الدرس الحادي والثلاثون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7534 33
الدرس الحادي والثلاثون

أخصر المختصرات 4

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، مرحبا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة، من برنامج (جادة المتعلم) والذي نتدارس فيه كتاب أخصر المختصرات للإمام ابن بلبان الحنبلي الدمشقي -رحمه الله تعالى- يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم ابن محمد العجلان.
باسمي وباسمكم جميعًا نرحب بشيخنا المبارك، حياك الله يا شيخ عبد الحكيم}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين جميعًا.
{شيخنا كنا قد توقفنا عند فصل الصيد، نستأذنكم أن نكمل على بركة الله}.
نعم، استعن بالله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل. أَحْكَامُ الصَّيْدِ.
الصَّيْدُ مُبَاحٌ، وَشُرُوطُهُ أَرْبَعَةٌ: كَوْنُ صَائِدٍ مِنْ أَهْلِ ذَكَاةٍ، وَالْآلَةُ، وَهِيَ آلَةُ ذَكَاةٍ، أَوْ جَارِحٌ مُعَلَّمٌ وَهُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ إِذَا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِزَ إِذَا زُجِرَ، وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يحفظكم ويحفظكم، وأن يبلغنا الخير وإياكم، وأن يعصمنا من الشرور، وأن يحفظنا من الفتن، وأن يبلغنا الخير أجمعين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
استهللنا في المجلس الماضي أول الكلام على هذا الفصل، وقلنا: (الصَّيْدُ مُبَاحٌ) ومتى يكون مكروها؟ ومتى يكن محرما؟ ونحن ربما الآن استعجلنا قليلا لأجل الوصول إلى نهاية الكتاب في نهاية هذا الفصل، والله -عز وجل- نستمد منه التوفيق والإعانة.
يقول المؤلف: (وَشُرُوطُهُ أَرْبَعَةٌ) شرع المؤلف في شروط الصيد التي يكون بها الصيد بها مباحًا.
قال: (كَوْنُ صَائِدٍ مِنْ أَهْلِ ذَكَاةٍ)، فلابد إذا أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وهو العاقل المميز القاصد، كما مر ذلك بنا، (وَلَو كِتَابيًا)، فإذا لم يكن من أهل الذكاة لم تحل ذكاته، ومن باب أولى ألا يحل صيده.
{ثم قال -رحمه الله-: (وَالْآلَةُ، وَهِيَ آلَةُ ذَكَاةٍ، أَوْ جَارِحٌ مُعَلَّمٌ وَهُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ إِذَا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِزَ إِذَا زُجِرَ، وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ)}.
هذا هو الشرط الثاني، أن يكون الصيد بآلة الصيد التي يجوز بها، وهي إما أن يكون محددا، وهي التي تدخل إلى البدن وتشق فيه، ويحصل بها نهر للدم، فهذا يحصل به إباحة الصيد وجوازه، فمعنى ذلك -كما قلنا في الدرس الماضي- إنه لو كان شيء يضربها بثقله، كما لو كان بسيارة، فضربها أو دعمها حتى سقطت، فهنا لا تحل، لأنها ماتت بثقل، ولم يحصل بذلك إنهار الدَّم.
إذًا لا بد في الصيد أن تكون الآلة مما يُصاد بها، وهي المحددة، وهنا لا بد أن يتأكد أيضا أنه لا يدخل معها غيرها كما قلنا؛ لأن ذلك يُشتبه بما كان به الحل، وما حصل به القتل الثالث.
قال: (أَوْ جَارِحٌ مُعَلَّمٌ) وهذا هو النوع الثاني من الآلة، والجوارح إما أن تكون من السباع المعلمة، مثل: الكلب والنمر ونحوها، فإذا علمت، وقالوا: التعليم فيها (هُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ إِذَا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِزَ إِذَا زُجِرَ، وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ) فهذه ثلاثة شروط في السباع ما يصيد منها، إذا وجدت كان معلما، وكانت آلة صحيحة يحل بها الصيد.
أمَّا إذا كان من الطيور فيقول أهل العلم: إن التعليم يكون بشرطين فقط، وهما (أَنْ يَسْتَرْسِلَ إِذَا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِزَ إِذَا زُجِرَ)، قالوا: والطيور لا تتعلم أن تمسك عن أكل الصيد، فلا بد لها أن تأكل، وكونها تأكل لا يمنع أن تكون معلمة، ولا يمنع حل صيدها إذا وجدت الشروط الأخرى.
{قال -رحمه الله-: (فَلَوِ اسْتَرْسَلَ جَارِحٌ بِنَفْسِهِ فَقَتَلَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ)}.
طبعا لابد من ذي الناب أو السباع أو الطيور أن تجرح الصيد، وأما لو خنقته فقط بدون فلا يحل بذلك، ولذا كان ولا بد من إنهار الدم.
قال: (وَإِرْسَالُهَا قَاصِدًا)، إذًا هذا هو الشرط الثالث، أن تُرسَل قصدًا، وبناء على ذلك، لو أنَّ شخصا أراد أن يرسلها مثلا لتتعلم الجري، فرأت صيدا فصادته، فهذا الصيد لا يحل. لماذا؟ لأنه لم يقصد الإرسال، ولأجل ذلك قالوا: لا بد أن يكون الإرسال منه، وكما جاء في الحديث: «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ»[1]، فَعَلَّقَ ذلك بأن يكون قاصدا، ولأجل ذلك قال: (فَلَوِ اسْتَرْسَلَ جَارِحٌ بِنَفْسِهِ) أي أنه انطلق من نفسه لَمَّا رأى الصيد، أو أنك أرسلته لتعلم الجري ونحوه فصاد، فهنا قالوا: لا يحل؛ لأنه لم يقصد من المرسل هذا الصيد، ولا طلب حصوله.
{قال -رحمه الله- (وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ رَمْيٍ أَوْ إِرْسَالٍ وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، وَسُنَّ تَكْبِيرٌ مَعَهَا)}.
(وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ رَمْيٍ أَوْ إِرْسَالٍ) هذا هو الشرط الرابع، وهو أن تكون تسمية عند الإرسال.
ودي أن أنبه إلى القصد في "إذا أرسله فقصد"، إذا كان قاصدا الإرسال فالحمد لله، وليس بلازم أنك إذا أرسلته قاصدا أن يصيد هذه الصيد فصاد الأخرى، إنه لا يحل لا بل ما دمت أرسلته أن يصيد وذكرت اسم الله -جل وعلا-، فكما لو أرسلته إلى غزال فصاد حمارًا وحشيًا، فنقول: ما دمت أنك أرسلته للصيد ولو لم يصل إلى التي قصدتها وصاد أخرى فيحل.
إذا في الصيد إنما يكون القصد متعلقا بإرساله للمصيد، سواء نفسه أو غيره، ولكن لا يكون بدون قصد، فلو استرسل بنفسه، أو أرسل لتعليم وغيره فانطلق لصيد وغيره فإن ذلك لا يحل.
الشرط الرابع: التسمية، فلا بد من التسمية، وإذا اشترطت في الذكاة فهي هنا كذلك، ولكن فرق فقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- بين التسمية في الذكاة والتسمية في الصيد، فهناك تسقط مع السهو فتحل المذكاة، وهنا لو نسي فإنها لا تحل عندهم، ولذلك قال: (وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ) يعني: حتى ولو كان مع السهو.
وقالوا: الحقيقة أن كثيرا من الناس يبتلى بها فيكثر فيها السهو فربما أضر بالناس، ولكن الصيد قليل، وهذ في الحقيقة فيه ما فيه، ولذلك كان قولا آخر عند أحمد، وقولا لبعض الفقهاء: إنه إذا نسي فالحمد لله، خاصة أن بعض الفقهاء كالشافعية يرون أن التسمية مسنونة وليست بواجبة، فيكون الأمر في ذلك أيسر وأخف.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ تَكْبِيرٌ مَعَهَا وَمَنْ أَعْتَقَ صَيْدًا، أَوْ أَرْسَلَ بَعِيرًا أَوْ غَيْرَهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ)}.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَسُنَّ تَكْبِيرٌ مَعَهَا) يعني: أنه إذا أراد أن يسمي يُكبر معها، وهنا مسألة الحقيقة أحب التنبيه عليها، وهي أن الصيد إذا صيد، أصابته مثل السهام، أو الكلب جاء به، أو النمر، أو الصقر، وفيه حياة مستقرة، فيجب ذبحه، وبناء على ذلك لا يُكتفى بكونه صيدا وأنه إذا مات حل. نقول: لا، ما دام أنه وصل إليه، واستقرت حياته، وأمكنك ذبحه فيذبح، وبناء على ذلك، لو أنه مات من أول إمساك الكلب له أو الطير فالحمد لله، ويحل بالشروط المتقدمة.
وأمَّا إذا امسك وجاء به ولم تستقر حياته، فمجرد أن وصلك مات، هو حلال ما دامت الشروط الأربعة المتقدمة حاصلة، ولكن إذا أمكنك فيجب.
والتكبير معه مستحب كما قلنا فيه الذكاة.
ثم قال: (وَمَنْ أَعْتَقَ صَيْدًا) يعني: أطلقه، أو أرسل بعيرا أو غيره، لم يزل ملكه منه عند أهل العلم عامة، ويجعلون ذلك كالإجماع، ولكن لو أباحه الإنسان للناس فيباح لهم.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (بَابُ الْأَيْمَانِ)}.
(بَابُ الْأَيْمَانِ) هو فيما يتعلق بما ينعقد منها وما لا ينعقد، وما كفارة ذلك، والأحكام المترتبة عليها، واليمين التي هي اليمين الصحيحة، التي هي بالله جل وعلا، وأدوات القسم، وما يتعلق بها، وإن كان المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر هنا مسائل الباب على وجه الاختصار؛ لأنَّ الكتاب ليس مختصرٌ بل هو (أخصر المختصرات)، ونحن أيضا في النهايات، ومطالبون بإنهاء الكتاب فنختصر ولا نطيل تحقيقا لمطلوب القائمين على (جادة المتعلم) وجمعية هداة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (تَحْرُمُ بِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ الْقُرْآنِ، فَمَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)}.
الأيمان جمع يمين وهي القسم اصطلاحًا، وحقيقتها أنها توكيد بأحد حروف القسم الثلاثة، بذكر معظم، ولا يجوز الحلف إلا بالله -جل وعلا-، «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ»[2]، فمن حلف بالأمانة، أو بالشرف، أو بحياته، أو بالنبي، أو بغيره، لم يجز ذلك، لأنَّ «مَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»[3]، ولأن حقيقة اليمين تعظيم، والتعظيم حق -جل وعلا-، اختصَّ ذلك به سبحانه لِمَا جاء في دلالة النصوص، فيجب على الإنسان ألا يحلف إلا بالله، وفي هذا الوقت انتشرت كثير من الأيمان التي بغير الله -جل وعلا-، ويتلقاها الناس عبر هذه القنوات، التي تكون ممن لا يرعون حق الله، ولا يعرفون أحكامه، بل وربما قصدوا التغريب للناس والتضليل في مثل هذه الأمور، ولذا فيجب على المرء أن لا يحلف إلا بالله -جل وعلا-.
والحلف يكون بأحرف القسم الثلاثة، "الواو، الباء، والتاء"، تالله، وبالله، والله، فلا يكون بغيرها.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: تَحْرُمُ بِغَيْرِ اللَّهِ)، فمن حلف بغير الله كما جاء في الحديث فقد كفر أو أشرك، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي يحل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وأمَّا المخلوق فإنه لا يقسم إلا بالله، أو بصفة من صفاته، وصفات الله -جل وعلا- يجوز أن يُقسم بها، فلو قال: وعزة الله، أو ورحمة الله، أو وعلم الله، يكون ذلك كما لو حلف بالله -جل وعلا- الذي هو اسمه، أو بالرحمن، أو بالرحيم، أو سواه.
وكذلك إذا حلف بالقرآن، فالقرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، فكأنه حالف بالصفة، فيكون ذلك صحيحا أيضا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَمَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)}.
قوله: (فَمَنْ حَلَفَ) أي: على ما تقدم، فالمقصود الحلف بالله، أو الحلف الصحيحة، أو الحلف التي تنعقد، وأما لو حلف بغير ذلك، فإنه آثم وواقع في الوعيد أو الشرك بالله -جل وعلا-، و «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ولم تنعقد اليمين، ولم تتعلق بها كفارة، ولذلك قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "لئن أحلف بالله كاذبا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقا"؛ لأنَّ الحلف كاذب ربما كان كبيرة من الكبائر، ولكن الحلف بغير الله شرك أصغر، فيكون أعظم وأشد.
ولكن من حلف على ما تقدم من الحلف بالله، أو بصفة من صفاته، أو بالقرآن، مستعملا أحرف القسم التي ينعقد بها، فحنث، ومعنى حنث: يعني: أَخَلَّ بيمينه، بمعنى أنه فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، فلو قال: والله لأذهبن اليوم إلى خالي لأزوره، فمر اليوم ولم يزر خاله فقد حنث؛ لأنه ترك ما حلف على فعله.
ولو قال: والله لا شربت اليوم أو بعد اليوم خمرا، فهذا حلف على ترك، ففعل وشرب خمرا، فهنا أخلَّ بيمينه مع ما في هذه من الحرمة وغيرها.
ولكن لو حلف أن لا يشرب عصيرا أو ألا يدخل بيت فلان فدخله، فهنا نقول حنث، فإذًا مُتَعلقُ الكفارة هو الحنث.
قال (وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ)، ولكن يُطلب من المرء أول شيء حفظ يمينه؛ لأن الله -جل وعلا- أمره بذلك، ويُنهى عن الكثرة فيها؛ لأنَّ هذا عدم تعظيم لله -جل وعلا- والأصل أن اليمين إنما تكون في الأمور العظيمة، وأن يُصان الله -جل وعلا- الذي يُحلف به، إلا أن يُحلف على أمر عظيم، وأنه إذا حلف عليه أن يحفظ يمينه فلا يحنث، إلا إذا رأى الخير في ذلك، وسيأتي ما يتعلق بهذا، وبيانه من حيث الدلالة.
ولكن تجب عليه الكفارة، وسيأتي أيضا متعلقات الكفارة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلِوُجُوبِهَا أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: قَصْدُ عَقْدِ الْيَمِينِ، وَكَوْنُهَا عَلَى مُسْتَقْبَلٍ، فَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا عَالِمًا بِهِ وَهِيَ الْغَمُوسُ)}.
قال: (قَصْدُ عَقْدِ الْيَمِينِ) فإذا كان قاصدًا لها انعقدت، فيخرج من ذلك ما لو كان غير قاصد، وهي التي يأتي على لسان الإنسان بغير ما قصد، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- في لغو اليمين: "هي قول الرجل: لا والله، بلى والله" فهذه الغالب أنه يأتي بها الإنسان جريا على ما اعتاد على لسانه، ولا يقصد بذلك عقد اليمين وحصول ترك المحلوف عليه، أو فعل شيء أو نحوه، فإذا لم يكن قاصدا لا تنعقد.
(وَكَوْنُهَا عَلَى مُسْتَقْبَلٍ)، أما الماضي فلا تنعقد فيه اليمين، ولذ ا قال: (فَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا عَالِمًا بِهِ)، فلو حلف الإنسان كما هو حاصل في كثير من أهل الفسق والفجور، والذين لا يرعون حق الله -جل وعلا-، ويعتدون على حقوق الناس، فيقول مثلا وقد أخذ مالا من جاره، دينا خمسة آلاف ريال، فقال: والله ما أخذت منه شيئًا، فهذه يمين على أمرٍ ماضٍ، والأمر الماضي لا تنعقد به اليمين التي تتعلق بها الكفارة.
إذًا لا يخلو إمَّا أن يكون صادقا، وإما أن يكون كاذبا، فإن كان صادقا فالحمد لله، وإن كان كاذبا فلا كفارة؛ لأنها كما قلنا: اليمين على أمر مستقبل، وأما هذه فعلى أمر ماض، فما دمت كاذبا فنقول: هذه يمين غموس، واليمين غموس أعظم تكون إثما، فإنها تغمس صاحبها في النار، نسأل الله -جل وعلا- السلامة والعافية، آمين.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ فَيَبِينُ بِخِلَافِهِ)}.
كذلك لا يكون (ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ)، فإذا حلف الإنسان، وقال: والله إنني ما قُلتها، أو ما رأيتك، وظن صدق نفسه، فعند أهل العلم أن هذا لا تنعقد يمينه، ولا تجب عليه كفارة، وذكروا في ذلك الإجماع. يقولون: إلا أن يكون فيما يتعلق بظن صدق نفسه، إذا كانت ليست اليمين التي هي بالله -جل وعلا- على مثل هذه الأمور، ولكن لو كان يمين طلاق، أو يمين عتق، كما لو قال لزوجته: عليَّ الطلاق أني ما رأيتك، وقد رآها، فهنا تطلق، خلافا لليمين بالله -جل وعلا- فبالإجماع لا تنعقد، ولا يتعلق بها كفارة، وهو معفو عنه؛ لأنه ظان صدق نفسه.
{قال -رحمه الله-: (وَلَا عَلَى فِعْلِ مُسْتَحِيلٍ وَكَوْنُ حَالِفٍ مُخْتَارًا)}.
 لو حلف وقال مثلا: لا أمشي على البحر! ما أحد يمشي على البحر، أو قال: والله لا أصعد السماء! ما أحد يصعد السماء، هذه مستحيلات، فيقولون: لا تنعقد اليمين في مثل هذه.
{ثم قال: (وكون حالف مختارا)}.
أمَّا إذا كان غير مختار، كما لو كان مكرها، فلا تكليف مع الإكراه.
{قال -رحمه الله-: (وَحِنْثِهِ بِفِعْل مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ غَيْرَ مُكْرَهٍ أَوْ جَاهِلٍ أَوْ نَاسٍ)}.
كما قلنا: الحنث هو أن يفعل ما حلف على تركه، أو أن يترك ما حلف على فعله، ولكن بشرط أن يكون الفعل حال كونه غير مكره، ولا جاهل، ولا ناسٍ، فبناء على ذلك لو أنَّ شخصا قال: والله لا اغتبت أحدا بعد اليوم، ثم وقف شخص عليه بسيف أو بمسدس أو بنحوه، فقال: اذكر ما كان بينك وبين فلان، وفلان ليس حاضر، وإنما هي أمور يستحي منها ويكره ذكرها، فهي غيبة، فلو ذكر ما ذكر فإنه لا يكون مُغتابا، ولا تنحل يمينه، ولا تجب عليه كفارة؛ لأنه مكره.
(أو جاهل) فلو كان يجهل مثلا ما حلف على تركه، كما لو قال: والله لا أدخل دار فلان، فمر من الباب ودخل وخرج، وهو لا يعرف أنها دار فلان، فيقولون: إنه جاهل.
(أو ناس) كأن يكون ناسيًا يمينه، ففي مثل هذه يقولون: لا كفارة عليه، ولكن لا تنحل اليمين، فلو دخل مختارًا عالمًا غير ناسٍ، فإنه تكون عليه الكفارة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُسَنُّ حِنْثٌ وَيُكْرَهُ بِرٌّ إِذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ)}.
قوله: (وَيُسَنُّ حِنْثٌ وَيُكْرَهُ بِرٌّ إِذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ)، قد جاء في الحديث عن النبي أنه قال: «مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ».
والعكس بالعكس، فإذا حلف على أن لا يفعل شيئا، ثم رأى الخير في فعله فإنه يفعله، ويكفر عن يمينه، ولأجل ذلك قالوا: (وَيُسَنُّ حِنْثٌ وَيُكْرَهُ بِرٌّ إِذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ)، فلو أن شخصا قال: "والله لا صليت ركعتي الفجر مثلا"، ففي هذه الحال نقول: هو حلف على ترك سُنة، فالسنة له أن يحنث، وأن يصلي ركعتين، وأن يكفر عن يمينه.
كما لو أنَّ شخصًا مثلا حلف أن يلبس ثوبا طويلا ينزل عن الكعبين، إذا قلنا إن ذلك مكروه، إلا أن يكون خُيلاء، فهنا في مثل هذه الحال السنة أن يرفع إزاره، وأن يكفر عن يمينه.
(وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ) لو حلف على فعل مكروه، فنقول: إنه يكره له أن يفعله، ويتركه ويكفر عن يمينه وهكذا.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (ويجب إن كَانَتْ عَلَى فِعْلِ محرم أَوْ تَرْكِ واجب، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ)}.
(ويجب إن كَانَتْ عَلَى فِعْلِ محرم)، كأن يقول: والله لأفعلن الزنا، أو لأشربنَّ الخمر، أو نحوه، فيحرم عليه الفعل ذلك، ويجب عليه أن يحنث.
والعكس بالعكس، فلو قال: والله لا أديت زكاة، ولا صمت رمضانًا، فنقول: يجب عليه أن يحنث، وأن يصوم وأن يزكي وأن يكفر عن يمينه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فَصْلٌ. تَحْرِيمُ السَّيِّدِ أَمَتَهُ.
وَإِنْ حَرَّمَ أَمَتَهُ أَوْ حَلَالًا غَيْرَ زَوْجَةٍ لَمْ يَحْرُمْ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ)
}.
الفصل يذكرون فيه جامع الأيمان ومسائل أخرى متعلقة بالأيمان، ويطيلون فيها، ولكن المؤلف ذكر نتفة يسيرة من ذلك، فابتدأ بما يكون ملحقا باليمين وإن لم يكن يمينا، فهي ليست يمينًا من جهة أنها ليست حَلِفًا، ليست لفظًا بأداة قسم متعلقة بالله -جل وعلا- كقوله: "والله، أو بالله، أو تالله"، ولكن لو حرم حلالا، قال: (وَإِنْ حَرَّمَ أَمَتَهُ) أي التي أجاز الله له أن يأتيها ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾، فقال: هي حرام عليَّ، فنقول: هذا التحريم يأخذ حكم اليمين، فإنه حرم ما أحل الله له، ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم:2]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ فنهي عن ذلك. فيكفر كفارة يمين عن تحريمه، ويأتي هذا.
قال: (أَوْ حَلَالًا غَيْرَ زَوْجَةٍ لَمْ يَحْرُمْ)، كما لو قال: كل نساء الدنيا حرام عليَّ. من الذي حرم عليك نساء الدنيا؟ لك أن تتزوج هذه أو الأخرى أو الثالثة، فهذا تحريم ما أحلَّ الله له، فيكفر كفارة يمين، ويفعل ما يكون له الخير في ذلك.
{قال: (وَتَجِبُ فَوْرًا بِحِنْثٍ، وَيُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ إِطْعَامِ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ كِسْوَتِهِمْ كُسْوَةً تَصِحُّ بِهَا صَلَاةُ فَرْضٍ، أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ عَجَزَ كَفِطْرَةٍ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ)}.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في كفارة اليمين، فقال: (وَتَجِبُ فَوْرًا بِحِنْثٍ)، إذًا، إذا حنث فإنه يكفر فورًا؛ لأنها واجبة عند الحنث، والأصل في الأوامر أنها تكون على الفور لا على التراخي.
ويستحب قبل حنث؛ لأنه جاء في الحديث «مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ»[4] كما جاء في بعض الروايات.
ما الكفارة؟ كفارة اليمين اجتمع فيها أمران، اجتمع فيها التخيير، والترتيب، فهو مخير أولا بين ثلاثة أشياء، بين: إطعام عشرة مساكين، فيطعمهم طعاما يكفيهم، كما جاء ذلك عن الصحابة، يكفيه يومه كمد بر أو نصف صاع ونحوه.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إِطْعَامِ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ)، والمساكين هم الذين لا يجدون أكثر كفايتهم، وإذا أَعطى الفقراء فهو أولى؛ لأن الفقراء أشد من المساكين، أو هم من مساكين وزيادة.
(أَوْ كِسْوَتِهِمْ كِسْوَتِهِمْ كُسْوَةً تَصِحُّ بِهَا صَلَاةُ فَرْضٍ) والكسوة حدها ما جاء عن بعض الصحابة أنها ما تصح به الصلاة، فيقولون: إزار رجل، أو درع وخمار للمرأة.
قال: (أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فهذا لمن أراد أن يتكثر من الخير، وأن يتفضل، فإن هذا أعظمها، وبينا في (باب الظهار) ما يتعلق بالقيود التي ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في عتق (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ).
(فَإِنْ عَجَزَ) يعني: هو لا يستطيع ذلك، والعجز بم يتأتى؟ يعني: ألا يكون لديه إلا ما يقوم بحوائجه الأصلية، ليس عنده أكثر من ذلك، أو لا يجد جميع حوائجه الأصلية من مأكل ومشرب ومسكن وكسوة، فبناء على ذلك، له أن ينتقل إلى الصيام.
قال: (صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ) وهذا الذي يحصل به كفارة اليمين، ولكنه لا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن الثلاثة التي فيها التخيير.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَبْنَى يَمِينٍ عَلَى الْعُرْفِ، وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ حَالَفٍ لَيْسَ ظَالِمًا إِنِ احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ كَنِيَّتِهِ بِبِنَاءٍ وَسَقْفٍ السَّمَاءَ)}.
قال: (وَمَبْنَى يَمِينٍ عَلَى الْعُرْفِ، وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ حَالَفٍ لَيْسَ ظَالِمًا) كون مبنى اليمين على العرف هذا واضح، يعني: أن الإنسان قد يلفظ بشيء وله عرف، وإن كان في العربية ما له معنى أوسع، فيقول: إن العرف هو الذي يُقصد وهو الذي يراد.
ومع ذلك المؤلف -رحمه الله تعالى- كأنه هنا لو أَخَّر هذه الجملة لكان أولى، فالفقهاء يذكرون أن أول شيء في يمين الحالف يُرجع إلى نيته، فإذا قال: والله لا دخلت الدار، وله عشرة دور، فهنا إذا كان له قصد في أنه لا يدخل هذه الدار، فلو دخل الدور التسعة لا بأس بذلك؛ لأنه هو من حلف، وهو من يعرف نيته، وهو مدين فيما بينه وبين الله -جل وعلا-، ولذلك قال: (وَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى نِيَّةِ حَالَفٍ).
إذا قال: والله لا أكلت خبزا، وما يقصد كل الخبز في كل الأحوال، ولكن هو مد له خبزا، وهو كان يقصد الخبز الذي مده إليه، هل نحرم عليه جميع الخبز، أو نحرم عليه الخبز الذي مده إليه؟
هو نوى الخبز الذي مده إليه، فلا نحرم عليه جميع الخبز، وهكذا.
قال: (لَيْسَ ظَالِمًا) يعني: بشرط أن لا يكون ظالِمًا، كما لو حَلَّفَهُ القاضي مثلا في دعوى دُعِيَ عليه فيها، أن عليه دين لفلان قدره خمسة آلاف، قال: والله ما أخذت منه خمسة آلاف، وهو أخذ منه خمسة آلاف، ولكنه لَمَّا حلف قصد في يمينه يعني ما أخذت هذا اليوم. لا ينفعه ذلك. وإن كانت النية تنفع في اليمين، في تحويلها إلى هذا اليوم لو لم يكن ظالما، أو لو لم يكن بين يدي حاكم، فإنه يقول على ما استحلفك القاضي، أو أخيك، فبناء على ذلك ما كان فيه ظالم، فإنه لا ينفعه ما قلب من نية، أو غَيَّر من قصد؛ لأنَّ اليمين على ما استحلفك بها صاحبك في مثل هذه الحال.
قال: (إِنِ احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ كَنِيَّتِهِ بِبِنَاءٍ وَسَقْفٍ السَّمَاءَ)، هنا إذا لم تكن له نية فيرجع إلى السبب الذي حيض اليمين، فإذا كان السبب الذي حيض اليمين، محدد فيرجع إليه، فتتعلق بها اليمين، كما لو أنَّ ولده مثلا أعطاه مبلغا من المال فصرفه في حرام، أو لعب به وعبث، فقال: والله لا أعطيتك مالا، قالوا له: تقصد شيئًا؟ قال: لا، لكن هو ضيع المال، وأنا لا أريد التضييع، إذًا هو قصد ألا يعطيه مالا يكون به عبث أو فعل في الحرام، فيحمل على ذلك، وإذا لم يكن فيقولون: يرجع فيها إلى العرف، إلى ما ينطبق عليه اللفظ عرفا، ولهم في ذلك تفصيل، ولكن نحن لا ندخل فيه.
فإذا كان قال كلمة فيتعلق به عرف أخص، فيدخل فيه، يعني على سبيل المثال: لو قال: والله لا لبست ثوبا هذا اليوم، فلبس مثلا لباسه الداخلي وجلس، فهل يحنث ولا ما يحنث؟
إذا نظرنا إلى الثوب في العربية، فالعربية يطلق الثوب على كل ما يلبس، فإذا هو حنث في دائرة اللغة العربية، ولكن إذا حملناه على العرف، فالعرف عندنا أن الثوب هو القميص، فبناء على ذلك هو لم يلبس قميص، فلم يحصل منه حنث، ما دام أن هذا هو العرف الذي يتعلق باللفظ.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (فصل حُكْمُ النَّذْرِ. والنذر مكروه)}.
عقد المؤلف -رحمه الله تعالى- هذا الفصل في النذر، والنذر أحكامه شبيهة بأحكام اليمين، ولذلك يذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- غالبا متصلا بكتاب الأيمان.
والنذر من العبادات، وحقيقته إيجاب، وهو التزام المكلف ما لم يجب عليه بأصل الشرع في حال اختيار منه وعدم إكراه، وهو من العبادات التي جاء في كتاب الله -جل وعلا- تعظيم الوفاء بها، ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾، ولكن مع ذلك النذر عند أهل العلم مكروه، ولذلك قال -رحمه الله تعالى-: (النذر مكروه)، لماذا هو مكروه مع كونه عبادة؟ قال أهل العلم: لَمَّا خفف الله -جل وعلا- عن الناس لم يكن للمرء أن يكلف نفسه ويقيدها ما خفف الله عنه، والله -جل وعلا- يَسَّرَ على العباد، ولأن ذلك سبب لعدم القيام بما نذره، وبما التزمه.
ثم يقولون، وهو أشهر ما يذكره الفقهاء، يقولون: النذر إنما هو حال أهل البخل والتقصير، فهو لا يفعل المنذور إلا عند حصول مقصوده، والوصول إلى مبتغاه، فكأنها جرت على سبيل المعاوضة، أنه يتصدق إن شفى الله مريضه، ويصلي إن أعطاه الله كذا وكذا، ولأجل ذلك قال أهل العلم: إنها مكروهة، ولأجل هذا النبي نهى عن النذر وقال: «وإنَّما يُسْتَخْرَجُ به مِنَ البَخِيلِ»[5].
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (النذر مكروه، ولا يصح إلا من مكلف، وَالْمُنْعَقِدُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ)}.
(ولا يصح إلا من مكلف) إذا هو لا بد أن يكون من عاقل بالغ، يقولون: فينعقد نذر الكافر، لأن النبي أمر عمر أن يوفي بنذر كان له في الجاهلية، وأيضا ذلك الرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانه، فلولا أن نذره منعقد في حال كفره لما أمره النبي بالوفاء به حال إسلامه.
{ثم قال: (وَالْمُنْعَقِدُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ:
الْمُطْلَقُ: كـَ: لِلَّهِ عَلِيَّ نُذُرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا وَلَا نِيَّةَ، فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ إِنْ فَعَلَهُ)
}.
هذه أنواع النذر، وحكم كل واحد منها، قال: (لِلَّهِ عَلِيَّ نُذُرٌ)، فهذا أطلق في كل شيء، في النذر وما يتعلق به، فيقولون هنا: لم يسمِّ شيئا في الفعل المنذور فيكون عليه كفارة يمين، «كفارة النَّذر إذا لم يُسَمّ كفَّارة يمين» كما جاء بذلك الآثار عن النبي .
أو لو قال: لله عليَّ نذر ضربت ولدي، فضرب ولده، فهنا يقولون: نذر ماذا؟ هو لم يبين، فيكون أيضا كفارة يمين.
{قال -رحمه الله-: (الثَّانِي: نَذَرُ لِجَاجٍ وَغَضَبٍ، وَهُوَ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ يَقْصِدُ الْمَنْعَ مِنْهُ أَوْ الْحَمْلَ عَلَيْهِ، كإنْ كَلَّمَتُكَ فَعَلِيَّ كَذَا، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَكَفَّارَةِ يَمِينٍ)}.
(نَذَرُ لِجَاجٍ وَغَضَبٍ) يعني: الذي لا يقصد منه التعبد، وزيادة الأجر، وإنما هو جرى على سبيل ما يكون في المجادلة، ما يكون في كذا، "لله عليَّ نذر إن كنت كاذبا ألف ريال"، فهو عقد النذر كأنها يمين، ولأجل ذلك قال أهل العلم: إنه يخير بين فعله، إما أن يتصدق بالخمسة آلاف، أو تكون عليه كفارة يمين.
{قال -رحمه الله-: (الثَّالِثُ: نَذْرُ مُبَاحٍ، كَلِلَّهِ عَلِيَّ أَنْ أَلْبِسَ ثَوْبِي، فَيُخَيَّرُ أَيْضًا)}.
(نَذْرُ مُبَاحٍ) والحنابلة يرون أن النذر المباح داخل في النذر المنعقد، خلافا لبعض الفقهاء الذين يقولون: لا بد أن يكون النذر مما هو مأمور به في أصل الشرع، يعني: على سبيل الاستحباب والحث، ولكن الحنابلة يقولون: حتى المباح.
فلو نذر شخص عند الحنابلة أن يلبس ثوبا، أو أن يذهب إلى سوق، أو أن يدخل دارا، أو أن يبقى في مكان مدة، أو نحوه، فيقولون في مثل هذه: حكمها حكم النوع الثاني، فيخير بين أن يفعل ما نذر وليس عليه شيء، أو أن يكفر كفارة يمين.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (الرَّابِعُ: نَذْرُ مَكْرُوهٍ كَطَلَاقٍ وَنَحْوِهِ فَالتَّكْفِيرُ أَوْلَى)}.
(نَذْرُ مَكْرُوهٍ) يعني نذر الإنسان أن يفعل فعلا مكروها، كما لو نذر أن يُطلق، نسأل الله السلامة والعافية، فالطلاق مكروه، ولا ينبغي للإنسان أن يفعله، وبناء على ذلك قالوا: إن التكفير فيه أولى، ولكن لو فعل المنذور فليس عليه شيء في ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (الْخَامِسُ: نَذَرُ مَعْصِيَةٍ، كَشُرْبِ خَمْرٍ، فَيَحْرُمُ الْوَفَاءُ وَيَجِبُ التَّكْفِيرُ)}.
لأن النبي قال: «ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ وعليه كفارة يمين»[6]، ولأجل ذلك قال الحنابلة: إن من نذر معصية فإنه لا يجوز له أن يفي، لا يجوز له أن يفعل المنذور به فيعصي الله -جل وعلا-، ثم بعد ذلك عليه كفارة يمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (السَّادِسُ: نَذَرُ تَبَرُّرٍ، كَصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَاعْتِكَافٍ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ مُطْلَقًا، أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، كَإنْ شَفَا اللَّهُ مَرِيضِي فَلِلَّهِ عَلِيَّ كَذَا فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ)}.
هذا نذر الطاعة، وهو نذر التبرر يعني: من البر، قال: (كَصَلَاةٍ) فلو نذر أن يصلي كل ليلة خمس ركعات، أو أن يصلي في كل نهار ثلاث تسليمات، أو غير ذلك، أو أن يتصدق كل شهر بألف ريال، أو غير ذلك من الأمور، أو أن يعلق ذلك في حال من الأحوال بنجاح ولده، أو رجوع غائبه، أو شفاء مريضه، أو نحوها، فيقولون: ما دام أنه قصد بذلك الطاعة، سواء كان على سبيل الإطلاق كما لو قلنا: نذرت أن نصلي كل يوم ثلاث تسليمات، أو كان ذلك على سبيل التعليق، فيجب الوفاء بالنذر في تلك الأحوال كلها، وليس عليه إلا ذاك، ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ وامتدح الله أولئك بذاك، ولكن هنا لو لم يفعل ذلك المندوب فيقولون: يلزمه، ولكن لو عجز عنه في مثل هذه الأحوال فإن كفارته كفارة يمين، وإلا فالأصل أنه يجب عليه الوفاء به؛ لأنه ألزم نفسه، والنذر مشروع، فتعلق به حكم المندوب وهو الوجوب، فوجب عليه الإيفاء به في تلك الأحوال كلها.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مَالِهِ أَجْزَأهُ ثُلُثُهُ، أَوْ صَوْمَ شَهْرٍ وَنَحْوَهُ: لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، لَا إِنْ نَذَرَ أَيَّامًا مَعْدُودَةً)}.
قال: (وَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مَالِهِ أَجْزَأهُ ثُلُثُهُ)، لأنه جاء في حديث مسلم، في الرجل الذي نذر أن يتصدق بكل ماله، وله ستة أعبد، فقال النبي : «أعتق عبدين وأبق الباقي» فكان فعل الثلث كاف في حصول الوفاء بذلك النذر.
قال: (أَوْ صَوْمَ شَهْرٍ وَنَحْوَهُ) فمن نذر أن يصوم شهرا لله -جل وعلا-، فيقولون: الشهر يتتابع، وبناء على ذلك عليه التتابع، بخلاف ما إذا قال: نذرت لله أنه أصوم عشرة أيام، أو حتى لو قال: نذرت لله أن أصوم ثلاثين يوما، فهذه الأيام تصدق على أيام متتابعة ومتتالية وأيام متفرقة، وأما الشهر اسم من من أول الهلال إلى آخره، أو من منتصفه متتابعا إلى منتصف الشهر الذي يليه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَحَرُمَ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ)}.
هذا خارج عن النذر، وهو الوعد الذي هو التزام بدون ما تأكيد النذر ونحوه مما يتحقق الوجوب، هل يجب على الإنسان الوفاء بالنذر أو لا؟ فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أن ذلك مستحب ومسنون، فلو وعد شخص أخاه أو وعد جاره، أو وعد صديقه أن يعطيه من المال كذا وكذا، أو أن يأتيه في يوم كذا، أو أن يعينه في زواج، أو نحو ذلك من الأمور، فيستحب له ذلك، ولكن لا يجب، لماذا لا يجب؟
لأنَّ هذا أكثر ما فيه أنه وعد، والوعد لم يتأتَّ فما دام أنه لم يحصل فلا يكون لازما، فإذا كانت الهبة التي يكون قد عقدها الإنسان، كأن يقول: وهبتك كذا، إنها لا تلزم إلا أن يُقبضه الموهوب، فمن باب أولى أن يكون في ذلك عدم لزوم للوفاء بالوعد، وهذا هو مشهور المذهب كما هو قول الجمهور خلافا للمالكية الذين يقولون: يجب الوفاء به، ولكن يقول المؤلف: (وَحَرُمَ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ)، يعني: ما يجوز للإنسان أن يعد بدون أن يقول: إن شاء الله؛ لأنَّ هذا منهي عنه في كتاب الله -جل وعلا-، ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (22) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكف:22-23]، فإذا منهي عن أن تقول شيئا تُعلقه على مستقبل، إلا أن تقرنه بالمشيئة، فدل ذلك على أن هذا هو الواجب، وأن فعل ما سوى ذلك داخل في المنهي، محصل للحرمة، واقع في التبعة.
أظن أنه لم يبق وقت حتى ندخل في القضاء، وفيما ذكرنا -إن شاء الله- كفاية، وعلينا أن نتعجل أكثر في الدروس القادمة.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزاكم الله خير شيخنا ونفع بكم، وزادكم من فضله، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام، على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[1] متفق عليه.
[2] رواه أبو داود (3251) والترمذي (1535).
[3] رواه البخاري (2679)، ومسلم (1646)
[4] رواه مسلم (1650).
[5] أخرجه البخاري (6694)، ومسلم (1640).
[6] أخرجه البخاري (6696).
 

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك