الدرس السابع والعشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7533 33
الدرس السابع والعشرون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب (أخصر المختصرات) للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تبارك وتعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان باسمي وباسمكم جميعا نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله الطلاب والطالبات.
{أحسن الله إليكم شيخنا.
كنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند فصل في العاقلة، وتحديدًا عند المسألة الثالثة،
فهل نبدأ على بركة الله؟}.
نعم، استعن بالله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا تَحْمِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا، وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا، وَلَا مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل الفهم والفقه، وأن يبلغنا فيه الدرجة الرفيعة، والمنزلة العلية، وأن يعقبنا فيه العمل والاهتداء والاستنان بسنة نبينا محمد ، وأن يفتح لذلك فهومنا، وأن يوفقنا إلى الوصول إلى الحق والهدى والصواب.
كنا في الدرس الماضي ابتدأنا ما يتعلق بالكلام على العاقلة، وبعض تفاصيل المسائل فيها، إلى أن قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَلَا تَحْمِلُ عَمْدًا) يعني: إذا كان القتل عمدا، فإن هذا مما يتعلق بالجاني، إذ إنه لو تحملت العاقلة الدية العمد، لأفضى ذلك إلى استهتار الناس بالدماء، فيعلم أنه يقتل، وأنهم يتحملون، وأنه يَجني وأنهم يدفعون، فلا يندفع عن فعل المحرم، والتساهل بالدماء والولوغ فيها، وهذا بخلاف الخطأ، فإن الخطأ لا مدخل للإنسان فيه عن قصد، ولا إقبال عليه من توجه وإرادة، وإنما ذلك مما يُبتلى به الإنسان، فناسب فيها التخفيف من الشارع، فجعل تلك على العاقلة، وجعل هذه على الجاني، وهذا من حِكَم الشريعة وعدلها.
قال: (وَلَا عَبْدًا) فإن الجناية على العبد كالجناية على الأموال، والجناية على الأموال لا تدخلها العاقلة لزومًا وإيجابًا.
أما ما يأتي من جهة التعاون على البر والتقوى، والتكافل، والتواصل، والتحمل على سبيل الإعانة والرحمة والإحسان، هذا لا حدَّ له ولا حصر، ولكن كلامنا هل يلزم القاضي من قتل عبدًا أو اعتدى على عضوٍ من أعضائه أهله أن يدفعوا عنه؟ نقول: لا، فالعبد مال، فمن جنى على مال تعلقت قيمته به لا بأحد سواه.
(وَلَا صُلْحًا) وهذا مثل ما قلنا وهو الصلح عن الدم، لو اصطلحوا عن القصاص، يعني طلب أولياء الدم القصاص، أو كان المجني عليه أيضًا قد قطعت رجلاه، فهنا سيُقَصُّ من الجاني رجلاه، ففي هذه الحال لو أنهم اصطلحوا، قال: أنا أصلح وساترك القصاص ولكن ليس على دية، وإنما تدفع لي عشر ديات، واتفقوا على ذلك، فنقول: فهذه الديات العشر أو مضاعفة الدية تتعلق بالجاني، ولا تتعلق بالعاقلة بوجه من الوجوه.
قال: (وَلَا اعْتِرَافًا)، يعني: لو أن شخصًا قال: أنا الذي أصبت فلانا فمات، فكان هذا من الاعتراف، فكأنه حَمَّلَ نفسه ما لا يحتمل، فقال الفقهاء -رحمه الله تعالى-: إذا كانت العاقلة تُنكر ذلك فلا تتحمل؛ لأنَّه كأنه أراد أن يُقر عليهم بشيء لا يجب عليهم، فهو لا يتضرر من ذلك.
ومن المعلوم أن الاعتراف هو إقرار، والإقرار كما يقول أهل العلم: حجة قاصرة، لا يتجاوز وليس لي أن اعترف عليك، وأقول أنت الذي ضربت فلانا، أو أنت الذي أخذت مال فلان، فكذلك هنا صورته لو اعترف على أنه قتل أحدًا خطأ، فكأنه اعترف على غيره وهي العاقلة بأن تدفع شيئا.
وبناء على ذلك نقول: إذا كانت الدية ثابتة عن اعتراف تُنكره العاقلة فإنما يجب ذلك عليه، ولا يجب عليهم، وأمَّا إذا صدقوه وأقروا، فكأنما أقروا على أنفسهم فهذا يلزمهم، وتجب عليهم، والمحظور قد ذهب كما لو عرفوا حسن ديانته، أو كمال صدقه، أو غير ذلك من الأمور، فصدقوه فيكون عليهم.
قوله: (وَلَا مَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةَ) يقولون: لا مشقة على الإنسان في تحملها، ومهما كان فيها من كلفة إلا أنه يمكنه أن يقوم بها، ولأجل ذلك لحقت به ولم تنتقل إلى عاقلته.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً غَيْرَ عَمْدٍ، أَوْ شَارَكَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)}.
هذا انتقال من المؤلف -رحمه الله تعالى- من أحكام العاقلة إلى أحكام الكفارة، والكفارة ثابتة في القتل كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- إذا كان خطأ أو كان شبه عمد، (وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً غَيْرَ عَمْدٍ)، وبناء على ذلك يقول الفقهاء: عليه الكفارة، كما جاء بذلك نص الآية في كتاب الله -جل وعلا-.
وأما إذا كان عمدا فيقولون: إن العمد أغلظ من إن تبلغ فيه الكفارة شيئًا، أو أن يذهب بلاؤه بهذه الكفارة، فإن الله -جل وعلا- قد قال في كتابه: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93]، فهنا إذًا إنما تكون في الخطأ، وفي شبه العمد.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (أَوْ شَارَكَ فِيهِ) يعني: في الخطأ أو شبه العمد، (فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)، وهنا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أنه إذا اشترك اثنان أو أكثر في قتل شخص، فهنا ستجب عليهم دية واحدة إذا كان القتل خطأ أو شبه عمد، ولكن الكفارة يقولون: لا تتجزأ، وبناء على ذلك يجب على كل واحد منهما كفارة.
لو جاء رجلان وشهدا أن فلانا قتل فلانا؛ فقتل. ثم قالا: إنه قد اشتبه علينا، وأنَّ القاتل فلانٌ! إذا صار منهما قتل خطأ، وبناء على ذلك نقول: عليهم دية، ويجب على كل واحد منهما كفارة كاملة كما قال المؤلف: (أَوْ شَارَكَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)، فكل مشارك عليه كفارة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَهِيَ كَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ إِلَّا أَنَّهَا لَا إِطْعَامَ فِيهَا، وَيُكَفِّرُ عَبْدٌ بِالصَّوْمِ)}.
قال: (وَهِيَ كَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ) يعني: في أنها عتق، ثم صيام شهرين متتابعين، لماذا قال: (وَهِيَ كَكَفَّارَةِ ظِهَارٍ)؟ لأنه ذكر في كفارة الظهار تفصيل ما يتعلق بالعبد الذي يصح في الكفارة، ومتى يُنتقل؟ ووقت الانتقال من الرقبة إلى الصيام، فكأنه أراد الإشارة إلى ذلك، هذا على سبيل الاختصار، وعلى سبيل التذكير، وعلى سبيل تنمية الملكة لدى الطالب، في أن يعرف المتشابهات والنظائر، ويعرف المتفرقات، ولأجل ذلك قال: (إِلَّا أَنَّهَا لَا إِطْعَامَ فِيهَا).
إذًا هي تشبه كفارة الظهار في عتق الرقبة وفي الإطعام، متى الرقبة ونوعها، وما يشترط فيها؟ وأن تكون سليمة من العيوب، وأن تكون مسلمة، وكما تقدم من تفاصيلها قد مر بيانها، متى ينتقل؟ ومتى يعتبر العجز؟ هل هو وقت القتل؟ أو وقت وجوب الدية؟ إلى غير ذلك من الأشياء.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه ينتقل إلى الصيام على ما تقدم بيانه، ولكن كفارة القتل لا إطعام فيها على ما جاءت به أية سورة النساء.
ثم قال: (وَيُكَفِّرُ عَبْدٌ بِالصَّوْمِ) أما العبد إذا وجبت عليه كفارة في مثل هذه الحال، فإنما عليه صوم لماذا؟ لأن عتق الرقبة مال، وهو لا مال له، وبناء على ذلك تعين عليه الصوم لا غير.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَالْقَسَامَةُ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ فِي دَعْوَى قَتْلِ مَعْصُومٍ)}.
القسامة مأخوذة من القسم؛ لأنهم يُقسمون فيها أيمان مكررة، وهي خمسون يمينا، وقصتها معروفة في قصة مُحيصة وحويصة ابنا مسعود، وما ذكر النبي من حالهم لَمَّا وجدوه مقتولا في محلة من محال اليهود.
إذا لو حصل أن شخصا قُتِلَ في موضع، فبناء على ذلك لم يعرفوا القاتل من حيث ثبوت ذلك بالبينة أو الاعتراف أو نحوه، ولكن أهل القتيل، أو أولياء الدم، اتهموا شخصا، فَوُجِدَ قَتلٌ، ووجدت قرينة على ذلك، أو لوثٌ، ففي هذه الحال إذا تم الاتهام يحلفون وتقسم بينهم الأيمان على ما سيأتي بيانه، ويستحقون القاتل، وهي مما كانت تألفه قبائل الجاهلية، فجاء الشرع باعتبارها، وجاء الدليل عليها، فبينها الفقهاء -رحمهم الله تعالى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِذَا أَتَمَّتْ شُرُوطَهَا بُدِئَ بِأَيْمَانِ ذُكُورِ عصْبَتِهِ الْوَارِثِينَ)}.
طبعا هي لها شروط والحقيقة هي كثيرة، ولكنها وقائع نادرة جدا، ولكن كما قال المؤلف -رحمه الله-: هي تكون أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، وأما إذا كان غير معصوم فلا يكون في ذلك قسامة ولا نحوها.
وشروطها ذكروا فيها شروطًا عشرة، منها: اللوث، ومنها: اتفاق واكتمال الأيمان، وكونهم مكلفون ونحو ذلك. فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا تمت شروطها بُدِئَ بأيمان ذكور عصبته الوارثين، فهنا إذًا تقسم عليهم الأيمان، فلو كان مثلا يرثه ثلاثة أبناء وأبوهم، فهنا الأب سيرث منه السدس، والأيمان سيأخذون بقية المال، أليس كذلك؟ فهنا سيكون عليه سدس هذه الأيمان، والبقية يتقاسمونها. على سبيل المثال: هي خمسون يمينا، فالسدس سيكون ثمانية وشيء، فيقولون: يجبر النقص، وبناء على ذلك سيحلف الأب تسعة أيمان، ثم سيكون لكل واحد منهم الباقي، سيكون لكل واحد منهم أربعة عشر يمينا.
لو كان أيضا فيه كسر فسيجبر كل واحد يحلف زيادة، فعلى كل حال، يُبدأ (بِأَيْمَانِ ذُكُورِ عصْبَتِهِ الْوَارِثِينَ)، فيحلفون خمسين يمينا، وإذا حلفوا الخمسين استحقوا كل بقدر إرثه مثل ما ذكرناه في المسألة الماضية.
{ثم قال -رحمه الله-: (فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا كُلٌّ بِقَدْرِ إِرْثِهِ وَيُجْبَرُ كَسْرٌ)}.
إذًا فيحلفون خمسين يمينا مثل ما قلنا في ذلك، و (كُلٌّ بِقَدْرِ إِرْثِهِ) أيضا على نحو ما ذكرنا في المثال السابق.
(وَيُجْبَرُ كَسْرٌ) كما قلنا في الأب، فإن كان فيه كسر فيزيد، وإذا لم يكن في البقية كسر فكل يحلف بقدر ما ثبت له.
{ثم قال: (فَإِنْ نَكَلُوا أَوْ كَانَ الْكُلُّ نِسَاءً حَلَّفَهَا مُدَّعًى عَلَيْهِ وَبَرِئَ)}.
النكول بمعنى الامتناع، قالوا: إننا نقول إن فلانا ولكننا لا نستطيع أن نحلف، فنقول: إذا نكلتم فلا اقتياد له ولا قصاص.
أو كان ليس فيه عصبة، كانت ورثته نساء، فالنساء ليسوا عصبة، وبناء على ذلك لا توجه إليهم الأيمان، فإذا ادَّعوا نقول: إما إن تثبتوا بالبينة على الأصل، فإذا لم يثبتوه بالبينة توجهنا إليه، فإذا حلف مُدع عليه وقال: أنا والله ما قتلته؛ بَرِيَء من ذلك وانتهى.
أو في الحال الأولى وُجِدَ له عَصبة، ولكنهم لم يحلفوا، فحلف مدعى عليه بأنه لم يفعل شيئا، فبناء على ذلك لا يكون عليه قصاص، ويندفع عنه القتل.
ولكن إذا حلف سيحلف ماذا؟ سيحلف خمسين يمينا، وإذا لم يحلف هل يحكم بأنه نكل فيحكم عليه بالقتل؟ يقولون: النكول هنا حجة ضعيفة، لأن غاية ما فيها أنه تبرأ على سبيل التورع من اليمين، ولم يرد أن يحلف، فليس بالضرورة أنه إذا امتنع من اليمين أن يكون قاتلا، فلأجل ذلك قالوا: إنه إذا نكل فلا يحكم بأنه نكل فيقتل، ولكنه إذا نكل فإنه يحكم عليه بالدية.
{أحسن الله إليكم.
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- إلى الكتاب الذي يليه، فقال: (كِتَابُ الْحُـدُودِ)}.
هذا الكتاب بعد أن نال المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بالجنايات، واعتداءات الناس بعضهم على بعض، سواء كان ذلك في نفس، أو في عضو، أو في منفعة على ما تقدم، أو في الجراح التي ذكرناها، بعد ذلك ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- (كتاب الحدود) وهو جمع حد، وهي عقوبة مقدرة شرعا في معصية من زنا، أو قذف، أو شرب خمر، أو قطع طريق وسرقة، أو مرتد، على ما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
{قال -رحمه الله-: (لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ مُلْتَزِمٍ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ)}.
قوله: (لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ) فلا حدَّ على صغير، لا حدَّ على مجنون.
(مُلْتَزِمٍ) وكذلك لا بد أن يكون المكلف ملتزما، والملتزم سواء كان يدخل فيه المسلم أو الذمي، وهو الذي التزم أحكام الإسلام وإن لم يكن مسلما، فإذا حصل منه زنا، أو حصلت منه سرقة، أُقيم عليه الحد، واستثني من ذلك شرب الخمر؛ لأنَّه له فسحة في دينه، ويُقر عليه بشرطه على ما ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في باب أحكام أهل الذمة،
{ثم قال -رحمه الله-: (عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ)}.
أي: لا بد من أن يكون عالما بالتحريم، وأما إذا كان جاهلا، فإن الجهل عذر، ولكنه عذر بقيده، كما قال أهل العلم، ومثله يُعذر كما لو كان مثلا حديث عهد بإسلام، أو نشأ بمحل لا علم به، كمن وُجِدَ في أدغال أفريقيا، لا علم ولا تصل إليه آلة العلم ككتب، أو ما يبث من برامج أو نحوها، فهذا مثله معذور، ومثله يكثر جهله، ومثل ذلك البدو الذين في الصحراء، يتتبعون القطر ويسعون على الرعي، ولا يلتفتون إلى شيء سواه، ولا يقرون في المدن، فيتعلمون العلم، أو يعرفون الأحكام ويحفظونها، فمثل هؤلاء يجهلون، وإلا لو كان الجهل -هنا مسألة مهمة للطلاب- لو كان الجهل عذرا في كل حال لكان الجاهل أحسن من العالم، ولتقصد الإنسان أن يكون جاهلا حتى يعذر، ولا يلزمه شيء، وهذا يُفضي إلى فساد الدين وحصول الجهالات، نقول: إنما يكون ذلك عذرا حيث يعذر به، وهو ألا يمكنه التعلم، وأمَّا من أمكنه التعلم فلم يتعلم فكما لو كان عالما فتجرى عليه أحكام العالمين والعارفين بالأحكام، ولا يعذر بما يدعيه من جهل، وما يقدمه من شبهة.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَعَلَى إِمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ إِقَامَتُهَا)}.
إذا الحدود إنما يقيمها الإمام أو نائبه، لا يفتات أحد عليه، لأن هذه مسائل منوطة بالإمام الأعظم أو من ينوب منابه من القضاة ونحوهم، فلا يفتات عليه، إلا السيد في عبده إذا زنا فإنه يجلده على ما جاء به الحديث، وأما من جهة الأصل فإن الأحكام في الحدود لا يليها إلا الإمام نفسه، وهو الإمام الأعظم، أو من أقامه لذلك كالقضاة، أو من العمال على البلدان ونحوهم.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيُضْرَبُ رَجُلٌ قَائِمًا بِسَوْطٍ لَا خَلِقٍ وَلَا جَدِيدٍ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَقَمِيصَانِ، وَلَا يُبْدِي ضَارِبٌ إِبْطَهُ)}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- بيانٌ لصفة الجلد إذا حُكِمَ به، سواء كان ذلك في حد قذف، أو كان ذلك في زان غير محصن، أو كان ذلك في شرب الخمر، على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-.
فيقول: (وَيُضْرَبُ رَجُلٌ) فإذا كان رجلا يَختلف عن الأنثى، فالأنثى سيأتي بيانها بعد ذلك.
(قَائِمًا) فيكون في حال قيامه، ويضرب بسوط (بِسَوْطٍ لَا خَلِقٍ)، أي لا يكون "متهريًا" لأنَّ المتهري لا يكون به إيلام، وإذا لم يكن به إيلام لم تتأتى به العقوبة، (وَلَا جَدِيدٍ)؛ لأنَّ الجديد ربما كان أكثر إيلامًا، فيكون فيه إيذاء، والشارع لا يريد بذلك الإيذاء، وإنما يراد به الإيلام الحامل له على التأديب، المانع له من الوقوع في هذه العقوبة، والواعظ لغيره لئلا يتعدى مثل تعديه.
قال: (وَيَكُونُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَقَمِيصَانِ)، القميص الذي نسميه اليوم الثوب، يعني: إذا كان عليه لباسه المعتاد فلا بأس، سواء كان ثوبا ومعه سراويل، وكان عادة الناس في الاول يلبسون ثوبا على ثوب، لكن بشرط ألا تكون ثيابا أو قمصانا ثقيلة، تحول بين الجلد والبدن، فعند ذلك لا يتأتى المقصود منها.
قال: (وَلَا يُبْدِي ضَارِبٌ إِبْطَهُ) يعني: الضارب ما يرفع يده ليضرب، بل يقولون: يفعل هكذا، فيكون فيه ضرب يتأتى به الإيلام، ولكن لا يكون به الايذاء.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيُسَنُّ تَفْرِيقُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَيَجِبُ اتِّقَاءُ وَجْهٍ وَرَأْسٍ وَفَرْجٍ وَمَقْتَلٍ)}ْ.
قال: (وَيُسَنُّ تَفْرِيقُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ) قالوا: فيه فائدتان، الأولى: أنه لا يكون فيه إيذاء؛ لأنه لو قصد موضعًا واحدًا لربما أمات لحمه، ولربما أضر به، ونحو ذلك.
وثانيا: قالوا هذا فيه إيلامه في كل عضو من أعضاء بدنه، خاصة إذا كانت من زنا، فقد تمتع بدنه، فلحق ما تمتع من العقوبة ما كان له من المتعة، فقابلت العقوبة الاستمتاع والشهوة وهكذا.
قالوا: (وَيَجِبُ اتِّقَاءُ وَجْهٍ) الأشياء التي تضر به أو تلحق به أذى، أو يكون فيها مثلة، فيقول: (وَيَجِبُ اتِّقَاءُ وَجْهٍ) فإنه ربما ذلك فقأ عينه، وربما ذلك أدمى خشمه فهلك ونحوه.
قال: (وَرَأْسٍ)؛ لأنَّ الضرر به كثير، (وَفَرْجٍ) مثل ذلك، أو خصيتيه، (وَمَقْتَلٍ)، والمقتل مثل ما ذكرنا؛ لأنَّه ربما كان سببا لحصول القتل عليه، وهذا لا شك أنه غير مقصود ولا مطلوب.
{شيخنا قال: (وَيُسَنُّ تَفْرِيقُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ) يعني: يضرب على اليدين والرجلين، هكذا؟}.
يعني: يضربه أعلى ظهره، ثم في إليتيه، ثم في ساقيه وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَامْرَأَةٌ كَرَجُلٍ، لَكِنْ تُضْرَبُ جَالِسَةً)}.
(وَامْرَأَةٌ كَرَجُلٍ) يعني: تضرب بالسوط لا خَلق ولا جديد، يكون عليها ملابسها المعتادة، ولكنها تضرب وهي جالسة، لأن المرأة تختلف عن الرجل، ويراد سترها وعدم تكشفها، وخاصة أنها مع الضرب ومع الإيلام، ربما تحركت، وربما رفع بعض أجزائها فسقط ما عليها من عباءة أو لباس.
{ثم قال: (وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَتُمْسَكُ يَدَاهَا)}.
مثل ذلك؛ لأنها تشد عليها ثيابها، لئلا يحصل بذلك الانكشاف، فتحفظ عورتها حتى مع جنايتها لأنها إنما تعلق بها عقوبة هذا الحد، ولم تذهب عنها ما سواها من سائر الأحكام، وما لها من الحقوق، من أن تحفظ عورتها، وأن تُصان في بدنها، فلا يحصل في ذلك انكشاف وتعري، وما يتبع ذلك إمَّا من فتنة، أو من سخرية بها أو سواها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَلَا يُحْفَرُ لِمَرْجُومٍ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَدٌّ سَقَطَ)}.
(وَلَا يُحْفَرُ لِمَرْجُومٍ) أي في حد الزنا للمحصن، وكأنه قد ذكر بعضهم أنه يحفر له، لئلا يهرب ونحو ذلك، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هذا لم يثبت به شيء، فكأنه يقول: إنه يرجم واقفا في الحال التي هو عليها.
قال: (وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَدٌّ سَقَطَ)، فلو أنَّ شخصا قبل أن يجلد الحد الذي ثبت عليه، سواء كان من سرقة، أو من شرب خمر، أو كان من قذف، فإذا مات سقط الحد، لأن المحل الذي يُستوفى منه قد ذهب.
{أحسن الله إليكم، شيخنا.
ثم انتقل المصنف -رحمه الله- لمسائل الزاني والزانية، ولكن قبل أن نتطرق إلى المسائل هنالك سؤال، لو أنَّ إنسانًا قُدِّرَ عليه وزنا مثلا، سواء كان محصنًا أو غير محصن، هل الأفضل له والأصل أن يستر نفسه؟ أو أنه يطبق عليه حد الله ويذهب إلى الحاكم ويعترف؟}.
الستر مما جاء الشرع به، وسواء كان سِتْر الإنسان على نفسه، أو كان ستر الإنسان على أخيه، فلا يتطلع الشارع إلى ظهور ذلك، ولا إبدائه، ولا إفشائه، فظهور ذلك خلاف ما جاءت به السنة، وما دلت عليه الآثار، والنبي رَدَّ ماعزا، وقال له: لعلك ولعلك، وهكذا، فكان ذلك منه ستر.
وجاء عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه قال: لو وجدتهما لأكببت عليهما غطاء أو لحافا، وهو يقول: لو وجدتهما في طريق، فدل ذلك على أن المقصود هو الستر، وما يكون -وهو من المهمة في الحقيقة- ما ينشر سواء على سبيل التخصيص، أو على ذكر حال أو وصف واقعة أو تردادها، حتى ببعض معالمها دون تحديد لشخص أو غيره، من أنها وقعت الجريمة الفلانية، أو الفاحشة الفلانية، أو ظهر في المكان هذا، أو في فندق كذا، أو في مجمع كذا، أو نحوه، فإن هذا حتى ولو كان لا يدخل في اسم القذف، لكنه ربما لا ينفك من إشاعة الفاحشة، وهذه من سمات أهل النفاق، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور:19].
إذًا الشارع متطلع إلى تحجيم المعاصي ومحالها، سترا عليهم، وحتى إن بدت فإنما يتوجه العقاب على فاعل ذلك قدر الاستطاعة، ولكن إذا تحققت وشهدها من شهدها من المسلمين في العقوبة فهو مستحب، لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:2]، ولكن من حيث الأصل طلب الستر مطلوب، والتعاون على ذلك مرغوب، وعدم إظهار ذلك مما دلت عليه السنة، وما يلحق ذلك من إشاعة للفواحش أو تكثير لها، فلا شك أنه ليس من سبيل أهل الإيمان، وإنما هو من طريق أهل النفاق.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَيُرْجَمُ زَانٍ مُحْصَنٌ حَتَّى يَمُوتَ)}.
هذه إذًا عقوبة الزاني، فالمؤلف -رحمه الله تعالى- بدأ بحد الزنا، فهو أشدها وأغلظها وأعظمها، والزنا -نسأل الله السلامة- هو إيلاج الرجل ذكره أو بعضه في قُبُل امرأة لا تحل له أو دبرها، ويدخل في ذلك الدبر حتى وإن كان محرمًا، ولكنه داخل في اسم الزنا عند الحنابلة، وبعض أهل العلم يجعله في حكم اللواط، ويلحقون له أحكاما، فعلى كل حال اللواط هو إتيان الرجل الرجل، ولكن الزنا وفعل الفاحشة في قُبُلٍ أو في دبرٍ.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: إذا وقع الزنا فإنه لا يخلو، إما أن يكون الشخص محصنا أو لا، فإذا كان محصنا فإنه فإن عقوبته الرجم حتى الموت، فهذا مما جاء به كتاب الله -جل وعلا-، ثم نُسِخَ لفظه وبقي حكمه، وجاء ذلك في حديث عبد الله بن سلام، وهو مشهور معروف.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَغَيْرُهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا)}.
وأمَّا غير المحصن فعقوبته الجلد مائة، فيجلد يجلد مائة ويغرب عاما، كما جاءت بذلك السنة، سواء كان الزاني أو الزانية، والمقصود بالتغريب يعني: أن يُخرج من المكان الذي هو فيه مسافة قصر، إذا كان رجلا، أو كانت امرأة معها محرمها.
قالوا: أو تكون في مسافة قصر أو نحوه، أي: إذا كانت وحدها، وجرى العمل في الآونة الأخيرة على العدول عن التغريب إلى السجن، والتغريب له معنى لطيف من حكم هذه الشريعة وأسرارها، أنه لما واقع هذه الفاحشة فإن بُعده يُفضي إلى أن يكون في محل لا يعرف فيه بشر، ولا يظهر منه سوء، فيحمله ذلك على أن يعود إلى ما كان عليه الحق، ويستقيم على ما يستقيم عليه من الخير، فكأنه إصلاح لبيئته، وإحسان لحاله، حتى يتمكن من ألا يطلب منه العود، أو يكون سببا لتذكيره بما كان عليه، فيرجع إلى سالف فعله، وإلى طريق فاحشته، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم قال -رحمه الله-: (وَرَقِيقٌ خَمْسِينَ، وَلَا يُغَرَّبُ)}.
قال: (وَرَقِيقٌ خَمْسِينَ)، الرقيق على النفس، فإذا جانا الرقيق فإنه يجلد خمسين ولا تغريب لأن هذا تفويت لمصلحة سيده واه فوات لما يطالب منه نعم.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمُبَعَّضٌ بِحِسَابِهِ فِيهِمَا)}.
(وَمُبَعَّضٌ بِحِسَابِهِ فِيهِمَا) المبعض -كما ذكرنا- هو من كان بعضه حرًا وبعضه عبدا، فيكون بحساب ما فيه، فإذا كان نصفه حرًا ونصفه عبدًا، فمعنى ذلك أنه سيجلد خمس وسبعون، وإذا كان ثلثه عبدًا وثلثاه حرًا مثلا، فمعنى ذلك أنه سيجلد تقريبا أكثر من اثنين وثمانين جلدة، أو قريبا من ذلك بحسابها.
ومثل ذلك التغريب إذا كان نصفه حرًا، فمعنى ذلك أنه يغرب نصف سنة ثم تزيد وتنقص بحسب هذه حساب المدة، وما فيه من حرية وغيرها.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي قُبُلِهَا وَلَوْ مَرَّةً)}.
المحصن في باب النكاح في حد الزنا، هو من وطئ زوجته، إذا لا بد أن يكون في نكاح، لا من ملك يمين، ولا من زنا، ولا من وطء شبهة أو غيره، فلا يعتبر محصنا.
وأن يكون في هذا النكاح وطء، بأن يغيب حشفته في قُبُل امرأته أو قدرها، وأن يكون النكاح صحيحا، فيخرج من ذلك لو كان النكاح فاسدا، وهو نقض منه شرط مختلف فيه أو باطل.
وأن يكون كلاهما -الزوج والزوجة- مكلفين، وعاقلين، وأن يكونا حرين، فإذا اجتمعت هذه الشروط فيكون محصنًا، وإذا انتفت انتفى الإحصان، وبناء على ذلك لا يتأتى له الحكم بقتل برجمه بالحجارة، وإنما يكون الثاني وهو الجلد والتغريب.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وشروطه ثلاثة: تَغْيِيبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ لِآدَمِيٍّ وَلَوْ دُبُرًا)}.
قال: (تَغْيِيبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ لِآدَمِيٍّ) هذا كما ذكرناه قبل قليل.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَانْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ)}.
فإذا كان في ذلك شبهة، فلا إقامة للحد، إذًا حتى يُقام الحد فلا بد من اكتمال هذه الشروط، (تَغْيِيبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي فَرْجٍ أَصْلِيٍّ لِآدَمِيٍّ)، فأما إن كان في خنثى، أو كان مع امرأة لكنه ضاجعها بدون إيلاج، كما لو جعله بين فخذيها، فكل ذلك لا يوجب حد الزنا، وإن كان يوجب عقوبة تعذير ونحوه، ولكنه لا يصل حد الزنا إلا بأن يكون كما ذكرنا.
ولو أدخل بعض حشفته ولكنها لم تغب، فعند ذلك لم يصل إلى الحد الأدنى، فهنا قال: (وَانْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ) قالوا إنه لو كان مثلا في نكاح مختلف، في في نكاح متعة يظنه جائزا، ولو كان من وجه ضعيف عند بعض أهل الأهواء وغيره، فهنا قالوا: لا بد من انتفاء الشبهة، وأما إذا وجدت الشبهة فلا حَدَّ، وإنما فيه التعذير.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِزِنَا وَاحِدٍ مَعَ وَصْفِهِ)}.
ومثل ذلك لو كانت شبهة تَرفع عنه التبعة، مثلا لو وطئها ظانًا أنها زوجته، وسبق أن قلنا: هذه شبهة تدرأ عنه الحد، ويثبت معه النسب للواطئ، وتكون عليها العدة حتى تعود إلى زوجها.
ثبوته لا بد أن يكون الزنا ثابتا، فدعوى الزنا شيء، وحصول الزنا شيء آخر، ويتأتى ثبوته بأحد أمرين، ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أولهما، فقال: (بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ)، فلا بد أن يكونوا رجالا ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:4]، فإذا لا بد من أربعة، وهذا من أعظم ما طلب فيه الشهادة، وهو أربعة شهود في حد الزنا.
قال: (فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ)، لا بد أن يأتوا به، لو أتى اثنين الآن ثم جاء اثنان من الغد، حتى ولو قالوا: والله كنا قادمين ولكن فاتتنا الطائرة، أو حصل ما حصل من كذا وكذا.
المهم ما دام أنه انتفى أن تكون الشهادة في مجلس واحد، فإنه لا يحد للزنا، ويجب عليهم حد القذف على ما سيأتي بيانه.
قال: (بِزِنَا وَاحِدٍ مَعَ وَصْفِهِ) ما معنى (مَعَ وَصْفِهِ)؟ لابد أن هؤلاء الأربعة ما يقولون نشهد أن فلانا زنا، بل لا بد أن يصفوا الزنا، بأن يقولوا: أدخل ذكره في فرجها، وكان على هذه الحالة، ووجد في هذه الغرفة في جهتها اليمنى، على سرير أو على كذا أو كانا ملتحفين بطرف لحاف، وبان من جهة أخرى، المهم أنهما لابد أن يذكرا وصفا دقيقا واضحا يتحقق منه حصول الزنا، وينتفي بينهم الاختلاف.
فإذا اختلف قولهم ولو شيئا قليلا لأفضى ذلك إلى عدم الثبوت؛ لأن الوصف قد اختلف، فلم يتحقق حقيقة ثبوت الزنا بشهادة الرجال.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (أَوْ إِقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، مَعَ ذِكْرِ حَقِيقَتِهِ الْوَطْءُ بِلَا رُجُوعٍ)}.
قال: (أَوْ إِقْرَارِهِ)، إذًا يثبت بشهادة أو إقرار، فإذا أقَرَّ كما أقرَّ ماعز، فيكرر هذا الإقرار -عند الحنابلة- أربع مرات على قياس الشهود، وعلى أن النبي راجع. وبعضهم ربما لا يعتبر ذلك.
المهم متى ما حصل منها يقين الإقرار واستقرت عليه، فيحصل من ذلك حد الزنا وهنا ننبه إلى قول لأهل العلم، وهذه كثيرا ما يذكرونها في هذا الموضع، يقولون: لم يثبت من عهد النبي إلى الآن حد الزنا بشهادة العدول، وإنما ثبت ذلك بالإقرار، وكما قلنا: يُندب للإنسان أن يستر نفسه، ولا يظهر ذلك، وَيُندب للقاضي أن يصرفه فيقول: لعلك ما زنيت، لعلك ما فعلت، لعله كان منك تقبيل، بل قالوا: إنه يلقنه، فإن انصرف وإلا ثبت وأقرَّ وأقيد للحد.
قالوا: فإذا ثبت الحد بالإقرار ثم رجع عنه، ارتفع الحد، بل قالوا: ولو كان ذلك أثناء جلده، أو أثناء رجمه.
وهذا يدل على أنَّ الشارع قد تطلع إلى الستر، ومنع إقامة الحد قدر الاستطاعة.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالْقَاذِفُ مُحْصَنًا يُجْلَدُ، حُرٌّ ثَمَانِينَ، وَرَقِيقٌ نِصْفَهَا، وَمُبَعَّضٌ بِحِسَابِهِ)}.
القذف هو رمي الغير بالزنا أو اللواط، وهو من الذنوب العظام، وقد جاء الشارع بتحريم أعراض المسلمين، «فإنَّ دِماءَكم، وأمْوالَكم، وأعْراضَكم عليكم حَرامٌ كحُرْمةِ يَومِكم هذا، في بَلدِكم هذا، في شَهرِكم هذا»[1]، ولا يختلف أهل العلم أن ذلك من الذنوب الكبار والعظائم، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور:4]، فعلى كل حال قد تكاثرت الأدلة بذلك، واستقرت عليه النصوص، فمن حصل منه قذف، فلا يخلو إما أن يكون القذف بالزنا أو بغيره، فما كان قذفا بسرقة، أو بعيبه، أو بتعيير، أو بشيء، فهذا سيأتي بيانه في نهاية الباب، وأن فيه التعزير، ولكن إذا كان قد قذفه بالزنا ففيه حد محدد ومقدر شرعا، وهو جلد ثمانين جلدة، كما دلت على ذلك الآية المتقدمة.
قال: (وَالْقَاذِفُ مُحْصَنًا يُجْلَدُ، حُرٌّ ثَمَانِينَ) فإذا كان القاذف حرا، وثبت عليه ذلك بإقراره، أو بإقامة شاهدين عليه، فإنه يجلد ثمانين جلدة كما نصت على ذلك الآية.
{ثم قال: (وَرَقِيقٌ نِصْفَهَا)}.
ال رقيق على النصف من ذلك كما استقر معنا، في تنصيف الرقيق للحر في مسائل كثيرة، وعلى هذا أجمع الصحابة أخذًا من قول الله -جل وعلا-: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء:25].
{قال: (وَمُبَعَّضٌ بِحِسَابِهِ)}.
ما تقدم معنا أن المبعض بحسابه بين الثمانين والأربعين، بحسب ما فيه من الحرية والرق.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالْمُحْصَنُ هُنَا: الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ الْعَفِيفُ)}.
 إذا المحصن هنا في باب القذف يختلف تعريفه وبيانه عن المحصن في باب الزنا، فهنا متى يكون محصنًا؟
أن يكون "حرًا، مسلما، عاقلاً، عفيفًا"، فإذا عُرِفَ بعفته، وإن كان مسلما، وكان عاقلا حرا، فقذف فثبت على القاذف قذفه إما بالبينة أو بإقراره، فيجلد ثمانين.
ولكن لو قذف غير عفيف فلا حَدَّ، ولكن لا يعني ذلك أنه لا عقوبة، فلو قذف غير عاقل فلا حَدَّ، ولكن لا يعني ذلك أنه لا عقوبة، بل فيه عقوبة تعزيرية، بحسب ما يراها القاضي.
لو قَذَفَ عبدًا، أو قذف غير مسلم، فإن غير المسلم أيضا مصون ما دام أنه عند أهل الإسلام، بما دخل به من ذمة أو بأمان أو بعهد، فلا يتسلط عليه، ولا يُستباح عرضه.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ كَوْنُ مِثْلِهِ يَطَأُ أَوْ يُوطَأُ لَا بُلُوغُهُ)}.
قوله: (وَشُرِطَ كَوْنُ مِثْلِهِ يَطَأُ أَوْ يُوطَأُ)، يعني: لو قال له يا زان. وهو ابن ثلاث فمثله لا يطأ.
(أَوْ يُوطَأُ) كذلك لو كانت صغيرة.
(لَا بُلُوغُهُ)، كما قلنا: إذا كان يطأ فيتعلق الحال، وإذا كان مثله يوطئ كامرأة أو نحوها فنعم، ولكن لا يشترط البلوغ؛ لأنه يمكن أن يحصل ذلك من غير البالغ؛ لأنه يحصل منه إنعاض، فما دام ابن عشر، وما دامت ابنة تسع فمثلها يوطأ، وبناء على ذلك يحصل أو يتحقق في مثل تلك الأحوال القذف.
لكن لو قلت: لو كان محبوبا، لو كان كذا، فمثل هذه أشياء خفية، وبناء على ذلك حتى ولو كان فيتعلق به الحكم.
{أحسن الله اليكم.
ثم قال- رحمه الله- (وَيُعَزَّرُ بِنَحْوِ: يَا كَافِرٌ، يَا مَلْعُونٌ، يَا أَعْوَرُ، يَا أَعْرَجُ)}.
هذه الحالة الثانية، وهي القذف بغير زنا، فالقذف بغير الزنا محرم، وهو استطالة على الغير، ويلحق الإنسان إثمه، ولكنه لا يدخل في اسم القذف بالزنا الذي به الحد، وبناء على ذلك تختلف درجاته، فمنه ما يكون من الكبائر، ومنه ما يكون دون ذلك، ويلحقه من التعزير والعقوبة والتأديب من الحاكم بحسب ما يراه، وبما يحتف به من أمور، فإذا قال لشخص يا كافر، فلا شك أن هذا من الكبائر؛ لأنه قد جاء أنه باء بها أحدهما.
ولو قال: يا ملعون، فاللعن مما تكاثرت النصوص بتعظيمه، وترفع المسلم عنه كما دلت على تلك النصوص.
لو قال: يا أعور، ففيه إيذاء له بعيب في خلقته وصفة فيه.
وكذلك يا أعرج، ويا كذاب، ويا حمار. وكلها داخلة في ذلك، فيلحق بها تعزير لقائل ذلك إذا ثبت.
{أحسن الله اليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ)}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- في بيان التعزير، وهو أنَّ التعزير يكون على استطالة على مسلم في غير ما حد، أو كما لو كان نحو ذلك من الألفاظ، ويكون أيضًا التأثير على ترك حق الله -جل وعلا-، ولذلك قال: (وَيَجِبُ التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ)، فيعزر الإنسان عن تأخره عن الجماعة، يعزر الإنسان عن عدم صلته لرحمه، عدم قيامه ببر والديه، وكل ذلك من المعاصي والآثام، لا حَدَّ فيها ولا كفارة، فيلحق فاعل ذلك التعزير.
ولكن لو ظاهر شخص من زوجته ما نقول فيها تعزير، وان كانت إثما وكبيرة، لماذا؟ لأن الظهار فيه كفارة، فما فيه حد أو فيه كفارة فلا يدخل عندنا، وما كان سوى ذلك فإنه يمكن إذا رُفِعَ إلى القاضي أو إلى الأمام أن يعزر فاعله على ذلك.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَمَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ)}.
(وَمَرْجِعُهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ) يعني: في تحديد الحد الذي له، والمشهور من المذهب عند الحنابلة أن التعزير بابه محدود جدا، فلا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله، فيجعلون ذلك عشرا فأقل، ولأهل العلم في هذا كلام كثير جدا، والعمل في بلادنا على أنَّ باب التعزير أوسع، وأنه يوصل به إلى القتل، على ما جاء عن ابن تيمية وغيره، ويصرفون الحديث على أن هذا بابه ما كان باب التربية والتأديب في غير المعاصي والآثام، فما كان من معصية أو من إثم فإنه يزاد على ذلك، ولا يُبلغ به الحد الذي فيه، فلو كان شخص مثلا ضَمَّ امرأة وقبلها ونحو ذلك، لا يمكن أن يُعذر بأشد مما لو زنا، فلا يبلغ به حد الزنا، وهكذا وله تفاصيل، ربما لا يكون هذا محل بحثها.
{أحسن الله إليكم، شيخنا ورضي الله عنكم وزادكم من فضله}.
أسأل لنا ولكم التوفيق والسداد.
{أحسن الله إليكم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (4406)، ومسلم (1679).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك