الدرس التاسع عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7528 33
الدرس التاسع عشر

أخصر المختصرات 4

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله، وحيا الله المشاهدين.
{نستأذنكم أن نستكمل ما توقنا عنده}.
نعم. استعن بالله.
{قال -رحمه الله-: (وَسُنَّ لَهَا إِشْهَادٌ، وَتَحْصُلُ بِوَطْئِهَا مُطْلَقًا، وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ فِي غَيْرِ قَسْمٍ، وَتَصِحُّ بَعْدَ طُهْرٍ مِنْ حَيْضَةٍ ثَالِثَةٍ قَبْلَ غُسْلٍ، وَتَعُودُ بَعْدَ عِدَّةٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، وأن يبلغنا الخير والهدى، وأن يعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظنا ويحفظ المسلمين.
لا يزال الحديث موصولا في فصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في أحكام الرجعة، وذكرنا أحكام الرجعة وأنها متعلقة بمدخول بها، وذكرنا ما يتعلق بالدخول، ومتى يحكم بالدخول؟ ومتى لا يحكم به؟ وذكرنا أيضا عدد التطليقات التي تكون فيها رجعة، وهي: الطلقة والطلقتان دون الثلاث، فالثلاث لا رجعة بعدها إلا بعقد ونكاح من زوج آخر على ما سيأتي بيانه.
وأيضا بشرط ألا يكون فيها عوض، يعني: ألا يكون فيها خلع ومعاوضة، فإن الخلع والمعاوضة تمنع الرجعة والمراجعة.
وبعد ذلك بين المؤلف لمن الرجعة؟ فالرجعة يستحقها الزوج، وهو الذي يملكها، ولا يحتاج فيها إلى رضا زوجته ولا مشاورتها، وكذلك ولي المجنون، فولي المجنون يقوم مقام المجنون في إرجاع زوجته لو حصل تطليق.
وبناء على ذلك لكل واحد منهما أن يراجع الزوجة بدون رضاها بالشروط المتقدمة ما دامت في العدة.
قال: (وَسُنَّ لَهَا إِشْهَادٌ)؛ لأنَّ هذا هو الذي جاء في قول الله -جل وعلا-: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [الطلاق:2]، ولئلا يدعي الرجعة من لم يعملها، فيفضي ذلك إلى شيء من اللبس، هل حصل ذلك منه أو لا؟!
والإشهاد عند الرجعة في الطلاق سنة عند الفقهاء ولذلك قال المؤلف: (وَسُنَّ لَهَا إِشْهَادٌ). كيف كانت سنة مع أن الله -جل وعلا- قال: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ وهذا أمر، والأصل في الأوامر أنها دالة على الوجوب، إلا ما دل الدليل على غير ذلك، أو صرفه صارف ككونها تأديبًا، أو جاءت بعد حظر، أو نحو ذلك. فقال أهل العلم: إن الطلاق وهو أعظم ما يجب فيه الإشهاد، فكذلك الرجعة فيه لا يكون الإشهاد فيها واجبا.
قال: (وَتَحْصُلُ بِوَطْئِهَا مُطْلَقًا) هذا انتقالٌ من المؤلف -رحمه الله تعالى- لِمَا تحصل به الرجعة، فعندنا شيء لا إشكال فيه أو متفق عليه، كأنه مَرَّ عليه مرورًا، وذكر الثاني وهو محل الاختلاف، فأما الذي لا اختلاف فيه عند أهل العلم -رحمهم الله تعالى- فهو الرجعة بالقول، وهذا هو الأصل، كأن يقول: راجعتها، أو أمسكتها، أو أعدتها إلى الزوجية، ونحو ذلك، ولذا يقولون: إنَّ أصل ذلك لفظ الرجعة وما تفرع منه، وما يدل عليه، وبذلك يكون قد راجعها.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- هل تحصل الرجعة بالفعل؟ هذا هو محل الخلاف بين الفقهاء، فأشار إلى ما استقر عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- فقال: (وَتَحْصُلُ بِوَطْئِهَا مُطْلَقًا)، وهو خلاف قول جماهير أهل العلم، وخلاف قول الأئمة الثلاثة، ولذلك كانت هذه من مفردات الحنابلة. فالحنابلة يقولون: إن الرجعة يقصد منها إعادة المرأة إلى زوجها، والنكاح والزواج يُطلب في مقصوده الأعظم، إن لم يكن مقصوده الأوحد، الذي هو الاستمتاع، فإذا كان القول بالوصول إلى الاستمتاع، أو المعاشرة، أو المضاجعة ونحو ذلك، فما يحصل بالوطء من باب أولى أن يكون قد حصل به ما حصل بالقول وزيادة.
وهذا مسلك الحنابلة -رحمهم الله تعالى-، ولكن الفقهاء يقولون: هذه بمثابة العقود، ولا بد فيها من النطق، ويتعلق بها أحكام، ولأجل ذلك لا بد من المراجعة، ولأن هذا الوطء يمكن أن يحصل على وجه الزوجية، ويمكن أن يحصل على وجه الفجور والمجون والفسوق ونحو ذلك، ولا يَفرق في هذا إلا أن يكون قد صرح وأراد.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد توسط بين القولين، فقال: الوطء بنيته يكون رجعة وإلا فلا، ولكن لا شك أنَّ المراجع ينبغي له أن يُعنى باللفظ؛ لأنَّ ذلك أحوط وأمنع من الوقوع في خلاف الفقهاء، وأيضا أمنع من النزاع بين الزوجين، لأنه قد يقال: هو راجعها، أو هو ما راجعها، فإذا صرح بالرجعة، وسواء أسمعها به وهو أحسن، أو قال ذلك ولفظ به، وتمام هذا كما قلنا: بالإشهاد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ فِي غَيْرِ قَسْمٍ)}.
هنا مسألة مهمة، وهي أن المرأة لا تخلو من أحوال ثلاثة:
إما أن تكون زوجة، لها أحكام الزوجات مكتملة من: قَسْمٍ ونفقةٍ وكسوةٍ وإحسانٍ ونحو ذلك، وهذه بعد عقد الزواج إذا دخل بها زوجها.
وإما أن تكون منبتة لا علاقة لها بالزوجية، فلا تعلق ولا حكم في ذلك، وهو أن تكون بعد انتهاء العدة.
وأمَّا إذا طلقها ولم تنته عدتها، فلا هي مزوجة من جهة أحكام الزواج المطلقة، ولا هي مطلقة.
إذًا ما الذي يتعلق بها من أحكام النكاح، وما الذي يتعلق بها من أحكام الطلاق؟ المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: (وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ) يعني: لو مات زوجها لورثته، ولو ماتت هي لورثها زوجها، وأنها تبقى في بيت الزوجية، وأنها لا تحرم على زوجها، وأنها تنتقل معه لو انتقل، فيكون محرما لها، غير أنه بالطلاق لا يبقى لها حكم قَسْمٍ، وبالتالي لا يقسم لها كما يقسم لسائر زوجاته، ولا يجب عليه أن يبيت في مسكنها وقت عدتها، فهذا هو الذي تَفرق به الرجعية عن الزوجة، وإلا فسائر أحكام النكاح لا زالت. لماذا؟ لأن العدة حقيقتها أنها وقت تابع للنكاح وحرم له، أي: بمثابة الحرم، لعظم عقد النكاح، وما يتعلق به، ولا تزال المرأة لها تعلقات به حتى تنتهي عدتها، تعظيما لهذا العقد ولما يترتب عليه.
ولأجل ذلك في وقت العدة هي من جهة: زوجة لها أحكام الزوجات، ومن جهة أخرى: لا يجب لها قسم، ولا يتعلق بالزوج لزوم ذلك وفعله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَصِحُّ بَعْدَ طُهْرٍ مِنْ حَيْضَةٍ ثَالِثَةٍ قَبْلَ غُسْلٍ، وَتَعُودُ بَعْدَ عِدَّةٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا)}.
قال: (وَتَصِحُّ بَعْدَ طُهْرٍ مِنْ حَيْضَةٍ ثَالِثَةٍ قَبْلَ غُسْلٍ). العدة سيأتي تفاصيلها، وثم عدد لا إشكال فيها أنها تنتهي بانتهاء وقتها، تبقى العدة التي هي بالحيض، فإنها إذا انتهت الحيضة الثالثة وطهرت منها، فإن عدتها تنتهي، ولذا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لو أنه راجعها قبل طهرها ببرهة أو بثانية، فلا بأس، ورجعته صحيحة، وهي زوجته، وعادت إلى ما كانت عليه.
لو راجعها بعد أن اغتسلت وانتهت فلا زوجية بينهما؛ لأن عدتها قد انتهت. طيب لو كان بعد طهرها من حيضتها الثالثة، لأنَّ العدة ثلاثة قروء، فبعد الحيضة الثالثة يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: من جهة الأصل حكم العدة قد انتهى، ومع ذلك يقول فقهاء الحنابلة: ما دام أنها لم تغتسل، فكأن هذا الوقت تبع لحال العدة، أو لحال الحيض، ولأجل ذلك لو راجعها في هذه المدة فإنها تعود، وهذا الاستحسان من الحنابلة -رحمهم الله تعالى- اعتبارا بما جاء عن الصحابة؛ لأنَّ هذا الوقت وإن كان في حقيقته أنه طهر وانتهى القرء، إلا أنه في النظر تابع له وفي حكمه؛ لأنه لا يصح لها أن تتعاطى شيئا حتى تغتسل، فكذلك قالوا: لها حكم الحيضة، فإذا راجعها ارتجعت.
وبناء على هذا القول: لو أنها أخرت الغسل يومًا أو يومين أو ثلاثة يقولون: يبقى الحكم في ذلك كذلك، حتى ولو تأخرت شهرًا، نقولك حتى ولو تأخرت شهرًا.
طبعا هي آثمة؛ لأن ذلك يترتب عليه تضيع صلواتها، وعدم قيامها بما أوجب الله عليها، من صيام ومن سواه، ولكن من جهة النظر هذا وقت تابع للحيضة، هي حاضت ولَمَّا تغتسل بعد، فقالوا: ما دام أنها لم تغتسل فكأن الحيضة باقية، وإن ذهبت حقيقتها، ولكن بقي حكمها على ما قضى بذلك الخلفاء والصحابة. قالوا: والحنابلة يعتبرون قول الصحابة ويسيرون إليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَتَعُودُ بَعْدَ عِدَّةٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا)}.
هذه إذا مسألة أخرى مهمة، وهي إذا انتهت العدة انتهت الرجعة وانتهت الزوجية، فهذه المرأة عنه أجنبية، تتعرض للخُطَّاب وتتزوج، وتكون في حكم نفسها.
طيب لو أراد أن يراجعها نقول: ليس لك أن تراجعها ولكن لك أن تتزوجها ما دام أن الطلاق رجعيًا، بأن تكون طلقة أو طلقتين فلك أن تتزوجها.
وأما بعد انتهاء العدة، لو مالت نفسه إليها فعليه أن يذهب إلى وليها من أب أو أخ أو ابن أو جد حسب الترتيب على ما تقدم، ثم يخطبها. فإذا رغبوا فيه عقدوا عقدا جديدا بالشروط المكتملة، فيطلب في ذلك ما يطلب من ولي، ومن إيجاب وقبول، ومن شهود، ومن خلو من الموانع، وأيضا مكملات العقد من مهر وغيره.
فإذا أراد ووافقوا فله ذلك؛ لأنَّ هذه المرأة بالنسبة إليه أجنبية، ولكنها ليست مبتوتة بالثلاث، فلا يحتاج إلى أن يُشترط تزوجها من آخر، وهذا يذكرنا بما ذكرناه من قبل، أنه لا حاجة للإنسان أن يطلق ثلاثا مجموعة؛ لأنَّ هذا يُفوت عليه لو رجعت نفسه، أو لو نظر فيما يصلحه، أن عوده إلى زوجته أتم، فإن هذا لا يقطع العودة، فهو في زمن العدة، وله أن يراجعها وحقه ولا يشترط رضاها، ولا يتعلق به أي حكم من الأحكام، وإنما يتوقف على أن يقول: راجعتك، أو ارتجعتك، أو رددتك، أو أمسكتك أو أن يطأها عند الحنابلة، على ما تقدم بيانه.
بعد العقد أيضا لم ينته، له إمكان الرجوع إليها ولكن بشرطه، وهو أن يكون بعقد جديد، ورضاها، وما يتعلق بالولي والشهود، ومكملات العقد من إيجاب وقبول ومهر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، وَأَمْكَنَ قُبِلَ لَا فِي شَهْرٍ بِحَيْضٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ)}.
هذه إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن العدة من قبل المرأة، فالمرأة مصدقة في ذلك، فإذا قالت انتهت عدتي في ثلاثة أشهر ونصف، بعض النساء ربما تباعدت عادتها، العادة ثلاثة أشهر، وكل شهر هناك حيضة، وربما تكون طلقت في أول الطهر، وبالتالي فستبقى إلى أن تحيض، هذا الآن مضى شهر، ثم طهر مع حيض شهر، ثم طهر مع حيضة شهر، فهي ثلاثة أشهر وشيء، أحيانا تكون أقل أو أكثر.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا أخبرت بانقضاء عدتها قُبِلَ، ولكن هنا يقول: (وَمَنْ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا، وَأَمْكَنَ قُبِلَ لَا فِي شَهْرٍ بِحَيْضٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ) لأن أقل مدة إن تدعي انتهاء عدتها في شهر، وهذا طبعا نادر جدا، يعني: كأن تكون المرأة يحيض يوما بليلة، ثم تبقى أقل الطهر، وهو ثلاثة عشر يوما بلياليها، أو خمسة عشر يوما على القول الآخر، فهنا تحيض يومًا وليلة، ثم ثلاثة عشر يوما، فهذه أربعة عشر، ثم تحيض يوم وليلة، هذه أربعة عشر، ثم تبقى ثلاثة عشر ليال بأيامها طاهرا، فهذه سبعة وعشرين، ثم يوم وليلة تحيض وتطهر هذه ثمانية وعشرين، فعلى كل حال قالوا: إذا هذا يمكن، وأصل ذلك أنه وقع في زمن علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، لَمَّا ادعت انقضاء. قال: إن جئت ببينة من أهلك قبلنا؛ لأن هذا أمر مستغرب، فجاءت ببينة فقبل ذلك منها.
إذا من حيث الأصل المرأة مؤتمنة على عدتها، ويقبل منها ما كان ذلك معتادًا، وإن كان في أقل من شهر لم يقبل؛ لأنه لا يتصور، وإن كان ذلك في شهر قُبِلَ ذلك بقيده، وهو وجود بينة لِمَا جاء عن علي -رضي الله تعالى عنه-، وهو الذي مشى عليه فقهاء الحنابلة اتباعًا لِمَا جاء عن الصحابة -رضوان الله عليهم وأرضاهم-.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِنْ طَلَّقَ حُرٌّ ثَلَاثًا أَوْ عَبْدٌ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يَطَأَهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ فِي قُبُلٍ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ مَعَ انْتِشَارٍ، وَيَكْفِي تَغْيِيبُ حَشَفَةٍ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ أَوْ يَبْلُغْ عَشْرًا، لَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ إِحْرَامٍ أَوْ صَوْمِ فَرْضٍ أَوْ رَدَّةٍ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ طَلَّقَ حُرٌّ ثَلَاثًا) هذا إذا في الطلاق البائن، وما الذي يترتب عليه؟ وكيف للرجل أن يرجع إلى زوجة قد طلقها طلاقا بائنا.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَإِنْ طَلَّقَ حُرٌّ ثَلَاثًا أَوْ عَبْدٌ اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يَطَأَهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ)، وهذا نص قول الله -جل وعلا-: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:229]. ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة:230]، وقصة عبد الرحمن بن الزبير أيضا مشهورة، لما تزوجته بعد زوجها، ولكن كان فيه ضعف. يا رسول الله إنما معه مثل هدبة الثوب. يعني: فكأنها أبغضته أو أرادت الرجوع إلى زوجها والخلوص من هذا العام. فقال النبي : «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . والمرأة تصدق في ذلك، ولذلك لا بد من التأكد هل جامعها أو لم يجامعها، أو كذا.
ولذلك جاء في بعض روايات عبد الرحمن بن الزبير أنه قال: "إنِّي لَأَنفُضها نَفْضَ الأَديمِ" ، فعلى كل حال هذ أمور لها مجراها عند القضاء في التصديق، وما يكون من التناقض والتضاد، ولكن من حيث الأصل أن من طلقت ثلاثا لا تحل لزوجها إلا بعد أن تنكح زوجًا آخر، وأن يكون منه دخول، وأن يكون فيه معاشرة بشهوة، وأن يكون فيه انتشار، وتغييب للحشفة ونحو ذلك.
فإذا كان فهي المرأة تبين من الحر بثلاث تطليقات، ومن العبد بتطليقتين، فمن كان هذا حاله من عبد أو حر، اشترط له إلى هذه المرأة أن تنكح زوجا غيره، وأن يطأها في ذلك الزواج، ثم يكون بعد ذلك عقد جديد مكتمل فيه الشروط من رضا الزوجة مع رضاه، وذلك من الشروط المتقدمة معنا على نحو ما قلنا وأشرنا إليه قبل قليل.
ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ)؛ لأنَّ النكاح الفاسد والباطل لا اعتبار به في ذلك، (مَعَ انْتِشَارٍ) يعني: أن يتعظ الرجل. لأن أن قال: لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
(وَيَكْفِي تَغْيِيبُ حَشَفَةٍ) ويتحقق ذلك بتغييب الحشفة. وهي رأس الذكاء سميت بذلك لأنها كحشا في التمر من جهة شكلها.
قال: (وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ أَوْ يَبْلُغْ عَشْرًا). يعني: فإذا اتعظ وأدخل فقد حصلت المعاشرة، وقد حصل بذلك المباشرة، وفي هذا من الشارع أولا لمنع التحايل، ولذلك لعن المحلل والمحلل له.
والثاني: أن المرأة إذا تزوجت آخر يكون نكاح رغبة، ولذلك لابد من المعاشرة الذي هو حقيقة النكاح؛ ولأن أيضًا ما قد يقع في قلب كل واحد منهما، أو في قلب المرأة من شوقها إلى الزوج الأول يمنعه تمتعت بزوجها الثاني، فربما كان أنس لها وربما حصل بذلك من الزوجية لأن إفضاء الرجل إلى امرأته ومعاشرته لها ليس بالضرورة أن يكون نهايته هي المتعة التي يجدها من أثر الجماع. لكن الجماع يكون له أثر في قرب النفوس وائتلافها. ولأجل ذلك كان هذا هو المحن. فإذا حصل شيء من هذا ولم تستمر معه ولم يبقيا مع بعض. كان لها أن ترجع إلى زوجها الأول. قال ولو لم ينزل الإمتاع أو لأن الإيلاج كاف في حصول الجماع وتعلق أحكامه، ولذلك قال النبي : «إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» .
قال: (أَوْ يَبْلُغْ عَشْرًا). يعني: حتى كان هذا الزوج الثاني لم يبلغ عشر سنين. ما دام أنه يمكن منه الانتصاب، والصغير الذي في هذا العمر يمكن أن يكون منه ذلك، هو لا ينزل وإلا لو أنزل لكان بالغًا، ولكنه يحصل منه إمكان المعاشرة، ويكون منه للمرأة إمتاع في تلك الحال.
قال: (لَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ إِحْرَامٍ أَوْ صَوْمِ فَرْضٍ أَوْ رَدَّةٍ) هذه أحوال يحكم بها الحنابلة -رحمهم الله تعالى- بأن الجماع وقع في حال محرمة، والحنابلة يقولون: ما دام أنه وقع في حال محرمة فلا اعتبار به، ولا يترتب عليه حكم، أي: لا لهذا الجماع أثر، ولأجل ذلك لم تستفد منه المرأة فيما لو طلقها أن يكون ذلك كاف في رجوعها إلى زوجها الأول؛ لأن هذا محرم لحق الله -جل وعلا-، فلم ترتب عليه الآثار التي تحل لها نكاح زوجها الأول، والرجوع إلى ما كانت عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَصلٌ. وَالإِيلَاءُ حَرَامٌ، وَهُوَ حَلِفُ زَوْجٍ عَاقِلٍ يُمْكِنُهُ الوَطْءُ، بِاللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمُمْكِنِ فِي قُبُلٍ أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا أَوْ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)}.
هذا الفصل عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في التالي:
أولا: ما يمكن أن يفضي إلى طلاق أو فرقة فهو باب إلى الفرقة، أو يدخل في فرق النكاح.
ثانيا: أن فيه تعلق بإمكان فسخ الحاكم عليه، ولأجل ذلك إذا لم يرجع ولم يطلق، فذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- هنا.
وحقيقة الإيلاء من الألية وهي اليمين، ولأجل ذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ [النور:22]. يعني: لا يحلف أن يؤتوا أولى القربى والمساكين، هذه نزلت في أبي بكر في القصة المشهورة. الإيلاء من الآلية وهو الحلف.
ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَهُوَ حَلِفُ زَوْجٍ)، فلو أنَّ شخصا أراد الإضرار بزوجته وقال: والله لا جامعتك خمسة أشهر، سواء كان ذلك بسبب صحيح أو غير صحيح، يعني: لو كانت تتمنع منه وتتثاقل إليه، فقال: والله لا جامعتك ستة أشهر، فنقول: تثاقلها أو تمنعها هو نشوز منها، وله ما يجب من حق الله -جل وعلا- من وعظ لها ثم هجر ثم ضرب، ولكن لا يجوز لك أن تقابله بفعل ما يحرم عليه، وهو الحلف على ترك جماعها أكثر من أربعة أشهر.
ولذلك قال: (وَهُوَ حَلِفُ زَوْجٍ عَاقِلٍ)، فلا بد أن يكون عاقلا لأن المجنون لا تنعقد يمينه.
(يُمْكِنُهُ الوَطْءُ)؛ لأنه إذا لم يمكنه الوطء، كما لو كان شيخا هرما، أو كان مقطوع الذكر، فوجود هذه اليمين كعدمها؛ لأنه لا يحصل منه وطء بكل حال، فهو ممنوع منه، أو غير قادر عليه حسا، فلا تعلق بذلك.
وممكن أن يكون هذا مخرجًا لبعض من ابتلي مثلا، كأن يكون هرمًا لا يستطيع إتيان زوجته، وإذا سئل يقول: أنا حلفت ألا أجامعها، يغطي على نفسه ما كان فيه من ضعف، أو لو كان كذلك مقطوع الذكر ونحوه.
قال: (بِاللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ) إذا اليمين المعتبرة هي اليمين بالله، فلو حلف الإنسان بشرف أو بأمانة أو بغير الله، حتى ولو حلف بالنبي ، فإنَّ كل حلف بغير الله غير منعقدة، وهي ممنوعة شرعًا، وآثم صاحبها، غير متعلق بها حكم، «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ؛ لأن الحلف تعظيم لله، والمؤمن لا يجب عليه أن يحلف تعظيما وتقديرا إلا بالله -جل وعلا-، فلو حلف بغيره فكأنه صرف شيئا مما أمر أن يحصره في الله أو أن يخص به الله -جل وعلا-، وهو الحلف بالله أو بصفة من صفاته.
فإذا قال: والله، أو والرحمن، أو علم الله جامعتك فهذا حلف، (بِاللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ) وبناء على ذلك تنعقد اليمين.
قال: (عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ)، وأما إذا حلف على ترك وطء مملوكة له فلا، لأن المملوكة تملك للاستخدام كما تملك أيضا للاستمتاع، ويمكن أن تستمتع هي بأن تزوج أو نحو ذلك، وبناء على ذلك لا بد أن يكون الإيلاء على زوجة. هذه هي الشروط.
(عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمُمْكِنِ فِي قُبُلٍ أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا أَوْ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) وأن تكون الزوجة ممكن جماعها، فإذا لم يمكن جماعها كذلك كما لو كانت من سدة الفرج أو نحو ذلك أو فيها نضع خلقة لا تحتمل الجماع ولا الرجل فلا، لأن عدم الوطء حاصل دون ذلك.
(أَبَدًا أَوْ مُطْلَقًا أَوْ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) إما أن يكون قد حلف على ترك الجماع أبدا أو مطلقا فلم يحدث، أو زاد على أربعة أشهر، وبناء على ذلك لو أن شخصا حلف على أن يترك جماعها شهرا فلا يعتبر هذا إيلاء تتعلق به هذه الأحكام التي سيذكرها الفقهاء، هو حلف على ترك الوطء، ولكنه لم يدخل في وصف الإيلاء الشرعي الذي رتب الشارع عليه أحكاما تخصه.
وكذلك لو ترك جماعها بمواعدة، فقال: أنا لن أجامعك أربعة أشهر، وهذا من جهة الإيلاء لم يكن منه إيلاء، وسيأتي في كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- متى يمكن أن تلحق هذه المسألة بالإيلاء، على ما سيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-.
هذه هي الشروط والقيود التي ذكرها الفقهاء في متى يكون إيلاء.
وقبل أن ننتقل إلى الأحكام المترتبة على الإيلاء، لابد من العلم بأن هذا فعل محرم، فإن الله -عز وجل- قال: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:226-227]، إذا قد بين الله -جل جلاله- في كتابه أنه إن رجع فالله غفور رحيم، ومعنى ذلك: أن هذا فعل محرم، هذا من جهة.
من جهة ثانية أن هذا يخالف ما جاء به الشرع من الإحسان إلى الزوجة ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾، وأعظم ما يكون من المعروف إعفاف زوجته، وأداء حقها، ولأن الحلف على ترك وطئها يحصل لها بذلك إيذاء من جهة، وهو فوات إمتاعها وقضاء وطرها، والإحسان إليها في ذلك، وأيضًا فيه أذية، فإن المرأة التي يرغب عنها، معنى ذلك أن فيها نقص، فكأنه أذاها بحلفه بذلك؛ لأنه ما رغب عنها إلا لنقص فيها، أو أنها لا تستثيره، أو أنه لا يميل إليها، وهذا فيه إيذاء لها من الجهتين؛ لأن مقصود النكاح الأعظم هو الاستمتاع وقضاء الوطر والإعفاف، وأيضا ما يكون من إيذاء نفسها بظهور عدم رغبة الزوج في زوجته، ولأجل ذلك قال الفقهاء: إن ذلك محرم، ويلحق الزوجة إثمه ومعصيته.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَمَتَى مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَمِينِهِ لَمْ يُجَامِعْ فِيهَا بِلَا عُذْرٍ أُمِرَ بِهِ، فَإِنْ أَبَى أُمِرَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ امْتَنَعَ طَلَّقَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ)}.
قال: (فَمَتَى مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَمِينِهِ) إذًا هذا الملي من جهة التكليف حكمنا أنه فاعل للإثم، عاص لله -جل وعلا-، مقصر في حق الزوجة، معرضها للإيذاء، فما الذي يترتب على ذلك؟ ننتظر أربعة أشهر، فإن رجع وجامع زوجته، وأدى حقها، ففي هذه الحال هو على رجوعه، وكما قال الله -جل وعلا-: ﴿فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
ولكن إن لم يفعل أو بقي على ما حلف عليه من الامتناع عن جماعها، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: إذا لم يجامع فلا يخل الحال إمَّا أن يكون بعذر، وإما أن يكون بغير عذر، فإذا كان بعذر كما لو كان مسجونا، أو لو عرضت له وعكة وعلة ومرض؛ فهنا لا إشكال لأنه امتنع لأجل ما لحق به من العلة، لا ما كان فيه من المضايقة والإضرار.
وأما إن كان بدون عذر ولم يرجع، فعند ذلك كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:227]، إذا يؤمر بالفيئة والرجوع، وهذا هو الأصل لاستقامة الزوجية، وبقاء عقد النكاح وحصول أثاره، وما أمر الله -جل وعلا- من إحسان الزوجين كل إلى صاحبه.
ولكن إذا لم يرجع فإننا لا الإساءة والأضرار بالزوجة. ولذلك قال: (فَإِنْ أَبَى أُمِرَ بِالطَّلَاقِ)، وهذا هو قول الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:227]، ولكن أن تترك كذلك فلا، وهذا من فعل أهل الجاهلية. إضرارًا بالنساء وحبسًا لهن.
وبناء على ذلك نقول: لا بد أن يطلق، فإذا طلق فالحمد لله، وكل يذهب إلى سبيله، وكل يغنيه الله -جل وعلا- من فضله.
وكم من امرأة كرهت الطلاق ودفعته، وتحملت في نكاحها ما تحملت، من مغبة الطلاق والفراق وما يتبعه، فجعل الله -جل وعلا- لها من الفرج، وجعل الله -جل وعلا- لها من السعة، وآنس الله قلبها وعوضها، خاصة إذا كانت على خير وهدى، وأدت حق الله -جل وعلا- على وجهه الأتم، وراعت حق زوجها إبان الزوجية، ولم يكن منها إخلالا ظاهرا أو تركًا مقصودًا، فمن كان هذا حاله، فإن الله يعوضه، ولسنا بهذا نسهل طلب الطلاق أو السعي إليه، ولكن من حصل عليها الطلاق بعد أن استنفذت وسعها في الإبقاء على زوجيتها، فهي على خير فيما كتب الله -جل وعلا- لها ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ﴾ [النساء:130]، وإذا كان الطلاق من جهتها أو أنها استدعت ذلك، أو كان على توافق منهما بعد أن تعثرت حياتهما ولم تستقم. فكذلك، لكن لا ينبغي لواحد من الزوجين أن يسرع إلى الطلاق، ولا أن يرغب عن النكاح، ولا أن يفرط فيما أفاء الله عليه من النعمة، ولا أعطاه الله -جل وعلا- من الرحمة.
ولكن لو أبى الطلاق وأبى الرجعة، فلا هو الذي تركها فتنظر يكتب الله -جل وعلا- لها، ولا هو الذي أمسكها بما أمر الله من المعروف والإحسان والعفاف وقضاء الوطر.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَإِنْ امْتَنَعَ طَلَّقَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ)، فالحاكم والذي يقوم بذلك سواء كان قاضيا أو من توكل إليه هذه المهام يعطى هذه الصلاحية من السلطان والإمام الأعظم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَجِبُ بِوَطْئِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَتَارِكُ الوَطْءِ ضِرَارًا بِلَا عُذْرٍ كَمُوْلٍ)}.
لَمَّا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (فَمَتَى مَضَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَمِينِهِ لَمْ يُجَامِعْ فِيهَا بِلَا عُذْرٍ أُمِرَ بِهِ) وفي هذا إشارة إلى حساب المدة، وحساب المدة معلوم، ولأجل ذلك ليس محلا للخلاف، وبالتالي لا يحتاج إلى حكم حاكم، ومتى ما حلف حسبنا عليه المدة، فإذا مضت الأربعة أشهر تعلقت به الأحكام المتقدمة.
قال: (وَيَجِبُ بِوَطْئِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) إذا وطأ فقد فعل ما حلف على تركه، والنبي كما في الصحيح قال: «مَن حَلَفَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ» . هذا كفارة اليمين التي عقدها وحنث فيها.
وكما قلنا قوله: (وَيَجِبُ بِوَطْئِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) لا يعني أنه ينهى الإنسان بل يؤمر بذلك، ولذلك جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة «فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها، فَلْيَأْتِهَا، وَلْيُكَفِّرْ عن يَمِينِهِ».
ثم قال: (وَتَارِكُ الوَطْءِ ضِرَارًا بِلَا عُذْرٍ كَمُوْلٍ) هذا المولى أو من يلحق حكمه بحكم المولى. وهو شخص لم يحلف على ترك وطئها، لكنه في الواقع ترك وطأها وأعرض عنها، وهجرها، وجفاها، وكما قلنا: هذا ليس من أمر اليسير، ولذلك جعله الله -جل وعلا- من أعظم ما تعالج به الناشف. قال: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ [النساء:34].
وبناء على ذلك إذا كانت المدة التي بقيها مدة أربعة أشهر، فإنه يعامل كمولي؛ لأنه وإن لم يكن فيها يمين، لكنه اتفقت فيما حصل من المقصود، فالمقصود من ذلك الإضرار بالزوجة، والمقصود من ذلك فوات حقها، وما جعل الله -جل وعلا- لها من الأنس بزوجها وإعفافه لها.
وبناء على ذلك يكون كذلك.
متى يبدأ في المدة؟ هذا هو محل الإشكال؛ لأن المدة هناك من اليمين، ولكن هنا جرت عادة الناس أنهم يختلفون، منهم من يكون معاشرا لزوجته كل يوم، ومنهم كل يومين، ومنهم كل عشرة أيام، ومنهم من تتباين، مرة كل شهرين، كل أسبوعين، أكثر من ذلك أو أقل، وكلٌ وما أفاء الله إليه، سواء من وجود ما يحفزه ويعينه، أو انتفاء بعض ما يحول بينه وبين زوجه، كسفر أو حبس أو عمل أو غير ذلك.
فعلى كل حال متى يمكن؟ ليس فيه تحديد، ولكن يمكن أن يقال: إنه منذ اشتكت المرأة أو ارتفعت إلى القاضي، لأن ما قبله ليس له حد، فإذا أظهرت شكواها، فيمكن أن يُنظر أربعة أشهر، وبناء على ذلك إذا لم يرجع فهنا يكون موليا، أو أحكامه أحكام المولي، يُلزمه الحاكم إما بالوطء وإما بالطلاق، فإذا أباهما طلق عليه الحاكم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل وَالظِّهَارُ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ)}.
هذا فصل في الظهار وأحكامه، وهذا نزلت به آية في كتاب الله -جل وعلا-، ولقائل أن يقول: ما دام محرم فلما عرض له الفقهاء، وذكروا تفاصيله؛ لأنه كان من طلاق أهل الجاهلية، وكان هذا منهم إيذاء للزوجات، وإضرار بالمرأة، وإرادة منعها أن تتزوج، والرغبة عنها، وعدم الالتفات إليها، فلأجل ذلك كان كبيرة من كبائر الذنوب، فجعله الله -جل وعلا- محرمًا، ورتبت عليه كفارة عظيمة، كما أنزل الله -جل وعلا- في سورة المجادلة: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة:3-4].
إذًا عُلِّقَت عليه هذه الكفارة، فكان قطعًا لِمَا كان يألفه أهل الجاهلية، ومنعًا من إيذاء الزوجات، وما كان من سلوك أهل الظلم والعدوان، والكفر وعباد الأوثان، فهذا هو الظهار المحرم.
ولَمَّا كان بعض ضعاف النفوس ربما فعل ذلك، وربما دعته نفسه إلى أن يتعاطاه، بَيَّنَ الفقهاء التفاصيل الأحكام يدخل في ذلك فيلزمه ما يلزم المظاهر من الوقوع في الإثم، ووجوب التوبة عليه، وما يلزمه في حق زوجته من العود، وفي حق الله -جل وعلا- من الكفارة.
ولأجل ذلك قال: (وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا). إذا حقيقة الظهار هو أن يشبه زوجته التي أحلها الله -جل وعلا- له بمن تحرم عليه، فإذا قال: أنت علي كظهر أمي، فكما أن ظهر أمه محرم عليه ما بقيت السماوات والأرض، ولا يجوز له أن يستمتع بها، ولا بواحدة من محارمه، فكأنه جعل زوجته التي أحلها الله له، كأمه التي حرمها الله عليه، فنقلها عدوانا وظلما مما أحل الله إلى ما حرم الله -جل وعلا-، ولأجل ذلك قالوا: (وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا)، ومثل ذلك لو قال: بدنك علي كظهر أمي، "قُبُلُك" علي كظهر أمي، إلى غير ذلك.
قال: (بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضِهَا)، كذلك لو قال: أنت على رِجل أمي، أو كبطن أمي، وكل ذلك سواء.
ولكن هذا هو اللفظ المشتهر عند أهل الجاهلية، فالفقهاء يذكرونه، ويذكرون ما يمكن أن يقع على حسب وقائع الناس، فيمكن أن يدخل في هذا الاسم، أو في حقيقة الظهار.
قال: (أَوْ بِرَجُلٍ مُطْلَقًا) لو شبهها برجل؛ لأنه من المعلوم أن الرجل لا يحل للرجل استمتاعه به، ولا الفطرة تدعو إلى الميل إليه. فلما كان محرما عليه من كل وجه، فتشبيهها بأي رجل هو تشبيه بمن يحرم الاستمتاع به، فإذا قال: أنت علي كأخيك، أو أنت عليَّ كوالدي، أو أنت عليَّ كفلان أو كجاري، فكله واحد، فإنه شبه بمن تحرم عليه مطلقًا، وبناء على ذلك كل هذه داخلة في الظهار، ويترتب عليها أحكامه التي سيذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- تباعًا.
لذلك قال: (لَا بِشَعْرٍ وَسِنٍّ وَظُفُرٍ وَرِيقٍ وَنَحْوِهَا) هنا لو شبهها بأشياء من متصلة بمن تحرم عليه. فلو قال: أنت عليَّ كشعر أمي، أو أنت عليَّ كظفر أمي، أو كسن أمي، فهو شبهها بمن تحرم عليه.
ولكن المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا فرق في الحكم فقال: لا يكون ظهارا لو شبهها بشعر وسن وظفر وريق من تحرم عليه، فليس من الظهار أن يقول: أنت عليَّ كريق أمي، أو كشعر أمي، أو كسن أمي، أو ظفر أمي. لماذا؟ قالوا: لأن هذه وإن كانت متصلة بمن تحرم عليه لكنها في حكم المنفصل، فالظفر يقص ويقلم، والشعر يقص وينتف، ومثل ذلك الريق، والسن أيضا يقلع، وبناء على ذلك قالوا: لا يكون حكمه حكم الظهار.
{قال -رحمه الله-: (لَا بِشَعْرٍ وَسِنٍّ وَظُفُرٍ وَرِيقٍ وَنَحْوِهَا)}.
إذا لا بشعر وسن وظفر وريق ونحوها كما قلنا: إنه في تشبيهها بهذه الأشياء هو تشبيه وإن كان ظاهره الاتصال، فيُلحق بالأول، إلا أنه لَمَّا كان حقيقته إمكان الانفصال لم يجعلها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- داخلة في حقيقة الظهار ومتعلق أحكامه.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ}.
بارك الله فيكم، وأسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمه الظاهرة والباطنة.
{والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك