الدرس الرابع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7544 33
الدرس الرابع عشر

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم)، والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي وباسمكم جميعا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
حياك الله، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، الحريصين على طلب العلم، ودراسة المسائل وتقييدها.
{أحس الله إليكم. كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند (باب الصداق)، المسألة الثالثة، فهل نبدأ على بركة الله؟}
نعم، على بركة الله، تفضل.
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ شُرِطَ لِغَيْرِ اَلْأَبِ شَيْءٌ فَالْكُلُّ لَهَا وَيَصِحُّ تَأْجِيلُهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد؛ فـأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الشاكرين المتقين الصالحين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي ابتدأنا بالكلام على (باب الصداق)، وذكرنا أصله من الكتاب والسنة والإجماع، وما يستحب فيه من التخفيف، وما يُطلب فيه من التسمية، وبعض الأحكام المتعلقة في ذلك حال بطلان المسمى لكونه حراما أو نحوه.
وكأنَّ المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك دخل فيما يشترط لغير الزوجة، فلا يخلو إمَّا أن يشترط للأب، فلما كان الأب له خصوصية في التملك من مال ابنه وابنته، فإنَّ شرطه يكون صحيحًا، وبناء على ذلك لو رجع بعد أن قبض الأب ماله؛ فإنه يُرجع على ما في يد المرأة لا ما قبضه الأب، على ما ذكرنا في الدرس الماضي وبينا سببه.
هنا يقول المؤلف -رحمه الله-: لو كان الولي غير الأب، كما لو كان عمها، أو ابن عمها، أو أخوها، أو ابن أخيها.
قال: (وَإِنْ شُرِطَ لِغَيْرِ اَلْأَبِ شَيْءٌ) فإذا قال ابن الأخ: لن أزوجك إلا بألف لي، أو قال: أنا لن أزوجك إلا بأن يكون ثلث المهر لي، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: مهما شُرط من هذه الشروط فلا اعتبار به، والكل لها، ولا يصح مثل ذلك الشرط إلا أن تأذن به، فإذا أذنت أو إذا تبرعت أو إذا أعطت فإن المال مالها، ولها أن تعطيه كل مهرها، أو أن تعطيه بعضه، أو أن تزيدها من ماله أكثر مما في المهر.
إذًا لَمَّا كان الولي ليس بالأب، فإنه لا شرط له، ولو شرط فلا نفاذ لذلك الشرط، وإنما المال مال الزوجة، والصداق صداقها، وإنما لها أن تعطيه إذا أذنت وأباحت له ذلك وتبرعت.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ تَأْجِيلُهُ، وَإِنْ أُطْلِقَ اَلْأَجَلُ فَمَحَلُّهُ اَلْفُرْقَةُ وَتَمْلِكُهُ بِعَقْد)}.
قال: (وَيَصِحُّ تَأْجِيلُهُ). يعني المهر يمكن أن يكون معجلا، فيبذل للمرأة عند عقد النكاح أن يؤجل، فيؤجل إلى شهر، أو شهرين، أو إلى أجل طويل، وكل ذلك صحيح.
ثم قال: (وَإِنْ أُطْلِقَ اَلْأَجَلُ فَمَحَلُّهُ اَلْفُرْقَةُ) يعني: أن الأجل يصح حتى ولو كان إلى أجل مجهول. كأن تقول له: متى ما أتيت بهذا المهر تأتي به، فهذا مطلق، وبناء على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: (فَمَحَلُّهُ اَلْفُرْقَةُ) سواء كانت الفرقة بطلاق، أو كانت الفرقة بموت، فإنها في تلك الحال تأخذ ما كان في ذمته من مهرها.
قال: (وَتَمْلِكُهُ بِعَقْد) محل الملك هو العقد، وإن كان محل التسليم بعد ذلك.
ما الذي يترتب على قولنا: إنه دخل في ملكها؟ معناه أنه يلزمها زكاة إذا حال عليه الحول، وكذلك لو حصل له نماء فهو لها، وإذا كان هذا المهر شيئًا معينا فحصل فيه عطب فعليها، وبناء على ذلك قالوا: من (وَتَمْلِكُهُ بِعَقْد) فهذا وقت تعلق حكمه في دخوله تحت ملكها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ تَفْوِيضُ بُضْعٍ بِأَنْ يُزَوِّجَ أَبٌ اِبْنَتَهُ اَلْمُجْبَرَةَ، أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهَا بِإِذْنِهَا بِلَا مَهْرٍ، كَعَلَى مَا شَاءَتْ أَوْ شَاءَ فُلَانٌ)}.
إذا يقول المؤلف: (وَيَصِحُّ تَفْوِيضُ) هذا يسمونه عند الفقهاء "مهر المفوضة ويجعلونها صورا.
بعضهم يقول: على أقسام ولكنها صور. لماذا؟ لأن الصورتين حكمهما واحد، ويسمونها مفوضة بضع أو مفوضة مهر. وصورتها كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه إذا زوجها بدون مهر، فإذا قال: زوجتك ابنتي ولم يذكر المهر ولم يتعرض له البتة، فهذا عند الفقهاء يسمونه: مفوضة بضع، أي: فوضت بضعها إلى زوجها.
الحالة الثانية يسمونها: مفوضة مهر، فهو إذا قال: زوجتك على ما شئت أو بما شئتما، أو بما يشاء فلان من الناس، أو بما يحكم به جدها، أو بما تطلبه أمها، فكل هذا تَفْوِيضُ.
وبناء على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هذا النكاح صحيح، وهذا التفويض صحيح، ولكن يقول المؤلف: (يُزَوِّجَ أَبٌ اِبْنَتَهُ اَلْمُجْبَرَةَ) ولا يخلو في التفويض من حالين:
إما أن تكون المرأة أذنت أن تزوج بدون مهر، فهذا لا إشكال فيه، أو أن يكون المفوض لذلك هو ولي المجبرة، أي: الأب أو وصية، وليس لأحد سواهما أن يفتات عليها أو أن يزوجها دون مهر، ولكن الأب إما لعلمه بأن هذا غاية مصلحتها، أو أتم ما يكون من حالها، أو أنه إذا فوض إلى الزوج مثل ذلك يعطيها أضعافا مضاعفة، وأنه لا يبخسها حقها، فإن الأب شفيق على ابنته، حريص عليها، فإنه لا يفعل مثل ذلك إلا لعلمه بأن المصلحة في ذلك، أو لأنه يريد ألا يفوت هذا الزوج عليها لعلمه بكمال أخلاقه، وتمام ديانته وصلاحه، وتحمله لابنته لما يكون من سوء خلقها، لعلمه بسرعة غضبها، أو لبعض ما يكون فيها من نقص أو سوى ذلك.
إذا يقول المؤلف: إنَّ التفويض هنا ما دام أنه من أب له حق ولاية الإجبار فيصح ذلك وإلا فلا.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيَجِبُ لَهَا بِعَقْدٍ مَهْرُ مِثْلٍ وَيَسْتَقِرُّ بِدُخُولٍ)}.
إذا هذا بيان الحكم في المسألة إذا حصلت، وهي مفوضة البضع أو مفوضة المهر. ما الذي يجب لها؟ هل نذهب ونقول: ماذا يشاء فلان؟ أو نقول ما ماذا تشائين؟ أو ماذا يشاء الزوج؟ نقول: لا.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَجِبُ لَهَا بِعَقْدٍ) يعني بهذا العقد مهر المثل، فينظر إلى مهر المثل، وسيبين ذلك المؤلف -رحمه الله تعالى- كيف يحسب مهر مثلها في تلك الحال؟
إذًا الكلام أن هذا العقد يجب فيه (مَهْرُ مِثْلٍ)، ثم قال: (وَيَسْتَقِرُّ بِدُخُولٍ) إذا هو يملك بالعقد كما قلنا، ولكنه لا يستقر ويثبت إلا إذا دخل بها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ دُخُولٍ وَفَرْضٍ وَرِثَهُ اَلْآخَرُ، وَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا كَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا)}.
هذه المفوضة إذا مات زوجها قبل دخول، يعني ما استقر، ولكن المهر ثابت بالعقد، فبناء على ذلك لها مهر المثل، كما في حديث معقل، قضى لها بمهر مثلها لما مات زوجها وعليها العدة ولها الميراث.
وبناء على ذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: (وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ دُخُولٍ وَفَرْضٍ وَرِثَهُ اَلْآخَرُ) أو إذا انعدمت تسمية المهر أو كونها مفوضة لا يمنع ثبوت الزوجية وما يترتب عليها من أحكام، وأيضا لزم مهر المثل لها في تلك الحال، (وَلَهَا مَهْرُ نِسَائِهَا).
إذا هذا بيان من -رحمة الله تعالى- في كيفية حساب مهر مثلها. كيف ما هو مثلها؟
أي: نساءها كأمها وعمتها وخالتها، ويذكر الفقهاء في ذلك أحوالا، يعني يناط بها الأحوال التي يختلف بها مهر المثل، كسنها وبكارتها وجمالها يعني: من في حكمها، وذكروا ستة أشياء، أو سبعة، وذلك أيضا متعلق بنسائها. فكل مجتمع يختلف عن آخر، فمن النساء من كانت مهورهن مرتفعة، ومن المجتمعات من كانت مهورهم زهيدة، ومن النساء من هم بين بين، ومنهم من يجهدون في ويرغبون في البكر وغير ذلك.
إذا يتحصلون لذلك أن مما اجتمع فيه هذه الخصال السبع ينظر فيها ويحكم القاضي بمهر المثل. وهذا كله إذا لم يتفقا، وأما إذا اتفقا على المهر فهما على ما اتفقا عليه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَيْهِ إِلَّا اَلْمُتْعَةُ، وَهِيَ بِقَدْرِ يُسْرِهِ وَعُسْرِهِ)}.
قوله: (وَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَهُمَا) يعني: قبل تسمية المهر وقبل الدخول، ففي مثل هذه الحال يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن لها المتعة، لقوله تعالى: ﴿لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:236].
وقال أهل العلم: إن في هذا إيجاب المتعة للمرأة في مثل تلك الأحوال فيجب على الزوج أن يمتعها؛ لأن الطلاق كسر لخاطرها، ولم ترجع منه بشيء. لا بمهر ولا بغيره فلأجل ذلك شرع أو جاء في الشرع من جبر خاطرها بما كتب لها من المتعة.
فالحنابلة على أنَّ ذلك على الوجوب لِما جاء في الآية ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ﴾ وجاء ذلك عن ابن عمر وغيره، ثم إذا حكمنا بوجوبها، فإن مردها في قدرها إلى حال الزوج من يسره وعسره، فإن كان مقتدرا فيكون شيئا كثيرا، وإن كان مُعسرًا فيكون قليلا.
وجاء عن ابن عباس: أعلاها خادم وأدناها سترة في صلاة، وعلى كل حال ينبغي للزوج أن يبذل ما يقدر عليه، فإنَّ ذلك فيه أجر، وإن ذلك فعل ما أمر به الشرع، وإن في ذلك جبر لخاطرها، وإن في ذلك صلاح ما بينهما، باع ما تكسر من عقد النكاح، وذهب ما تؤمله من استقرار زوجيتها وصلاح أمرها.
بقي هنا مسألة: وهي أنَّ المتعة في غير تلك الحال سنة، فإذا كان قد دخل بها أو سمى لها مهرا، فإنه يستحب له أن يمتعها، على خلاف في غير المدخول بها إذا كانت قد كتب لها مهر هل يستحب معها متعة أو لا؟
ولكن ما سوى ذلك من الأحوال على كل حال فإن المتعة لا تكون واجبة وإنما تكون مستحبة.
{قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ مَهْرُ مِثْلٍ لِمَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنًا كَرْهَا لَا أَرْشُ بَكَارَةٍ مَعَهُ، وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرًا حَالاًّ لَا إِذَا حَلَّ قَبْلَ تَسْلِيمٍ)}.
هذا انتقال من المؤلف -رحمه الله- تعالى في الأحوال التي تلحق بأحكام الصداق في عقد النكاح، فهي وإن لم يوجد في ذلك عقد نكاح، لكنه ألحق به في إيجاب الصداق.
ولذلك قال: (وَيَجِبُ مَهْرُ مِثْلٍ لِمَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ) من الموطوءة بشبهة؟ الموطوءة بشبهة إما أن تكون شبهة في العقد، يظن أن العقد وقع على وجه يصح معه النكاح وتكون زوجة له، وإما شبهة في الحال، وذلك بأن دخل على امرأة ظانا أنها زوجته، كما لو دخل بليل وفي فراش زوجته امرأة، فظنها هي فوطئها، فهذه موطوءة بشبهة. والموطوءة بشبهة لها أحكام:
أولًا: لها مهر مثلها بما استحل من فرجها.
والثاني: لحوق النسب، كما لو وجد ولد، ومثل ذلك أيضا: العدة عليها في مثل تلك الحال.
وكذلك لو كان (زِنًا كَرْهَا) أي: لو كان الزنا بإكراه، فإن هذه المزني بها قد انتهكت حرمتها وجني عليها، وهذه الجناية لها ما يقابلها، وهو مهر مثلها، ولا يقال: بأرش البكارة، بل هنا مهر مثلها؛ لأنَّ البكارة تذهب بالمهر عادة، فجعل ذلك في حكم؛ المهر لأنه هو الذي جاء به الشرع.
قال: (لَا أَرْشُ بَكَارَةٍ مَعَهُ) فلا يجمع بين الأمرين، بين عوض أرش البكارة الذي هو قد ذهب، والمهر، فالمهر يُكتفى به، ويسقط معها أرش البكارة لما ذكرنا، ولأن ذلك أتم لها وأكمل.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرًا حَالاًّ، لَا إِذَا حَلَّ قَبْلَ تَسْلِيمٍ)}.
قوله: (وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا) إذًا ما الذي يترتب على كون الصداق بينهما؟
أنها لا بد أن تتسلم الصداقة حتى تسلم نفسها، هذا من جهة الأصل، فلأجل ذلك قال المؤلف: (وَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَ مَهْرًا حَالاًّ)، فما دام أن المهر حال، والمهر يقابل تسليم البضع، فبناء على ذلك إذا تسلمت المهر؛ سلَّمت نفسها.
وإذا امتنع من تسليم المهر، أو تأخر فيه، فإن لها أن تمنع نفسها، وألا تمكنه من نفسها، حتى تتسلم المهر، بشرط أن يكون المهر حالا.
وأما إذا كان المهر غير حال، أو كانت قد سلمت نفسها، ففي هذه الحال ليس لها بعد ذلك أن تمتنع، فالمهر المؤجل يعني: أنها لما رضيت بالتأجير كأنها رضيت بتسليم نفسها قبل أن تستلم ما يقابل ذلك وهو المهر.
والثاني: أنها إذا سلمت نفسها قبل أن يسلمها المهر، والمهر حال، أو أن المهر مؤجل ثم حل، ففي هاتين الحالين كأنها رضيت بتسليم نفسها قبل المهر، فليس لها بعد ذلك أن تمتنع، وتقول: لا أسلمه نفسي ثانية حتى يسلمني المهر، فما دام أنها سلمت نفسها في أول وهلة، فإنه ليس لها أن تمتنع بعد ذلك حتى يسلم مهرها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وإن أعسر بحال، فلها الفسخ بحاكم)}.
أي: إذا أعثر بالمهر الحال، فإن لها أن تطلب الفسخ، بخلاف المؤجل فليس لها المنع سواء كان مؤجلا أو حالا؛ لأنها رضيت بتسليم نفسها. وبناء على ذلك يكون المهر الحال إذا أعثر به، ولم يستطع التسليم. تقول للحاكم: إما أن يفسخ النكاح وإما أن يسلم المهر، فإذا لم يستطع تسليم المهر فللحاكم أن يفسخ عليه في تلك الحال.
وهذا بخلاف المؤجل، فإن المؤجل من حيث الأصل هي رضيت بتسليم نفسها قبل المهر، وبناء على ذلك ليس لها أن تطالب بالفسخ حتى ولو أعثر به حال حلول الأجل.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيُقَرِّرُ اَلْمُسَمَّى كُلَّهُ مَوْتٌ، وَقَتْلٌ، وَوَطْءٌ فِي فَرْجٍ وَلَوْ دُبُرًا، وَخَلْوَةٌ عَنْ مُمَيِّزٍ مِمَّنْ يَطَأُ مِثْلَهُ مَعَ عِلْمِهِ إِنْ لَمْ تَمْنَعْهُ، وَطَلَاقٌ فِي مَرَضِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْسٌ أَوْ نَظَرٌ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ فِيهِمَا وَتَقْبِيلُهَا)}.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله- في الأحوال التي يتقرر به المسمى كله، فيكون واجبًا لها كل ما سمي من مهرها، فإذا سمي لها ثلاثمئة ألف، أو مئة ألف، أو سيارة وبيت وخمسون ألفا، فيتقرر ذلك كله بموت. فإذا مات سواء كان قبل دخول أو بعده.
بعد الدخول هذا لا إشكال فيه، ولكن قبل الدخول كما قلنا في حديث "بروع بنت واشق" يتقرر لها المهر كاملا.
قالوا: ولو قتل أحدهما صاحبه فإنه يتقرر المهر؛ لأنه إذا كان هو الذي قتلها، فهو الذي فوت نفسها، وإذا كانت هي التي قتلت، فكذلك هذا القتل له أحكامه، ولكنها فرقة بموت، وبناء على ذلك استقر ما لها من مهر.
قال: (وَوَطْءٌ فِي فَرْجٍ وَلَوْ دُبُرًا) الوطء هذا بالإجماع إنه إذا وطأ بها فقد دخل بها، فقد تقرر مهرها.
وقول المؤلف -رحمه الله-: (وَلَوْ دُبُرًا) هذا إشارة إلى مسألة مهمة دائما ما ينص عليها الفقهاء، ولا يعني في إيراد هذه المسألة أن ذلك جائز، أو أنه مأذون فيه، أو أنه محل للكلام!
بل كلامه هنا إنما هو فيما يصدق عليه اسم الوطء بغض النظر أن هذا الوطء كان حلالا أو حرامًا، ومثل ذلك لو وطئها في حال حيضها، فإن الوطء في حال الحيض لا يجوز، ومع ذلك هذا وطء مقرر للمهر.
فكذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: هذا الوطء الذي في الدبر هو في حقيقته وطء وإيلاج، وبناء على ذلك يكون مقررا للمهر، مع قولنا مثلا بما جاء من الأحاديث الكثيرة والوعيد الكبير في فاعل ذلك، ولكن لأن الفقهاء يذكرون مثل هذه المسألة وحرمتها في محله، فبناء على ذلك يرجئون الكلام على حكمه من جهة الحل والحرمة إلى محله، ولكن الكلام هنا فيما يدخل في اسم الوطء الذي يتقرر به المهر.
ثم قال: (وَخَلْوَةٌ عَنْ مُمَيِّزٍ مِمَّنْ يَطَأُ مِثْلَهُ مَعَ عِلْمِهِ إِنْ لَمْ تَمْنَعْهُ) إذا خلا بها خلوة يمكنه فيها الوطء، فهذه في المشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ ذلك مقرر للمهر خلافا للجمهور، وهذا أصله ما جاء في الأثر، قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا، وأقفل بابا، فقد وجب المهر، واستقرت العدة عليها.
وبناء على ذلك قالوا: إن هذا إمكان حصول ذلك الشيء بمثابة حصوله؛ لأن هذا أمر خفي فيناط الأمر بالظاهر. وهذا هو مشهور المذهب خلافا للجمهور. وهذا طبعا بشرط أن يكون مثله يطأ؛ لأنه إذ لم يطأ فلا فائدة.
وكذلك علمه (مَعَ عِلْمِهِ) وأما لو كان غير عالم كما لو كان نائما، أو كان أعمى أو نحو ذلك، فيقولون: لا يمكن.
(إن لَمْ تَمْنَعْهُ) فإذا كانت ممتنعة منه لا تمكنه من ذلك، لكن إذا وجدت هذا التمكين مع العلم ومع الإغلاق، فإنها تستحق بذلك المسمى كاملا.
قال: (وَطَلَاقٌ فِي مَرَضِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا) إذا طلقت المرأة في مرض موته فيستقر مهرها، ولكن قوله: (وفي مهر أحدهما) هو مخالف لما تقرر في المشهور من المذهب من أن ذلك منوط أو متعلق بمرض موته؛ لأنه هو الذي هو مناط الحكم.
بعد هذا ذكر المؤلف قال: (وَلَمْسٌ أَوْ نَظَرٌ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ) هذا تفريع على قولهم في إرخاء الستر وإغلاق الباب، فكأنهم طردوا المسألة، قالوا: إرخاء الستر وإغلاق الباب يقرر المهر، والنظر إلى الفرج بشهوة والتقبيل أبلغ من ذلك، فبناء على ذلك كان بمثابة إغلاق الستر، وإغلاق الباب.
على كل حال هذا مما يحتمل أن يقال فيه بما قالوا، ومما يحتمل أن يكون محلا للنظر تبعا للجمهور الذين منعوا من هذه المسائل كلها.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيُنَصِّفُهُ كُلُّ فُرْقَةٍ مِنْ قِبَلِهِ قَبْلَ دُخُولٍ، وَمِنْ قِبَلِهَا قَبْلَهُ تُسْقِطُهُ)}.
إذا هذان الحالان الأخريان. الحالة التي ينتصف فيه المهر، والحال التي لا يجب شيء، فذكر المؤلف أن الحال التي يتنصف فيه المهر، هو: الفرقة التي تكون من قِبَلِ الزوج، فهو الذي تسبب. وهي لا مدخل لها، ولا سبب من جهتها، لم يحل بينه وبين الدخول شيء من جهتها، فبناء على ذلك نقول: الواجب هو النصف، وهذا من الشارع رحمة بهما جميعا.
فمن جهة المرأة أنها لم تخسر شيئا، لم يدخل بها، لم تذهب بكارتها، ومع ذلك جعل لها نصف المهر؛ لأنها تطلعت إليه، ولأنه تنكسر المرأة بالطلاق ونحو ذلك.
وبالنسبة للزوج لم يؤخذ منه كامل المهر رأفة به؛ لأنه لم يستفد ولم يستمتع بها، ولكنه أيضا لئلا يتلاعب الأزواج، ولئلا يعرضوا النساء إلى ما يكون فيه إيذاء لهن وامتهان، فإنه ينصف هذا المهر الذي ربما كان عليه غاليا، وربما بذل فيه جهدا، وتتعلق نفسه به؛ لئلا يحصل شيء من ذلك عليها.
أما الحالة الثالثة فهي الحال الذي يرجع المهر كاملا، وهو إذا كانت الفرقة من جهتها، وهو لم يدخل بها، ولم تكن الفرقة من جهته، وهي التي تسببت على نفسها، فحقه أن يرجع ماله كله، وحقه أن يعود إليه مهره الذي دفعه.
{ماذا لو أسقطه هو؟}.
في كل الأحوال إذا اتفقا على شيء فهما على ما اتفقا عليه، وإنما المحال في هذه المسائل هو الحال التي يختلفان فيهما، فنقول: ما الحال التي اختلفتما فيها؟ إن كان فرقة من قبل الزوج فلها النصف، وإن كانت فرقة من قبلك فلا شيء لك، وإن كان بعد الدخول فلك المسمى كاملا.
{أحسن الله إليكم.
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى (فصل في وليمة العرس)}.
بعد أن أنهى ما يتعلق بالنكاح، من حيث مقدماته، وما يعتبر له من أركان، وما يشترط له من شروط، وبيان المحرمات في النكاح، والشروط فيه، والعيوب، والصداق، لم يبق إلا الفرح والوليمة في عقد النكاح.
والوليمة قد جاء الشرع باستحبابها، والنبي في حديث عبد الرحمن بن عوف قال: «أو لم ولو بشاة»، ومن هذا أخذ أهل العلم استحباب الوليمة في العرس، وسميت وليمة من الول وهو الاجتماع؛ لأنهم يجتمعون لذلك، ولذلك عرف الفقهاء الوليمة بأنها اجتماع لطعام العرس خاصة، وأما إذا كانت دعوة في غير نكاح، فتسمى مأدبة، ثم بعد ذلك لكل سبب تسمية خاصة، منها: نقيعة، وباختلاف أنواعها بسبب ما يدعو إليها، وقد ذكروا عشرة أنواع، وذكروا أكثر من ذلك، إمَّا لمجيء من سفر أو لختان، أو لسكنى بيت،  أو لختم القرآن، أو لغير ذلك من الأسباب.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَتُسَنُّ اَلْوَلِيمَةُ لِعُرْسٍ وَلَوْ بِشَاةٍ فَأَقَلَّ)}.
(وَتُسَنُّ اَلْوَلِيمَةُ لِعُرْسٍ وَلَوْ بِشَاةٍ) كما جاء في الحديث، (فَأَقَلَّ) يعني: ولو كان بشيء قليل، والنبي بسط نطعًا، وجاء الصحابة بما جاءوا به من تمر وأقط وبر وأكل الناس، فبأي شيء كان، وينبغي في مثل هذا أن يشاع إلى ما آل إليه أمر الناس اليوم، من التكلف في الولائم وزيادة الإنفاق فيها، فإنَّ ذلك خلاف سنة النبي ، وكما جاء في أثر أبي هريرة: "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها، ويمنع منها من يأتيها" يعني: من أتاها بغير ما دعوة، وينبغي أن يتقلل من التكلف في هذه الولائم، وألا يكلف الناس ما لا يطيقون، فإن ذلك أدعى لحصول البركة، ولتيسير الزواج، ولحصول الخير، ولمنع اللعب بهذه النعم، وهي الأموال، وما أفاض الله على العباد من الخيرات والرحمات.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَتَجِبُ اَلْإِجَابَةُ إِلَيْهَا بِشَرْطِه)}.
الإجابة إلى غنيمة النكاح واجبة، والنبي أمر إجابة الوليمة، قال: «من دعي إلى وليمة فليأتها»، فمن هذا أخذ أهل العلم الإجابة، ولكن بشرطه. فإذا كان فيها منكر، إذا كان في بعض ماله حرام فيكره، إلى غير ذلك بأن تكون دعوة مخصوصة، فلا تكون دعوة الجفلة التي يدعى إليها عموم الناس، وألا يكون ممن يهجر، وألا تكون دعوة غير مسلم، كما لو كان كافرا أو غيره، فإنه لا تجب الإجابة، ومثل ذلك لو كانت دعوة أهل ضلال وبدع ومنكرات، فعلى كل حال ذكروا في ذلك ما يعتبر في شروط إجابة الدعوة ولزومها.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَتُسَنُّ لِكُلِّ دَعْوَةٍ مُبَاحَةٍ، وَتُكْرَهُ لِمَنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ كَأَكْلٍ مِنْهُ، وَمُعَامَلَتِهِ وَقَبُولِ هَدِيَّتِهِ، وَهِبَتِهِ)}.
قال: (وَتُسَنُّ لِكُلِّ دَعْوَةٍ مُبَاحَةٍ) من دعا دعوة مباحة، يعني في غير الزواج، وهذا استطراد من المؤلف -رحمه الله تعالى-؛ لبيان حال المأدبة إذا كانت في غير نكاح.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: ما دام أن الدعوة في أمر مباح، فتكون الإجابة، ولو كانت لأجل المفاخرة، أو اجتمعوا على عقد محرم، أو اجتمعوا على فسق وفجور، أو نحو ذلك فلا، ولكن لو كان غير ذلك ففيها من الأنس، أو فيها من إكرام الضيف، أو فيها من الإحسان إلى الجار، أو فيها من دعوة المسافر، فتكون الإجابة مستحبة بما فيها من تطييب الخواطر، وما فيها من حصول الائتلاف بين الناس، وكل ذلك مما تشوف له ودعا إليه.
قال: (وَتُكْرَهُ لِمَنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ كَأَكْلٍ مِنْهُ) سواء كان يفهم من هذا أنه لو كان كثيرا أو قليلا، فإنه يكره ولا يحرم، فلو كان شخص يتعامل بالربا، ولكن ما دام أن عنده مال حلال فتجوز الإجابة إليه.
إذًا متى تحرم الإجابة؟ تحرم في حالين.
الحالة الأولى: إذا كان كل ماله حرام، وعرف أن كل ماله حرام، ففي هذه الحال لا تجوز الإجابة؛ لأن ماله حرام، وأيما جسد نبت من الحرام فالنار أولى به، فلا يعرض الإنسان نفسه إلى مثل ذلك.
الحالة الثانية: أن يكون قد أنفق على هذه الدعوة من عين المال الحرام، كأن تراه، وهذا قليل أن تعرفه، كأن يقول: مكسبي من هذه الصفقة الربوية، أو من بيع هذه الخمور هو عشرون ألفا، وجعلته في هذه الوليمة، فما دام أنه عين المال الحرام فلا يجوز.
وأما ما سوى ذلك فإنه يجوز، ولكن يكره، وكلما أكثر في تعاطي الحرام كانت الكراهة أشد؛ لأن الغالب أن يكون من ماله الحرام، لكن لم يكن متعينا أن تكون الوليمة من ماله الحرام، فإنه لا تكون الإجابة إلى ذلك محرمًا.
ولذلك المؤلف -رحمه الله تعالى- استطرد وقال: إن من هذه حاله، وهو أن من في ماله حرام، تجوز معاملاته، وقبول هديته وهبته؛ لأنه لم يعرف أن هذا هو عين المال الحرام، ولكن من كان أكثر ماله حرام، وأعطاك من عين المال الحرام، كأن يكون أخذه أمام عينك وقطعت أنت بذلك، فلا يجوز، وأما ما سوى ذلك فإنَّ ذلك جائز، وفيه سعة.
على كل حال أيضا لابن تيمية -رحمه الله- في ذلك طريقة أخرى، وفيها نوع توسعة، وهو بين المال الذي أصله حرام أو سببه حرام وإن ما كان سببه حراما فيوسع فيه حتى في قبوله ودخوله في التبرعات ونحوها.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وَيُسَنُّ اَلْأَكْلُ وَإِبَاحَتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى صَرِيحِ إِذَنٍ أَوْ قَرِينَةٍ مُطْلَقًا)}.
يسن الأكل؛ لأن النبي قال: «دعاكم أخوكم وتكلف لكم»، كما في الحديث، ولأن هذا أطيب لخاطره، فببناء على ذلك يسن الأكل، ويحصل بذلك مقصود الدعوة من فرح الداعي وأنسه بالمدعوين.
قال: (وَإِبَاحَتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى صَرِيحِ إِذَنٍ) هذا إشارة إلى مسالة مهمة، وهي أن الضيف يباح له الأكل ولا يملكه، والفرق بين ذلك ظاهر، يعني: أنه يباح له، سواء أكل لقمة أو لقمتين أو أكثر، أو أكل ما في الصحن كله، فلا بأس؛ لأنه مباح له.
ولكنه لم يملكه، والفرق بين ذلك أننا إذا قلنا أبيح فليأكل ما يشاء، ولكن إذا قلنا إنه لا يملك فمعنى ذلك لو رفع بعض ما في السفرة أو ما في الإناء وتصدق به أو تصرف فيه لأحد، أو أخذ شيئا وحازه، وأراد أن يذهب به إلى بيته فنقول: ليس له أن يتصرف بإعطاء أو أخذ أو نقل أو نحوه. وله أن يأكل ما يشاء، فهذا معنى إباحته.
إلا أن يملكه أو يأذن له، فإذا قال: أعط من شئت، ولذلك بعض الناس ربما يأتي ويحمل طعاما ويعطي فقيرا، أو يعطي أحدا. نقول: ليس لك ذلك، حتى ولو كان فقيرا؛ لأنك لست مالكا لهذا الطعام، وغاية ما فيه أنه أباح لك، فإن أكلت فلا بأس، ولكن ليس لك أن تنقل أو أن تتبرع ونحو ذلك.
ولذلك قال: (وَإِبَاحَتُهُ تَتَوَقَّفُ عَلَى صَرِيحِ إِذَنٍ) متى يبدأ الإنسان؟ متى يشرع في الأكل؟ فصريح الإذن، تفضلوا، سموا باسم الله.
قال: (أَوْ قَرِينَةٍ مُطْلَقًا) كأن يكون عرف أنهم إذا وضعوا الطعام شرع الناس في الأكل، أو إذا فتحوا الباب إلى المكان الذي يوجد فيه الطعام، أو إذا أزالوا ما عليه من غطاء، أو نحو ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالصَّائِمُ فَرْضًا يَدْعُو، وَنَفْلاً يُسَنُّ أَكْلُهُ مَعَ جَبْرِ خَاطِرٍ)}.
يعني: أنَّ الصائم يجيب الدعوة، وهذا إذا كانت الدعوة في النهار كما كان ذلك في الأزمان المتقدمة، فيجيب وتحصل الإجابة بالدخول، وحتى المفطر أو الذي ليس بصائم، إذا دخل فقد أجاب الدعوة، وسقط عنه الوجوب، لكن يستحب له الأكل حتى ننبه إلى ذلك.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَالصَّائِمُ فَرْضًا يَدْعُو) فالصائم صيام فرض يدعو، أي يدعو لأصحاب الوليمة، ويسأل الله لهم الإفاضة والخير الكثير والتوفيق.
وأما إذا كان صائمًا صيام نفل، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (يُسَنُّ أَكْلُهُ) يعني: أن يفطر، ومع ما في الصيام من عبادة، وأداء لهذه السنة، ومع ما رتب عليه الشارع من الأجر، فـ «من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا» إلا أن ما يكون من جبر الخاطر، وتفريح الداعي أعظم من ذلك.
وهنا المؤلف -رحمه الله-: قيد هذا مع جبر الخاطر، وعلى ذلك مشى بعض الحنابلة كما في الإقناع، ولكن أكثرهم يقول: إنه يستحب الأكل مُطلقا، سواء كان في حال جبر الخاطر أو كان في سواه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ إِعْلَانُ نِكَاحٍ وَضَرْبٌ بِدُفّ مُبَاحٍ، فِيهِ وَفِي خِتَانٍ وَنَحْوِهِ)}.
إعلان النكاح من أعظم ما جاء به الشرع، «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال»، والغربال هو الدف، وما أمر بضرب الدف عليه إلا حتى يكون في ذلك ظاهرًا، ولذلك ما يكون من تزيين البيوتات وتزويقها، أو إنارتها، أو بعض المظاهر التي تفعل عند الناس على اختلاف فيها، فإن ذلك مستحب؛ لأنه علامة على الإعلان والإظهار، فكل ما كان فيه طريق إلى إعلان النكاح، فهو داخل في هذا المعنى، فيكون داخلا في اسم المسنون والمستحب.
ولذلك قال: (وَضَرْبٌ بِدُفّ)، ولا شك أنَّ الدف يدل على أمرين:
أولهما: أنه إظهار للنكاح وإعلان له، فإذا ضرب الدف عَلم كل أهل المحلة هناك أن في هذا البيت نكاح، فيسألون ويقال: بنت فلان، أو ابن فلان وهكذا، فيكون هذا هو المقصود الشرعي الذي دعا إليه الشارع، وهذا هو الفرق بين السفاح والنكاح، وبين الزنا وفعل المحرم، والإظهار والإشهار ونحوه، بخلاف المسالك المنحرفة، فإنه لا يزال تطلب بالتخفي والتلصص وسواه.
ثم ما فيه أيضا من الفرح والسرور، وأنس الزوجين، ومشاركتهم، وذلك أمر مطلوب أيضا.
والدف المباح هو آلة من الجلد ونحوه على جهة واحدة، تصدر صوتا، وأما إذا كانت على جهتين فهو الطبل، وما سوى آلة الدف من آلات المعازف فهي محرمة.
فإذا يقتصر على الدف لا غير؛ لأن آلات له كلها محرمة، وإنما استثني الدف في الفرح كنحو نكاح أو عيد أو ختان كما ذكر الفقهاء، ويبقى الباقي على أصله، ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث﴾ ولهو الحديث هو المعازف، وجاء في حديث البخاري المعلق: «يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف»، وبإجماع أهل العلم هي محرمة، لا يختلفون في ذلك.
ولذلك إذا انتقل من الدف إلى غيره كان محرمًا، أو إذا دخل مع الدف شيء آخر كالحلق التي في أطرافه أو نحوها، كان محرما. وعلى هذا يبقى الأمر في الإباحة على الدف المجرد دون أن يدخل معه شيء، أو أن يضاف إليه آلة أخرى.
وظاهر كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- أن ضرب الدف هنا على الإطلاق سواء للرجال والنساء، أما النساء فظاهر، وأما الرجال فهو محل نظر حتى عند الحنابلة، وإن كان ظاهر كلام المؤلف هنا هو الإطلاق، وعند بعضهم يقيده للنساء خاصة، ولكن ظاهر أكثر كلام الأصحاب على أنه حتى للرجال، فإنه مما يؤذن فيه، ولكن كما قلنا: محل ذلك هو الدف لا سواه.
قال: (وَفِي خِتَانٍ وَنَحْوِهِ) هذا استطراد من المؤلف -رحمه الله- أنه لو ضرب الدف في الختان ونحو ذلك وما فيها من أفراح مقاربة، فيكون ذلك جائزا؛ لأنه ضرب على الدف لما جاء النبي من السفر، كما في حديث أحمد، وأيضا في العيد كما في قصة أبي بكر في البخاري وغيرها كثير.
{أحس الله إليكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (فصل في المُعَاشَرَةُ بالمعروف)}.
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- (فصل في المُعَاشَرَةُ بالمعروف) هذا الفصل عظيم، ومن أهم ما ينبغي الوقوف عنده، وهو في عشرة النساء، ولَمَّا كانت الحياة نصفها حياة الأزواج، فإنهم يألفون في بيوتاتهم، وينتهون بعد أعمالهم إليها، ويسكنون فيها، ويأكلون ويطعمون، ويتربى الأولاد والبنات، وتقام الأسر والمجتمعات في البيوتات، فكانت من أعظم ما ينبغي الحرص عليه، ولذلك جاء الشارع بأعظم ما يكون من الحث عليها، وبيان الأجر فيها، وما بها من أحكام، وما يختص بها من أمور، فكان النبي أعظم ما يكون فيها لأهله، «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، وجاء الشرع في غير ما آية في كتاب الله -جل وعلا- بالأمر بذلك، ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة﴾ إلى ما جاء في أمر الزوجين من الإصلاح والإحسان وغض الطرف، وطرائق تأديب الزوجة.
كل ذلك جاء في كتاب الله -جل وعلا- لبيان أهمية هذا الباب وعظمه؛ لأن البيوتات لا تقوم إلا بذلك، ولما قال الله -جل وعلا-: ﴿وعاشروهن بالمعروف﴾ هو إشارة إلى مسألة مهمة، ينبغي أن يعلمها الجميع، وهي أن مبنى الحياة الزوجية على المسامحة، وعلى ابتداء المعروف وعلى إطلاق الخير، وعلى الإحسان إلى الزوج من الزوجة، والإحسان إلى الزوجة من الزوج، وابتداء كل واحد منهما لصاحبه بذلك.
ولذلك جاء في الحديث الآخر أنَّ النبي لَمَّا ذكر له الذي أنفق دنانير كثيرة، قال: «وخيرها الي تنفقه على أهلك»، وكل كذلك يذل على هذا.
لماذا نقول هذا الكلام؟
لأهمية هذه المسائل، لأن كثيرا من الناس نراه مع البعداء من طيب خلقه وحسن بسمته وجمال لفظه أشياء كثيرة، وإذا جاء لفي بيته كأنه أسد غضوب، لا يعرف إلا الصياح والصراخ، والفظاظة والظلم والعدوان، والضرب والأخذ والرد، فما يفرح أولاده ولا زوجه حتى يخرج من بيته، ولا يكادون يلتقطون أنفاسهم إذا دخل، لبلائه وعظيم شره.
وكذلك بعض النساء كثيرة النكد مع زوجها، ما أحسن ما تتمثل به عبر هذه الوسائل وعبر المكالمات، وما تلقيه من عبارات في الواتساب، أو في الحالات أو غيرها، أو عبر سنان شات، ولكنها أسخف ما تكون عقلا، وأسفه ما تكون حالا مع زوجها وولدها، فهذا تضربه، وهذا لا تحتمله، وهذا تؤذيه، وهذا تؤخر حاجته، وتفعل أشياء كثيرة.
ولأجل ذلك ما يتعلق بالعشرة بين الزوجين أمر مهم، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: ما يتعلق بين الزوجين من إحسان كل واحد منهما لصاحبه، فيما يكون بينهما من خصوصية، أمر مهم، وجاء الشارع به، وذكره الفقهاء هنا، وأهميته أهم ما تكون؛ لأنها سبب للعفة، وحصول انقضاء وتر النفس وإشباعها، المانع لها من الحرام، «وفي بضع أحدكم صدقة» قال: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: «نعم أرأيتم لو وضعها في حرام؟».
ولَمَّا تأججت الشهوات، وَأُجِّجَ الحرام، وظهرت أنواع من الأفعال المحرمة، فنحن نؤكد على أنه يجب على كل من الزوجين أن يشبع صاحبه، وأن يكمل له العشرة، وأن يُحسن إليه في ذلك في تلك الحال لِمَا يترتب عليها بإذن الله -جل وعلا- من صلاح أمرهم، ومن حفظ ديانتهم، ومن عفة نفوسهم، ومن حفظهم من الوقوع في الحرام، وجر الشيطان لهم، إلى مستنقعات الشر والرذيلة، والوقوع في السوء والفاحشة.
{قال: (وَيَلْزَمُ كَلَّا مِنْ اَلزَّوْجَيْنِ مُعَاشَرَةُ اَلْآخَرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَلَّا يَمْطِلَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَا يَتَكَرَّهُ لِبَذْلِهِ)}.
قوله: (وَيَلْزَمُ كَلَّا) هذا إذًا واجب، فعلى كل واحد من الزوجين واجب، فالزوج عليه واجبات سواء كان ذلك في النفقة، أو المسكن، أو الكسوة، أو ما يجب لها من حقها، وكذلك القسم، وكذلك أشياء أخرى تجب على الزوج.
ويجب على الزوجة أيضا من بذل نفسها، والاستعداد لزوجها، وفي كل ما يجب عليها أيضًا.
هل يجب على المرأة الطبخ وتوابع ذلك من القيام بالبيت ونحوه؟
ربما عند بعض الفقهاء كالحنابلة، ولذلك لم يذكره المؤلفون أن ذلك غير واجب، وأن المعقود عليه في النكاح هو الاستمتاع لا غير، ولكن المشهور عند أهل العلم، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وظاهر النصوص والنقل عن النبي أنه يجب في ذلك ما تعارف الناس عليه، وكل بحسبه، ولذلك جاء عن عائشة أنها كانت تقوم على النبي في حوائجه، وتقوم ببيتها، وجاء أيضا عن أسماء كما في قصة الزبير، وفاطمة مع علي -رضي الله تعالى عنهما- وأشياء كثيرة.
فكل ذلك يدل على أنه يجب على كل واحد منهما ما يليق به بالمعروف، وهذا الذي ذهب إليه ابن تيمية.
وكل ذلك نقوله على سبيل بيان المسألة، ولكن ما ينبغي على الأزواج من طلب المعروف لا المحاققة، والإحسان بالمعاشرة، لا أن تقول: هذا لي، وهذا ليس لي، وهذا لك، وهذا ليس لك، وهذا يجب عليَّ، هذا يجب عليك، هذا إنما يكون عند النزاع، ولا ينبغي أن تصل أمور البيوتات إلى ذلك، فإنما هو الإحسان، وإنما هو طلب الأجر والمثوبة، وإنما قيام كل واحد منهما بما يحتاج إليه صاحبه، فإنَّ في ذلك الخير كله.
فإذا قلنا ذلك، فما الذي يمكن أن نقول من أنه فوت ما يجب عليه؟
قال الفقهاء: (وَأَلَّا يَمْطِلَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَا يَتَكَرَّهُ لِبَذْلِهِ) إذًا، إذا كان فيه مماطلة من الزوج في النفقة أو في الكسوة أو في غيرها، فهذا عدم إحسان في العشرة، وإذا كان من الزوجة مماطلة فيما يجب له من حقه في فراشه، أو ما يجب له من خدمته في بيته، على ما ذكرنا، فذلك أيضا هو ترك للعشرة بالمعروف.
إذا كان فيه تكره للبذل، فإذا جاء يعطيها النفقة قال: "خذي كذا ولا كذا" بكلمات قاسية أو نحو ذلك، فهذا أيضا تكره في البذل، فيكون نوع من ترك العشرة بالمعروف، أو هي كذلك إذا جاءت لتبذل نفسها إليه، فإنها تبذل وكأنها تقول: ما أصعب هذه الساعة؟ وما أسوأ الحالة التي أكون فيها معك؟ فهذا كله تكره، فيدخل ذلك في ترك العشرة بالمعروف.
ولذلك قال الفقهاء: (وَأَلَّا يَمْطِلَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَلَا يَتَكَرَّهُ لِبَذْلِهِ).
{أحسن الله إليكم شيخنا، وفتح الله عليكم، وزادكم من فضله. لعلنا نكمل -بإذن الله تعالى- في الحلقة القادمة، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم في الحلقة القادمة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك