الدرس العشرون

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7530 33
الدرس العشرون

أخصر المختصرات 4

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات) يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان.
باسمي واسمكم جميعا نحي فضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا، حياك الله تحية طيبة، وحيا الله طلاب العلم وطالباته.
{نستعين بالله ونكمل ما توقفنا عنده}.
نعم، استعن بالله
{قال -رحمه الله-: (وَإِنْ قَالَتْهُ لِزَوْجِهَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، وَعَلَيْهَا كَفَّارَتُهُ بِوَطْئِهَا مُطَاوَعَةً)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين الصالحين الشاكرين، وأن يغفر لنا أجمعين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
لا يزال الحديث موصولا في (أحكام الظهار)، وقد ذكرنا إطلالة في حكم الظهار من حيث التحريم، وكونه من كبائر الذنوب، وأصله عند أهل الجاهلية، وذكرنا أيضًا كيف ينعقد الظهار؟
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- تشبيهًا لا يتعلق به حكم الظهار لكونه في حكم المنفصل، كما لو شبهها بشعر أو ظفر أو سن، أو ريق.
وبعد ذلك ذكر مسألة فيها شيء من الغرابة فقال: (وَإِنْ قَالَتْهُ لِزَوْجِهَا فَلَيْسَ بِظِهَارٍ)، يعني: لو أنَّ امرأةً قويةً فيها صلف وشدة، قالت لزوجها: "أنت عليَّ كظهر أبي"، أو حتى لو قالت: "أنت عليَّ كظهر أمي"، فهذا لا يعتبر ظهارًا؛ لأنه لا يتصور منها إيقاع الظهار، والذي جاء في أهل الجاهلية، أنَّ الظهار عند الرجل، وهو الذي يتعلق به حكمه، والذي يتوجه إليه، لأنَّ العصمة به، ولأنَّ الاستمتاع من جهته ابتداء، وهذا من حيث الأصل.
فعلى كل حال إذا قلنا: إنه ليس بظهار فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه لم يدخل في منى ما نزل به الحكم وما تعلق به بساط الحال في تلك الفترة التي نزل فيها الوحي على النبي ، ولم يكن معهودا.
قال: (وَعَلَيْهَا كَفَّارَتُهُ بِوَطْئِهَا مُطَاوَعَةً)، هذا مشكل من جهة، فكيف هو ليس بظهار، ثم يجعلون فيه كفارة الظهار، هذا عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى-، ولعل أصله في ذلك أنهم نظروا إلى المسألة من جهتهم، من جهة الظهار فهو لا يتصور إلا من الرجل، وهذا هو الذي عُرِفَ وَأُلِفَ، وكون حصوله من المرأة، فهذا غير متصور أو نادر جدا أو غير معروف، ولأجل ذلك قالوا: إنه لم يدخل في اسم الظهار.
طيب لِمَ ألحقتموه في كفارته؟ هذا في الحقيقة على ما درج عليه الحنابلة، وجود أثر عن عبد الرحمن بن عوف -أظنه أو شيئا من ذلك- أنه حكم في امرأة قالت: "أنت عليَّ كظهر أمي" بأن كفارتها كفارة ظهار، وتعرفون أنَّ الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يصيرون إلى قول الصحابي ويعتبرونه في ذلك حجة فيما يصيرون إليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ)}.
هذا القول فيه إشكال كبير جدا، ولذلك في القول الثاني عند الحنابلة، وقول جماهير أهل العلم، بأنه لا يلزمها كفارة ظهار، وهل يلزمها كفارة يمين؟ من جهة أنه تحريم، والله -جل وعلا- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم:1-2]، فأخذ أهل العلم من هذا أن كل تحريم يكون حكمه حكم كفارة اليمين إذا حنث فيه، أو وقع فيما عاهد على تركه.
ثم قال: (وَيَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ) الصحة هنا بمعنى تَرَتُّب أحكامه عليه، لا من جهة أنه صحيح، أو أنه مأذون فيه، أو أنه مأمور به، لأنه تقدم أنه حرام، ولكن كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: ما الظهار الذي تترتب عليه هذه الأحكام التي سيأتي ذكرها؟ فيقولون: أن يحصل ممن يصح طلاقه، فالصحة هنا المقصود بها وقوعه على وجه تترتب عليه أحكام الظهار.
وبناء على ذلك لا بد أن يكون الزوج عاقلا مميزا، أي: يعقل الطلاق والظهار، وبناء عليه لا ليس بلازم ذلك أن يكون مسلما، بل قد يكون مسلمًا، وقد يكون كافرًا، وقد يكون من حُرًّا، وقد يكون عَبدًا، وقد يكون من جميع الأزواج.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَطْءٌ وَدَوَاعِيهِ قَبْلَ كَفَّارَتِهِ، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)}.
هنا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَطْءٌ وَدَوَاعِيهِ)، أي: يحرم على الْمُظَاهِرِ مِنَ الْمُظَاهَر منها. فإذا ظاهر من زوجته التي هي "سلمى أو عائشة"؛ فإنه لا يجوز له أن يقرب هذه الزوجة، ولا أن يستمتع بها بجماع ولا بمقدماته؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة:3].
إذًا من وقع منه الظهار تعلق به حكم التحريم، فلا يجوز له أن يطأ زوجته، ولا أن يأتي بأي شيء من مقدمات الوطء، سواء كان من قبلة أو مسٍّ، أو ضَمٍّ، أو غير ذلك مما يكون بين الزوجين، مما يكون بين يدي الوطء والمعاشرة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ [المجادلة:3] فإذًا هو قبل العود ممنوع من ذلك كله، وهذا لا يختلف فيه أهل العلم، أنَّ المظاهر يمنع من زوجته، ويحرم عليه وطؤها وقربانها.
ثم قال: (قَبْلَ كَفَّارَتِهِ)، الكفارة في الظهار منصوص عليها في كتاب الله -جل وعلا-.
قال: (وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)، عتق الرقبة هذا معلوم تفصيله، وسيأتي من المؤلف -رحمه الله تعالى- ذكر بعض ما يُعتبر فيها، ولكن المؤلف قال هنا: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾، فإذا أراد العود، فإنه يُكَفِّر، وإذا وطئ فقد تعلقت به الكفارة قطعًا، ثم لا يجوز له أن يأتي زوجته حتى يكمل كفارته، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾، ثم قال: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾، وهنا لم يذكر ﴿أَن يَتَمَاسَّا﴾.
ولكن قال أهل العلم: إن الكفارة بخصالها الثلاثة المرتبة، لا يجوز للمظاهر إذا أراد العود حتى يُكملها، لأنه وإن لم يذكرها آخرا فقد ذكرها أولا وثانيا، وَمَا ذُكِرَ أولا وثانيا ينسجم ثالثا، لأنه لو ذكرها أولا وتركها في الخصلتين الأخريين لأفضى ذلك إلى أن يُتوقع أنها مخصوصة بالعتق فقط، ولو أعادها ثلاثًا لكان فيه تكرار وزيادة إعادة لا حاجة فيها، فلما أعادها أولا دلَّ على أنها مطلوبة، ولَمَّا أعادها ثانية دلَّ على أنها متعلقة بجميع الخصال، فلم يحتج إلى إعادتها ثالثا.
الثانية قال: (عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)، لا يجوز للمظاهِر أن ينتقل من الأول إلى الثاني، ولا من الثاني إلى الثالث، ولا من الأول إلى الثالث حتى يعجز، فهذا هو المتعلق بالحكم، ومتى نقول إنه عجز وانتقل؟
انتبه: عَجَزَ أحسن من عَجِزَ، وتكلمنا عنها سابقا، لأن عَجَزَ تعني أنه لم يقدر، بينما عَجِزَ تصح ولكنها معنى العجيزة، فلذلك لم يَستحب أهل اللغة التعبير به.
فعلي كل حال يقولون: وقت الوجوب هو وقت العود، فإذا جاء ليعود فننظر، إن كان يجد عتق الرقبة لم ينتقل إلى إطعام ستين مسكينا، وبناء على ذلك لو وًجِدَ عندنا رجل ثري جدا، ثم ظاهر من زوجته، وبعد أن ظاهر خسر تجارته كلها، ثم أراد العود، فهنا عند الظهار كان غنيا، لكنه ليس هو متعلق الحكم وثبوته في الذمة، بل ثبوت الكفارة في الذمة عند العود، فلأجل ذلك ننظر ما حاله عند العود؟
فلما كان حاله عند العود ليس غنيا، فبناء على ذلك ينتقل من الرقبة إلى إطعام ستين مسكينا.
والعكس بالعكس، لو أنَّ شخصا ظاهر من زوجته وكان فقيرًا لا يجد ما يأكل، ثم مات أحد أقاربه وليس له معصب سواه، فصار غنيا بملء الأرض، ثم أراد العود فنقول: الواجب عليه الإعتاق؛ لأنَّ مناط تعلق خصال الكفارة هو وقت الوجوب، ووقت الوجوب عليه هو إرادة العود في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيُكَفِّرُ كَافِرٌ بِمَالٍ وَعَبْدٌ بِالصَّوْمِ)}.
(وَيُكَفِّرُ كَافِرٌ بِمَالٍ) هل يتصور أن الكافر يكفر؟ هذه المسائل يذكرها الفقهاء من جهة أنَّ الكافر يمكن أن يترافع إلى المحكمة، ويمكن زوجته أن تطلبه إلى المحكمة، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن الكافر يكفر، طيب كيف يكفر الكافر وهو كافر؟
نقول: إن الكفارة متعلقها عبادة مالية، هي شيء مالي، وبناء ذلك ما كان منها ماليًا يتعلق به، وفيه الزجر، لأجل ذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: "لا يصم"؛ لأنه لا يتصور منه الصيام، ولكن إمَّا أن يعتق رقبة لأنها مال، وإن لم يكن قادرا على ذلك، فيطعم ستين مسكينا.
(وَعَبْدٌ بِالصَّوْمِ) العبد لا مال له، ولو أخذ من المال الذي بيده لَفَوَّت ذلك على سيده؛ لأن العبد وما ملك لسيده، وبناء على ذلك قالوا: إن كفارته بالصوم في تلك الحال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَشُرِطَ فِي رَقَبَةٍ كَفَّارَةٌ وَنُذُرِ عِتْقٍ مُطْلَقٍ إِسْلَامٌ، وَسَلَامَةٌ مِنْ عَيْبٍ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا)}.
قال: (وَشُرِطَ فِي رَقَبَةٍ كَفَّارَةٌ وَنُذُرِ عِتْقٍ مُطْلَقٍ إِسْلَامٌ)} هذا من الفقهاء -رحمهم الله- بيان وتفصيل للرقبة التي تتعلق بها الكفارة، فإذا كان متعلق الحكم عليه عتق رقبة، سواء كان في كفارة الظهار، أو كفارة اليمين، أو كفارة جماع في نهار رمضان، كل هذا ذكره الفقهاء ها هنا، والعجيب أن عادة الفقهاء أن يذكروا تفاصيل الحكم عند أول وروده، وكان يمكن أن يذكروا ذلك في كفارة جماع شهر رمضان، ولكنهم على خلاف ما اعتادوه من أن يذكرون المسألة عند أول وجود لها، فقد ذكروا تفاصيل أحكام كفارات العتق هنا، ولأجل ذلك قال: (وَشُرِطَ فِي رَقَبَةٍ كَفَّارَةٌ وَنُذُرِ عِتْقٍ مُطْلَقٍ إِسْلَامٌ)، فإذا هذه الرقبة التي ستعتقها، إذا كانت كفارة ظهار، أو كانت كفارة يمين، أو جماع في نهار رمضان، فبناء على ذلك لا بد أن تكون مسلمة.
قال: (وَنذرِ عِتْقٍ مُطْلَقٍ إِسْلَامٌ) وكذلك لو أنَّ شخصًا نذر عتقًا مُطلقًا، قال: "لله عليَّ أن أعتق عبدًا" فهنا لابد أن يكون هذا العبد الذي يعتقه مسلمًا.
ولكن لو قال: "لله عليَّ أن أعتق فلانًا" فهنا فلان هو فلان، سواء كان مسلما أو كتابيا أو غير ذلك.
قال: (وَسَلَامَةٌ مِنْ عَيْبٍ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا)، هذا الحكم الذي ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- حقيقة من عظائم هذه الشريعة ورحمتها وشمولها، فإنَّ الشارع يتشوف إلى العتق، ولكن عتق العاجز عيلة على نفسه، أو يكون عالة على نفسه، فَيُفَوِّتُ عليه ما كان له من الإنفاق؛ لأن السيد سينفق عليه بكل حال، كان يستخدمه أو لا يستخدمه، يستطيع العمل أو لا يستطيعه، فإذا أعتقناه وهو غير على العمل بدل أن نكون نفع ما أضررنا به لأنه ليس بقادر على العمل فينطلق فيعمل فيكد ويكدح ويكتسب ويرتزق ونحو ذلك، ويتخلص من تبعات الرق، ولا نحن الذين تركناه تحت سيده، ينفق عليه في كل يوم وليلة، فلأجل ذلك قالوا: إن العتق الذي يتطلع إليه الشارع، هو الذي يحصل به لهذا العبد منفعته، وهو أن يتخلص من ربقة الرق، وأن يقدر على الكسب ليكون بذلك متنعمًا بالحرية، قادرا على الكسب وإعفاء إشباع نفسه، ومتطلباتها وقضاء حوائجها، فلأجل ذلك قالوا: (وَسَلَامَةٌ مِنْ عَيْبٍ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا)، أمَّا إذا كان هناك عيب يسير لا يمنعه من العمل، والفقهاء الحقيقة بعض القيود التي ذكروها فيما مضي؛ لأنَّ الأعمال كانت عندهم كلها مبناها على البدن والجهد ونحو ذلك.
والمقصود هو ما ذكرنا أنه يضر بالعمل ضررًا بينًا، ويحول بينه وبين الكسب، ولكن في الواقع الآن كثير من الأعمال من كونها متعلقة بالجهد إلى كونها متعلقة بالفكر، والأعمال أكثرها على المكتب وحركة الأصابع ربما بلغت ما لم تبلغه الرجل ذو القوة العتيدة، الذي يحمل الأشياء العظيمة، فتؤدى بهذه الأصابع التي تحرك هذه الآلات، وتدبر هذه الصناعات أو غيرها.
وبناء على ذلك نقول: وإن ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- بعض تفصيلات في ذلك، لكن المقصود هو ما يمنع حصول التكسب عليه وما يُضر بعمله، فإذا اختلفت آلية العمل، فننظر إلى ما يحول بينه وبين العمل في هذه الأزمنة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَا يُجْزِئُ التَّكْفِيرُ إِلَّا بِمَا يُجْزِئُ فِطْرَةً، وَيُجْزِئُ مِنَ البُرِّ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَمِنْ غَيْرِهِ مُدَّانِ)}.
قال: (وَلَا يُجْزِئُ التَّكْفِيرُ إِلَّا بِمَا يُجْزِئُ فِطْرَةً) الفطرة هي زكاة الفطرة، وعند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- في مشهور المذهب أنها لا تصح إلا بما سمي في الحديث، وهي: خمسة أصناف، وربما جعلوا "الصنف الخامس" على سبيل الحاجة أو الاضطرار، ولكن على كل حال هي الخمسة، فإن لم توجد فإنهم ينتقلون إلى قوت البلد.
الرواية الأخرى عند الحنابلة وعند الجمهور، وهي التي عليها العمل، أن مناط الفطرة هي قوت البلد، وكل بلد له طعامه، فما كان من أرز أو عدس أو سواه، يساوي ما كان من بُرٍّ وشعير وتمر، وبناء على ذلك عند الحنابلة لا تكون إلا من الأصناف الخمسة، ومن يقول بأنها تكون من غير ذلك فيدخل هذه فتكون مما يجزئه في التكفير، وهو الذي عليه العمل.
ولذلك ما يعطى مثلا الفقراء في زماننا في بلادنا من الأرز أنفع لهم بكثير مما يعطون من القمح والبر، مع أن البُرَّ منفعته بالغة، وفرح الناس به خاصة في الأزمنة الماضية، أو في بعض البلدان الأخرى.
قال: (وَيُجْزِئُ مِنَ البُرِّ مُدٌّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ وَمِنْ غَيْرِهِ مُدَّانِ) لَمَّا قرر أنها لا تكون إلا من أشياء الخمسة، ما القدر الذي يحصل به الكفاية للفقير حتى نقول: إنَّ هذا قد أطعم ستين مسكينا أو ستين فقيرا؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إما أن تكون الفطرة التي سيعطون إياها، أو الكفارة التي ستبذل لهم من غير البر أو من البُر. فإذا كانت من غير البُر كأن تكون تمرا، أو أن تكون شعيرا، أو أن تكون على ما ذكرنا من قوت البلد، "أرز أو غيره" فتكون مُدان؛ لأن الْمُدَّينِ وهما ملء الكفين المتوسطتين، هذا هو المد، والمدان مل اليد مرتين، فهذين كافيين للإنسان في يوم واحد، وهما ما يمتلئ بهما بطنه وتسد بها جوعته، ولأجل ذلك قالوا: هذا كاف في إطعامه.
لكن الفقهاء يقولون: إذا كان بُرا فيكون "مُدًّا"، لماذا؟ هذا عندهم على ما ذكرنا أولا، أولا من جهة ما جاء عن الصحابة؛ لأنهم يقولون: أنفع شيء البر، والناس يفرحون بالبر، وله أثر عليهم، ولا ينفكون من الحاجة إليه، وما يستلذونه من الطعام بالبر، وما يتقوون به من الطعام من البر وهكذا، ولأجل ذلك قالوا: قد جاء عن الصحابة، وهو من جهة المعنى أنفع، فلأجل ذلك قالوا: يتأتى به الكفاية بمد بر للمسكين يوما، فجعلوه كذلك.
فعلى كل حال، إذا كان من بُرٍّ فيكون مدًا، وإن كان من غيره، فيكون مدان.
ماذا لو قلنا: إن البر الآن أقل نفعًا، فهل نخلفه؟ الحقيقة هذا مسلك لبعضهم، ولكن لا ينبغي فتحه، وما دام أنه حد حده الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فالمصير إلى الحد الذي حده الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، وهم تفقهوا أعمق في النظر، وأتقى لله -جل وعلا-، وأرجى للتوفيق وحسن النظر، فهم على ما قيدوه، وعلى ما حددوه من قدر، لا نتجاوزه ولا نتعداه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فصل، وَيَجُوزُ اللِّعَانِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَينِ لِإِسْقَاطِ الحَدِّ)}.
هذا الفصل في (اللِّعَانِ)، واللعان هو ملاعنة الزوجين؛ لأنَّ كل واحد منهما يلعن صاحبه، وهي شهادات أربع مؤكدات بأيمان من الجانبين، مقرونة بلعن من الزوج، وغضب من الزوجة، وهو داخل أيضًا في فرق النكاح، لأنه بملاعنة الزوجين يكون بينهما فراقًا، فإن النبي قال: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»، فإذًا هو مما يؤول به إلى الفراق بين الزوجين.
لِمَ يحدث التلاعن بين الزوجين؟
يحدث إذا قذف الرجل امرأته بالزنا، فلو قذفها مثلا بأكل الحرام، أو قذفها بتعاطي الربا، أو قذفها بالسرقة، أو بما بسوى ذلك من الأمور العظام فهي مفضية إلى التعزير، فيعزر على ما قذفها لو ترافعا إلى القاضي وطلبت حقها، ولكن لا يكون بهذا مُلاعنة.
ولكن الملاعنة تكون إذا قذف زوجته بالزنا، فقال: زوجتي زنت مع فلان، أو عاشرها كما أعاشرها، أو نحو ذلك، وأصل هذا لَمَّا جاء ذلك الرجل يسأل النبي ـ فقال: أرأيت لو رأى الرجل مع امرأته شخصا؟ أيقتله؟ فأعرض عنها النبي ، حتى جاء فقال: "إن الذي خفت منه قد وقع، إني رأيت رجلا مع امرأتي، فأمر بهما النبي فتلاعنا، وفي ذلك أي مشهورة محفوظة في سورة النور، في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:4]، ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ فإذًا رمي المحصنات موجب للحد، وهو حد القذف بشروطه وقيوده، على ما سيأتي -بإذن الله جل وعلا-.
ويُستثنى من ذلك ما يكون بين الأزواج، فإذا رمى الزوج زوجته وهي فراشة، ويتعلق به حكم، فإنه يمكن أن تلحق به ولدا ليس من ولده، وتَنسب إليه ما ليس من مائه، وتدخل عليه ما هو دخيل عليه، ولأنَّ الأزواج لا يمكن أن يتفوهوا بشيء من ذلك إلا لحصوله، فإنَّ المعرة تلحقهم كما تلحقها، فلم يكن لزوج أن يُظهر قذف زوجته لولا يقينه بحصول ذلك منها.
ولَمَّا كان قذف الإنسان لغيره ممكن، فلأجل ذلك احتاج الشارع إلى ما يحول بين الناس وبين التهوك في أعراضهم والتكلم فيها، ولكن الزوج مع زوجته إن قلنا: إنه يحد فهذا سيفضي إلى أن يمتنع، بل ربما يلحق به ضررًا، وأيضا إذا قلنا: إنه لا شيء فيه، فهذا قد يُفضي إلى أن يتساهل الناس في قذف زوجاتهم، ولأجل ذلك جاء الشارع ورتب لذلك أحكامًا، وهي أحكام اللعان والملاعنة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور:6-9].
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (يجوز اللعان)، إذًا هو جائز بين زوجين بالغين عاقلين، فلابد أن يكون كلا الزوجين بالغين، وأن يكونا عاقلين، ويكون ذلك لإسقاط الحد.
هل يكون لنفي الولد؟
ظاهر كلام المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه لا يكون لنفي الولد أصالة وإنما تبعا، وربما قال بعض الفقهاء: إنه يكون لنفي الولد أصالة، كما يكون لإسقاط الحد سواء بسواء، بل ربما كانت الحاجة لنفي الولد أعظم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ لَفْظًا وَكَذَّبَتْهُ، فَلَهُ لِعَانُهَا بِأَنْ يَقُولَ أَرْبَعًا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَفِي الخَامِسَةِ: وَأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ.
ثُمَّ تَقُولُ هِيَ أَرْبَعًا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَفِي الخَامِسَةِ: وَأَنْ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَإِذَا تَمَّ سَقَطَ الحَدُّ)
}.
قال: (فَمَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ لَفْظًا) أي إذا قال الرجل: إن زوجته قد زنت في قُبلها أو في دبرها وكذبته، فإذًا لو قذفها وصدقته، ففي هذه الحال لا يحتاج إلى لعان؛ لأنها صدقته فيما قال.
ولكن -وهذا هو محل الإشكال- لأنها إذا صدقته، فعندهم أنه لا يكون فيه لعان، وبناء على ذلك لو كان ثم ولد فالولد للفراش، فلا يستطيع أن يلاعنها لنفي الولد، إذا قلنا: إن اللعان لإسقاط الحد.
وأما إذا قيل: إن اللعان يكون لنفي الولد، كما يكون لإسقاط الحد، فيمكن لو صدقته أن يلاعنها لأجل انتفاء الولد منه، وعدم لحاق نسبه به، فإذا هذه قيود وشروط حصول اللعان.
أن يقذف زوجته بالزنا لفظا، لو قذف زوجته بغير لفظ أو بشك أو بوهم أو بنحو ذلك فلا.
قال: (وَكَذَّبَتْهُ) فلابد أن يكون تكذيبها، فله لعانها بأن يقول: أربع شهادات -هذه صفة اللعان من الزوج-، وهنا يقولون: لابد أيضا من وجود الحاكم؛ لأن هذه مما يجري فيها الخلاف، والنبي هو الذي حضر اللعان، وقال لَمَّا أرادت المرأة أن تلاعن وتدعو على نفسها بالغضب، أمر أن يمسك على فيها، ويذكرها وقال لها: «عَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا» فكل هذا يدل على أنه لا بد من وجود الحاكم.
لو قذف الزوج زوجته ثم امتنع من اللعان، فعليه حد القذف.
(وَفِي الخَامِسَةِ: وَأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ) هنا لاحظ أنه قال: (وَأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ) مع أنه هو يقول "علي"، ولكن هذه جارية في طريقة الفقهاء -رحمهم الله تعالى- والعلماء في كل كتبهم، أنه ما كان فيه إسناد الشر إلى النفس يستعيضون عنه بإسناده إلى المجهول؛ فلأجل ذلك لا ينبغي للإنسان لا أن يسنده إلى مخاطب، ولا أن يسنده من باب أولى إلى نفسه، فلا يقول: لو وقع عليَّ حادث، ولا يقول: لو وقعت عليك خسارة، وإنما إذا كان المثال مثال خير وفأل فيسنده إلى مخاطب أو إلى نفسه، كما لو قال: لو حصل لك وظيفة عليه، هذا من الفقهاء، ولكن أحيانا إذا عبه بلفظ الغائب أحيانا على بعض الطلاب، لكن هي إسناد إلى النفس لكنهم يعرضون عنها فيجعلونها إلى المجهول، تكريما للنفس أن يلحق بها اللعن ولو على سبيل الحكاية.
لَمَّا قال المؤلف: (ثُمَّ تَقُولُ هِيَ أَرْبَعًا) معنى ذلك أنه لا يتصور ولا يمكن ولا يصح أن يكون لعانها قبل لعانه، وهذا هو نص الآية، فإذا حصول الملاعنة منها تكون بعد الرجل.
قال: (ثُمَّ تَقُولُ هِيَ أَرْبَعًا) فلا بد من استكمال أربع مرات، فلولا حصل منها مرتين أو ثلاثة وقالت: هذا يكفي، ما في فرق، نقول: لا، لا بد أن تتم الأربع، وأن يكون بهذا اللفظ، (أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا)، ثم إذا جاءت إلى الخامسة تقول: (وَأَنْ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، لاحظ هنا قال لما كان حفظ النفس من الزنا أو براءة منه، أسندها الفقهاء -فيما رماني-، ولَمَّا جاء إلى (وَأَنْ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) المقتضى من ذلك أن يعبر بالياء فيقول: "عليَّ" ولكن لأن فيها شيء من إسناد الغضب على الإنسان، ونحن لا نحب ولا نرضى بأن يسند ذلك ولو على سبيل المحاكاة، فإن الفقهاء عرضوا عن هذا وقالوا: (عَلَيْهَا) ولكن إذا جاء أن يلقن هذا فيقول: "علي" بكذا، وبتتمة الكلام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَإِذَا تَمَّ سَقَطَ الحَدُّ، وَثَبَتَتْ الفُرْقَةُ المُؤَبَّدَةُ وَيَنْتَفِي الوَلَدُ بِنَفْيهِ)}.
قال: (فَإِذَا تَمَّ سَقَطَ الحَدُّ)، إذا تم اللعان فقد سقط الحد؛ لأنَّ هذا هو المقصود، أن يندفع الحد عن الرجل.
قال: (وَثَبَتَتْ الفُرْقَةُ المُؤَبَّدَةُ)، الفرقة مؤبدة في هذا؛ لأنَّ النبي قال: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا».
(وَيَنْتَفِي الوَلَدُ بِنَفْيهِ)، يعني: إذا كان قد ذكره في اليمين، فقال: (أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا)، وأن هذا الولد ليس بولدي مثلا، فيما يقول، لأنَّنا كما قلنا: ما ينبغي للإنسان أن يسندها إلى نفسه، ولكن حتى يُفهم المراد.
فإذا نفاه انتفى، ولكنه كما ذكرنا أنه يفهم من كلامهم أنه يكون تبعًا ولا يكون أصالة، ولكن القول بأصالته واعتباره أصالة وجيه، بل الحاجة إليه في ذلك أولى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ بَعْدَ نِصْفِ سَنَةٍ مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُ بِهَا، أَوْ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ أَبَانَهَا وَلَوْ ابْنُ عَشْرٍ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَلَا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ مَعَ شَكٍّ فِيهِ)}.
إذا تفارق المتلاعنين الفرقة المؤبدة، فليس له أن يتزوجها بأي حال من الأحوال، حتى ولو تزوجت بعد ذلك عشر مرات، وحتى ولو كذب نفسه بعد ذلك، كأن يأتي ويقول: قذفتها عند الحاكم كذبا أو ما شابه، فنقول: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا.
قال: (وَمَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ بَعْدَ نِصْفِ سَنَةٍ مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُ بِهَا) الولد للفراش، وهذا ممكن أن يكون منه، فإذًا هو ولده، فبناء على ذلك اعتبار الولد للفراش هو أصل في استقامة البيوت، وبقاء الأنساب وعدم ضياعها، ومنع السفهاء من أن يشكك في ذلك، أو يمنع ما هو مستقر وظاهر.
ولأجل ذلك قال: (وَمَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ) في هذا الموضع عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، المؤلف هنا ذكره على سبيل الاختصار جدا، وإلا فهم يذكرون هنا مسائل في لحوق النسب، وما يتعلق بها من أحكام، وهناك تفاصيل قد يحتاج إليها، ولكن هنا على كل حال كأن المؤلف -رحمه الله- يقول: ما دامت زوجته، وأتت بِه بأكثر من ستة أشهر، يعني: يمكن أن يكون ولده، (مُنْذُ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُ بِهَا)، وليس بالضرورة لو قال: أنا ما جمعتها نقول: ما علينا لماذا؟ لأنه ما دام أنه قد اجتمع بها فنحن ننيط الحكم بالشيء الظاهر، لأنَّ الأشياء الخفية لا اعتبار بها، ولأنَّ قوله مثلا لو قال: ما دام اجتمع بها وهما متفقان على ذلك، فإذا قال: هو لم يجامعها أو لم يدخل بها، وهي تقول: هو جامعني، فليس قوله بأولى من قولها، وليس قولها بأولى من قوله.
فإذا نحن نقول: الولد للفراش، وولدته لأكثر من ستة أشهر، يعني لأنه لا يمكن أن يكون من زوج سابق أو نحوه، أو ما دام لستة أشهر يعني أمكن أن يكون منه منذ اجتماعه بها، فالأصل أنه ولده.
ولكن لو جاءت به لأقل من ستة أشهر نقول: لا يمكن أن يكون منه، وما نحتاج إلى أن يلاعن ولا شيء، هذا ليس ولده.
قال: (أَوْ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مُنْذُ أَبَانَهَا)، طبعا التحديد بأربع سنين أنها أكثر الحمل هذا مشهور عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على اختلاف مذاهبهم، وأصل ذلك أثر عن الإمام ما لك فيما يسمونه بالوجدان ما معنى الوجدان؟ يعني: أكثر ما وجد مما يمكن أن يعتمد عليه، فقالوا: إن أكثر ما يمكن أن تكون أربع سنين، وبناء على ذلك ما دام أنها ولدته لأقل من أربع سنين، فالأصل أنه ولده، وبناء على ذلك لو جاءت به لأكثر من أربع سنين بعد بينونتها، فالعادة أنه لا يمكن أن يكون حمل يبقى أكثر من أربع سنين، وبناء على ذلك لا ينسب إلى زوجها الذي فارقته أو زوجها الذي أبانها.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وَلَوْ ابْنُ عَشْرٍ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ)، ما معنى هذا؟ ولو طبعا إشارة إلى وجود خلاف، يعني: يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: حتى ولو كان هذا الزوج الذي ولدت منه هذه المرأة ابن عشر! طيب ابن عشر ما بلغ، فيقول المؤلف: إن ابن عشر يجامع، وابن عشر يبلغ، والحكم يُناط بالظاهر، والشارع يتطلع إلى حفظ الأنساب وبقائها، لا إلى تضيعها وإهمالها، فهذه الأمور الظاهرة تفضي، وما دام أنَّ الولد للفراش، وهي فراش لهذا، وهو ابن عشر، وابن عشر عادة يحصل منه جماع، فنحكم به أنه ولده حفظا للنسب، وإلحاقًا للأمور بظاهرها، ولذلك قال: (لَحِقَهُ نَسَبُهُ).
العجيب ما هو؟ المسألة التي بعدها، قال: (وَلَا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ مَعَ شَكٍّ فِيهِ)، ما معنى (وَلَا يُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ) يعني: إننا وإن قلنا: إن هذا ولده عشر سنين، نحن لا نقول بالضرورة أنه بالغ، فلأجل ذلك لو دعا أنه لم يبلغ لا يلزم بصيام ولا يلزم بصلاة بسائر التكاليف. لماذا؟ يقولون: لأن مبنى العبادات اليقين، وهذا مشكوك فيه، إنما هذا الحكم لأن أحكام الشرع تناط بالظاهر، والظاهر هو أن هذا زوج وأنها فراش، وأنه خلا بها، وأمكن كونه منها، فلا شيء يمنعه من ذلك، فكونه كذلك.
وأما أحكام العبادات فإنما تلحق بالإنسان باليقين، فمع حصول شك في ذلك لا يلتفت، فلم يمنع الحكم أن يتبعض ما يتعلق بهذا الشخص في نفسه في حالين، حال حكم بلحاف الولد، وحال بحكم بعدم وجوب العبادات، أو بعدم البلوغ لِمَا ذكرناه في هذه المسألة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ بَاعَ مَنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا، فَوَلَدَتْ لِدُونِ نِصْفُ سَنَةٍ لَحِقَهُ، والبَيْعُ بَاطِلٌ)}.
(وَمَنْ أَعْتَقَ أَوْ بَاعَ مَنْ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا) هذا بيان في الإماء، ولحوق النسب فيه، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يخلو من مَلَكَ أمة، إما أن يطأها يعني: يتسرى بها، أي: جعلها سرية، والسرية من السر، وهو كناية عن الجماع، يعني: من يجامع أَمَتَه.
إذًا الإماء على حالين، إمَّا حال يتسرى السيد بها، وإما حال لا، إذًا التي لا يتسرى بها سيدها، نقول: لا يتعلق بها حكم، لو حملت، لو ولدت، أو كذا ما أن نقول هذا ولده، ولكن عنده أمة ويقول: أنا أقوم بوطئها ثم باعها أو أعتقها وولدت (لِدُونِ نِصْفُ سَنَةٍ) فقطعا أن هذا الحمل كان في أثناء ملكه لها، وهو يطؤها.
إذًا هذا الحمل حين كانت فراشا له، فالحمل يتبع الفراش، ولكن لو كان أكثر من نص سنة ما يمكن، يمكن أن يكون بعد أن أعتقها أو بعد أن باعها، جامعها سيدها ولم يستبرئها، أو يمكن أنها زنت، هذا شيء آخر.
لكن إذا الحالة التي نقطع من أنه منه حين كانت فراشا له، لو كانت وضعت لأقل من ستة أشهر وهو يقر بأنه كان يطؤها لما كانت في ملكه، ولما كانت تحت يده، ولأجل ذلك قال: لحقه نسبه.
ومن باب أولى طبعا أنها لو ولدت وهي في ملكه فهذا لا إشكال، وهو قد أقر بوطئها، فهو ولده، وهي أم ولده.
لكن هنا قال: (لَحِقَهُ نَسَبُهُ)، لماذا كان؟ لئلا يتصور إلا أنه من، وهي فراش له فبناء على ذلك الولد ولده.
ثم يقول: (والبَيْعُ بَاطِلٌ)، لماذا؟ لأنها لما حملت وولدت منه صارت أم ولد له، وأم الولد أمة في أحكام الإماء، ولكن لا يحل بيعها لأنها تصير حرة بموته.
فالمشهور الذي عليه قول الصحابة المتقدمين، كأبي بكر وعمر، وهو مشهور المذهب عند الحنابلة، أنَّ أم الولد لا يجوز بيعها بحال من الأحوال، وبناء على ذلك إذا تبين أن هذه أم ولد، فبناء عليه نقول: إنَّ البيع الذي لحق بعد ذلك بيع باطل، لأنه بان لنا أنها أم ولد، وأم الولد لا يجوز بيعها.
قال -رحمه الله-: (بَابُ العِدَدِ. لَا عِدَّةَ فِي فُرْقَةِ حَيٍّ قَبْلَ وَطْءٍ وَخَلْوَةٍ)}.
هذا الباب معقود في أحكام العدد، والمؤلف لَمَّا ذكر الفرق التي يحصل بها مفارقة الزوج لزوجته، سواء كانت بخلع أو طلاق أو بغير ذلك كفسخ على ما سيذكر، كلها لها عدة، وذلك تعظيما لهذا العقد الذي هو عقد النكاح، وطلبا لبراءة الرحم؛ لأنه قد يكون فيه ولد له، وبناء على ذلك احتيج إلى طلب البراءة، فجمع الفقهاء ما يتعلق بهذه العدد كلها، إن كانت من وفاة أو كانت من طلاق، أو من خلع، أو حتى مما يلحق بذلك لو كان وطء شبهة ونحوه، وإن كان الفقهاء لا يذكرونها في مثل هذه المختصرات. لكن هذا الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
وحقيقة العدة هي التربص المحدود شرعًا للعلم ببراءة الرحم، كما ذكرنا ولحق الزوج، فالله -جل وعلا- يقول في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب:49]، والآيات في ذلك كثير جدا وسيأتي الإشارة إلى أنواع العدد في كل مسألة بحسبها.
فبدأ المؤلف -رحمه الله- بـ متى لا يعتبر بالعدة؟
الأصل أن أي نكاح فيه عدة. قال: (لَا عِدَّةَ فِي فُرْقَةِ حَيٍّ قَبْلَ وَطْءٍ وَخَلْوَةٍ)، يعني: من فارق زوجته التي عقد عليها، لكنه لم يدخل بها ولم يخل بها، وهذا على ما ذكرنا في المذهب عند الحنابلة، الخلوة المحرِّمة أو الخلوة التي يحكم بها بالدخول على ما سيأتي بيانه، فبناء على ذلك لا عدة.
ولو أنَّ شخصًا عقد على زوجته الآن ثم قال: أنت طالق، فعقدت بعدها بساعة على زوج آخر جاز لها أن تتزوج ولا حرمة لذلك العقد، ولا عدة فيه، للآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب:49].
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{جزاكم الله كل خير شيخنا، ونفع الله بعلمكم، والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن متابعتكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك