الدرس السادس عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

7530 33
الدرس السادس عشر

أخصر المختصرات 4

{الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدة من برنامج جادة المتعلم، نصطحبكم في شرح كتاب (أخصر المختصرات)، يشرحه لنا فضيلة الشيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، باسمي واسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ.
حياكم الله فضيلة الشيخ}.
حياكم الله، وأهلا وسهلا، حياك الله تحية طيبة، وحيا الله المشاهدين والمشاهدات، طلاب العلم والطالبات.
{شيخنا نستأذنكم في البدء}.
نعم، استعن بالله.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وَالنُّشُوزُ حَرَامٌ، وَهُوَ: مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن ينفعنا بالعلم، وأن يرفعنا به، وأن يعقبنا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن يبلغنا الخير والهدى يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا والمسلمين.
أيها الإخوة في المجلس الماضي كان الحديث عمَّا يكون بين الزوجين من العشرة والإحسان، وانتهى الحديث إلى ما يكون بين الزوجين من الخصومة والاختلاف، ولذلك قال المؤلف: (وَالنُّشُوزُ حَرَامٌ)، هذه هي الدنيا، ينتقل الإنسان فيها من حالٍ إلى حال، كذلك الفقهاء لما قرروا ما تستقر به الحياة والحال، ويكون بين الأزواج، أرادوا أن يبينوا الحالة إذا اختلفت، والحكم إذا تباينت الأمور وتغيرت.
قال: (وَالنُّشُوزُ) النشوز من نشء من النشز، وهو الجبل الصغير، يعني: العصيان، وأصله من ترفع المرأة عن زوجها وعصيانها له، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ [النساء:34].
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن (النُّشُوز حَرَامٌ)، فهو لا يجوز، والمرأة التي تنشز وتعصي زوجها آثمة ومعاقبة، وقد تعرضت لوعيد شديد، جاء به الكتاب، ودلت عليه السنة عن النبي ، ولا شك أن ذلك مبدأ البلاء، وهي طريق الجحيم الذي تبقى فيه البيوتات، ويصطلي بناره الزوج والأولاد.
ولا ينبغي للمرأة أن تعصي زوجها، ولا أن تخالف من تسكن إليه، أي: بعلها، فإن هذا لا يكون به إلا الشر، ولأجل ذلك قال: (وَهُوَ: مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا).
إذًا محل الكلام هو ما يجب عليها، وأما لو طلب منها أن تزور جارتها فامتنعت، فليس هذا بنشوز، وليس هذا بعصيان. وكذلك لو طلب منها أن تخرج مع زوجة زميله مثلا فامتنعت فليس ذلك بنشوز، وكل ذلك أيضا فيما يتعلق بأشياء لا تلزمها له.
إذا النشوز ومعصية الزوج ليس على الإطلاق، مثال: لو كان زوجًا يشاهد برنامجًا وطلب من زوجته أن تجلس فتشاهد ما يشاهده، فقالت: أنا لست بطالبة علم، ولا أجد نفسي أن استمع إلى مثل هذا الدرس أو إلى غيره، فلا تلزمني بذلك، بل سأذهب لأتكلم مع أمي، أو أنظر في هاتفي أو نحو ذلك، فليس له أن يلزمها.
إذًا ما يجب عليها إذا قلنا: إن الواجب عليها ما يكون من استمتاع الرجل بامرأته، فكذلك لو امتنعت فتكون آثمة وعاصية.
وإذا قلنا: إن المرأة يجب عليها ما كان من المعروف سواء في خدمة بيت وتنظيفه، أو كان ذلك في طبخ أو سواه، فنعم.
وإذا قلنا: إن الواجب عليها مخصوص بالاستمتاع، كما هو مشهور المذهب عند الحنابلة، فلا تعتبر ناشزا إلا في الامتناع من ذلك.
وبعض الناس ممن يسوقون لتنفير الأزواج بعضهم من بعض، وإظهار السوء بينهم، فتراهم يقولون: ما يلزمك إلا هذا، ولا تستجيبين لزوجك، وما يجب عليك شيء من هذا! نقول: إن مثل هذا أولاً مبدأه الشر، وإرادة الفرقة بين الأزواج، وكم ممن أصغوا إلى مثل هذا الكلام انتهت بهم الأمور إلى أسف شديد، وندامة عظيمة لما حصل الفراق، أو انقطعت حبال الزواج، أو بقي الزواج فيه على عوج، فيه نفوس نافرة، وحياة غير مستقرة.
ثم أيضا نقول لها: إن كنت تقولين مثل ذلك، فكذلك الزوج ليس عليه أشياء كثيرة، فليس عليه أن يدفع فاتورة جوالك، ولا أن يشتري لك جوالا، ولا أن يوصلك إلى أهلك، ولا كذا وكذا من الأشياء الكثيرة.
وكذلك ليس عليه إلا نفقة أقل ما يجب من الواجب، وليس عليه أن يذهب بك إلى المطاعم، أو أن يمتعك في السفر، أو أن يؤنسك في كذا، ولا أن يعطيك هدية لأختك، ولا كذا وكذا من الأمور الكثيرة التي تحدث.
فإذا كل هذا يعود بنا إلى أنه ينبغي ألا تفتح مثل هذه الأمور، وأن يقوم كل واحد منهما لصاحبه بما يُحسن إليه، ويطلب به رضا الله -جل وعلا-، فإذا حصل شيء فمردُّ ذلك إلى كل واحد على ما يجب عليه فقط.
والمستقر أنَّ الواجب على المرأة ما يتعلق بقيامها ببيتها، كما يتعلق باستمتاع زوجها وأنس بعلها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (فَمَتَى ظَهَرَتْ أَمَارَتُهُ وَعَظَهَا، فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا غَيْرَ شَدِيدٍ، وَلَهُ ضَرْبُهَا عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى)}.
قوله: (فَمَتَى ظَهَرَتْ أَمَارَتُهُ) كيف تظهر أمارات النشوز؟ هذه واضحة ويعرفها الأزواج، يعني كما لو بدأ يظهر منها عبوسًا في الوجه، أو يظهر منها انكفاء عن عدم الجلوس معه كثيرا، فهذا يدل على أماراته. فلما كانت الأمور تستشري شيئا فشيئا، فلا شك أن ابتداء الزوج بوعظها ونصحها، وتذكيرها بما أوجب الله عليها من حق زوجها، كفيل بأن يقطع عنها ذلك الدابر، وإن يمنع عنها هذا الهاجس، وأن يبعد عنها وساوس الشياطين من الإنس والجن، من النساء والرجال وغيرهم، وهذا من أعظم ما يجب، والأعجب من هذا أن هذه التراتيب جاءت مفصلة في كتاب الله -جل وعلا-؛ لأهميتها وعظم ما يترتب عليها من خير وأثر، لانقطاع درب النزاع والفراق، وما يترتب عليها من شر لو حصل بينهما فرقة، أو لم يقم الزوج بما يذكرها به، وبما يردعها، فإن المرأة ضعيفة، تتأثر بما يقال هنا، وتضعف أحيانا في بعض أحوالها، لتغير وظائف جسدها، أو حصول العادة عليها، أو غير ذلك.
ولذا فهي محتاجة إلى تذكير، وإلى أن يكتنفها، وأن يضمها إليه فيذكرها بما يجب، ويؤنسها بما تأنس به، فيعودان إلى ما كانا.
قال: (فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ) وانظر إلى عظم ما جاء به الشرع، هجران في المضجع، فهو لا يهجرها في طعام، ولا يهجرها في جلوس، ولا يهجرها في سكن، فيذهب إلى أهله، أو يسافر إلى أصحابه، أو أو أو، وإنما يهجرها المضجع، فما كان يأتيها فيه لا يأتيها.
قال: (وَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثًا) أمَّا الكلام «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ»[1]، فتهجر في الكلام وتعامل معاملة غيرها، فلا يزيد الهجر على ثلاثة أيام.
قال: (فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا ضربًا غَيْرَ شَدِيدٍ) المقصود من ذلك إيقاظها وتنبيهها، فلما يضربها هكذا كأنها إشارة إلى أن مسار الأمور يختلف، أو إلى بيان أن ما يتبع ذلك قد نندم عليه، لأن الضرب عادة لا يكون إلا حال تعذر ما هو أقل منه، فهو كالعقوبة من وجه -لأن الضرب غير شديد، فهو غير موجع- لكنه يحصل به من التنبيه لهم.
والعجب أنَّ كثيرا من أهل الشرق أو الغرب من غير المسلمين يقولون: أنتم عندكم الضرب وعندكم كذا وكذا، وربما سوقها بعض ضعفاء النفوس. فنقول: أنتم لم تفهموا ما في الضرب، وما رتبه وما نظمه الشرع من أمور أعظم مما جئتم به في كل أموركم، وما حياتهم التي نُقلت عبر الأفلام وهذه الشاشات وغيرها، إلا ناطقة بما يؤول إليه أمرهم من القسوة، ومن الغلظة، ومن تكسير الأواني، ومن إظهار ساحة الدم، وما يتبع ذلك من أشياء كثيرة، وهي أشياء مألوفة عندهم في حياتهم، ولكنهم لم ينظروا إلى ما يألفون، وإنما نظروا إلى ما يقرؤون أو ما يُلقى عليهم، فما جاء في الشرع مرتب على أصل صحيح، وليس فيه عليها أذية، وإنما فيه صلاح بيتها، وسكون في ولدها، واستقرارها مع زوجها، الذي به صلاح الدنيا والآخرة.
قال: (وَلَهُ ضَرْبُهَا عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ)؛ لأنه جاء في الحديث أن النبي أذن بذلك في أقل من عشر ضربات، يُرَدُّ به من فرط في واجب، أو من ترك أمر الله -جل وعلا-، وذلك مستمد من الولاية، فكما أنَّ الرجل يؤدب ولده، والمرأة كالولد؛ لأنه يحملها على الخير، وهو مسؤول عنها، وقائم عليها فيما يصلحها، فلأجل ذلك إذا كان منها شيء من التفريط، أو نوع من الإخلال، فإنه يُعينها بشيء من ذلك، ولا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود -جل وعلا-، فذكر أهل العلم أنَّ الضرب الذي هو ضرب التأديب إنما يكون للزوجة، كما يكون للولد، ويكون للعبد وللأمة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (بَابُ الخُلْعِ وَأَحْكَامِهِ)}.
هذا أول باب يذكره المؤلف فيما يتعلق بفُرَقِ النكاح، والخلع من المخالعة، وأصله فراق الزوجة زوجها بعوض تبذله له، ويكون بألفاظ مخصوصة، وقد جاء به ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة:229]، وجاءت به السنة كما في حديث مسلم، في قصة ثابت بن قيس مع زوجه، لَمَّا قالت: "أما إنِّي ما أعيبُ عليهِ في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفرَ في الإسلامِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ : «أتردِّينَ عليهِ حديقتَهُ؟» قالَت: نعَم[2]، فأمر النبي زوجها بأن يفسخها، فدل ذلك على أنَّ للمرأة التي كرهت وأبغضت زوجها، لا تحمل عليه بما قد يحملها على سوء، أو أن تقصر في حقه، أو ربما تثور نفسها فتفعل ما لا يجوز، وتبادله ما لا يحل، وتمنعه ما يجب عليه، فأباح الله لها أن تتخلص من زوجها، وأن تطلب فراقه بشرطه وقيده على ما سيذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا.
{قال: (يُبَاحُ لِسُوءِ عِشْرَةٍ وَبُغْضَةٍ وَكِبَرٍ، وَقِلَّةِ دِيْنٍ، وَيُكْرَهُ مَعَ اسْتِقَامَةٍ)}.
بدأ المؤلف -رحمه الله تعالى- في ذكر الأحوال التي تتعلق بالخلع، متى يكن مباحا؟ ومتى يكون مكروها؟ فيقول المؤلف: (يُبَاحُ لِسُوءِ عِشْرَةٍ)، فإذا ساءت عشرتهما، ولم تستقر حياتهما، ولم يتوافقا، فيجوز لها في مثل هذه الحال، وكما قلنا: إنما هو في حال لا تستقر فيها حال البيت، وأما أن تكره المرأة من زوجها شيئًا، أو يكره هو منها شيئًا أو نحو ذلك، فإنه لن يجد الإنسان ولو جمع ما جمع من النساء، ولو تنقل في الديار والبلدان، ليجد زوجة تأتي له بكل ما يريد لم يجد، فهذه طبائع النفوس، ولكن المقصود أن يبقيان في حال لا تستقر بها حياتهما، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن ذلك (يُبَاحُ لِسُوءِ عِشْرَةٍ).
وأنا سأذكر لكم قاعدة، وسأعيدها في أول الكلام على باب الطلاق، متى نأذن للمرأة أن تخلع زوجها؟ أو الرجل أن يطلق زوجته؟
بعض الناس إذا مشكلة كبيرة واستمرت، ففي أحسن الأحوال بعضهم يصبر، فإذا لم يجد لها حلا طلق، أو إذا لم تجد هي لها حلا خالعت. نقول: لا، ليس بالضرورة، فلن تنتهي كل المشاكل، ولن تقف كل المنغصات، بل لا بد من منغص في الحياة، ولكن متى نقول أيتها المرأة خالعي؟ أو متى نقول: أيها الرجل طلق زوجتك؟
اسمعوا إلى هذه الكلمة، أن تكون حال كل واحد منهما بعد الطلاق أو الخلع أحسن منه في حال النكاح أو في حال الزوجية، فلأجل ذلك تجد كثيرا من الزوجات اللاتي خالعن أزواجهن، أو طلبت الطلاق فأجابها، تندم وتعض أصابع الندم بعد أيام قليلة، وكذلك حال كثير من الأزواج، إذا ذهبت زوجته، وأظلم عليه بيته، وقابل أموره رأى من ضيق الحال، والشوق إلى الزوجة، وتمني أن لو كانت عنده، وأشياء كثيرة من هذا.
فنقول إذا: ينبغي أن نفطن لمثل هذا؛ لئلا نقع في الندم، وإذا كان أناس قد أظهروا الندامة وحاولوا الرجوع والرجعة، فإن أقواما آخرين تمنوا الرجعة ولكنهم كابروا، ولم يظهروا ما في نفوسهم، ولأجل ذلك لابد أن تعرف إذا كانت الحال بعد الفراق أحسن منها في حال الزواج، وإلا فلا.
إذا كان حالك بعد الفراق أقل فما الفائدة؟ ولماذا تطلبين الطلاق؟ أو تهرعين إلى الخلع؟ ونفس الشيء لك أنت. ولذا كان شيئًا واحدًا من المرأة لزوجها في إعفاف نفسه كاف عن أشياء كثيرة، أو إذا لم يكن منها تمام الإعفاف ولكن منها إصلاح للولد، لكان في ذلك شيء كثير، وكل بحسب حاله، وكل ينظر إلى ما اجتمع عليه من ظروف. وينبغي للإنسان أن يتأنى وأن يستشير.
ثم اعلم أيضا أنَّ الخلع والطلاق ليس عقوبة للطرف الآخر، فبعض النساء تطلب الخلع وهي تعرف أنه أضر عليها، ولكنه تريد إيقاع عقوبة به. والرجل كذلك يطلقها حتى يعاقبها أو يتشفى منها، وليس هذا هو المقصود لا من الخلع ولا من الطلاق.
إذًا هذا لا بد أن يعلم، كما قال المؤلف: إذا شاءت العشرة فيباح لها أن تطلب الخلع، إذا لم يكن قد طلقها.
(وَبُغْضَةٍ) هي تبغضه ولا تحبه، ولا تأنس برؤيته، وتجد في نفسها غصة، وكلما جلست إليه أحست بشيء، وهذا يقع بين الأزواج؛ لأن «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»[3]، وهذا كما في حديث أم حبيبة لَمَّا قال لها النبي : «أتردِّينَ عليهِ حديقتَهُ؟» قالَت: نعَم. قالَ رسولُ اللَّهِ : «اقبَلِ الحديقةَ وطلِّقها تَطليقةً».
قال: (وَكِبَرٍ)، أي أنَّ زوجها قد كبر، وما عادت تألفه، ولا تقدر على مراعاته، أو اختلف اهتمامه واهتمامها، ورأت في نفسها أنها تتثاقل من القيام بحقه، وتخاف على نفسها من بقائها معه وهو لا يُعفها ونحو ذلك، فلها أن تطلب الخلع.
قال: (وَقِلَّةِ دِيْنٍ) أي ترى في زوجها أن ديانته قليلة، ونفسه معرضة، وتخاف أن تنجر منه إلى شيء من تعاطي المسكرات، أو فعل المخدرات، كما يفعل بعض الأزواج، نسأل الله السلامة، يذهب بها زوجته إلى أماكن الخنا، أو إلى أماكن الفجور، أو إلى أماكن الرقص والاجتماعات المحرمة، إلى أشياء كثيرة، فإذا رأت من نفسها أنه ربما استجرها بعضهم إلى المخدرات، فلها أن تطلب ذلك، بل ربما كان هذا من الأحوال التي يُستحب لها حفاظا على نفسها.
قال: (وَيُكْرَهُ مَعَ اسْتِقَامَةٍ) أمَّا إذا استقامت الحال، فليس للمرأة أن تحدث في حياتهما شيئا، ولكن لا يجب عليها، أو لا نلزمها بالبقاء، فكما أنَّ الرجل له أن يُطلق، وأبغض الحلال إلى الله الطلاق، فكذلك للمرأة أن تطلب الخلع إذا رأت ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَهُوَ بِلَفْظِ خُلْعٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوْ مُفَادَاةٍ فَسْخٌ)}.
ذكر العلماء أن في ذلك حال محرمة، وهو أن يضار بها حتى تفادي نفسها، فإن هذه من الأحوال المحرمة، ويفعلها بعض الأزواج إذا لم يعد يحب زوجته ولا يريد أن يطلقها، بل لا يزال يضر بها، ويضار بها، وربما عيرها، وربما أساء إليها حتى تفادي نفسها، ويرجع إليه ما دفع إليها؛ فهذا لا يجوز له، وقد جاء بذلك كتاب الله -جل وعلا-.
قال: (وَهُوَ بِلَفْظِ خُلْعٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوْ مُفَادَاةٍ فَسْخٌ) هذه كلها ألفاظ صريحة في الفسخ، فإذا قال: خالعتك، فسختك، فديتك، فهو فسخ ويتعلق به من الفرقة ما يتعلق بالطلاق، بل هو يزيد بأنه لا رجعة له عليها. لماذا؟ لأنَّ فيه عوض، فهي كان له أن يرجع إليها فما فائدة أن تدفع له عوضا ثم هو يعود إليها، فيذهب عليها العوض، وتعود إلى ما كانت فيه من الأسى من الزوجية التي تسوؤها ومن النكاح الذي لا تألفه ولا تحبه ولا ترتضيه.
{قال -رحمه الله-: (وَبِلَفْظِ طَلَاقٍ، أَوْ نِيَّتِهِ، أَوْ كِنَايَتِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ)}.
هنا يتبين لنا كيف يحسب الخلع، وهذا بناء على مشهور المذهب عند الحنابلة، وبداية فالخلع لا بد أن يكون فيه عوض، وإذا كان فيه عوض فإنه إن وقع فلا رجعة للزوج على زوجته.
هل يحتسب الخلع تطليقه أو يعتبر فسخا؟
يقول الحنابلة: إنه يرجع إلى اللفظ الذي استعمل، فإن كان بلفظ الخلع، أو بلفظ الفسخ، أو المفاداة، فهذه ألفاظ مختصة بالخلع، وبالتالي يكون فسخًا، وبناء على ذلك لا ينقص من عدد التطليقات.
وأمَّا لو قال لها بعدما أعطته العوض: أنت طالق، فهذا يسمونه طلاقًا بعوض، وبناء على ذلك من جهة هو طلاق فيحسب من تطليقاته، ومن جهة أخرى هو فسخ أو خلع من جهة أنه لا يحق له أن يرجع إليها إلا بعقد جديد؛ لأنه لو طلقها طلاقًا عاديًا فله أن يراجعها حتى ولو لم ترض، ولكن هنا وإن كان بلفظ الطلاق، ولكن لَمَّا كان فيه عوض فليس له أن يراجعها، ولا يملك ذلك.
وإنما لو أراد رجعتها، فإن ذلك يكون بعقد جديد، وبشروط النكاح كاملة، ومن بين هذه الشروط رضاها به، وإقبالها عليه. وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة.
والحنابلة في هذا وسط بين قولين، فالجمهور يقولون: تعتبر طلقة في كل الأحوال، وهي طلقة لا رجعة فيها، وبين ابن تيمية الذي يراه فسخًا في كل أحواله، ولا يدخله في عدد التطليقات.
ما الذي يفيده هذا؟
يفيد هذا أننا إذا قلنا: إنه يحتسب من عدد التطليقات، فإذا كان قد طلقها مثلا قبل هذه المرة طلقتين، ثم خالعت زوجها، فإذا كان بلفظ الخلع وأراد الزوج بعد ذلك أن يتزوجها وتقدم إلى أهلها ورضيت، ووفى لها الشروط، ومهرها ونحو ذلك، فلهما أن يتزوجا.
إذًا عند ابن تيمية على الإطلاق، وعند الحنابلة إذا كان بلفظ الخلع، ولكن إذا كانت بلفظ الطلاق فلا رجعة إلا بعد زوج آخر لماذا؟ لأنها استكملت الثلاث مع الخلع وكذا عند الجمهور، فعند الجمهور أنها استكملت الثلاث فلا.
طيب لو كانت طلقت قبلها طلقة، فالثانية خلع، فنقول: عند الجمهور هي طلقة ثانية على كل حال، وعند ابن تيمية هي ليست ثانية، وإنما هي فسخ على كل حال، وعند الحنابلة يقولون: إن كانت بلفظ طلاق فتعتبر ثانية، وإن كانت بلفظ خلع فهي فسخ، ولا نحسب عليها إلا تطليقة واحدة.
وبناء على ذلك لو تزوجها بعد ذلك، فسيكون مالكًا لتطليقتين على قول ابن تيمية، وعند الحنابلة إذا كان بلفظ الفسخ، وعند الجمهور وعند عند الحنابلة إذا كان بلفظ طلاق لم يملك إلا طلقة واحدة.
{أحسن الله إليكم.
(وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِعِوَضٍ، وَيُكْرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَيَصِحُّ بَذْلُهُ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَجْنَبِيٍّ)}.
قوله: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِعِوَضٍ)؛ لقوله تعالى: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة:229]، فلا بد أن يكون فيه عوض، وإلا لم يكن خلعًا، وهذا أيضا ثابت في حديث ثابت بن قيس «أتردِّينَ عليهِ حديقتَهُ؟»، وهذا أول وأهم شرط في الخلع.
وهذا العوض الأمر فيه متسع، فإن أعطاها قليلا كلباس، أو كسوة، أو ساعة، أو جوالا، أو أعطاها شيئا قليلا أو كثيرًا، ولذلك قال: (بِعِوَضٍ، وَيُكْرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا)؛ لأنَّ فيه شيئا من المغالاة، وبناء على ذلك فالمستحب أن يكون بالمهر فأقل؛ لئلا يكون فيه مغالاة وإضرار به.
ولذلك قالَ رسولُ اللَّهِ في حديث ثابت: «اقبَلِ الحديقةَ وطلِّقها تَطليقةً».
وذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز أكثر من ذلك، ولكنهم قالوا: لو كان البذل منها، كأن قالت له: أنت أعطيتني خمسين ألف، وأنا سأعطيك مئتي ألف، فيقولون: وإن كان في هذه الحالة هي أكثر، ولكنه ابتداء منها، فلا يكون مكروها، وإن كان ظاهر كلام المؤلف هنا إطلاق الكراهة في كل الزيادات على مهرها الذي أعطاها.
قال: (وَيَصِحُّ بَذْلُهُ مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَجْنَبِيٍّ) سواء كان من الزوجة أو كان من أجنبي، كأب، أو أخ، أو جار عرف ما تعانيه ولم تستطع أن تدفع عن نفسها إلا بالخلع، وببذل ما عليها، فنقول: جائز ذلك ولا بأس، بشرط أن يكون ممن يصح، وقد ذكرنا من يصح تبرعه في مجالس ماضية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَيَصِحُّ بِمَجْهُولٍ وَمَعْدُومٍ، لَا بِلَا عِوَضٍ، وَلَا بِمُحَرَّمٍ، وَلَا حِيلَةً لِإِسْقَاطِ طَلَاقٍ)}.
قوله: (وَيَصِحُّ بِمَجْهُولٍ وَمَعْدُومٍ) يعني: المعاوضات المحضة عند الفقهاء مثل: البيع، الإجارة، ونحو ذلك، لا بد أن يكون المال معلومًا، فكل واحد ماله على صاحبه، ولكن يقولون: الخلع، والصداق، ونحوه، يُغتفر فيه الجهالات. لماذا؟ لأنه ليس من باب المعاوضة المحضة، وبناء على ذلك لو كان فيه جهالة، كأن قال: أعطيك ما في جيبي -ولا يُدرى كم من المال معه- فهذا لا بأس به.
قال: (وَمَعْدُومٍ) كما لو قال: على ما تنزل هذه البهيمة أو هذه الدابة، فيصح في ذلك.
قال: (لَا بِلَا عِوَضٍ)، وأما إذا كان بدون عوض فلا.
وكذلك (وَلَا بِمُحَرَّمٍ)، أي: لا يصح بمحرم، فلو جعله على خمر أو على خنزير أو على آلات لهو أو نحوه، فكلا ذلك لا يجوز، بل لا بد أن يكون على شيء جائز ومباح.
قال: (وَلَا حِيلَةً لِإِسْقَاطِ طَلَاقٍ) كيف يكون حيلة لإسقاط الطلاق؟ يقولون: كما لو قال لها مثلا: إذا دخل رمضان فأنت طالق، أو إذا جاء المطر بعد شهر فأنت طالق، ثم ندم، والآن قد يأتي المطر غالبا، أو يقدم زيد، أو يدخل رمضان، فلأجل أن لا يقع الطلاق، فخالعها بعد عشر أيام خالعها، وبعد خمسة شهور نعيد النكاح.
فلما جاء المطر، أو جاء زيد، أو دخل رمضان، ما كانت زوجة له، وبناء على ذلك قالوا: إذا كان حيلة لإسقاط الطلاق فلا، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، باعتبار ما جاء في الشرع من النهي عن التحايل على الشرع.
على كل حال هذا هو الذي قرروه، والتحايل على إسقاط الأمور الشرعية المطلوبة كالفرائض والواجبات والزكاة والنفقات ونحوها ظاهر، ولكن في مثل هذا هل الطلاق مطلوب أو لا؟ وصحيح أن حكم من الشارع بحصوله، ولكن ليس هو بمطلوب، ولأجل ذلك لو قيل هنا: إنه لا غضاضة في ذلك، وأنهم إنما يدفعون شيئا لا يتطلع الشارع إلى حصوله، فقد يكون ذلك له وجه، وقال به بعض الفقهاء، وأنا أقولها هنا، لا على سبيل التقرير، ولكن سبيل البحث وعرضها على طلبة العلم، وما يمكن أن تبحث أكثر، أو تراجع بصورة أوسع، وقد يوصل إلى ما ذكرناه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَإِذَا قَالَ: مَتَى أَوْ إِذَا أَوْ إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ بِعَطِيَّتِهِ وَلَوْ تَرَاخَتْ.
وَإِنْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَفَعَلَ بَانَتْ وَاسْتَحَقَّهَا)
}.
هاتان مسألتان ذكرهما الفقهاء وفرقوا بينهما في الحكم، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا علق الطلاق الذي هو طلاق بعوض، علقه على هذا الشرط، فقال: (إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ)، فهي جلست وذهبت وجاءت وبعد عشرة أيام أعطته ألفا. هل تطلق أو لا؟
أو جاءت بعد خمس سنوات وأعطته ألفا.
أو وهي في المجلس أخذت من حقيبتها ألفا وأعطته إياه، أو كان معها الجوال وحولت له وأعطته، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنها تستحق؛ لأنه علق طلاقها ببذل هذا العوض، وبذلت ولذلك استحقت، والطلاق المعلق متى وقع الشرط وقع المعلق عليه، وبناء على ذلك يقول المؤلف: لا يختلف الحكم بين أن يكون على الفور أو أن يكون على التراخي، ولذلك قال: (وَلَوْ تَرَاخَتْ) هذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية التي تقابلها اختلفت الصيغة، فإن قالت: (اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَفَعَلَ، بَانَتْ وَاسْتَحَقَّهَا) لكن لا بد أن يكون قد فعل في الوقت نفسه، وعندهما أن هذه المسألة وإن كان لم يوضحها الماتن على سبيل الاختصار، ولكن هذا هو مقصودهم، أن هذه الصورة لا يتأتى فيها الخلع إلا أن تكون على الفور، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن يبين الفرق بينها وبين التي قبلها.
طيب ما الفرق بينهما؟
يقول الفقهاء: إن هذه الصيغة صيغة معاوضة، كأنه يقول: هل تبعني بألف؟ فهي ليست من صيغ التعليق، بل صيغ التعليق يقولون إنه حصل منه التعليق فبقي المعلق عليه، فمتى ما حصل هذا الشرط حصل المعلق عليه. مثل: الرصاصة التي أطلقتها، قد تصيب الطير أو الصيد في قرب، وقد تصيبه في بعد. أليس كذلك؟ فيقولون: الطلاق المعلق مثل الرمية التي انطلقت، ومتى ما وقعت على صيد حصل المعلق عليه.
أما هنا إذا قالت: (اخْلَعْنِي بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ) كحال من يقولون مثلا: تبيع هذا بعشرة؟ فهو لو جاء بعد شهر وقال شريتها منك بعشرة، فما يصح، وكذلك يقولون: إذا قال: وافقت أو فعل بعد شهر ما يصح.
إذا هذه صيغة ظاهرها المعاوضة، فلزم أن تكون في المجلس حتى تكون خلعا صحيحا، وتلك حصلت كيفما كان إما على الفور أو على التراخي؛ لأنها من صيغ التعليق، لا من صيغ المعاوضة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَلَيْسَ لَهُ خَلْعُ زَوْجَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَلَا طَلَاقُهَا، وَلَا ابْنَتِهِ الصَّغِيْرَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا)}.
قوله: (وَلَيْسَ لَهُ خَلْعُ زَوْجَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَلَا طَلَاقُهَا) يعني: لو كان زَوَّجَ ابنه الصغير، فعند الحنابلة أنَّ للأب أن يزوج ابنه، كما جاء ذلك عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- ولكن هل يُطلق عليه؟ مرد الطلاق إلى إعراض النفس وعدم رغبتها، وهذا لا يملكه غير الزوج، فبناء على ذلك ليس له أن يطلق على ابنه الصغير، وهذا هو قول جمهور الفقهاء، ولكن هل له أن يخلع عن ابنته الصغيرة؟ هم ذكروا أن ذلك يصح بشرط أن يكون من ماله لا من مالها. لأنَّ مالها لا يُبذل إلا في خير لها، ولا خير لها في الخلع. ولكنهم يقولون إن الأب يمكن أن يكون على علم بمصلحة لها في ذلك، ولأجل ذلك قالوا: له أن يخالع ولكن من ماله لا من مالها.
هذه المسألة أيضا محل البحث، ولكن لا نطيل فيها؛ لأنها قليلة الوقوع، باعتبار أن تزويج الصغيرات فيه قيود واعتبارات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وإن عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ أبانها فوُجدت، ثم نكحها فوجدت بعده طَلَقَتْ)}.
يعني: لو أن شخص علق طلاقها على صفة ثم أبانها، مثل ما قلنا، يعني: قال: أنت إن وصل العدد إلى مئة ألف زائر مثلا فأنت طالق. وكانوا هم يعملون في محل، وقال: إن وصل العدد إلى هذا الرقم فأنت طالق، المهم أنه أبانها، صار بينهما خلاف، ثم أبانها، ثم تزوجها، ولَمَّا تزوجها وصل العدد إلى مئة ألف. هل يقع عليها طلاق باعتبار أن التعليق حاصل منطلقة، والمعلق عليه وقع؟ الحنابلة خالفوا الجمهور، فالحنابلة يقولون: إن التعليق وقع، والصفة حصلت، وبالتالي يحصل الطلاق، وكونه نكاحا سابقا أو لاحقا هو حصل في حال الزوجية، وبناء على ذلك يحكم به الطلاق هنا، وكأنه يشير إلى مخالفة الجمهور، فالجمهور يقولون: لا. ذاك نكاح قد انتهى، فانتهت كل عُلْقَةٍ به، وهذا نكاح جديد، فبناء على ذلك لو وقع المعلق عليه، فإنه لا يتعلق به ما سبق من تعليق وسواه، ولأجل ذلك لم يعلقه.
على كل حال أيضا لهم في ذلك تفصيلات، وربما نختصر لأننا تأخرنا في الدرس قبل الماضي، وأيضا ربما في بعض التفصيلات هنا ولذا نتركها.
قال: (كذلك العتق) لو أنَّ شخصًا عَلَّقَ عتق عبده ثم باعه، ثم اشتراه مرة ثانية، وحصل المعلق عليه، فهل يعتق العبد أو لا؟
الكلام فيها مثل الكلام في المسألة السابقة، والفقهاء يطردون المسائل المتشابهة، ولذلك أشار إلى هذه المسألة هنا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (كِتَابُ الطَّلَاقُ)}.
كتاب الطلاق هو فَرَجٌ ورحمة من الله -جل وعلا- لمن ساءت حياته، ولمن ذهب عليه استقرار أيامه، ولم يجد ما يُطلب في النكاح من المنافع والآثار، ولكن كما ذكرنا سابقا أن هذا الطلاق قد جعل الله -جل وعلا- له قيودا، وأناط به أحكامًا، وعلق به أشياءً لئلا يحصل في ذلك به لعب أو استهتار، فلو أنَّ للإنسان مثلا أن يطلق بدون عدد ثم يراجع زوجته، لأفضى ذلك إلى الاستهتار بالزوجات، فكلما حزن منها أو غضب عليها طلقها، وإذا رضي عليها ردها وهكذا، فلا تدري النساء هل هن مطلقات أو متزوجات!
ولو أنَّ الإنسان لا يطلق زوجته للحق به من الضيم والظلم والتعب ما لو اجتمع مع زوجة لا يرتضيها، وامرأة لا يأنس بها ونحو ذلك.
فجعل الشارع هذا الطلاق فرجة، وجعل له أحكاما، ولم يكن ليجعله بابا إلى اللعب بالنساء، أو التساهل في حكمه، أو الاستهتار به، ولم يفوت على الأزواج أيضا حقهم إذا تعذرت الحياة، وانقطعت أسباب صلاحها، وكما ذكرنا لكم سابقا، ونعيد الكلام هنا، ليس الطلاق عقوبة، وليس لفظ الطلاق أيضا سبابًا وشتمًا، فبعض الناس كما يسب زوجته بلعن أو نحوه، تراه يلقي عليها كلمة الطلاق وكأنه يسبها، ولا يدري ما أثارها.
وليس الطلاق كما قلنا وهو الأهم، ليس الطلاق عند تعذر استصلاح أمر من أمور الزوجية، فقد تبقى الزوجية وقد تبقى المرأة مع وجود علة، أو حصول نفرة في باب ما، أو نقص في سبيل ما، ولذلك النبي قال: «فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ»[4]، وهذا من أعظم الأحاديث النبوية، بعض الناس يظن أنه استهتار بالمرأة، نقول: لا، هو إرشاد للأزواج إلى أنك لا بد من أن ترضى منها ما يكون فيها من عوج، أو ما يحصل في زوجتك من نقص. ودفع للذهاب إلى الأمام بالطلاق، والتقدم إلى ما هو أكبر بالفراق. لا. بل هو إرشاد للنفوس، بأن تسلي نفسها، أنك لن تجد، فلو كرهت من هذه المرأة خلقًا، سترضى منها آخر، ولو طلبت أخرى، فستجد عندها خلق لا ترتضيه مهما كان.
ولذلك قال النبي : «إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ»[5]، فإذا متى يكون الطلاق كما قلنا؟ إذا كانت الحال بعد الطلاق أتم لكل واحد من الزوجين في حال الزواج، فإذا كان كذلك بالنسبة للمرأة فلها أن تطلب الخلع، وإذا كان كذلك بالنسبة للرجل فله أن يُطلق، ولأجل ذلك قُيِّدَ الطلاق كما سيأتي بقيود حتى لا يفعله الإنسان في حال غضب، أو في حال عدم تفكير، أو في حال استعجال، أو في حال إرادة التشفي من المرأة، أو إظهار السخط عليها.
وكتاب الطلاق قد جاء في كتاب الله، قال تعالى: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة:229]، وقد جاء في السنة عن النبي في غير ما حديث، من ذلك: «أبغَضُ الحلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ» وهو محل إجماع، والعقل داع إلى حصول ذلك وثبوته، ويكون في كل نكاح صحيح، بل ربما ذكره الفقهاء حتى في الأنكحة الفاسدة؛ لأن الأنكحة الفاسدة كالنكاح دون ولي، أو النكاح دون شهود، وعند بعض أهل العلم يصححونه، فلهذه المرأة التي نكحت نكاحا فاسدًا إذا طلقت عرفنا أن علقة النكاح انتهت بيقين عند الجميع.
وبناء على ذلك قالوا بخلاف الباطل فوجوده كعدمه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (يُكْرَهُ بِلَا حَاجَةٍ، وَيُبَاحُ لَهَا، وَيُسَنُّ لتضررها بالوطء وتركها صلاةً وعفةً ونحوهما)}.
قال: (يُكْرَهُ بِلَا حَاجَةٍ) فمن استقامت حياته فليقم نكاحه، ولا يطلب طريقا أخرى فتظلم عليه الدنيا من حيث أنارت، وتفسد عليه الحياة من حيث صلحت، وتنعكس حياته رأسا على عقب بعد أن كان يظن أن الطلاق فرجة له، أو فسحة في حياته، أو أنسا لأيامه، وكم من الناس من حصل لهم شيء من ذلك، فعادت عليهم بالويلات، ورجعت عليهم بالبليات، وما استقامت لهم حياة بعد ذاك، ولأجل ذلك قال: (يُكْرَهُ بِلَا حَاجَةٍ).
قال: (وَيُبَاحُ لَهَا) أي يباح إلى من احتاج إلى الطلاق، كرجل لم يستطع القيام بحق زوجته، سواء كان في ذلك نفقة أو غيرها، أو لم يحسن إليها تمام الإحسان، أو خاف أن يضر بها فيما تحتاجه المرأة من عفة وغير ذلك، فإذا كان ذلك أبيح له.
قال: (وَيُسَنُّ لتضررها بالوطء) كما لو كان الرجل به شبق، أو به رغبة أكثر من المعتاد، فطلقها فلا بأس، لأنها لا يمكن أن تصبر عليه، وربما أفسدت عليها حياتها، وفات عليها أيضا أُنسها بزوجها ونحوه.
قال: (وتركها صلاة وعفة ونحوهما) يعني: لو كانت امرأة تخل بصلاتها، ولا تقيمها، طبعا يجب على الرجل في المرأة أن يطلب فيها ما تستقيم بها عباداتها، وشعائر دينها العظام، وأهمها الصلاة، ولكن هل يلزمه تركها إذا تركت عفة، أو كانت متكاسلة في الصلاة؟ ذكر الفقهاء أنها أحوال مُستحبة. نتكلم عن العفة ونؤجل موضوع الصلاة.
إذا كانت غير عفيفة، سواء كان يظهر منها ميل إلى الرجال، أو ما هو أشد من ذلك، أي ربما تكون قد وقعت في المحرم أو الفاحشة، فلا شك أنَّ الرجل لا يجوز له أن يرضى بذلك وإلا كان ديوثًا، ولكن هل بقاؤها معه في تلك الحياة مع عدم رضاه ويمنعها هل تكون دياثة؟ نقول: لا، وإن قال بذلك بعض أهل العلم، فما دام أنه يطلب الأسباب في حفظها، ويمنعها عما يكون سببًا لوقوعها وارتكاسها، ويحاول أن يستصلحها، فلا شك أن ذلك لا يكون. نعم. لكن.
---------------------------
[1] أخرجه البخاري (6237)، ومسلم (2560).
[2] أخرجه البخاري (5273).
[3] رواه مسلم (6376).
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] رواه مسلم

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك