الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7544 33
الدرس الحادي عشر

أخصر المختصرات 4

{الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه، أفضل الصلاة وأتم التسليم، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، نصطحبكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات)، يشرحه لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم العجلان، باسمي واسمكم جميعًا نحيي فضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، طلاب العلم الحريصين على ذلك، والطالبات.
{أستأذنكم شيخنا في البدء بالقراءة}.
نعم، استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (وَحَرُمَ تَصْرِيحٌ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ عَلَى غَيْرِ زَوْجٍ تَحِلُّ لَهُ وَتَعْرِيضٌ بِخِطْبَةٍ رَجْعِيَّةٍ، وَخِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ مُسْلِمٍ أُجِيبَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يَجعلنا وإياكم من أهل العلم الراسخين، والعالمين العاملين، وأن يجعلنا على الحق المبين، وعلى الصراط المستقيم، غير زائغين ولا حائدين، وأن يحفظنا من الفتن يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي قد ابتدأنا في أول الكلام على (كتاب النكاح)، إلى أن ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالخطبة، والنظر إلى المخطوبة، ثم نبه على مسألة مُهمة، وهي ابتداء شرحنا في هذا اليوم، فقال: (وَحَرُمَ تَصْرِيحٌ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ) أي: إذا كانت المرأة في حال عدة، فإنه لا يجوز للإنسان أن يُصَرِّحَ بخطبتها.
فبين المؤلف -رحمه الله- أنَّ المعتدة البائن، يعني: إما أن يكون قد توفي عنها زوجها، أو أن تكون خَلعت زوجها، أو فسخ الحاكم ذلك، على القول بأنَّ الفسخ غير الخلع، وغير الطلاق، ففي هذه الحالة، إذا كانت في حال العدة، فإنه لا يجوز للإنسان أن يصرح بخطبتها؛ لأنَّ ذلك قد يدعوها إلى أن تستعجل العدة، فَتُفَوِّتَ حق الله -جل وعلا- عليها.
ولكن إن كان ذلك تعريضًا أو تلميحًا، والفرق بين التصريح والتعريض أنَّ التصريح هو الذي لا يحتمل غير الخطبة، وأمَّا التعريض فإنه يحتمل الخطبة ويحتمل غيرها، فالتعريض جائز لقول الله -جل وعلا-: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ﴾ [البقرة:2350]، وحقيقة التعريض أنه يفهم منه إرادة النكاح وغيره، كما لو قال: لا تفوتيني بنفسك، يعني: يُبدي رغبته في النكاح، ولكن هذا قد يُفهم منه أنه يريد النكاح، وقد يريد أنه يشير إلى أحد يرتضيه لها.
مثل ذلك لو قال: إني في مثلك لراغب، ليتني أجد امرأة تكون في مثل ما حباك الله من صفات وجمال وسواه، ففي مثل هذه الألفاظ يمكن أن يُفهم منه أنه عَرَّضَ بنكاحها، ويمكن أنه أراد ما يفهم على ظاهر هذا الكلام، وهو أنه يتمنى من تماثلها في هذه الصفات، وأنه أراد في ذلك تطييب خاطرها، وبيان رغبة الرجال فيها، وما يتعلق بذلك.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عَلَى غَيْرِ زَوْجٍ)، سيأتينا ما يتعلق بالرجعية الآن، مثل: زوج خالع زوجته، ففي هذه الحال هو لا يستطيع أن يرجع إليها إلا بنكاح جديد.
وبناء على ذلك: إذا كان الزوج هو الذي يُريد أن ينكحها فلا بأس، فيحلُّ له ذلك، بشرط أن تكون ممن يحل له نكاحها، بمعنى أنه لو كان قد طلقها ثلاث تطليقات، فإنه لا يمكنه أن يتزوجها، ولذا قال المؤلف: يحل له ابتداء نكاح جديد، ومثل ذلك لو كان قد لاعنها، فالملاعنة والملاعن لا يجتمعان أبدًا، ولذلك قال النبي : «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» ، فجعل بينهما تحريمًا مؤبدًا.
المهم أنَّ الزوج إذا كان يمكنه نكاح زوجته، كما لو كانت قد خلعت، فيجوز له في هذه الحال أن يُعرض بخطبتها، بل وأن يُصرح بذلك؛ لأنَّ العدة لحقه ومن نكاحه.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَتَعْرِيضٌ بِخِطْبَةٍ رَجْعِيَّةٍ) أمَّا إذا كانت المرأة في طلاق رجعي، فالطلاق الرجعي لا يُخرجها عن الزوجية، وبناء على ذلك لا يحل التعريض ولا التصريح بإرادة نكاحها أو خطبتها؛ لأنها زوجة من الزوجات، ولها أحكام الزوجات، فلو مات زوجها ترثه، ولو ماتت هي فهو وريثها، وأنها تحل له، وإنما فات عليها ما للزوجة من القسم ونحوه، حتى يكتب الله بينهما شيئًا، إمَّا الرجوع، وإمَّا تمام العدة، وانتهاء علقة النكاح.
{قال -رحمه الله-: (وَخِطْبَةٌ عَلَى خِطْبَةِ مُسْلِمٍ أُجِيبَ)}.
الخطبة على الخطبة لا يخلو إمَّا أن تكون خطبة مسلم على مسلمٍ، أو أن تكون خطبة مسلم على كافر، وهذا يتصور في نكاح الكتابية، فأمَّا إذا كانت خطبة مسلم على كافر فلا إشكال فيها؛ لأن النبي قال: «لا يخطُبُ أحدُكم على خِطبةِ أخيه، حتى ينكِحَ أو يترُكَ» ، والكافر ليس أخا، فَعُلِمَ أنه غير داخل في هذا الحديث.
ولكن الخطبة على خطبة المسلم لا تجوز إذا كان قد أُجيب، أو وجد منهم ركون إليه، ولذلك الإجابة لها حالان، حال تصريح كأن يجيبه مباشرة، أو يظهر له إجابة النكاح، والرغبة فيه وما يتعلق بذلك.
وإمَّا أن يُعرِّضُوا أو يركنوا إليه، كأن يسألونه أين تجعلها؟ وهل يمكن لك أن تبقى في هذا المكان؟ أو أن تفعل كذا وكذا، فهذه إشارة إلى رغبتهم، وإنما أرادوا أن يتبينوا بعض الأمور، ولذا قالوا: إذا كانت الإجابة على سبيل التعريض، فإنه لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه.
والسبب في ذلك أنَّ الشارع يتطلع إلى منع العداوة والشحناء بين المسلمين، وذلك يُورث شحناء بينهم، ويوغر الصدور بين أهل الإسلام، ولذا فقد منع منه الشارع، ولكن إذا ترك أو لم يُجَبْ أو رُدَّ، ففي هذه الأحوال الثلاثة يجوز له أن يخطب على هذه الخطبة، أو أَذِنَ له، والحال الأخيرة أن لا يكون قد عَلِمَ بخطبته، أو بإجابتهم له، وبناء على ذلك يجوز، ولكن إذا علم وكان قد أُجيب تصريحًا أو تعريضًا، فالتصريح قولاً واحدًا لا يجوز، والتعريض في قول جمهور أهل العلم، وظاهر مذهب الحنابلة، أنَّ ذلك داخل في المنهي عنه، وبالتالي لا يجوز للمسلم أن يخطب على خطبة أخيه، إذا كان قد أُجيب صراحة أو تعريضًا.
{أحسن الله إليكم
قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ عَقْدُهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مَسَاءً بَعْدَ خُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ)}.
هذا جاء عن بعض السلف، والأصل في ذلك أنه وقت تُرجى فيه إجابة الدعاء، ولَمَّا كان هذا عقدًا عظيمًا تتعلق به مصالح دنيوية وأخرى دينية، فإنَّ طلب مثل هذا الوقت الذي تُرجى فيه إجابة الدعاء، وما يتبع ذلك من التبريك له، وسؤال الله أن يُؤدم بينهما، وأن يَسعدا في نكاحهما ونحو ذلك، فلأجل هذا كان ذلك في آخر ساعة من الجمعة.
والشيخ قال: (مساء) والمساء يكون من بعد الزوال، ولكن يُؤكد بعضهم على أنه يكون في آخر النهار؛ لأنه هو وقت الإجابة، والذي جاء في الحديث المشهور أن يوم الجمعة فيه «سَاعَةٌ، لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وهو قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شيئًا، إلَّا أعْطَاهُ إيَّاهُ» .
قال: (بَعْدَ خُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) يُستحب أن يشتمل عقد النكاح على خطبة ابن مسعود، وهي قول: "نَحْمَدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه"، ثم بعد ذلك يلقن الولي إيجاب النكاح، فيقول له: قل زوجتك ابنتي أو موليتي، ثم يلقن الزوج القبول، فيقول: قل قبلت هذا النكاح، فهذا هو إيقاع العقد، وهذه هي خطبة ابن مسعود، الذي جاء الحث عليها واستحبابها؛ لأنها خطبة الحاجة، وتلك أعظم ما يكون من الحاجة، وما تتعلق به من المصلحة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (أَرْكَانُهُ: الزَّوْجَانِ الْخَالِيَانِ عَنِ الْمَوَانِعِ، وَإِيجَابٌ بِلَفْظٍ: "أَنْكَحْتُ" أَوْ "زَوَّجْتُ"، وَقَبُولٌ بِلَفْظٍ: "قَبِلْتُ" أَوْ "رَضِيتُ" فَقَطْ، أَوْ مَعَ هَذَا النِّكَاحِ أَوْ تَزَوَّجْتُهَا)}.
إذا المؤلف -رحمه الله تعالى- انتقل إلى هذا الفصل وهو في أركان النكاح وما يتعلق به من شروط، فقال: (أَرْكَانُهُ: الزَّوْجَانِ الْخَالِيَانِ عَنِ الْمَوَانِعِ) فخلو الزوجين من الموانع أصلٌ معتبرٌ في صحة النكاح، فإذا كان أحد الزوجين به مانع، كأن تكون المرأة مثلا في عدة، أو اختلاف الدين الذي لا يصح معه النكاح، كما لو كان الزوج مجوسيًا، أو كان الزوج غير مسلم وهي مسلمة، أو كان بينهما رضاع أو مصاهرة، فكل ذلك يمنع من حصول عقد النكاح.
إذًا لا بد أن يُوجد الزوجان، وأن لا يكون فيهما مانع من موانع النكاح، كما قلنا: أن تكون في عدة، أو أن يكون بينهما اختلاف دين، أو مصاهرة، أو رضاع، أو سواه.
قوله: (وَإِيجَابٌ) والإيجاب هو اللفظ الصادر من ولي المرأة في إيجاب النكاح، كما قلنا إذا قال الولي: زوجتك ابنتي، فهذا إيجاب في النكاح، ومثله: أنكحتك ابنتي، ونحو ذلك.
ثم الركن الثالث (وَقَبُولٌ)، وهو أن يَصدر من الزوج أو وكيله قبول لهذا النكاح، فإذا قال: (قَبلتُ)، أو قبلت هذا النكاح، أو (رضيت)، أو رضيت هذا النكاح، وإذا قال: (رَضيتُ) فقط كان هذا كافيًا.
وإذا قال: رضيت هذا النكاح، كان ذلك أتم وأكمل، أو قال: تزوجتها كما نَصَّ على ذلك الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، فإنه يكون قد اكتملت أركان النكاح، وتم عقده، ولم يبق إلا استكمال شروطه التي سيذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ جَهِلَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعَلُّمٌ، وَكَفَّاهُ مَعْنَاهُمَا الْخَاصُّ بِكُلِّ لِسَانٍ)}.
قوله: (وَمَنْ جَهِلَهُمَا) الضمير هنا راجع إلى الإيجاب والقبول، يعني: من جهل الإيجاب والقبول باللغة العربية لم يلزمه تعلمٌ، فكأنَّ الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يرون ابتداءً أنَّ هذا النكاح يكون بالعربية، وباللفظ المخصوص، وهو لفظ أنكحت أو تزوجت.
والحنابلة -رحمهم الله تعالى- قيدوا عقد النكاح بكل ما تعنيه الكلمة من التقييدات؛ لأنه عقد عظيم، تترتب عليه أمور كبيرة، من استحلال البضع، ومن لحوق النسب، ومن وجوب النفقة، وما يتبع ذلك من أشياء كثيرة يختص بها هذا العقد، ولأنه لا يتكرر، ولذا قالوا: لا بد أن يأتي باللفظ الذين نتيقن أنه قد أريد به النكاح لا غير، وليس كسائر العقود التي يُتجاوز فيها، ولذلك خصوا ذلك وقيدوه بالعربية، وبهذين اللفظين لا سواهما.
وإن كان جاء عن بعض الحنابلة، وهو الذي ذهب إليه ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وانتصر له، وقال: إنَّ أصول أحمد تدل على ذلك، وهو أنه ينعقد بكل ما تعارف الناس عليه، باعتبار أنَّ هذه العقود إنما المقصود منها تحقيق معناها، وليس التعبد بألفاظها، ولكن بشرط أن يكون ذلك اللفظ صريحًا في إرادة النكاح، وبناء على ذلك يصح بلفظ: إنكاح، أو تزويج، أو بسواهما، أو حتى بغير اللغة العربية لأهل اللغات المختلفة على اختلافهما.
ثم قال: (وَكَفَّاهُ مَعْنَاهُمَا الْخَاصُّ بِكُلِّ لِسَانٍ) يعني: على القول بلزوم العربية لمن هو قادر عليها، وأمَّا من لم يقدر عليها، فإنه يصح بلغته، ولأجل ذلك قالوا: لو كان الموجب مثلا يعرف العربية والقابل لا يعرفها، فالموجب يقولها بالعربية، والآخر يقولها بلغته، ويُترجم لهما.
على كل حال، عند الحنابلة كما قلنا: تعظيم هذا العقد، ولذلك قيدوه، واعتبروا فيه اعتبارات لإرادة التيقن من حصوله، وعدم حصول اللغط في هذا العقد وثبوته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرُوطُهُ أَرْبَعَةٌ: تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ وَرِضَاهُمَا)}.
هذه هي الشروط التي تعتبر لانعقاد النكاح:
أولهما: (تَعْيِينُ الزَّوْجَيْنِ)، فلا بد أن يكون كل من الزوج والزوجة مُعينًا، وذلك بأن يعرف أو يكون معروفًا. والزوج يكون ظاهرا في الجملة، ولكن أيضا لا بد أن يعرف في بعض الأحوال كأن يكون أرسل وكيلا عنه، كما لو كان في سفر، أو كان غائبًا لأي سبب من الأسباب، أو كان في سجن ينتظر خروجه.
المهم أنه لا بد من تعيينهما، والتعيين عند الفقهاء يحصل بأشياء، قالوا: أولها وأتمها الإشارة، فإذا قيل: هذا هو الزوج، أو هذه هي الزوجة، فإنَّ الإشارة أَنَصُّ دلالات التعيين.
الثاني: الاسم، والاسم أقل من الإشارة؛ لأنَّ الإشارة إلى جثته وبدنه، فلا اختلاف فيها ولا اختلاط، بينما الاسم قد يشترك أحد معه في نفس الاسم.
الثالث: بالصفة كان يقال: المتعلمة، أو المدرسة، أو إلى غير ذلك من الصفات التي تتميز به عمَّا سواها، ولا تختلط به.
الرابع: ألا يكون غيرها، فإذا كانت هي واحدة لا ثاني لها، فإذا قال: زوجتك ابنتي، فليس له إلا هذه البنت، فيتوجه النكاح إليها، ولا يكون في ذلك لَبسٌ ولا إشكال.
إذًا هذا ما يتعلق بتعيين الزوجين.
الثاني: (وَرِضَاهُمَا)؛ لأنّ الرضا أصل في صحة العقود، ولا بد من حصوله، وهذا بإجماع أهل العلم، إلا ما استثني في إجبار الأب، أو وصية للبكر، وسيأتي الكلام عليه -كما ذكر المؤلف رحمه تعالى-، ولذلك قال: (وَرِضَاهُمَا).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَرِضَاهُمَا، لَكِنْ لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ فِي نِكَاحٍ تَزْوِيجُ صَغِيرٍ وَبَالِغٍ مَعْتُوهٍ وَمَجْنُونَةٍ، وَثَيِّبٍ لَهَا دُونَ تِسْعٍ، وَبِكْرٍ مُطْلَقًا، كَسَيِّدٍ مَعَ إِمَائِهِ وَعَبْدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يُزَوِّجُ بَاقِي الْأَوْلِيَاءِ صَغِيرَةً بِحَالٍ وَلَا بِنتَ تسعٍ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَهُوَ صُمَاتُ بِكْرٍ وَنُطْقُ ثَيِّبٍ)}.
لَمَّا ذَكَرنَا أنَّ الرضا أصل في شروط النكاح، استثنى المؤلف من ذلك جملة من المسائل، فقال: (لَكِنْ لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ) والوصي هو الذي أوصى إليه بتزويج أو بإنكاح بناته، أو (معتوه) عنده من ولد أو غيره بعد وفاته، فيلي ذلك عنه على سبيل الوصاية.
قال: (لَكِنْ لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ فِي نِكَاحٍ تَزْوِيجُ صَغِيرٍ) الصغيرة له أن يجبرها، والإجبار هنا مخصوص به الأب، قال أهل العلم: إن الأب لكمال شفقته لا يحملها إلا على ما فيه مصلحة متمحضة لها من كل وجه؛ ولأن الصغيرة ومن في حكمها لا تحسن اختيار الأزواج، ولا تعرف الرجال، ولأجل ذلك لم يكن لأذنها مع شفقة والدها ورأيه واختياره اعتبار، ولأجل ذلك قالوا: (لِأَبٍ وَوَصِيِّهِ فِي نِكَاحٍ تَزْوِيجُ صَغِيرٍ) ومشهور المذهب عند الحنابلة، أنَّ الأب له أن يزوج ابنه الصغير دون البلوغ، وهذا جاء عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه-، ومثل ذلك البالغ المعتوه؛ لأنَّ البالغ المعتوه مثل: الصغير من جهة أنه لا عقل له، أو لا تدبير عنده.
وبناء على ذلك للأب أن يزوجهم إذا رأى المصلحة في ذلك.
فإن قال قائل: ما المصلحة في تزويج الصغير؟
الصغير في بعض الأحوال خاصة إذا لم تكن له أم، قد يحتاج إلى من ترعاه، وربما لا يتأتى له القيام بذلك، أو أن يأمن عليه خادم، أو أن يجد في ذلك خادمًا يقوم به على الوجه الأكمل، فيكون تزويجه في مثل هذه الحال له فيه مصلحة بالغة، ومثل ذلك البالغ المعتوه، فإنَّ العته وهو جنون وخفة عقل، يذهب معها الإدراك وحسن التصرف في الأمور والأشياء، ويحتاج معه إلى زوجة ترعاه، وربما أيضا كان له شهوة، لئلا يحمله على أن يُؤذي النساء في الطرقات، أو يفعل ما يحصل به عليه بلاء، أو خزي على أهله، أو سوى ذلك، فإذا رأى الأب تزويجه أو وصي الأب فكذلك.
والمجنونة مثل ذلك، فإذا رأى الأب المصلحة لها في هذا؛ فإنه يزوجها، كما قلنا أيضا: إنه قد يكون بها رغبة في الرجال، ومع جنونها قد يحملها ذلك على أن تفعل ما لا يحل، ويحصل بسبب ذلك نشوب حمل، وحصول بلاء، ولأجل هذا لأبيها أن يزوجها إذا رأى لها المصلحة في ذلك.
وقالوا: لَمَّا كان الأب في كل مثل كل هذه الأحوال لا يفعل إلا الأصلح لها، فقد اغتفر في مثل باب الإجبار.
قوله: (وَثَيِّبٍ لَهَا دُونَ تِسْعٍ) إذا كانت المرأة ثيبًا، وهي صغيرة دون التسع سنين، فيجبرها أبوها؛ لأنها لا تحسن، وأما إذا كانت الثيب بالغًا، فلا تجبر من الولي حتى ولو كان أبًا، وما بين البلوغ إلى تسع يُفهم من كلام المؤلف أنها لا تُجبر كذلك، وهذا أيضا فيه شيء من التردد بين الفقهاء.
ثم قال: (وَبِكْرٍ مُطْلَقًا) أي أنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- يذهب إلى أنَّ الأب له أن يزوج البكر كما قلنا من قبل لأنها لا تحسن الاختيار، وأنَّ الأب لكمال شفقته فإنه لا يفعل ذلك إلا لما لها فيه من المصلحة.
قد يقول قائل: إنه يحصل كذا، أو حصل كذا، أو يكثر خاصة مع بعض وجود توجيه لمثل هذه المسائل، وتسليط الضوء عليها، وربما يقيد في هذا بعض الوقائع التي يكون فيها نوع ظلم، أو تفويت مصلحة على هذه البنت، ولذا نقول: هذه الوقائع لا تنفي الأصل الذي جاء به النص، فإن النبي : «لا تُنكحُ الثيِّبُ حتى تُستأمرَ، ولا تُنكحُ البكرُ حتى تُستأذنَ» ، فدلَّ على أنه يجوز لأبيها أن يزوجها ولو بدون رضاها، والوقائع في مثل هذا الزمان لا تمنع الأصل الأصيل، ولا ما بني عليه الشرع، من أنَّ الأب يختار لها الأصلح، ولكن مع تغير الزمان إذا كثر تفويت المصالح على الموليات، أو على البنات، ورؤيَ في ذلك نوع فساد، أو تضييع، أو إهمال، فللحاكم بما جعل الله له من ولاية أن يُقيد ذلك في الأحوال التي يراها، أو أن يرفع ولاية من لا يحسن الولاية في مثل هذا، أو يقيد ذلك، وهذا محل بحث للفقهاء المعاصرين، ولهم في ذلك أبحاث معلومة، وفتاوى محفوظة.
وأمَّا نحن فمن جهة المعنى، ومن جهة الأصل الشرعي، هذا هو بيان وأصل المسألة.
قال: (كَسَيِّدٍ مَعَ إِمَائِهِ) أي إذا كانت المزوجة أَمَةً، فللسيد أن يجبرها؛ لأنه مالك لها، والنكاح يحصل به إشباع رغبتها، ولأن ما يكون من ولدها فإنه مملوك لسيده، فلأجل ذلك هو الذي له أن يختار لها، أو أن يزوجها بدون إجبار.
قال: (وَعَبْدِهِ الصَّغِيرِ) كذلك للسيد أن يحمل عبده الصغير على ما يراه له، وأمَّا لو كان عبدًا كبيرًا، فلما كان محل اختيار ونظر، والنكاح مرده إلى إشباع الرغبة، فإنه يختار بنفسه، ولا يُجبره سيده على ذلك.
{قال -رحمه الله-: (فَلَا يُزَوِّجُ بَاقِي الْأَوْلِيَاءِ صَغِيرَةً بِحَالٍ، وَلَا بِنتَ تسعٍ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَهُوَ صُمَاتُ بِكْرٍ وَنُطْقُ ثَيِّبٍ)}.
قوله: (فَلَا يُزَوِّجُ بَاقِي الْأَوْلِيَاءِ)، أمَّا من سوى الأب أو وصيه، فليس لهم ولاية إجبار، حتى الحاكم، على خلاف فيه، ولكن هذا هو ظاهر كلامهم، أنَّ من سوى ذلك من الأولياء، سواء كان الولي أخًا، أو كان الولي ابنًا، أو كان الولي عمًّا، أو كان الولي جَدًّا، فكل هؤلاء لا يدخلون في ولاية الإجبار، وغاية ما يكون أنَّ هذه المولية إن كانت صغيرة فليس لهم تزويجها. لماذا؟ لأنهم حتى ولو استأذنوها، فإنَّ إذنها وعدمه لا شيء؛ لأنها لا تستطيع أن تُنبئ عمَّا في نفسها ويعتمد على ذلك، وبناء على ذلك ليس لهم أن يزوجوا صغيرة.
وأمَّا الكبيرة فإنهم يستأذنوها ويطلبوا إذنها، فإذا أذنت زوجوها، والا فلا.
قال: (وَلَا بِنتَ تسعٍ إِلَّا بِإِذْنِهَا) فإذا أراد باقي الأولياء أن يزوجوا المولية، فإذا كانت بنت تسع فما يزيد، فإذا استأذنوها فأذنت زوجوها وإلا فلا.
ثم بين المؤلف -رحمه الله تعالى- كيف يُعرف إذن البكر؟ أمَّا الثيب فهو النطق؛ لأن مثلها لا يستحي، فقد سبق لها أن تزوجت، وعُرِضَتْ عليها هذه الأمور، وذهب ما كان فيها من حياء الأبكار والصغار.
وأمَّا البكر فالغالب خاصة في الأزمنة الماضية إلى وقت قريب جدا، أنَّ البكر تستحي من ذكر النكاح ناهيك على أن تُبدي رغبة فيه، أو أن تُظهر لأهلها الإقبال عليه، وبناء على ذلك إذا عرضوا عليها الزواج، فكيف يعرفون ذلك؟
يقول المؤلف -رحمه الله-: (صُمَاتُ بِكْرٍ) أي: إذا صمتت، أو ضحكت، فهمنا من ذلك أنها أذنت، أو حتى قالوا: إذا بكت، فبكاؤها هو شوق إلى أهلها، وشعورها بأنها تفارق ما ألفته من بيتها.
ولكن لو أبدت عدم موافقة صريحة، أو عُلم أنَّ بكاءها هو منع للنكاح، فلا يكون كذلك، ولكن الفقهاء يتكلمون على الأصل، أنَّ البكاء والدموع مع صمت، أو فيها شيء من ذلك الغالب أنها دالة على الرضا والفرح، ولكنها ربما تذكرت ما يكون من انتقالها من بيت والديها، وما ألفته من حنان أمها ونحو ذلك.
وأمَّا الثيب فكما قلنا، لا بد لها أن تنطق وتقول: نعم أريده، أو تقول: إنها لا تريده، ولا بد من ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالْوَلِيُّ، وَشُرُوطُهُ: تَكْلِيفٌ، وَذُكُورَةٌ، وَحُرِّيَّةٌ، وَرُشْدٌ، وَاتِّفَاقُ دِينٍ، وَعَدَالَةٌ - وَلَوْ ظَاهِرًا - إِلَّا فِي سُلْطَانٍ وَسَيِّدٍ)}.
قال: (وَالْوَلِيُّ) هذا هو الشرط الثالث، وذلك بعد أن ذكر التعيين، والرضا.
والولي لا بد للمرأة عند زواجها، «أيُّما امرأةٍ نَكَحَت -أو زوجت نفسها- بغيرِ إذنِ مَواليها، فنِكاحُها باطلٌ» ، فلا تزوج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوج المرأة نفسها، كما جاء ذلك عن النبي ، وقال في غير ما حديث: «لا نِكاحَ إلَّا بوليٍّ» ، ولأن المرأة مع ما جبلت عليه من الميل وشدة العاطفة، أن ذلك ربما حال بينها وبين النظر في الأصلح لها، وفي الأكفأ، وفيما يليق بها، وفيما يحصل به استقرار بيتها، وصلاح حالها، ولأجل ذلك احتاجت إلى أن يكون مع ولي يختار لها، ويعينها فيما يكون فيه مثل هذا العقد الذي له مصالح وأثار، ويطول حتى يكون ملء الحياة إلى الممات، إذا كتب الله بينهما البقاء والاستقرار، فهذا هو اعتبار الولي، وهو مشهور المذهب عند الحنابلة، وقول جمهور أهل العلم، واختيار صاحبين عند أبي حنيفة.
وفي الحقيقة إننا في وقت ربما يكثر قول بعض الناس إلى النكاح بدون ولي، وأنه قول أو كذا، ولكن حتى وإن كان قولا عند أبي حنيفة؛ فإنَّ صاحباه ذهبا إلى خلافه، وإن ثلاثة عشر من أصحاب النبي قد اعتبروا الولي في النكاح لا غير.
وحتى إن جاءنا آت وقال: أنا على مذهب أبي حنيفة، فإن العلم ليس بالتشهي والاختيار، وليس نظرًا فيما يوافق رغبات الإنسان، فيطلب ذلك في هذه المسألة، ثم يعود في غيرها، فيمتنع أو يخالف، ولأجل ذلك هؤلاء الذين ينحون هذا المنحى في هذه المسألة بنفسها، لو أن بنت أحدهم تزوجت دون إذن أبيها؛ لأقام الدنيا وما أقعدها، فلما كان لا يرتضيه لابنته، فإن ذلك يدل على أنه لا يطمئن قلبه إليه، وإنما ذهب إليه مذهب التشهي، وتلبية رغبة النفس، والتخلص من تبعات النكاح؛ لعلمه خاصة مع سهولة التواصل مع النساء والتقارب، ووجود هذه الاتصالات ونحوها، فربما أغراها ببعض الكلام، أو أقنعها ببعض الأشياء، فغلب على عقلها وأعرض عن الولي، فعمل ما قد يكون سببًا لحصول البلاء.
ولذا نقول: الولي معتبر، وهو قول الصحابة، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وكما قلنا: إنه حتى عند صاحبي أبي حنيفة، فقد ذهبا إليه واعتبراه، وحتى أبو حنيفة وإن قال بصحة ذلك، لا يعني أنَّ هذا لا يُعتبر، أو لا يلتفت إليه، ولكنه يُصَحِّحُ العقد لو حصل بدونه.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- الشروط المعتبرة في الولي؛ لأنَّ المقصود من الولي ليس هو تقييد نكاح المرأة، ولا تفويت مصلحتها، بل هو تحصيل المصلحة لها في النكاح الذي قد تخفى عليها عواقبه، لكونها امرأة، ولكونها لا تخالط الرجال، ولكونها قد يفوت عليها العلم بالأصلح من سواه.
فقال: (تَكْلِيفٌ) فلا بد إذًا أن يكون بالغًا عاقلاً، فغير البالغ والعاقل عليهم ولاية، فأنَّ تكون لهم الولاية على هذه المرأة.
(وَذُكُورَةٌ) كما قلنا: لا تزوج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها، وعائشة -رضي الله تعالى عنها- كانت تلي بنات أخيها عبد الرحمن، فلما بقي العقد قالت: "اعْقِدُوا فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ".
(وَحُرِّيَّةٌ) لأنَّ العبد عليه ولاية ولا ولاية له، فهو ملك لسيده، وفيه تقييد لتصرفاته، وبناء على ذلك لا يكون وليًا.
(وَرُشْدٌ) والرشد هنا في الولاية في النكاح، غير الرشد في الولاية في المال، فهناك معرفة الأصلح في البيع والشراء، وأمَّا هنا فمعرفة الكفء في النكاح، فربما يكون الإنسان رشيدًا في النكاح، ولا يكون رشيدا في المال، والعكس بالعكس.
وبناء على ذلك، فهنا لا بد أن يكون رشيدا في معرفة الكفء، وفي معرفة الأصلح لها، فإذا كان كذلك كانت له ولاية.
قال: (وَاتِّفَاقُ دِينٍ)، وأما لو كانت كافرة فلا ولاية للمسلم عليها، إلا في حال واحدة وهو الحاكم أو القاضي، فلو تقدمت إلى المحكمة مثلا عندنا في الرياض، وطلبت الإنكاح، فإن القاضي يُنكِحُها ولو لم يكن على دينها، ويطلب لها الخيارة بحسب ويستنفد ذلك، إمَّا بنفسه، وإمَّا أن يكل ذلك إلى من يُوثق به، ممن يعرف أنه يحقق المصلحة، ويحسن الاختيار لها.
(وَعَدَالَةٌ) لا بد أن يكون عدل، فلو كان فاسقًا، فإنه لا ولاية له؛ لأنَّ الفاسق لا يُؤمن أن يطلب المصلحة لنفسه، أو أن ينظر فيما قد يحقق له من مصالح أو أشياء.
قال: (وَلَوْ ظَاهِرًا)؛ لأنَّ الباطن مما يصعب العلم به والحكم به، ولأجل ذلك قال بالاكتفاء بالعدالة ولو كانت في الظاهر، وسيأتينا تفاصيل الكلام على العدالة، فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في شرط العدالة في الشاهد، فنرجئ الكلام إلى هناك.
قال: (إِلَّا فِي سُلْطَانٍ وَسَيِّدٍ) قالوا: إن السلطان والسيد مُستثنيان في مسألة العدالة، لأنَّ السلطان حتى ولو كان فيه فسق، فإنَّ الولاية تامة له، ولا ينازع فيها، وبناء على ذلك تكون له الولاية حتى ولو لم توجد عدالة، أو وجد منه ما يخرمها.
ومثل ذلك السيد في أمته؛ لأنَّ السيد مالك للأمة، والملك أقوى من الولاية؛ لأنها لا تخرج عن ملكه إلا برغبته، وهي مالٌ من أمواله، فلا يمكن أن يُولى عليها شخص سواه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُقَدَّمُ وُجُوبًا أَبٌ ثُمَّ وَصِيُّهُ فِيهِ، ثُمَّ جَدٌّ لِأَبٍ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنٌ، وَإِنْ نَزَلَ، وَهَكَذَا عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ ثُمَّ الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَسَبًا، ثُمَّ وَلَاءٌ، ثُمَّ السُّلْطَان)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيُقَدَّمُ وُجُوبًا أَبٌ ثُمَّ وَصِيُّهُ فِيهِ) هذا ترتيب الأولياء، فلا تخلُ امرأة أن يكون لها ولي، فإن وجد أبوها فلا يقدم عليه أحد، وإن لم يكن الأب موجودًا ووجد وصيه -الذي أوصى إليه بتزويج بناته-، كان هو قائم مقامه، ولأنهم يقولون: إن الأب لم يكن له أن يوصي إليه مع علمه مثلا بوجود إخوته، الذين هم أعمامها، أو وجود إخوتها، الذين هم أبناؤه، إلا لأنه يرى أنه يحصل بهذا الوصي ما لا يحصل بأبنائه، من التوقي وبذل المصلحة والنظر في الأصلح لها.
قالوا: (ثُمَّ جَدٌّ لِأَبٍ وَإِنْ عَلَا، ثُمَّ ابْنٌ، وَإِنْ نَزَلَ) الجد بعد الأب ووصيه، (وَإِنْ عَلَا) أبٌ، ثم أبو الأب وهكذا.
(ثُمَّ ابْنٌ). لماذا أُخِّرَ الابن هنا مع أنَّ الأصل من جهة العصابات، الابن مقدم على الأب، ولذلك في باب العصبة في الميراث، فإنَّ الابن يأخذ العصبة، والأب يأخذ فرضًا، والحقيقة أن الأب ولايته سابقة على ولاية الابن، فمن الذي زوجها قبل أن يكون لها ابن إلا أبوها؟ أليس كذلك؟ هذا من جهة الوقوع، فهو أسبق.
والثاني: الشفقة، قالوا: فإنَّ الأب في شفقته على ابنته أكثر بكثير من شفقة الابن على أبيه، وإن كان في الحقيقة للحنابلة ولغيرهم من الفقهاء كلام على أنَّ الابن إمَّا أن يكون مساويا للأب على قول عند الحنابلة أو مقدم، أو هو بعده قبل الجد، على ثلاثة أقوال، ولهم في هذا خلاف طويل، خلافا للشافعية، فإن الشافعية -رحمهم الله تعالى- يُخرجون الابن وابنه من الولاية في النكاح، ويقولون: لأنه يلحقه العار، يعني: أن يزوج الابن أمه، وهذا فيه شيء من الإشكال، ولكن على كل حال نذكره لأنه قد يكون مما يحتاج الناس إلى العلم به.
(وَهَكَذَا عَلَى تَرْتِيبِ الْمِيرَاثِ) بعد الأبناء، ثم الإخوة، ثم أبناء الإخوة الأشقاء، ثم الإخوة لأب، ثم بعد ذلك الأعمام، العم الشقيق ثم العم لأب، وهكذا سيأتي تفاصيل ذلك أو تعدادها في المواريث، وستدرسونها في الكتاب المخصوص بذلك.
(ثُمَّ الْمَوْلَى الْمُنْعِمُ) يعني: المعتق؛ فإنه مولى، «الولاءُ لُحْمَةٌ كلُحْمَةِ النسبِ»، فكما أنه يرث فكذلك هو ولي، إذا كان قد أنعم على هذا بالعتق، أو إذا كان مُعتقًا لها، فانه يكون داخلا في ذلك.
قال: (ثُمَّ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ نَسَبًا) يعني: ابنه، ابن ابنه، وهكذا على الترتيب الميراث الذي تقدم قبل قليل.
(ثُمَّ السُّلْطَان) وهو الإمام الأعظم، فإنه جاء في الحديث أن النبي قال: «فالسلطانُ ولِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» ، وهذا بإجماع أهل العلم، والولاية تكون منوطة به، أو إلى من جعله السلطان قائمًا مقامه، وهذا مثل: القاضي قطعًا.
هل يكون الحاكم في المدينة أو مثل ما يسمى: المحافظ أو أمير البلد أو نحوها قائمًا مقامه؟
الظاهر كما هو المعمول في تنظيمات القضاء ونحوه، أنَّ مثل هذه قد وكلت إلى القضاة ليقوموا بها، وهذا ظاهر حتى في كلام الفقهاء، وإن كان لهم أيضا بعض كلام على أنه يمكن أن يكون للحاكم في البلد -المحافظ أو الأمير- ما للسلطان في سلطانه من ولاية النكاح.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِنْ عَضَلَ الْأَقْرَبُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا فَوْقَ مَسَافَةِ قَصْرٍ، زَوَّجَ حُرَّةً أَبْعَدُ وَأَمَةً حَاكِمٌ)}.
قوله: (فَإِنْ عَضَلَ) هذا ذكر من المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما تنتقل به الولاية، كيف تنتقل الولاية من الأقرب إلى الأبعد؟ يعني أنه لَمَّا رَتَّبَ هذه الولاية، كأنَّ المؤلف -رحمه الله تعالى- كما هو قول الفقهاء يقولون: لا يجوز للولي الأبعد أن يلي النكاح قبل الأقرب، ولو فعلَ لم يكن ذلك مُعتبرًا، فلو أنَّ أخاها مثلا قد زوجها في وجود أبيها فلا نكاح، ولو زوجها أخوها مع وجود ابنها، فلا نكاح، ولو زوجها عمها مع وجود أخيها، فلا نكاح، ولكن لو كانوا مجموعة من الإخوة فزوجها أحدهم وإن كان الأصغر أو الأوسط جاز ذلك، فإنهم في ولاية متساوية، ولكن لا شك أنه كلما كان أتقى وأكبر فهو أولى في هذه الولاية.
إذا أول الأحوال التي ينتقل بها من ولاية الأقربين إلى الذي بعده، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ عَضَلَ) يعني: منع، أي: إذا كان يمنعها من التزويج ويحول بينها وبين مصلحتها لسبب غير صحيح، فإنه تنتقل منه الولاية، ويجب على من بعده أن يزوجها.
قال: (فَإِنْ عَضَلَ الْأَقْرَبُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا)، كذلك لو لم يكن أهلا، مثل أن لا يكون رشيدًا، أو أن يكون مخالفًا في الدين، كما لو كان نصرانيًا، أو لم يكن عدلاً، ففي هذه الحالة تنتقل الولاية إلى من بعده.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (أَوْ كَانَ مُسَافِرًا) هذه الغيبة المنقطعة التي لا يوصل إليه، وفيما مضى كانت أي غيبة يكثر فيها الانقطاع، ولكن هل تقيد بمسافة القصر أو غير أو لا؟ المؤلف قيدها، وأكثر كلام الفقهاء على عدم ذلك في مشهور المذهب، وهم يقولون: هو الذي يرسل إليه الخطاب فلا يجيب، والمكان الذي لا يصل فيه إلى السنة.
على كل حال، يمكن أن تكون الأمور قد اختلف في هذه الأزمنة، فإذا كان هذا الولي غائبًا غيبة لا يمكن الوصول إليه عُرفا، فإن الولاية في مثل هذه الحال تنتقل، وإلا مع وجود وسائل التواصل، حتى ولو كان الإنسان في أبعد الديار، يمكن أن يتصل إليه، ويرسل إليه هذه الرسائل الالكترونية، أو سواها من سائر التواصلات، فإذًا لا تقيد بالبعد، ولكن تقيد بالانقطاع، وهو أقرب، وهو الذي أطلقه الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
فبين المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه إذا حصل واحد من هذه الأعذار، فلا يخلو إمَّا أن تكون المولية أو المزوجة حرة، فتنتقل إلى الأبعد كما قلنا، فبعد الأب وصيه، وبعد الوصي الجد، وبعد الجد الابن، وبعد الابن ابن الابن، وهكذا على ما ذكرنا من الترتيب.
قال: (وَأَمَةً) أمَّا إذا كانت المزوجة أمة، فإنها مال، والمال إذا ذهب صاحبه يليه الحاكم، وبناء على ذلك تنتقل من السيد الذي صار غائبًا وهي محتاجة إلى النكاح يخشى عليها فيه، فإنه لا تؤخر مصلحتها، ولكن الذي ينوب عنه في ذلك، ويلي أمرها هو الحاكم، والحاكم في مثل هذه الحال، إمَّا أن يزوجها بنفسه، وإمَّا أن يكل ذلك إلى من يراه راعيًا لمصلحتها، قائمًا مقامه في ولايتها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشَهَادَةُ رَجُلَيْنِ مُكَلَّفَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَلَوْ ظَاهِرًا سَمِيعَيْنِ نَاطِقَيْنَ)}.
هذا هو الشرط الرابع الذي ذكره المؤلف من شروط النكاح بعد الولي، فلا بد في عقد النكاح من شهادة، ولا يتم العقد إلا به، ولذلك جاء في حديث ابن عباس، وفي حديث عمران «لا نكاحَ إلا بولِيٍّ، و شاهِدَيْ عَدْلٍ» ، وهذه الزيادة وإن كانت من جهة الرواية فيها مقال، إلا أنَّ الفقهاء لا يختلفون في ذلك، فيعتبرون الشهادة؛ لأنَّ هذا عقد عظيم، ويراد توثيقه، ويترتب عليه مصالح كبيرة، من ثبوت نسب، واستحلال بضع وسواه، ولأجل ذلك قالوا: لا بد فيه من الشهادة، والشهادة هنا إلى الرجال، فلا مدخل للنساء فيها، وإنما تدخل النساء في شهادات الأموال وما يتعلق بها، كما جاء ذلك في الآية، فإذًا هنا لا بد من شهادة رجلين، ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق:2]. قال أهل العلم: إذا طُلبت الشهادة في الطلاق وفي الرجعة فيه، فإن اعتبارها في النكاح أولى وأوجب، ولأجل ذلك قالوا: إنه واجب في النكاح.
قال: (مُكَلَّفَيْنِ) يعني أن يكونا مكلفين، والتكليف يعني أن يكون بالغًا عاقلاً؛ لأنَّ هذا هو الذي يستطيع حمل الشهادة، ويحسنها. فلا بد أن يكون كذلك.
قال: (عَدْلَيْنِ) كما قلنا؛ لأنَّ الفاسق لا يوثق به، فقد يكتم الشهادة، ولا يوثق بأن يتحملها، ولا أن يؤديها إذا طلبت منه، فإنها لا تقبل لدى القاضي، فتكون لا فائدة منها.
(سَمِيعَيْنِ) لأنهما لابد أن يسمعا لفظ الإيجاب والقبول، ولأجل ذلك يقول الفقهاء: إن الشهادة هي على حصول عقد النكاح، فلا يحتاجون أن يشهدوا مثلا أنَّ عدتها منتهية، أو أنها كذا، أو أنها رضيت أو لم ترض، فهم يشهدون على أنه حصل في هذا العقد إيجاب، فنطق به الزوج، وقبول حصل من الزوجة، ونطق لأنه لا يمكن أن يؤدوا هذه الشهادة إلا بالنطق.
ولأجل ذلك على سبيل المثال: أحيانا يحصل في بعض هذه الأوقات، أن بعضهم يعقد النكاح بالهاتف، فالهاتف لا يُستطاع معه الشهادة في الغالب، إلا في أحوال قليلة، ونحن لأجل أنه عقد نكاح لا نعتبر مثلا ذلك، يعني: لابد أن يكون عارفًا لصوت الولي، متيقنا به، وهذا بعيد.
ولَمَّا كان هذا العقد بهذا المعنى من العظم والحرمة وما يتعلق به من الأثر، فلابد أن يكون إذًا ناظرًا إليه، سامعًا له حينما يتكلم، حتى يشهد على ثبوت هذا العقد إذا طلب منه على وجه التدقيق والتكميل، ولذلك لو كان عَبْرَ صوتٍ وصورةٍ مثلاً، فيمكن أن يكون هنا أقرب إلى القبول، والقطع بذلك؛ لأنَّ مثلا هذه لا يمكن أن يدخلها شيئا من التزييف، أو يكون ذلك فيها صعبًا بالمرة.
{شكر الله لك فضيلة الشيخ}.
هل انتهى الوقت؟
{نعم}.
إذًا نكتفي بهذا، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
{الشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك