق بهذا ويعطيه في وقتها.
ولكن إن كان غيرك مليئًا فلا نمنعه من الشفعة، ولكن نقول: لا نثق فيك، ويمكن أن تمطلنا، أو يمكن أن لا يكون عندك؛ لأنك معسر، فإذا جاء بكفيلٍ مليء، فنقول: حقنا محفوظ؛ لأن هذا مليء وهو غير مماطل، وقادرٌ على السداد إذا حلَّ الوقت، وبناءً على ذلك تصح الشفعة.
أما إذا لم يحصل لا مليءٌ ولا كفيلٌ مليء، فبناءً على ذلك لا تثبت الشفعة ولو طلبها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَوْ أَقَرَّ بَائِعٌ بِالْبَيْعِ وَأَنْكَرَ مُشْتَرٍ ثَبَتَتْ)}.
(وَلَوْ أَقَرَّ بَائِعٌ بِالْبَيْعِ)، هما شريكان (محمد وصالح)، ومحمد باع على سعد، فلمَّا علم صالح جاء لسعد، وقال: إذا كنت قد شريت فأنا شفعت، فقال: لا، أنا ما شريت. وجاء لمحمد وقال له: هل بعت؟ قال: نعم أنا بعت، فنقول: كأنك بِعت فإذًا تثبت عليك الشفعة، فلصالح أن ينتزعها.
ولذلك قال: وإن أقر بائعًا -الذي هو هنا "محمد"- أنه باع، وأنكر "سعد" أنه اشترى، فإذًا تثبت لـ "صالح" أن يأخذها من "محمد"، وبدلا من أن يأخذها من "سعد" يأخذها من "محمد"، ويعطيه المبلغ الذي أقر به.
{قال -رحمه الله-: (فصلٌ في الوديعة)}.
هذا الفصل الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في الودائع، وهي حفظ الأموال، والقيام عليها، وهي مما لابد للناس منه، وكان في الزمن الأول حفظ المال من أصعب ما يكون، ولذلك يلجأ كثيرٌ من الناس إلى أن يحفر له في الصحراء، أو يجعله في بئر، أو يدخله تحت شجرة، أو غير ذلك من الأمور.
وإذا سافر الإنسان، فإنه أسهل ما يكون أن يعدو اللص إلى بيتهِ فيأخذ مالهُ، بخلاف ما جَدَّ الآن من آلات الحفظ، ومن جهاتٍ تحفظ، وبيوتٍ محصنة، وأسوارٍ رفيعة، ونحو ذلك.
فإذًا الحاجة داعيةُ إلى الوديعة، والشرع جاء بها، وهي كما أنها في الزمن الأول فإنها في هذا الزمن، ولكننا نقول: إن الزمن الأول كان أكثر لمسيس الحاجة إليها؛ لعدم وجود ما يحفظ الناس به أموالهم وأشياءهم.
فكما أمر الله -جلّ وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:58]، والنبي قال: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ، فأمر بها، والنبي كانت تُحفظ عنده الودائع ويردها، حتى قبل بعثته وقبل نبوته .
{ابتدأ المصنف -رحمه الله- بقوله: (وَيُسَنُّ قَبُولُ وَدِيعَةٍ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَةَ)}.
الوديعة من: ودع - يدعُ - دع، دع ويدع مستعملة عندنا، لكن ودع بالفعل الماضي هذا قديم لاستعمال الناس، ودع يعني: ترك، وهو بمعنى المال المدفوع إلى من يحفظه، فكأنك تركت المال عند من يحفظه ويقوم عليه ويرده حال طلبه تبرعًا أو بغير عوض كما يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
فإذًا قال المؤلف: (وَيُسَنُّ قَبُولُ)، فيها نوع إحسان أن تحفظ مال أخيك، وتحمل المؤونة عنه، وتحفظ ماله من تلصص اللصوص، ووصول ضعاف النفوس، ونحو ذلك.
فيقول: (لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ)، أول شيء أن يعلم من نفسه الأمانة، وأن يكون قادرًا على حفظها، فلو كان غير قادرٍ على حفظها، كشخص أمين في غاية الأمانة، ولكن ليس عنده بيت، وأعطي ذهبا كثيرًا لا يمكن له أن يحمله في يده، فبناءً على ذلك نقول: هذا لا يحسن في حقه.
أو أنه يعرف من نفسه أنه ضعيف أمام المال، خاصةً إذا قلَّ بيده المال، واشتدت به الحاجة، ففي هذه الحالة نقول: لا يأخذ الوديعة، ولكن من اجتمع في حقهِ الأمران: الأمانة والقدرة على الحفظ، فإنه يستحب في حقه.
أما المودع فيباح له ذلك؛ لأنه لا غنى للناس عنها.
فإذًا في حقه المودَع أو الحافظ فهو مُستحب؛ لأنه نوع إحسان، بينما في حق المودِع هي مباحة؛ لأنه لا يستغني الناس عن أن يدفعوا أشياءهم حال سفرهم أو مرضهم، أو وجود بعض ما يحتف بالخوف على مالٍ أو شيءٍ من الأشياء التي عندهم.
{شيخنا -أحسن الله إليك- لفظة الوديعة أو أودع، نجد أن هذا المصطلح أيضًا موجود في الودائع البنكية أو الموجودة، فهل المال الذي أذهب به إلى البنك وأضعه فيه، هل يأخذ حكم الوديعة أم يأخذ حكم القرض؟}.
الحقيقة أن هذه من المسائل المعاصرة، وهم يسمونها وديعة، وطبعًا لابد أن نحقق المقصود، فالكلام إنما هو في الحسابات الجارية حيث يضع الإنسان في حسابٍ في البنك، ومتى ما طلبه أخذه، يعني: ألا يكون عليه قيود من مرابحةٍ أو نحو ذلك فهذه أشياء أخرى.
والوديعة حقيقتها أن تحفظ المال ولا تتصرف فيه، وحقيقة البنوك أنهم إذا أخذوا منك المال فإنهم يتصرفون فيه، هذه من جهة.
وجهةٍ ثانية أنَّ الودائع لو تلفت بدون تعدٍ ولا تفريط لا يضمنها، وأما البنوك فضامنة للأموال التي عندهم، فهم لا يردون نفسها، وإنما يردون بدلاً لها.
ولذلك عند عامة أهل العلم أنَّ ما يسمى بالودائع التي هي الحسابات الجارية في البنوك، إنما هي قرضٌ؛ لأنه يُرد بدله؛ ولأن المصرف يتصرف فيها؛ ولأنه يضمن إعادته إلى صاحبه حتى لو خسر المصرف، حتى ولو صار عليه ما صار، وبناءً على ذلك فهو قرض.
ما الذي يترتب على ذلك؟
أنه لا يجوز للمقرض أن ينتفع من المقترض شيئًا؛ لأنَّ [كل قرض ٍجر نفعًا فهو ربا]، ولذلك قالوا: إنَّ ما يبذله البنك من هدايا أو نحوها، فهي من هدية المقترض للمقرض، وبناءً على ذلك لا تصح ولا تجوز؛ لئلا تكون داخلة في باب الربا.
{يعني: هذه من الفروقات؛ لأن الوديعة يحفظ نفس المال}.
نعم هي من التسمية العرفية في الواقع، لكنها في حقيقة الشرع أنها قرض.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيَلْزَمُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا)}.
قال: (وَيَلْزَمُ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا)، إذًا ما دام أنك أخذتها فيلزم حفظها، ولا يجوز للإنسان أن يفرط أو أن يتوانى عن هذا.
فالحرز ما هو؟ هو ما تحفظ فيه الأشياء كلٌ بحسبه، إذًا هو من الإحراز، وهو الحفظ، وكل شيءٍ له طريقةٌ في حفظه، فليس حفظ البعير، أو الدابة من الغنم أو الشاة، كمثل حفظ جنيهات الذهب، وما تحفظ به الثمار ليس كما تحفظ به الأوراق النقدية، وهكذا في أشياء، ولو كانت مثلًا منسوجات أو سواها، فكل شيءٍ له حفظه، كالسيارة، الساعة، الجوال، إلى غير ذلك.
فإذًا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: كل شيء يلزم حفظه فيما تعارف الناس عليه، والعرف يتباين باختلاف المكان وباختلاف الزمان، وفي العموم أن حفظ الذهب والفضة أشد عند عموم الناس من حفظ غيرها، أليس كذلك؟
لكن يتباين حفظ الناس لهم بحسب الخطورة، وكثرة السراق من عدمه، وباختلاف البلدان، وثقافاتهم، فلكلٍ طريقة حفظٍ، فكل أحدٍ محاسبٌ بأن يحفظ الشيء بحسب ما تعارفوا عليه واعتبروه، وإن أخلَّ بذلك كان مُفرطًا، وإذا كان مُفرطًا؛ فإنه يضمن هذه الوديعة لو تلفت أو ذهبت وهلكت.
{شيخ الآن ضابط الحرز، هل للحرز ضابط معين يضبطه؟}.
مرده إلى العادة والعرف.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ عَيَّنَهُ رَبُّهَا فَأَحْرَزَ بِدُونِهِ أَوْ تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ أَوْ قَطَعَ عَلَفَ دَابَّةٍ عَنْهَا بِغَيْرِ قَوْلٍ ضَمِنَ)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ عَيَّنَهُ رَبُّهَا فَأَحْرَزَ بِدُونِهِ)، يعني لو قال: أنا أطلب منك تحفظ هذا، لكن لا تحفظه إلا في خزينةٍ داخل خزينة، ولو كان عرف الناس أنها تحفظ في خزينة واحدة، لكن هو عَيَّنَ، فإمَّا أن تفي له بما طلب، فإذا وفيت فالحمد لله، وإن لم تف، كما لو قال: هذا موسوس وكذا، وليس هناك داع، ثم قلت له: أبشر وكذا، ثم حفظتها في خزينةٍ واحدة ثم سرقت، فنقول: أنت ضامن، لأنه عَيَّنَ طريقة الحفظ وهو لم يحفظها بمثل ما تعين به.
لو قال له: احفظ السيارة داخل البيت، فجعلها في الفناء، والفناء يكون خارج البيت، أي الذي يقابل البيت فسرقت، فنقول: هو مفرط؛ لأنه طلب منك أن تدخلها، فمادام أنك أخرجتها فهذا حفظٌ في أقل مما طُلب، ولو كان عادة الناس أن يتركوا سياراتهم خارج البيوتات في الطرقات في محال وقوفها.
فإذًا قال: إذا فعله بدون ما عُين؛ ضمن.
(أَوْ تَعَدَّ)، لو أنه تعدى، وتعدى فعل ما لا يجوز له، لو أنه حفظها داخل الدار إذا كانت سيارة، ولكن ذاك اليوم قال: دعني أجربها، أو أمشي بها وأنظر فهذه سيارة جميلة، فأخرجها ولو لدقائق معدودة، فنقول: هذا تعدٍ، وحق الوديع أن تحفظ وليست أن تستعمل، لأنها ليست عارية، ولا مأذونًا لك في التصرف بها، وبناءً على ذلك لو تلفت، حتى ولو رددتها إلى موضعها الذي تحفظ فيه، فقد انتقلت يدك من يد أمانة إلى يد تعدٍ، فتكون يد ضمان.
ومثل ذلك (أَوْ فَرَّطَ)، هو تركها في داخل البيت، لكن فتح باب الدار، فكما أنه تركها خارج الدار أو أخل بما وجب، جعلها في الخزينة لكنه تركها مفتوحة، أو ترك مفتاحها بإزائها، فنقول في مثل هذه الحالة: إنه قد فرط.. وهكذا.
{ثم قال -رحمه الله-: (أَوْ قَطَعَ عَلَفَ دَابَّةٍ عَنْهَا بِغَيْرِ قَوْلٍ ضَمِنَ)}.
(أَوْ قَطَعَ عَلَفَ دَابَّةٍ عَنْهَا بِغَيْرِ قَوْلٍ ضَمِنَ)، يعني: لو كان المحفوظ عنده دابة، ثم هو من لوازم حفظ الدابة أن يُعتنى بها، فهي لا تحيا ولا تُحفظ إلا بأن تعلف، وأن تسقى، وبناءً على ذلك لو أنه ما حفظها على هذا النحو، ما قام بعلفها، ما قام بسقيها، فنقول: لو تلفت أو هلكت فقد ضمن.
لكن قال: (بِغَيْرِ قَوْلٍ)، أمَّا لو قال: اتركها تجلس ثلاثة أيام بدون طعام فهلكت في اليوم الثاني، فنقول: لا ضمان عليه؛ لأنه هو الذي قال له: اتركها، فلذلك قال: (بِغَيْرِ قَوْل).
وأما إذا كان قد قال له، فكأنَّ صاحبها هو الذي تعمد إتلافها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيُقْبَلُ قَوْلُ مُودِعٍ إِلَى رَبِّهَا أَوْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ لَا وَارِثِهِ)}.
قال: (وَيُقْبَلُ قَوْلُ مُودِعٍ إِلَى رَبِّهَا)، هذه المسألة في حال الاختلاف بين المودِع والمودَع، فلو أن المودِع ترك عند المودَع مائة دينار، ثم بعد شهر جرى بينهما خلاف، قال: أين المائة دينار التي ائتمنتك عليها؟ فقال: رددتها إليك، أليس في اليوم الخامس عشر قلت: إن عندي زواج ابني، وأحتاج إلى هذا المال فرده إليه فأعطيتك إياه. قال: لا ما أعطيتني.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا جرى بينهما اختلاف فلا يخلو:
إمَّا أن تكون بينة فالحكم بالبينة، ولا إشكال، هذا أقام البينة أنه أعطاه، أو أن هذا أقام البينة أنه أصلاً لم يكن موجودًا ولم يكن بينهما تواصل، أو أن هذا جاء في اليوم التاسع متى أرد إليك أمانتك، فأثبت أو بالشهادة أنها لا تزال عندي أشياء فلان.
المهم أنه إذا وجدت البينة قضي بها، ولكن إذا لم توجد البينة، يقول الفقهاء: إذا لم توجد البينة فيعتبر قول المودع؛ لأنه أمين، وأنت ارتضيته لحفظ مالك، فلا يجوز بناءً على ذلك تكذيبه، فإذا قال: إنني رددتها نقول: نقبل قولك، فإذا حلف على ذلك فالحمد لله.
ولذلك قال: إنه يقبل قوله، وكل ما قال الفقهاء أنه يقبل قوله فالأصل أن ذلك مع يمينه، إذا ردها إلى ربها أو غيره، أو قال مثلًا: أنا رددتها إلى وكيلك أو رددتها إلى زوجك، أنت الذي أذنت، وأرسلت لي رسالة المكتوبة بذلك، أو اتصلت بي وأشعرتني بهذا، فإذًا في مثل هذه الأحوال يقولون: إنه يقبل قوله بيمينه.
(لَا وَارِثِهِ)، أمَّا لو أن هذا الشخص الذي ائتمنه على مائة دينار توفي، ثم جاء الورثة فأعطاهم إياها، ثم جاء بعد مدة وقالوا: ما أعطيتنا الأمانة التي ائتمنك عليها والدنا، فيقول: بلى، فبناءً على ذلك قال: عندك بينة؟ قال: لا ما عندي بينة، لكن أنا رددتها إليهم، فنقول: لا يُقبل قوله في مثل هذه.
لماذا؟ ما الفرق بينهما؟
قالوا: إن المورث كان قد ائتمنك فبناءً على ذلك لزمه أن يقبل قولك.
وأمَّا الورثة فإنهم لم يأتمنوك، فكان تسليمك لهم المال بغير بينةٍ أو بغير إشهادٍ أو بغير توثيق كان كالتفريط منك، فكانت عليك بينة.
فيقول الورثة: نحن لا نأتمنك وإن كان والدنا يأتمنك فنحن نتهمك، وبناءً على ذلك نقول: أيها المودع إذا كان الورثة هم الذين سيتسلمون منك المال، فلا تُسلم لهم إلا بما يثبت ذلك، وإلا فإنك لو سلمت بدونها، لكنت غارمًا، أو إذا لم تُثبت البينة ردك لها، فإنك تغرم، ويلزمك الأداء.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَفِي تَلَفِهَا وَعَدَمِ تَفْرِيطٍ وَتَعَدٍّ وَفِي الْإِذْنِ)}.
قال: (وَفِي تَلَفِهَا)، يعني: لو أن هذا الذي طُلب الحفظ منه فيه كثياب مثلا، ثم قال المودع: إنها تلفت، جاءت ريح وأخذتها، وكان حفظها فيما تحفظ فيه عادةً، في مثل هذه الحال نقول: إن قوله مقبول، فيحلف أنها تلفت بالريح، فينتهي بذلك الأمر.
لكن يقول الفقهاء: إن دعوة التلف لا تخلو من حالين: إمَّا أن تكون من أمرٍ ظاهر، أو من أمرٍ خفي، فلو ادعى أمرًا خفيًا فيقبل قوله بيمينه، يعني: لو أنَّ واحدًا كان يحفظ بعيره، ثم قال: والله قَرَصَته حية فمات، فهذا شيء خفي لا نستطيع فيه شيئا، فيقبل قوله، ولكن لو قال: إنه قد جاء حريق في هذه المنطقة فوصلت إلى هذا البعير فتلف أو احترق فيها، فهذا شيءٌ ظاهر ولا يمكن أن يختفي.
وبناءً على ذلك يقولون: إذا كان الأمر ظاهرًا، فإنه يُطلب منه البينة على الأمر الظاهر، كالحريق فعليه أن يثبت ذلك، فإذا أثبت أنه حريق فيقبل قوله بأنها تلفت به، وهكذا..
ومثل ذلك الريح؛ فالريح نوعٌ من الحريق، وإن كنا مثلنا به على الإطلاق.
قال: (وَعَدَمِ تَفْرِيطٍ وَتَعَدٍّ)، لو قال إنها سرقت، ثم جاء المودع وقال: لابد أنك تركتها فيما لا تُحفظ فيه، قال: لا، بل إنما حفظت هذه الجنيهات في الخزنة مع جنيهاتي، فيقول الفقهاء في ذلك: يُقبل قوله، بل قال الفقهاء -للدلالة على أن قول الأمين مقبول-: لو كانت صرتان، صرةٌ له وصرةٌ للمودع، فسرقت صرة المودع، فالغالب أنه يُتهم، أنه هو الذي لعب بها، أو أنه لم يحفظها في هذا المكان، فكيف تؤخذ مال؟!
فيقولون: حتى ولو تلفت على هذا النحو، فإن قوله المودَع مُعتبر، فإنه يمكن أن يكون بعض من عرف خاصتهُ من قريب أهل بيته، فيعرف أن هذا ماله فلم يتسلط عليه، أو أنه شاء الله -جلّ وعلا- ابتلاءً لهذا الشخص أن يذهب ماله، ويحفظ مال هذا.. إلى غير ذلك.
فإذًا إذا ادعى عدم تفريط، قال: أنت تركتها في غير الخزنة، قال: لا، تركتها في الخزنة، أو أُدعي عليه تعدٍ، قيل: أنت فتحت الخزنة.
وإذا كانت مثلًا السيارة، قال: ذكر لي بعض الجيران أنك أخرجت السيارة وأركبت بها ولدك أو زوجك أو نحو ذلك، فقال: لا، فربما كان ذلك مُشتبهًا على الجيران.
فبناءً على ذلك إذا لم يثبت ذلك بالبينة، فنقول: أيها المودَع قولك معتبر، تحلف، فإذا حلف انتهى الأمر.
(وَفِي الْإِذْنِ)، لو أنه جاءه وكيله فأعطاها إياه، فقال: كيف تعطيها وكيلي؟ قال: أنت الذي أذنت، أنت الذي اتصلت بي وقلت أعطها إياه، أو أعطها فلانًا من الناس، وجعلها عنده، فإنه طلب مني قرضًا فقلت: خذ المال الذي عند فلان، فلما جاءني اتصلت بك وقلت لي: نعم أعطه.
فإذًا، إذا اختلف هل أذن؟ قال: لا أنا ما أذنت، فبناءً على ذلك نقول: إذا لم تكن بينة فيقبل قول المودع.
هل فعلًا يمكن أن يكذب المودِع أو المودَع؟ نقول: يحتمل الأمران جميعًا؛ لأنه يمكن أن يكون بعد شهر هو أقرض هذا الشخص، لكنه لما أقرضه هذا كان على أنه سيؤديه ثم لم يؤده، فلم يجد المودِع إلا أن يقول: أنا ما أذنت ليغرمها المودَع، أليس كذلك؟!
فإذًا يُحتمل أن يكون المودِع كاذباً، ويحتمل أن يكون المودَع كذلك.
ولَمَّا كان المودَع أصلًا محل أمانةٍ عند المودِع، فأنت ما وضعت عنده مالك إلا لأنك تثق به، وما تركت هذه الأموال إلا لأنك تعلم أنه لا يَعبث بها ولا يلعب، وإلا جرت عادة العقلاء ألا يتركوا أموالهم وهم يعلمون أنَّ هؤلاء يلعبون بها ويتجاوزون فيها.
{أحسن الله إليكم، شيخنا الآن لو طلب رسوم مثلًا، إذا أنا أردت أن أودع أموال مثلاً عند فلان وفلان هذا قال خلاص ما فيه إشكال}.
إذا كان حفظ الوديعة بُجعل جاز، لكن هنا تكون إجارة، إجارةٌ على الحفظ فتأخذ أحكام الإجارة على ما مر بنا.
{لكن إجارة هو ما يستعملها}.
هو استأجره على أن يحفظ هذا المال، استأجره مثل ما يُستأجر على أن يكون حارسًا، استأجره على أن يحفظ هذا المال، وبناءً على ذلك تأخذ أحكام الإجارة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ أَوْدَعَ اثْنَانِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا يُقْسَمُ فَطَلَبَ أَحْدُهُمَا نَصِيبَهُ لِغَيْبَةِ شَرِيكٍ أَوِ امْتِنَاعِهِ سُلِّمَ إِلَيْهِ)}.
إذا أودعت اثنان مكيلًا، يعني: ما يُمكن قسمته، وفيما مضى كما قلنا: الأشياء التي تُمكن قسمتها قليلة، لكن الآن كثيرة، فبناءً على ذلك ما أودع الشركاءُ من شيءٍ عند شخصٍ، فالأصل أن يؤخذ جميعًا أو يترك جميعًا.
لكن لو احتاج أحدهم أن يأخذ نصيبه، ولم يمكن ذلك مع الشريك الآخر، فنقول: لا يخلو: إمَّا أن تكون هذه الأشياء يمكن قسمها، ويبقى حق المودِع الأول كما هو، وبناءً على ذلك يلزم؛ لئلا يدفع ضرر صاحب المال؛ ولأن الشريك الأول أو المودِع الأول لا يتضرر، حقه محفوظ، فبناءً على ذلك لا حاجة إلى إلزامه بالبقاء حتى يأتي الآخر.
فلذلك قال: (وَإِنْ أَوْدَعَ اثْنَانِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا يُقْسَمُ)، يعني مما تمكن قسمته، بأن لا يكون فيه تفاوت، بأن لا يكون بعضه أطيب من بعض، يمكن يؤخذ الطيب ويترك الرديء، إذًا يمكن قسمته.
(فَطَلَبَ أَحْدُهُمَا نَصِيبَهُ لِغَيْبَةِ شَرِيكٍ أَوِ امْتِنَاعِهِ سُلِّمَ إِلَيْهِ)، الغَيبة واضحة، والامتناع يعني قال لصاحبه: تعال نأخذ أموالنا التي عند فلان، قال: لا، أنا أتركها عنده، فامتنع من أخذها، أي: امتنع من استلامها من عند المودع، فبناءً على ذلك كان في هذا إضرار بالآخر، فالآخر يريد أن يأخذ ماله ويتصرف فيه، فبناءً على ذلك نقول: لو امتنع، وهذا المال مما يمكن قسمته، فبناءً على ذلك المودَع له أن يؤدي إلى هذا نصيبه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلِمُودِعٍ وَمُضَارِبٍ وَمُرْتَهِنٍ وَمُسْتَأْجِرٍ إِنْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا)}.
(وَلِمُودِعٍ وَمُضَارِبٍ وَمُرْتَهِنٍ وَمُسْتَأْجِرٍ إِنْ غُصِبَتِ الْعَيْنُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا)، يقولون: إن من كمال حفظها حفظ المطالبة بها، فلو أنها سُرقت مثلًا، فعليه أن يذهب إلى أماكن تتبع اللصوص من الشُرط والجندِ ونحوهم، فيطالب بها، وإذا كان فيها دعوى احتاج إلى أن يتداعى ويترافع لدى القاضي.
فإذًا هذه كما يقولون من مكملات الحفظ، ومما يُستدعى به ردها إلى محلها، فبناءً على ذلك يلزم.
ومثل ذلك المضارب الذي يعمل في مال أحد، أُخذ منه المال، يقول: خلاص أنا ما عليّ هو مال فلان، نقول: لا، كما أنه ائتمنك هذا المال لتعمل عليه، فإن من مقتضيات ذلك أن تحافظ عليه.
والمطالبة به ورده إذا أُخذ هو جزءٌ من ذلك فلزمك، ومثل ذلك الذي عنده رهن أُخذ، فيلزمه أن يطالب نيابةً ووكالةً عن الراهن، وكذلك المستأجر عن المؤجر إذا غُصبت العين، فإنه يلزمه أن يطالب بها؛ لأن المؤجر قد لا يكون موجودًا؛ لأن المؤجر قد لا يعلم، ولو تأخر المطالبة لكان فيه إضرار أو هرب لذلك الغاصب، فبناءً على ذلك كان المستأجر أمينًا، فهو يقوم مقام المؤجر فتلزمه المطالبة بذلك.
{أحسن الله إليكم شيخنا، ونفع الله بكم، وزادكم من فضله، اليوم نكتفي عند باب الوديعة}.
لعله كفاية، ولابد أن نُسرع كما طلب مننا الإخوة حتى نأتي إلى نهاية الكتاب، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
{الشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك